يتابع الباحث المصري بمنهجية في هذه الدراسة تحليله لبلاغة الخطاب السياسي، وإشكاليات قراءته، الذي بدأه في عدد سابق من (الكلمة)، ويتناول هنا باستفاضة بعد آخر منه يتعلق بالعلاقة المعقدة بين الذات والقناع، بين الكاتب، كاتب الخطاب، والرئيس، صاحب السلطة وملقي الخطاب والمسيطر الأخير على توصيله أو تحويره.

رؤساء ومثقفون وكتبة

جدل الوجوه والأقنعة في الخطابة السياسية المعاصرة

عماد عبداللطيف

هناك أشكال متعددة من الأنشطة اللفظية الشفاهية والمكتوبة التي يقوم به رئيس الدولة. فهناك مكاتبات إدارية رسمية تحمل اسم رئيس الدولة، مثل رسائل تكليف الوزارات أو إقالاتها، ورسائل بدء السنة البرلمانية، وتعيين المحافظين والسفراء، والرسائل المتبادلة مع سياسيين من دول أخرى .. إلخ. وهناك مكاتبات إدارية أو إنسانية شبه رسمية مثل الردود على المراسلات التي يبعث بها بعض المواطنين لسبب أو آخر. إضافة إلى ذلك يوجد كلام رسمي غير إداري مثل الخطب السياسية، والتصريحات الصحفية واللقاءات التليفزيونية أو الإذاعية. وغالبا ما يقوم كتاب آخرون بكتابة معظم المكاتبات الرسمية الإدارية، التي عادة ما يكون لها صيغ مستقرة متعارف عليها. ويمكن تقسيم الأنشطة اللفظية التي يقوم بها رئيس الدولة إلى نوعين؛ كلام ومكاتبات بالصفة، وكلام ومكاتبات بالذات. هذا التقسيم يستند إلى التمييز الذي أصبح شائعا بين وضعيتين للمرء؛ وضعيته بصفته التي ترتبط بالمنصب السياسي الذي يشغله أو الدور الاجتماعي الذي يقوم به، ووضعية الإنسان بذاته؛ أي من حيث هو إنسان عادي بمعزل عن مناصبه أو أدواره. وينطبق هذا التمييز أيضا على النتاج اللغوي لرجل السياسة؛ فهو يكتب الكثير من النصوص، ويلقيها أو يرسلها بصفته رئيس دولة وليس بذاته بوصفه إنسانا عاديا. لكنه أيضا يقوم في بعض الأحيان بكتابة نصوص لا كرئيس دولة ولكن كشخص عادي، وذلك كما هو الأمر في حالة الخطابات الأسرية أو اليوميات والخواطر.

عادة ما يلجأ رئيس الدولة إلى كُتَّاب آخرين لتأليف النصوص التي يلقيها بصفته؛ في حين يقل الاعتماد على مثل هؤلاء الكتاب في تأليف النصوص التي ينتجها بذاته. ومع ذلك فهناك كتابات تقع على التخوم؛ مثل السير الذاتية التي ينشرها الرؤساء؛ فهي كتابة بالصفة من حيث إنها غالبا ما تتناول أمورا تتعلق بالموقع السياسي للرئيس، لكنها أيضا كتابة بالذات لأنها تتناول مناطق حميمية من حياة الإنسان الذي يكتبها، بغض النظر عن كونه رئيسا. وغالبا ما يلجأ رؤساء الدول إلى كتاب آخرين ليعينونهم في كتابة سيرهم الذاتية. لكن النشاط اللفظي الأهم الذي يلجأ فيه الرؤساء للكتاب الخفيين هو الخطب السياسية. إذ إن رئيس الدولة عادة ما يقوم نفسه بإلقاء هذه الخطب، على الرغم من أنها غالبًا ما تكون مكتوبة بواسطة شخص آخر. تذكر دائرة معارف البلاغة والتأليف البلاغي أن مهنة كتابة الخطب من أقدم المهن في الثقافة الغربية؛ فقد عرفت اليونان القديمة شريحة من دارسي البلاغة الذين كانوا يكسبون عيشهم بواسطة كتابة الخطب للآخرين(1). وعلى الرغم من أن العديد من الشخصيات البارزة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر – مثل الرئيس الأمريكي جورج واشنطن- قاموا بتوظيف أشخاص لكتابة خطبهم؛ فإن هذا العمل كان يتم في إطار من السرية لأنه كان يُتوقع في هذا العصر أن يكون المرء قادرا على أن يكتب الخطب لنفسه، وإلا اتهم بأنه غير بليغ. لقد كان تكليف شخص آخر بكتابة الخطب عملا مشينا، وكان الكشف عن هذا العمل يُدرج في إطار الفضائح. هذه النظرة السلبية لمهنة كتابة الخطب السياسية تغيرت في القرن العشرين؛ فقد انتشرت المهنة في أرجاء المجتمع الأمريكي، ثم الأوروبي. ولم تعد وصمةً في جبين من يقوم بها من السياسيين أو الكتاب. لكن ذلك لم يحل دون وجود اتهامات لكتَّاب الخطب السياسية بافتقاد البعد الأخلاقي. وقد تصاعدت هذه الاتهامات في خمسينيات القرن العشرين استنادا إلى أن كتاب الخطب السياسية يحققون التأثير في المستمعين بواسطة الإغماض والتضليل؛ ومن ثم فإن عملهم يفتقد إلى الأخلاقية كما أنه يشوه سمعة البلاغة. وقد دافع البعض عن مهنة كتابة الخطب السياسية استنادا إلى أن المهنة موجودة على مدار التاريخ. وأنها مهنة لا يمكن الاستغناء عنها، وليس من المفيد التقليل من قيمتها أو الادعاء بافتقادها للأخلاق. كما أن الكتاب المجهولين يبذلون جهدا في دراسة الأساليب البلاغية للشخص الذي يكتبون له، وفي محاولة الاقتراب بكتابتهم من أسلوبه. كما أنهم لا يقومون سوى بالتعبير عن أفكار الخطيب بأوضح الطرق وأكثر الأساليب رقيا(2).

يوجد اختلاف كبير في تقاليد مهنة كتابة الخطب السياسية بين المجتمعات المختلفة. ففي أمريكا – على سبيل المثال - يقوم بإعداد الخطبة عدد كبير من المستشارين والخبراء متعددي الاختصاصات. فهناك البلاغيون المتخصصون في كتابة مشاريع الخطب السياسية، وخبراء الاتصال الجماهيري وعلماء الاجتماع والنفس والعلوم السياسية..إلخ. كذلك توجد مؤسسات متخصصة في توفير خدمة كتابة الخطب السياسية لكل من يحتاجها. ولا تجد هذه المجتمعات غضاضة في التصريح لاحقا باسم المؤلف الحقيقي للخطبة، أو الحديث عن عملية تأليفها أو المراجعات التي خضعت لها؛ بل إنه في بعض الأحيان يُدعى مؤلف الخطبة السياسية للحديث عن تجربته في كتابة هذه الخطبة أو تلك. على خلاف ذلك فإن عملية كتابة الخطب السياسية في مصر – بحسب المعلومات التي توفرت لدينا - يقوم بها شخص واحد وليس فريقا من الخبراء وكتاب الخطب(3). هذا الشخص غالبا ما يكون من الصحفيين العاملين في مؤسسات صحفية حكومية أو ناطقة بلسان الحكومة (ما يعرف الآن بالصحف القومية المملوكة للدولة). فلم يعرف المجتمع المصري مهنة كاتب الخطب الذي يتخصص في هذا النوع من الكتابة، كما لا توجد مؤسسات متخصصة في توفير ‘خدمة كتابة الخطب السياسية’. وأخيرا فإن كتابة خطب الرئيس في السياق السياسي المصري يُنظر إليها على أنها مهمة سرية، لا يجوز الكشف عنها أو التصريح بها، أو التطرق لأيٍّ من ملابساتها. وهو ما يفسر أن المعلومات التي تتعلق بهذا الأمر لا يتم الكشف عنها إلا بعد وفاة الحاكم نفسه؛ وهو ما يعني أنه يوجد شكل من أشكال الإلزام الصارم لكاتبي الخطب بعدم ‘إفشاء’ هذا السر. وهو أمر يبدو مفهوما في إطار مجتمع يظن الكثير من أفراده أن الرئيس هو الذي يكتب خطبه بنفسه! وفي الصفحات الآتية سوف أحاول دراسة ظاهرة الكتابة للرؤساء في عصري الرئيسين جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات.

