يقربنا المقال من أهم أفكار كتاب يصدر للكاتبة اللبنانية فيما يطرحه من استراتيجيات للأمل في وقت يعيش فيه العالم ذروة العنف والعنف المضاد وانشطار وجودي لافت. وهو ما يجعل من قيمة الإنسان بعيدة أن تكون ثقافة يومية ويصعب معه أن تنعكس في مقدمة السياسات.

استراتيجيات الأمل في عصر العنف

أديب سلامة

يندرج  كتاب "استراتيجيات الأمل في عصر العنف" في سلسلة المنهج التي تعكف الكاتبة مروة كريدية على صياغته منذ منتصف العقد الأخير، ويصعب في مقام محدود كهذا تقديم صورة متكاملة عن هذا العمل، فهو يعكس تعدد اهتماماتها وشطحها عن ميدان علم الاجتماع السياسي وإدخالها البعد الروحي في كافة أوجه النشاط الإنساني، على تنوعه وتعقيده، وهي تلامس  طروحات الحكماء من جهة وتدخلها  في مجال السياسية والاقتصاد والبيئة من جهة أخرى، ولعل ما أوردته في مقدمة إصدارها يوحي انها تسعى الى تقديم خطوط  فكرية عريضة  لمن  أراد ان يتجاوز واقع العنف الى أفق مغاير ينعتق به من أسر السلطة وعنف المادة وصخب الاعلام المضلل .

لقد حاولت الكاتبة وصولاً إلى غايتها، أن تستبدل الرؤية المختزلة للانسان والثقافة والهوية التي تقلّص أوجُه الواقع المتعددة والغنية إلى وجه واحد، برؤية  مركَّبة  تجعل من الكائن الانساني كائنا كونيًّا مسالمًا من خلال تقديم صورة معاصرة تستند الى البعد الروحي المشترك في التراث البشري.

الكتاب يتميز بخاصيتين رئيسيتين هما: الأولى انه يناقش موضوعًا جديدًا كلّ الجدّة في الساحة الفكرية العربية، فإصدارات المكتبة العربية التي تتناول موضوع اللاعنف نادرة وقليلة جدًا، وهي لا تتجاوز عدد الأصابع ومعظمها مترجم عن لغات أخرى؛ والميزة الثانية في كون اللغة المستخدمة في الكتاب سلسة تبتعد فيه المؤلفة عن المصطلحات الرنانة مستفيدة من خبرتها في مجال الصحافة والاعلام حيث تعمد الى إيصال أعقد الأفكار بأبسط التعابيرالى القرّاء، وهي مهارة قلّ ما نجدها في الكتب الفكرية الجادة التي غالبًا ما تعتمد اساليب نخبوية معقدة ينفر منها القارئ العادي في معظم الاحيان .

ويدورعمل كريدية حول محورين فكريين رئيسيين: الأول يعرض لمسألة العنف ويتساءل عن معناه، وحدوده، وتجلياته وعلاقاته مع الحقيقة والواقع؛  أما الثاني فيحاول ردَّ اسباب العنف الى انشطار الفكر البشري عبر المنطق الثنائي العنيف العاجز.  

ويتفرع عن هذين المحورين أقسام ستة تشتمل على عناوين متشعبة حيث ناقش القسم الاول مسألة العنف بين عنف الخطاب وإكراهات الواقع و تناولت المؤلفة من خلاله إشكاليات العنف الرمزي وأشكال الهيمنة مستعرضة تاريخ البشر المشحون بالنار والفصام حضاري، معتبرة انّ ذاكرة العنف عند الشعوب سببتها السيرورة التاريخية وانفصام الذات الحضارية

في القسم الثاني المعنون  الحقيقة و تَجلّيات العنف  تقدّم الكاتبة  قراءة في مفهوم الحقيقة وهواجس السُّلطة وتطرح مفهوم الحقيقة في منظور اللاعنف من خلال التعددية الدلالية والحوار التواصلي لتستخلص المفاعيل اللاعنفية لتعددية الحقيقة ونسبية المعايير عبر تَفكيك مفهوم السلطة وتأريخ الحقيقة .

في القسم المعنون " ثالوث العنف " تتساءل الكاتبة الى اين نمضي نحن أبناء الألفية الثالثة ؟ وماهو الشغل الشاغل المرعب في عصر عولمة العنف المدفوع بالمحرِّك الثلاثي : السلطة ، مافيا الاقتصاد ، الاعلام الكاذب عبر متاريس الفضائيات، معتبرة ان هذا الثالوث يتكأ على العلوم والتكنولوجية لتحقيق مآرب كارثية تضر بالبيئة والكائنات وتعرّض التوازنات الأساسية للكوكب الأرضي  والنوع البشري لخطر الإبادة الداهم.

وترى  انّ امبراطوريات العنف تصنع الحروب باسم السلام عبر العلاقات الدوليّة  التي تسلك استراتيجية خراب باعتمادها على مايعرف بالنظام العالمي الذي يتخذ من خرافة الأمن القومي ذريعة لامتلاك اسلحة الدمار النووي، معتبرة ان حق النقض الفيتو هو آلة عنف مستمرّ لإجهاض السلام .