الكاتب الخفي: من الذي كان يكتب خطب السادات؟

لا توجد سجلات تاريخية تتضمن معلومات دقيقة عن مؤلفي خطب السادات. والمعلومات التي توفرت لدينا جاءت من مصدرين أساسيين؛ الأول هو كُتاب الخطب السياسية أنفسهم من الصحفيين أو السياسيين الذي قاموا بنشر مذكراتهم أو ما أشبه ذلك، والثاني هو إشارات عابرة لبعض من شهدوا واقعة كتابة الخطب أو اتصلوا بمن قام بكتابتها، مثل إشارة مكرم محمد أحمد إلى أن محمد حسنين هيكل هو الذي كتب خطبة السادات في مناسبة إعادة افتتاح قناة السويس أمام الملاحة العالمية في 1975. وتتضمن قائمة الكتاب الذين صرحوا بأنهم كتبوا خطبا للسادات أربعة كتاب هم: محمد عبد السلام الزيات، ومحمد حسنين هيكل، وموسى صبري، وأحمد بهاء الدين(4). ولم يحدد الزيات (1989) الخطب التي قام بكتابتها. أما هيكل (1983)؛ فيشير في ص138، إلى أنه قام بكتابة خطبة السادات في افتتاح الدورة العادية للمؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي في 12 نوفمبر 1970. كما ذكر السادات أن هيكل قام بكتابة خطبة أول مايو 1971 فيما عدا الفقرة الأخيرة الخاصة بـ "طحن كل من يحاول إحداث صراع"، التي رفض هيكل كتابتها(5) . وقد أشار آخرون إلى أن هيكل قام بكتابة "خطاب السادات في مجلس الشعب عام 1975، ثم كتب له خطابا آخر عن إعادة تنظيم العمل الداخلي في مصر، والذي أعلن فيه إسناد رئاسة الوزارة للمرحوم اللواء ممدوح سالم"(6) .

فيما يتعلق بموسى صبري (1985) فقد كشف عن أنه كتب خطبة السادات في أثناء الأزمة مع البابا شنودة في 1976، وخطبته في 9 نوفمبر 1977 (المعروفة بخطبة المبادرة)، وخطبته الشهيرة في الكنيست الإسرائيلي في 20 نوفمبر 1977، وخطبته في ‘عيد الصحافة’ في 1980، وخطبته في أول مايو 1979 (7). وأخيرا، كشف أحمد بهاء الدين (1987) أنه كتب خطبة عيد العمال في أول مايو 1976، وخطبة افتتاح البرلمان في 1976، وخطبة ذكرى مرور ربع قرن على ثورة يوليو 1977(8).

1. الكاتب’ و‘الحاكم’: تضارب المصالح والرؤى

لقد سبق لعبد العليم محمد مناقشة تأثير كتَّاب خطب السادات في صياغة خطابه السياسي. وتوصل إلى بعض الأفكار التي يمكن أن تمثل حجر زاوية لأية مقاربة لهذه المسألة. هذه الأفكار تتلخص في أن رجل السياسة ما إن يتلفظ بشيء "حتى يصبح مسئولاً عنه ومنسوبا إليه"، دون اعتبار لمسألة أن شخصا أو جماعة أخرى ربما قامت بصياغته أو شاركت فيه. كما أن استقلال السادات الشديد إزاء مستشاريه؛ نتيجة تمرسه بمهنة الكتابة والخطابة قبل أن يصبح رئيسًا من ناحية، وتميز نمط حكمه بالفردية أو ما أطلق عليه ‘شخصنة السلطة‘ من ناحية أخرى(9)؛ أدى إلى تميز خطبه وكلامه بقدر من الاستقلال والتفرد. تبدو مسألة كُتَّاب الخطب من الأهمية بمكان إذا نظرنا إليها من زاوية الدور الذي يقوم به مؤلفو الخطب في صياغة أيديولوجيا الحكم، وأيديولوجيا الطبقة الحاكمة. من الضروري أولا التأكيد على أن رجل السياسة يختار الكاتب الذي يشاطره قناعاته واختياراته ليكون معينا له في صياغة خطبه السياسية. كما أن كُتَّاب الخطب بدورهم يحاولون أن تقترب نصوصهم المقدمة لرجل السياسة مما يعتقدون أنها قناعاته واختياراته؛ وإلا جازفوا بفقد عملهم. لكن من الصحيح أيضا -كما يرى بورديو- أن جزءا من قناعاتهم واختياراتهم الخاصة تتسرب إلى الخطب، بوعي أو دون وعي. تلك القناعات والاختيارات قد تتلاقى أو لا تتلاقى مع قناعات واختيارات السياسي الذي سيلقي الخطبة، لكنها في كل الأحوال تخدم مصالح كتاب الخطب بقدر ما. وبحسب نص بورديو فإن "الأيديولوجيات تتحدد دوما تحديدا مزدوجا، كما أنها لا تدين بأكثر خصائصها نوعية للمصالح الطبقية التي تعبر عنها فحسب، بل للمصالح الخاصة لأولئك الذين يُنتجونها، وللمنطق النوعي الذي يتحكم في مجال الإنتاج، الذي عادة ما ينقلب إلى أيديولوجيا الإبداع والمبدعين "(10).

يبدو الوعي بالدور الذي يقوم به كتاب الخطب - ليس في صياغة الخطب السياسية فحسب، بل في صياغة أيديولوجيا الحكم بالأساس- مهما في سياق دراسة خطب السادات. يرجع ذلك أولا إلى أنه يفسر بعض الظواهر التي قد تواجه دارسي خطبه من قبيل التضارب الشديد بين المقولات الأساسية في خطبه ليس عبر الامتداد التاريخي فحسب بل داخل الحيز الزمني الواحد. كما قد يفسر تنامي ظاهرة الخطب المرتجلة، غير سابقة الإعداد في السنوات الأخيرة من حكمه، وهي السنوات التي شهدت تبلور ما يطلق عليه عبد العليم محمد(1990) "الأيديولوجيا الساداتية"، التي تمثل نسقا من المعتقدات والقيم والاختيارات الخاصة، التي ربما كان السادات يميل إلى إنشاء خطابها بشكل مستقل، لكي تُزال الفجوة بين أيديولوجيا الحاكم المُلقي للخطب وأيديولوجيا كاتب الخطبة. هذه الفجوة بين أيديولوجيا الحاكم وأيديولوجيا كاتب خطبه ليست مجرد فجوة نظرية. فهي تنعكس في شكل صراع خفي أو معلن بين رؤى ومواقف ومصالح الكاتب والحاكم. وغالبا ما يتم حسم الصراع بينها بواسطة واحد من عدة اختيارات ممكنة. الاختيار الأول وهو الأكثر شيوعا في المادة المدروسة هو أن يتخلى الكاتب عن رؤاه ومواقفه ويقوم بكتابة نص يروج لرؤى الحاكم ومواقفه، على الرغم من اختلافه معها. وهذا هو الاختيار الذي يتوقعه الحاكم وينتظره من الكاتب. وهناك مثال يضعنا أمام حالة ‘التناقض’ التي يمكن أن تنشأ نتيجة تبني الكاتب لهذا الاختيار؛ فقد ذكر مكرم محمد أحمد –نقيب الصحفيين- أنه قال للأستاذ محمد حسنين هيكل "إذا كنت ضد السلام فلماذا وافقت على كتابة مشروع خطاب افتتاح القناة والحرب لم تكن انتهت"(11) .

الاختيار الثاني هو أن يرفض الكاتب التعبير عن رؤى الحاكم ومواقفه. وهو الاختيار الأصعب. ويتفرع هذا الاختيار إلى اختيارات فرعية؛ فالكاتب قد يرفض كتابة مشروع الخطبة أصلا، أو يحاول دس رؤاه ومواقفه الخاصة في مشروع الخطبة، أو يتفاوض مع الحاكم لكي يصلا إلى صيغة توافقية. وفيما يتعلق بخطب السادات توجد أمثلة على هذه الاختيارات الفرعية. فالاختيار الأول يمثله رفض هيكل لكتابة الفقرة الخاصة بـ‘طحن المخالفين’(12)، ورفضْ أحمد بهاء الدين لكتابة خطبة السادات إثر أحداث يناير 1977، أو كتابة خطبته إثر تصديقه على إعدام المتورطين في أحداث الفنية العسكرية،، وسوف نتعرض للرفضين بالتفصيل فيما بعد. أما سعي الكاتب لدس رؤاه ومواقفه في مشاريع خطب السادات؛ فمن أمثلته ما ذكره هيكل في ‘خريف الغضب’؛ من أنه حرص في أثناء كتابته لخطاب الرئيس السادات الذي ألقاه في افتتاح الدورة العادية للمؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي في 12 نوفمبر 1970 أن يُضمِّن صدر الخطاب واقعة معينة "حتى يقولها السادات بلسانه، وحتى يكون ارتباطه بما تحقق من أهداف ارتباطا مسجلا عليه "(13). وخلاصة هذه الواقعة – التي أراد هيكل أن يقولها السادات بلسانه - أن عبد الناصر في عام 1969 قال في جلسة ودية جمعت السادات وهيكل إنه متخوف من أن تؤثر مشاكله الصحية على حسن أدائه لواجباته، مُلمحا إلى تفكيره في التنحي؛ فقال له السادات "ومن هذا الذي يستطيع أن يأتي بعدك؟ إنك جعلتها مسألة صعبة جدا لمن سيخلفك لا سمح الله. ماذا تركت له لكي يفعل؟ لقد طردت الملك وطردت الإنجليز، وبنيت السد العالي، وحققت إرادة الوحدة العربية، وغيرت وجه مصر كلها. إنني أرثى له هذا الرجل المسكين بصرف النظر عمن يكون". لقد ذكر السادات بالفعل الواقعة التي أراد له هيكل أن يقولها؛ فقد قال - كما هو منشور في الجزء الأول من خطبه الصادر عن الهيئة العامة للاستعلامات - ما يأتي: "في مرات كثيرة وأنا معه – يقصد عبد الناصر - نفكر في مستقبل هذه الأمة بعد جيلنا كنت أقول له: إنك جعلت مهمة من سوف يلي المسئولية بعدك مهمة مستحيلة، لأنك أنجزت أكثر مما يحلم إنسان أن ينجز، ولأنك دخلت في الضمير القومي لأمتنا بما لا يترك مجالا لغيرك، كما أن الناس لن يكفوا عن المقارنة. كنت معه أرثي لحال ذلك الذي سوف يجلس على مقعده بعده، ولم يخطر ببالي قط أن الأقدار سوف تداهمني بهذا الامتحان الرهيب"(14). وربما يمكن تفسير نجاح ما يصوره هيكل على أنه وضعٌ للجرس في رقبة القط بواسطة ظاهرة راسخة في الخطاب السياسي للسادات في العامين الأولين لتوليه الحكم؛ ألا وهي الاعتماد بشكل شبه كامل على المعجم السياسي لعبد الناصر، والحرص على تقديم صورة إيجابية لعبد الناصر، وإعلان السادات أنه يقتدي بهذه الصورة ويحذو حذوها.

من الأمثلة الأخرى على نجاح ‘الكاتب’ في تسريب رؤيته ومواقفه إلى النصوص التي تحمل اسم الحاكم ما يرويه غالي شكري حول ‘برنامج العمل الوطني’، الذي قدمه السادات في يوليو 1971؛ يقول: "بالرغم من الشائعات القوية التي سادت زمنا حول ‘قلم الرئيس’، والإيحاء بأن هذا أو ذاك من الصحفيين المصريين كان يكتب له مقالاته وكتبه بعد قيام ثورة 1952، إلا أن إنصاف الحقيقة يقتضينا الإقرار بأن الرجل لم يكن بعيدا عن حرفة الكتابة قبل وأثناء وبعد الثورة. على أن الإنصاف ذاته يقتضينا الإقرار بأن أسلوب ‘برنامج العمل الوطني’ أبعد ما يكون عن روحية الرئيس السادات في الكتابة وطرائقه في التعبير (..) فضلا عن أن الأفكار -وهذا هو الأهم- التي تضمنها البرنامج، أبعد ما تكون عن رؤيا الرئيس في تاريخه السياسي، قبل وأثناء وبعد الثورة. والأرجح أن ‘فريق عمل’ من المفكرين اليساريين الذين تعاونوا مع الرئيس والاتحاد الاشتراكي الجديد قد تكفل بصياغة هذا البيان. والأغلب أن دور هذا الفريق لم يقتصر على الصياغة اللفظية المجردة، بل منحها ‘فكرا’ من عنده. وهو الفكر الذي لا يتناقض مع ‘الخطوة الأولى’ للرئيس، بغض النظر عن كونها خطوة تكتيكية أو أنها خطوة ذات بعد استراتيجي، أو مجرد مناورة من البداية."(15)

على الرغم من أن كُتَّاب الخطب قد ينجحون في بعض الأحيان في دس رؤاهم في الخطب، فإن سعي الكاتب إلى ‘تعليق الجرس في رقبة الحاكم’ هي مهمة أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح. فالحاكم يمتلك حرية شبه مطلقة في أن يقول ما يرغب في قوله، وأن ‘يحذف’ ما لا يرغب في قوله. فعلى سبيل المثال ذكر عبد الله إمام أن محمد عبد السلام الزيات –نائب رئيس الوزراء في السنوات الأولى من حكم السادات- "لاحظَ أنه كلما أعد للسادات خطابا يشير فيه إلى بيان 10 يوليو يحذف بخط يده كل ما يذكِّره بهذا البيان"(16). وبيان 10 يوليو ليس إلا ‘برنامج العمل القومي’ الذي سبق لغالي شكري أن وصفه بأنه بعيد كل البعد عن فكر السادات ورؤيته ولغته. يبرهن على تلك القوة المطلقة في الرفض أو القبول أن النصوص أو الأفكار التي حملت اسم الرئيس بينما هي تعبر عن رؤى وإرادة كتابها لم تكن تتعارض مع مصالح ‘الرئيس’ في ذلك الوقت. فكل هذه الإشارات تتعلق بموقف السادات من فكر عبد الناصر أو شخصه. وقد كان السادات في السنوات الأولى من حكمه حريصا بشكل مطلق على إعلان تقديسه لشخص عبد الناصر وتبنيه المطلق لفكره، لأنه أدرك أن هذا هو السبيل الوحيد للاستحواذ على قبول الجماهير وتأييدها، قبل أن يؤسس شرعيته الجماهيرية على حرب أكتوبر. وما إن اكتسب السادات شرعية مستقلة حتى انقلب على عبد الناصر شخصا وفكرا، بل إنه سعى للتخلص من الأشخاص أنفسهم الذين استعان بهم في الفترة السابقة، ممن ظنوا في أنفسهم القدرة على ‘تعليق الجرس في رقبة القط’.