وتطرح المؤلفة مفهوما جديدا للأمن العالمي قوامه عولمة السلام والقيم الانسانية والحفاظ على البيئة وتحقيق عدالة اقتصادية وغذائية كوكبية تستند الى الاشتراك في حماية الثروات الطبيعية والاستفادة منها التي ليست ملكا حصريا لدولة بعينها بل هي ملك للانسانية بأسرها، وتطرح كريدية بجرأة موضوع "أنسنة السياسية وانسنة التربية وانسنة الاعلام وانسنة العقائد" حيث تصف معظم سياسيو الدول الحاليين  بالحمقى والدمويين والغزاة... معتبرة ان العمل السياسي ينبغي ان يكون  خدماتيًّا  فقط يدور حول خدمة الانسان وحقوقه بالدرجة الأولى ، وان على الدولة  ان تحقق العدالة لا ان تتطبق قوانيين جائرة !

 تحت عنوان (على خطى السلام) تجمع الكاتبة صفوة من نماذج النضال اللاعنفي الناجح خلال القرن المنصرم منهم المهاتما غاندي و المفكر جودت سعيد  مستفيدة من عصارة تجاربهم الانسانية بدون التحيز او الانتصار لنموذج بعينه، وهي تستشهد بأقوال لحكماء من عصور مختلفة ومن ديانات متنوعة يؤدون المعنى نفسه بما يخدم الجوهر الانسان، كما قارنت بشكل بديعٍ بين مفهوم اللاأذى عند الهندوس  ومفهوم "اللاإكراه" عند المسلمين.

وحول   المرتكزات العملية للاعنف تناقش المؤلفة موضوع العصيان المدني وعلاقته بالعدالة وديموقراطية المشاركة  التي تحقق مسارات السلام عبر الارادة الصادقة لتحقيق العدالة .

وتدرج الكاتبة تحت عنوان "كونية الإنسان" مقاربة مميزة توضح المشتركات بين نصوص الأوبانيشاد  المتعلقة بفلسفة الفيداتنا عند الهندوس  وطروحات تاو هسان معلم الزن البوذي و مقولات جبران خليل جبران و فلسفة محيي الدين ابن عربي في وحدة الوجود،  لتخلص الى نتيجة مفادها ان وجود الكائن الانساني يشير الى كينونة مستترة في أعماق الكون وهو ما يعرف بوحدة الوجود ، فالكائنات البشرية  بجذورها ضاربة في الكون (الكوسموس) بما تحمله من جزيئات وذرات، وتتساءل كيف لنا نحن أبناء "الحضارات" ان نشارك في عمليات الخلق والتدمير التي تمخضت عنها حياتنا أرضية حيث كوكب الأرض مجالنا الحيوي؛ ونحن، بهذه المثابة، ننتمي إلى الكائنات الحية التي برهنت عن قدراتها على التضافر وقابليتها لتشكيل مجتمعات.

وتطرح المؤلفة في نهاية كتابها رهانات الأمل التي تكون في تصالح المادة والروح والتآم الانشطار الوجودي عبر احداث  انقلاب فكري انطولوجي يفكك  مملكة الارهاب في الفكر الانساني، من خلال تخطي الانسان لأنانيته المفرطة وعودته الى منبعه الروحي باعتماد فكرًا تأمليًّا يتمخض عنه وعي العالم الخارجي ووعي الذات.

من الملفت ايضًا انه وخلال مناقشتها للمحاور الفكرية تخرج الكاتبة عن المسار العلمي لتلقي بخواطر ولوامع روحية تستصرخ فيها الانسان لاستيعاء عميق للتضامن الإنساني ووحدة المصير الكوكبي المشترك، ولفحص صادق عن معنى التاريخ الإنساني، ولإيجاد مجتمع وعالَم وأخلاق معرفية وروحية من شأنها أن تسمح لنا بالتعامل مع انتماءاتنا وتناقضاتنا عبر بتجديد الخصال الإنسانية حصرًا والموجودة في حقيقة كل الديانات .

 

المؤلفة في سطور: تعد الكاتبة مروة كريدية واحدة من المهتمات بالقضايا الإنسانية واللاعنف، حيث  تطرح العلاقات الاجتماعية والسياسية من خلال رؤية وجودية تتجاوز الانقسامات الاثنية والدينية والجغرافية، وقد مزجت بين عملها البحثي في الاجتماع السياسي ومهنتها في الصحافة والاعلام ، ولها العديد من الاعمال الادبية و الفنية التشكيلية والخواطر الشعرية . لها عدّة اصدارات الفكرية والأدبية "لوامع من بقايا الذاكرة " ، "فكر على ورق، في الفكر والنقد " و " معابر الروح " و "أفكار متمردة، في الفكر والثقافة والسياسة ". 

العنوان : استراتيجيَّات الأمل في عَصر العنف

المؤلف : مروة كريدية

الطبعة الأولى : 2011

الناشر : النايا للدراسات والنشر – دمشق .