يبقى اختيار التفاوض بين الحاكم والكاتب، ومحاولة تسوية الاختلاف بين مواقفهما ورؤاهما أكثر حدوثًا في السياق السياسي المصري. فمن الطبيعي أن لا يختار الحاكم من البداية أشخاصا يدرك أنهم يعارضون سياساته لكي يكتبوا الخطب التي تروج لهذه السياسات وتدافع عنها. كما أن رفض الكاتب كتابة مشروع خطاب الحاكم في المجتمعات الديكتاتورية هو قرار صعب للغاية، ومحفوف بمخاطر فعلية على مستقبل هذا الشخص الوظيفي والمهني، وربما على حياته الشخصية أيضا. أما مسألة دس رؤى الكاتب فقد رأينا أنها لا تحدث إلا تحت سمع الحاكم وبصره، أي أنها لا تحدث إلا إذا كان فيها تحقيقا لمصالحه. من الأمثلة التي نجح فيها التفاوض بين الحاكم والكاتب الخطبة المهمة التي ألقاها السادات في 14 مايو 1971 في ذروة صراعه على السلطة مع من أطلق عليهم ‘مراكز القوى’. يروي هيكل أنه "عندما كان السادات يستعد لتوجيه خطابه إلى الأمة ليخطر جماهير الشعب بتفاصيل صراعه مع مجموعة مراكز القوى، وجدته يريد أن يركز في خطابه على أن خصومه حاولوا أن يمنعوه من التفاوض مع وزير الخارجية الأمريكي (ويليام روجرز). وكان يريد أن يتخذ من تقرير الفريق فوزي إليه بـ‘رأي القوات المسلحة في مقترحات روجرز ومقترحاته هو ردا عليها’ دليله على ذلك. وقلت له في مكتبه بقصر القبة وكان على وشك أن يبدأ خطابه: "إنني أتصور أن القضية المركزية فيما يتعلق بهذا الصراع هي قضية الديمقراطية، فهي القضية التي تهم الناس مباشرة في هذه الظروف، إن الناس يريدون أن يسمعوه وهو يؤكد لهم ضمانات حرياتهم. لقد أفلتوا بالكاد من شبح ديكتاتورية كان يمكن أن تصل في تجاوزاتها إلى بعيد. وعندما جعل السادات من الديمقراطية قضيته الرئيسية فإن الناس بدوا كأنهم جميعا قد تنفسوا الصعداء"(17).

يحاول هيكل في هذا النص أن يبرز الاختلاف بين فهمه لطبيعة الصراع بين السادات ومراكز القوى، وفهم السادات لهذا الصراع؛ فعلى حين كان يراه هيكل صراعا بين ‘شبح الديكتاتورية’ والديمقراطية، كان يراه السادات صراعا على الصلاحيات السلطوية لرئيس الدولة، وعلى اختيارات التعامل مع مقترحات أمريكا بخصوص سيناء المحتلة. لكن الواقع أنه لا وجود لهذا الاختلاف في فهم الحدث؛ فالنص يقول بوضوح إن الاختلاف كان في الطريقة التي يرغب كل منهما في تصوير الحدث بواسطتها للناس. وقد استطاع هيكل (الكاتب) أن يضع يده على الورقة الرابحة في استقطاب الجماهير نحو الطرف الذي استطاع القضاء على منافسيه؛ وهي الديمقراطية. وقد استخدم السادات (الحاكم) الورقة التي ألقاها له الكاتب لكي يستحوذ على تأييد الجماهير لقراراته بسجن منافسيه، ولكي يظهر بصورة البطل منقذ الحريات. فقد استطاع تصوير صراع عادي على السلطة على أنه صراع بين الديكتاتورية والديمقراطية، أو بمزيد من التعميم صراع بين الخيرين والأشرار. وهكذا حقق الحاكم مبتغاه وهو تأييد الجماهير لقراراته، وحقق الكاتب مبتغاه وهو دفع الحاكم إلى الحديث عن الديموقراطية والحريات من ناحية، وترسيخ سلطة الطرف الذي قام بمساندته في هذا الصراع من ناحية أخرى.

2. خطب السادات بين موسى صبري وأحمد بهاء الدين

تبدو عملية كتابة الخطب السياسية في السياق المصري مثيرة لكثير من التشويق، وكثير من التساؤلات أيضا. فحتى أقل الناس اهتماما بالخطابة السياسية سوف يُظهر بعض الاهتمام حين يتعلق الحديث بالأشخاص الذين يكتبون الخطب السياسية أو الكيفية التي يتم من خلالها كتابتها. ربما يرجع ذلك إلى الغموض الذي يكتنف هذه العملية، وستار السرية الذي يُحيط بها. وفي الصفحات الآتية سوف أحاول أن أدرس عن كثب واحدة من تجارب كتابة الخطب الرئاسية؛ في محاولة لفهم آليات وتقنيات هذه العملية من ناحية، والاقتراب من مثال حي للعلاقة متعددة الجوانب التي قد تنشأ بين الحاكم وكاتب خطبه من ناحية أخرى. التجربة التي سوف أدرسها تفصيليا هي تجربة الصحفيَين المصريين أحمد بهاء الدين وموسى صبري في كتابة خطب السادات. وقد تحدث كلاهما عن تجربته الخاصة في كتابيهما السابق الإشارة إليهما. ويجدر بالذكر أن كثيرا مما ذكره الكاتبان هو نتاج لحوارات شخصية مع السادات، لا توجد وثائق محايدة تؤكده أو تنفيه. فكل ما لدينا هو كلام بهاء الدين وكلام صبري من ناحية وخطب السادات من ناحية أخرى. مع ذلك فإن غياب هذه الوثائق المحايدة لا يؤثر في مصداقية النتائج التي يمكن التوصل إليها من خلال تحليل نصوص بهاء الدين وصبري تأثيرا كبيرا. وذلك لأنه من غير المتوقع على نحو كبير أن يدَّعي أحدهما أنه كتب خطابا لم يكتبه؛ أو أن يحكي عن طقوس أو خطوات أو مراحل لكتابة الخطب لم تحدث بالفعل.

لابد وأن نكون واعين بأن تجربة كتابة الخطب السياسية كما يقدمها بهاء الدين وصبري غير قابلة للتعميم على تجارب أخرى (مثل تجربة هيكل في الكتابة لجمال عبد الناصر أو تجربة كتاب خطب حسني مبارك مثلا). فلكل تجربة ظروفها وشروطها ومعالمها. ليس أدل على ذلك من وجود اختلافات جوهرية بين تجربتي بهاء الدين وصبري سوف نكشف عنها في الصفحات الآتية. سوف أركز في تحليلي لهذه التجربة على عناصر محددة هي: 1) مراحل كتابة خطب السادات وطقوسها، 2) الجدل بين أفكار الحاكم والكاتب وتأثيره على الخطبة، 3) تأثير كاتب الخطب على الأسلوب الخطابي للحاكم.

3. مراحل كتابة خطب السادات وطقوسها

من المؤكد أننا محظوظون إلى حد كبير لأنه توجد نصوص تصف بتفصيل معقول الطقوس التي تأخذها عملية كتابة خطب السادات. ويزداد تقديرنا لهذا الحظ في ضوء حقيقة أن مثل هذه النصوص قليلة فيما يتعلق بخطب جمال عبد الناصر، وتكاد تكون منعدمة فيما يتعلق بخطب حسني مبارك. يصف موسى صبري طقوس كتابة خطب السادات في نص متصل خصصه لذلك الموضوع قائلا:

"منذ أن ترك أحمد بهاء الدين القاهرة عهد إلي الرئيس السادات بمهمة كتابة خطاباته الهامة، وكان أسلوبه أن يدعوني إلى الاجتماع به، ثم يشرح لي الأفكار التي يريد إبرازها، (..) ثم أتصل به بعد أيام عندما أنتهي من كتابة الخطاب، ويحدد لي موعدا، وأذهب إليه لكي أقرأ ما كتبت. ويظل منصتا وناظرا إلى ساعة يده ليعرف كم من الوقت يستغرق الخطاب. وأحيانا كان يبدي إعجابه بما كتبت. وأحيانا كان يترك موضوع الخطاب إلى مناقشات في موضوعات عامة ثم يعكف بعد أن أنصرف على دراسة الخطاب ليلة إلقائه، وكثيرا ما كان يختصر بعض الفقرات، ويضيف جملا جديدة بقلمه. وفي بعض الأحيان يعدل عن الخطاب كله مكتفيا بالمقدمة والخاتمة، ويرتجل خطابا آخر، فيه أفكار أخرى تكون قد طرأت على فكره ليلة إلقاء الخطاب بسبب أحداث لا أعرفها أو بسبب أحداث طارئة معلنة. وفي أحيان كان يقرأ فقرات الخطاب، ثم يتوقف ويرتجل ليشرح ويضيف ويعود إلى أحداث سابقة. وكان في معظم الأحيان يختار آية قرآنية يختتم بها الخطاب."(18) يكشف كلام صبري عن وجود أربع مراحل لعملية كتابة خطب السادات السياسية منذ كونها جنينا حتى إلقائها أمام الجماهير؛ المرحلة الأولى هي التجهيز للكتابة، والثانية هي إعداد الكاتب لمشروع الخطبة، أما الثالثة فهي مراجعة مشروع الخطبة مع السادات، وأخيرا تأتي المرحلة الرابعة وهي إلقاء السادات للخطبة. وسوف نتوقف أمام كل مرحلة من هذه المراحل ببعض التفصيل.

أولا: مرحلة التجهيز لكتابة الخطبة السياسية

تتضمن هذه المرحلة تكليف السادات للشخص بكتابة الخطبة، وتحديد الأفكار والموضوعات التي سوف يتناولها، والمنظور الذي يريد أن تقدمه الخطبة. وفي بعض الأحيان تتضمن كذلك نبرة الخطبة ودرجة المباشرة فيها. فعلى سبيل المثال يذكر صبري أن السادات طلب منه كتابة خطبته التي تناول فيها خلافه مع البابا شنودة في منتصف السبعينيات، وطلب منه أن "يكون الحديث عن موقف البابا شنودة متوازنا"، ثم طلب منه بعد ذلك أن يكون الحديث عن موقف البابا شنودة تصعيديا، وأخيرا طلب منه –بعد أن كتب الخطبة- أن يخفف من نبرتها؛ قائلا: "أنا رجل أعمل بالسياسة وما دامت الأزمة في طريقها إلى الحل من جانب البابا شنودة فلا داعي للتصعيد، وفعلا خففت كثيرا من كلمات الخطاب "(19).

في هذه المرحلة أيضا يقوم السادات بإمداد كاتب الخطب بالوثائق والبيانات التي يحتاجها في كتابة خطبته. ففي الخطبة السابق الإشارة إليها كان صبري سيتناول –بالإضافة إلى مسألة البابا- مسألة اشتغال القضاة بالسياسة. ويذكر أن "الدكتورة آمال عثمان كانت قد أعدت بحثا قانونيا عن عدم تدخل رجال القضاء في العمل السياسي، وأعطاني الرئيس هذا البحث "(20). ومن الممكن كذلك أن يستعين كاتب الخطب من تلقاء نفسه بالوثائق التي تخدم هدف الحاكم. فقد ذكر موسى في سياق آخر أنه أثناء إعداد خطبة السادات بمناسبة ‘عيد الصحافة’ عثر على لائحة آداب مهنة الصحافة التي وضعها كامل الزهيري، وأنه استخدمها كمرجع لتحديد ما يريده السادات من الصحفيين، ويذكر أنها "كانت مفاجأة الخطاب"(21). هناك مسألة مهمة أخرى يتم تناولها في مرحلة التجهيز للكتابة؛ هي تحديد المناطق التي سوف يتم فيها الارتجال داخل سياق الخطبة. فمن المعروف أن السادات – يشترك في هذا مع عبد الناصر ومبارك - كان يقوم بإدخال فقرات ارتجالية أثناء إلقاء خطبه المكتوبة. فقد كان كثيرا ما يتوقف عن قراءة النص المكتوب، ويتحدث بشكل مرتجل عن نفس الموضوع الذي يتحدث عنه النص المكتوب، أو يقوم باستطراد يتناول فيه موضوعا ذا صلة. هذا الكلام المرتجل يتم التخطيط له أثناء إعداد الخطبة. فهو لا يترك كلية للصدفة والظروف، وليس عفويا بشكل كامل كما نعتقد. لعل المثال الأبرز على مثل هذا الكلام الارتجالي هو العبارة التي قالها السادات قبيل نهاية خطبته في 19 نوفمبر 1977، والمشهورة بخطبة المبادرة، والتي أعلن فيها السادات استعداده للسفر إلى إسرائيل. لقد رأى كثير من المراقبين أن هذه العبارة المرتجلة كانت استطرادا غير مقصود أو فلتة لسان. لكن الواقع أنها لم تكن كذلك. فقد ذكر صبري –الذي كتب خطبة المبادرة - بعد أن استعرض مراحل اقتناع السادات بفكرة زيارة إسرائيل، أن "السادات استدعاني إلى لقائه بالقناطر، وناقشني في موضوع خطاب سيلقيه في مجلس الشعب، وأملى علي نقاط الخطاب، ثم قال لي: (وهناك مفاجأة هامة في الخطاب اترك لها مكانا، وسأصرح لك بها عند مراجعة الخطاب معك قبل إلقائه) وراجعت معه الخطاب، ولكنه لم يصرح بالمفاجأة "(22).

لم يصرح السادات لصبري بطبيعة ما سوف يرتجله في خطبة المبادرة، لكنه صرح له بما سوف يرتجله في خطبة أخرى قام صبري بكتابتها أيضا. فأثناء إعداد صبري لخطبة السادات بشأن صراعه مع البابا والقضاة أخبره السادات أنه "يزمع أن يرتجل خارج النص شيئا عن تاريخ الوحدة الوطنية في مصر، وقرأ عن ذلك كثيرا، واعتمد على مؤلفات عبد الرحمن الرافعي في تاريخ الوحدة الوطنية منذ مؤتمر الأقباط الذي عُقد في أسيوط عام 1910 "(23). وهكذا فإن كثيرا مما قد يظهر لنا من كلام السياسيين على أنه مرتجل أو عفو الخاطر، هو نتاج تخطيط وجهد واع مدروس؛ إذ نادرا ما يُترك شيء من كلام السياسيين للصدفة. لقد قلنا من قبل إن خطب السياسيين – خاصة في المستويات الحساسة كرئاسة الدولة، وفي المناسبات أو الأحداث ذات الأهمية - يُنتظر فيها أن تكون نتاج تخطيط شامل ودقيق. وفي إطار هذا التخطيط يتم تحديد مواضع الارتجال ومواضع القراءة من النص المكتوب، وما سوف يتم قوله في كل منها. ويقوم كاتب الخطبة بمراعاة هذه الأمور في مرحلة الإعداد للكتابة وأثنائها.

ثمة تشابه كبير بين تجربة صبري وتجربة بهاء الدين فيما يتعلق بطقوس مرحلة التجهيز للخطبة. فكلاهما كان يتم استدعاؤه للكتابة، وإمداده ببعض المراجع التي يحتاجها. وكان السادات يتناقش مع كليهما في موضوع الخطبة، ونبرتها وأهدافها. لكن مع ذلك توجد اختلافات، ربما ترجع إلى أن كلا منهما لم يتناول تجربته في كتابة خطب السادات كموضوع أساس، وإنما جاءت ملاحظاته وتصريحاته في سياقات اعتراضية؛ أثناء الحديث عن موضوعات أخرى. لكن السبب الأكبر لهذا الاختلاف هو تباين المنظور الذي تبناه كل منهما في سرده لذكرياته وشهادته على تلك الفترة؛ ففي حين بدا صبري مدافعا صلبا عن السادات وسياساته وقراراته بكل ما أوتي من قوة على التبرير، بدا بهاء الدين منتقدا أكثر منه مؤيدا، وبدا كما لو كان راغبا في نفض يديه من هذا العصر ومن هذه التجربة. تجلى اختلاف الكاتبين في تقييمهما لعملهما مع السادات بوضوح في مرحلة التجهيز لكتابة الخطاب. ففي حين لم يُشر صبري إلى أي خلاف بينه وبين السادات فيما يتعلق بالأفكار أو القرارات التي يمكن قولها أو تلك التي لا يمكن قولها في الخطب التي قام بكتابتها فإن صفحات ‘محاوراتي مع السادات’  حافلة بالأمثلة على هذه الخلافات. كان أبرزها رفض بهاء الدين كتابة خطبة السادات بعد انتفاضة الجوعى في يناير 1977 لأنه غير موافق على ما يرغب السادات في قوله، وسوف نتوقف أمام هذا الرفض بالتفصيل لاحقا. تكشف تجربة بهاء الدين في مرحلة التجهيز لكتابة الخطب عن المساحة الواسعة للمناورة بين اختيارات الحاكم واختيارات الكاتب. فالكاتب في هذه المرحلة يمكن أن يتفاوض مع الحاكم حول الأفكار التي سوف تتضمنها الخطبة التي يكتبها. هذا التفاوض يؤدي إما إلى أن يقبل الكاتب فكرة الحاكم، أو أن يُقنع الحاكم بضرورة التخلي عن فكرته، أو أن يُقنعه بفكرة جديدة. وهناك أمثلة متعددة على هذه النهايات من تجربة بهاء الدين.

يحكي بهاء الدين أن السادات طلب منه إعلان تحويل المنابر السياسية – منبر الوسط واليمين واليسار - إلى أحزاب في خطبة افتتاح البرلمان. وهو ما رآه بهاء الدين أمرا مخالفا للدستور. ويصف بهاء الدين الخلاف الذي نشأ مع السادات حول هذه النقطة في النص الآتي: "لم يكن هناك مجال لمناقشات طويلة عما سوف يرد في الخطاب بوجه عام، إلا نقطة واحدة أدت إلى نشوب الجدل والنقاش بيننا إلى ما بعد منتصف الليل. قال لي السادات إنه سعيد عموما بالانتخابات. وأنه يعتقد أن تجربة المنابر الثلاثة (اليمين والوسط واليسار) قد نجحت. وأنه يريد أن يعلن في جلسة افتتاح البرلمان قراره بأن تتحول المنابر إلى أحزاب. وقال في تبرير ذلك إن المنابر الثلاثة خاضت الانتخابات على أنها أحزاب بالفعل، وقدمت للناخبين برامج مختلفة وتصارعت على هذا الأساس فلم يبق إلا إعلان تغيير اسمها لتكون عندنا حياة برلمانية حزبية. وقلت للرئيس إن هذه خطوة عظيمة. ولكن هناك مشكلة بسيطة وهي أن الدستور لا ينص على وجود أحزاب. والحل البسيط هو أن يعلن الرئيس في خطاب الافتتاح هذا الرأي وأن يطلب في الوقت نفسه أن تجتمع اللجنة التشريعية في البرلمان على الفور لإعداد مشروع التعديل الدستوري اللازم لقيام الأحزاب. (..) ولم يوافق السادات على هذا الرأي. (..) ولذلك كان طبيعيا أن لا أوافق السادات على ما ذهب إليه في هذا الشأن. (..) وأنهى الرئيس السادات الحوار الطويل بعد منتصف الليل بأن قال لي: يا أحمد، لازم تكون عرفت طريقتي! طريقتي أن أعلن قراري، وبعد كده نشوف. إذا كان عايز تعديل نعمل تعديل، وإذا كان عايز قانون نعمل قانون. لأني لو قعدت أدرس في كل قرار علشان يطلع ما يخرش الميه، يبقى عمري ما حاطلع قرارات!! وقال: كفاية؛ أعلن في الخطاب قيام الأحزاب، وبعد كده نشوف إيه اللي يحتاجه الموقف. "(24) لقد انتهى ‘الجدل’  بين بهاء الدين والسادات بقبول الكاتب لـ‘طريقة’ الحاكم، وقيامه بكتابة ما يرغب في قوله. والملاحظة الأهم هنا هي كيف قام حوار دقيق وعميق بين السادات وبهاء الدين. وكيف كان السادات حريصا على الإنصات الكامل لحجج بهاء الدين، ومحاولة تفنيدها. وبالمثل كيف كان بهاء الدين حريصا على الاستماتة في الدفاع عن فكرته التي تتناقض مع فكرة الحاكم. والحوار بمجمله علامة واضحة على حرص السادات على أن يقتنع ‘الكاتب’ بما سيكتب؛ وحرص الكاتب على أن يكون أمينا إلى أقصى حد مع ‘الحاكم’.

لكن الكاتب قد يُفلح أحيانا بواسطة التفاوض مع الحاكم أن يثنيه عن قول ما لا يرغب في كتابته. فهو قد ينجح في إقناع الحاكم بالتخلي عن فكرة يرغب في أن يقولها عبر الخطبة. والمثال التالي من تجربة بهاء الدين تحقق فيه ذلك؛ يقول: "استدعاني (السادات) مرة إلى الإسكندرية وقال لي إنه قرر التصديق على الحكم الذي أصدرته المحكمة بالإعدام على المتهمين في قضية ‘الفنية العسكرية’؛ أي صالح سرية وجماعته الذين حاولوا الاستيلاء بالقوة على الكلية تمهيدا لمحاولة انقلاب ساذجة، سقط فيها 17 قتيلا، ثم قال لي إنه يريد أن يقوم بعمل جديد! إنه يريد أن يظهر على شاشة التليفزيون ويلقي خطابا يشرح فيه للناس لماذا قرر التصديق على حكم الإعدام .. ويومها قلت له فزعا: من أشار عليك يا ريس بذلك؟ هذه مشورة سيئة النية إلى آخر الحدود! وكان منطقي كما قلته له: لقد تمت المحاكمة، وأصدرت المحكمة الحكم بالإعدام، وأحيلت الأوراق إلى المفتي الذي صدَّق على الحكم، وأنت قررت أن تمارس اختصاصك وتصدق بدورك عليه. فلماذا تريد أن تخرج على الناس وتلقي خطابا تشرح فيه ‘حيثياتك’ لتنفيذ الإعدام؟! إنني يا ريس لست مستعدا لأن أكتب حرفا واحدا من هذا الخطاب!! وأنصح بكل شدة ألا تفعل ذلك! (..) ويومها أيضا شعر السادات وكأنه كان سيُقدم على غلطة ضخمة؛ فعدل عن قراره الذي أحضرني من القاهرة إلى الإسكندرية بسببه، وشكرني على هذا الرأي ".(25) وسوف نلاحظ من كلام بهاء الدين أن المدخل لإثناء الحاكم عن إلقاء خطاب ما يبدأ وينتهي من حجاج المصالح؛ وكلما استطاع الكاتب إقناع الحاكم بأن ما سيقوله أمام الجماهير قد لا يكون هو الأكثر خدمةً لمصلحته أصبح الكاتب أكثر قدرة على اجتذاب الحاكم لموقفه.

وأخيرا فإن الكاتب قد ينجح في إقناع الحاكم بقول فكرة ما في خطابه؛ ربما لم تكن لتخطر بباله أبدا قبل أن يشير الكاتب إليها. وهناك مثال واضح لهذا في تجربة بهاء الدين. فهو يحكي أن السادات استدعاه لكتابة خطبته في الذكرى الخامسة والعشرين لثورة يوليو، وطلب منه السادات أن يفكر فيما يمكن أن يقوله في هذه الخطبة. واهتدى بهاء الدين إلى اقتراح أن يعلن السادات في هذه الخطبة عن عفو شامل عن المسجونين السياسيين منذ قيام الثورة حتى 1977: "نظر (السادات) إلي في دهشة من بوغت بشيء غير متوقع، ثم سألني: ماذا تقصد بحكاية ‘العفو الشامل’؟ قلت له: أن تقول للناس جميعا على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ‘اذهبوا فأنتم الطلقاء". بعد حوار وجدال طويل استغرق أربع صفحات من الحوار يذكر بهاء الدين أنه: "كان واضحا لي أن الرئيس السادات قد انشرح صدره للاقتراح بالفعل، بل وصار متحمسا له، إذ كرر لي شكره على الاقتراح قائلا: إن مشوارك من الكويت برضه جه بفايدة. وعدت إلى القاهرة، وأرسلت الخطاب كاملا ومكتوبا على الآلة الكاتبة، وفي ختام الخطاب بضع فقرات أذكر أنها تحدثت عن أنه ‘اليوم قد دارت دورة كاملة من دورات الزمن’ وكلام حول هذا المعنى ينتهي بالسطور القليلة الحاسمة التي تعلن عن قرار العفو الشامل ".(26) والمثال السابق واضح الدلالة على الدور الذي يقوم به مؤلفو الخطب السياسية في تحديد ما يمكن قوله في الخطبة، وليس فقط كيف يُقال. لقد رأينا كيف أن الكاتب يستطيع - في مرحلة تجهيز الخطبة - أن يؤثر ليس في طبيعة الأفكار التي سوف تتضمنها الخطبة فحسب، بل في ما إذا كانت الخطبة ستظهر إلى الوجود أم لا أيضا. لكن هذا الدور مرهون بوجود كتاب خطب لديهم الرغبة والقدرة على ‘الجدال’ مع الحاكم، ولا يتعاملون مع أنفسهم بوصفهم مجرد ‘أقلام’ للرئيس أو سكرتاريته.

هناك اختلاف أخير بين بهاء الدين وصبري في مرحلة تجهيز الخطاب. لقد ذكر صبري أن السادات اعتاد أن "يشرح لي الأفكار التي يريد إبرازها". وعلى العكس من ذلك يذكر بهاء الدين أن السادات "كان كثيرا ما يقول لي حتى بصدد أخطر الخطابات: تصرف أنت! وسأقرأ الخطاب بعد ذلك". وعلى الرغم من أن نص بهاء الدين يشي بأنه كان يُمنح تفويضا شبه كامل في تأليف الخطب، فإن حواراته التي أوردها في كتابه تُظهر أن السادات كان يتناقش معه قبل الشروع في تأليف الخطبة في الأفكار التي يرغب في أن يتناولها. وفي الواقع فإن هذه الحوارات كان هدفها توجيه الكاتب نحو الكيفية التي لابد أن ‘يتصرف’ من خلالها أثناء كتابة الخطبة؛ أي تحديد ما يقال وما لا يقال ومنظور القول ونبرته. ومعظم الخلاف الذي حرص بهاء الدين أن يكشف عن وجوده مع السادات كان يرجع إلى هذه الأمور. وربما كان تعبير ‘تصرف أنت’ مقتصرا على ترتيب الأفكار أو الأجزاء غير ذات الأهمية في الخطبة، ولا ينطبق على مجمل عملية كتابة الخطبة.

ثانيا: عملية كتابة الخطبة

لا توجد معلومات كافية عن مرحلة كتابة الخطب في تجربتي بهاء الدين وصبري. ويبدو من نصوصهما أنهما كانا يكتبان الخطب في أماكن خاصة بهما؛ وليس في أحد مكاتب الرئاسة أو استراحاتها. فبهاء الدين يقول إنه بعد أن قابل السادات في استراحة المعمورة ليكلفه بكتابة خطبته في الذكرى الخامسة والعشرين لثورة يوليو (1977)، عاد إلى القاهرة وأرسل مشروع الخطبة كاملة إلى الرئيس.(27) ويبدو أن الأمر لم يكن يختلف مع موسى صبري الذي نفهم من كلامه أنه في بعض الأحيان كان يكتب خطب الرئيس في مكتبه بجريدة أخبار اليوم. وأنه اعتاد أن يغلق باب مكتبه أثناء كتابتها. فقد حكا أنه أثناء تكليف السادات له بكتابة خطبته في مجلس الشعب إثر اعتقالات سبتمبر 1981 كان متخوفا من أن يعرف الناس أنه هو الذي سيكتب الخطبة التي يدافع فيه السادات عن اعتقال أعضاء الجماعات الإسلامية؛ ويبدو أن صبري كان يشعر بحرج عقدي بسبب ذلك؛ لكونه مسيحيا. يقول "شعرت بحرج شديد عندما أبلغني الرئيس من المعمورة أنه يعد لي مواد الخطاب، ولم أعترض بكلمة. ولكنني سافرت في اليوم التالي إلى القاهرة، وأمضيت في مكتبي الأسبوع كله، وباب المكتب مفتوح حتى يعرف جميع المحررين أنني غير منشغل بكتابة خطاب الرئيس الذي أعلن عن موعد إلقائه ".(28) وهكذا فإن صبري استطاع أن يموه على أنه بصدد كتابة خطبة السادات من خلال كسر طقس من ‘طقوس’ كتابته للخطب السابقة، وهو إغلاق باب مكتبه عليه. أثناء عملية كتابة الخطب يسعى الكاتب إلى الإفادة من المراجع والمصادر التي تعزز من قدرة الخطبة على الإقناع. ويذكر صبري أنه أثناء كتابة خطبة السادات في ‘عيد الصحافة’ في عام 1980 "أرهقت نفسي إرهاقا شديدا في إعداد هذا الخطاب بحيث يكون محاضرة علمية عن الصحافة المصرية في تاريخها البعيد والقريب وفي حاضرها المعاصر ".(29) وتشي عبارة صبري أن كاتب الخطب قد يتماس عمله مع عمل الباحث المتخصص الذي يحيط بجميع جوانب الموضوع الذي سيتحدث الحاكم فيه.(30)

ثالثا: مراجعة الخطاب

هناك اختلاف جذري في مرحلة مراجعة الخطب بين بهاء الدين وصبري، كما تعكسها تجربتيهما في الكتابة للسادات. فبهاء الدين لا يذكر أن هذه المرحلة موجودة أصلا. فهو لا يورد أية إشارة إلى أن السادات كان يراجع معه الخطب التي يكتبها، أو يحذف منها أو يضيف إليها. ولم تكن أيٌّ من اللقاءات التي يتحدث عنها في كتابه مخصصة لمراجعة الخطب، أو شيئا من هذا القبيل. وفي الواقع فإن بهاء الدين أشار في بعض المناسبات إلى أن السادات كان يلقي بعض الخطب التي يقوم بكتابتها بالنص. يقول مثلا متحدثا عن تجربته في كتابة خطبة السادات في عيد العمال في 1976: "السادات كان سيلقي خطاب عيد العمال في السويس. ولما لم يكن لدى الدولة شيء سياسي أو عمالي جديد يقال، فقد ركزت على الإشادة بدور عمال مصر منذ هزيمة 1967 حتى حرب 1973، من صمودهم في المصانع والموانئ تحت القصف الإسرائيلي المستمر إلى استمرارهم في العمل ببسالة لإطفاء حريق خزانات البترول في الزيتية في السويس تحت ضرب المدفعية الإسرائيلية (..) انتهاء بدور جميع عمال مصر في بناء حائط الصواريخ المشهور (..) وهو جهد اشتركت فيه - كما ذكرت في مشروع الخطاب - كل شركات المقاولات العامة والخاصة وكل العمال من أنحاء القطر المصري. وبعد أن عدت من الإسماعيلية، استمعت إلى الرئيس السادات وهو يلقي الخطاب لم يغير حرفا واحدا فيه، لم يقدم كلمة ولم يؤخر أخرى ولكنه غير شيئا واحدا فقط: ففي الحديث عن مشاركة كل العمال من خلال كل شركات المقاولات في بناء حائط الصواريخ، غيَّر الرئيس هذه الجملة وقصر الفضل فيها على ذكر شركة المقاولين العرب وعمال المقاولين العرب (عثمان أحمد عثمان) ".(31)

على النقيض من ذلك يذكر صبري بوضوح أن السادات كان يراجع معه الخطب التي يكتبها، ثم يقيس الوقت الذي يستغرقه إلقاؤها. وبعد انصراف صبري "يعكف على دراسة الخطاب ليلة إلقائه، وكثيرا ما كان يختصر بعض الفقرات، ويضيف جملا جديدة بقلمه. وفي بعض الأحيان يعدل عن الخطاب كله مكتفيا بالمقدمة والخاتمة".(32) وصبري بذلك يشير إلى أن ما كان يقدمه للسادات هو ‘مشروع’ خطبة، يقوم السادات بالعمل عليه حتى يتحول إلى خطبة. ولعل من المفارقات أن بهاء الدين هو الذي كان يستخدم تعبير ‘كتابة مشروع الخطاب’، بينما كان صبري يستخدم تعبير ‘كتابة الخطاب’. على الرغم مما سبق فإن عدم إشارة بهاء الدين إلى مرحلة مراجعة الخطبة لا يعني أنها لم تكن موجودة. فلا يمكن تخيل أن الرئيس –مع تجربته في حرفة الكتابة - لم يكن يتدخل في ‘مشروع’ خطبته. ويمكن تفسير عدم ذكر بهاء الدين لها بأنها كانت تحدث دون استشارته، أو إلى أنه لم يحدث خلالها حوار ما يمكن أن يضيف إلى تلك الحوارات التي أوردها بالفعل.

رابعا: إلقاء الخطبة

يتوقف دور كاتب الخطب السياسية عند مرحلة مراجعة الخطاب. لكنني أضفت هذه المرحلة ليتيسر لنا تتبع ما يحدث لنص الخطبة الذي كتبه الكاتب أثناء إلقاء الحاكم له. ويخبرنا صبري أن السادات كان في بعض الأحيان "يقرأ فقرات الخطاب، ثم يتوقف ويرتجل ليشرح ويضيف ويعود إلى أحداث سابقة". وأنه في بعض الأحيان كان "يعدل عن الخطاب كله مكتفيا بالمقدمة والخاتمة ويرتجل خطابا آخر، فيه أفكار أخرى تكون قد طرأت على فكره ليلة إلقاء الخطاب بسبب أحداث لا أعرفها، أو بسبب أحداث طارئة معلنة". ويؤكد ما يذكره صبري فكرة أن الخطب المكتوبة التي كانت تقدم للسادات في فترة حكمه الأخيرة كان يتعامل معها بوصفها ‘مشاريع خطب’، لا يوجد ما يلزمه بها. لقد أشار صبري أيضا إلى أن السادات اعتاد أن يُنهي خطبه بآيات من القرآن الكريم. ويبدو أن هذه الآيات لم تكن جزءا من الخطب التي يتم إعدادها. وإنما كان السادات يرتجلها. ويبدو هذا جليا من التسجيلات المرئية لخطبه، والتي يظهر فيها أنه يعتمد على ذاكرته لا على القراءة. ويتسق هذا مع صورة الرئيس المؤمن التي حرص السادات طوال حكمه على إبرازها.(33) هناك مسألة أخرى تتعلق بكيفية تعامل السادات – أثناء إلقاء الخطبة - مع النص المكتوب. فقد كان يلقيه حرفيا، أو يقرأ جزءا من النص ثم يشرحه أو يعلق عليه بعبارات مرتجلة، أو يقوم بإعادة صياغة النص المكتوب بواسطة لغة عامية مرتجلة، بحيث يقوم النص المكتوب بدور إرشادي فحسب.

يعكس الفرق بين ‘مشروع الخطبة’ الذي يعده الكاتب والخطبة التي يلقيها الحاكم واقع القوى والمصالح، ليس في مؤسسة الرئاسة فحسب، بل في الدولة ككل. وثمة مثال دال في هذا السياق. يذكر بهاء الدين أنه اقترح على السادات أثناء حوارهما بخصوص الأفكار التي يمكن أن تتضمنها خطبة السادات في الذكرى الخامسة والعشرين لثورة يوليو أن يعلن في خطبته عفوا شاملا بهذه المناسبة. وقد سبق أن تعرضت لهذه الخطبة في سياق الحديث عن تأثير كتاب الخطب في أفكار الخطبة. لكن ما سأهتم به هنا هو تأثير القوى السياسية الأخرى على ما يمكن أن يُقال في الخطب السياسية. لقد اقتنع السادات بفكرة العفو الشامل، وقام بهاء الدين بكتابة الخطبة متضمنة الفكرة، وأرسلها إلى السادات. لكن سيد مرعي – رئيس مجلس الشعب في ذلك الوقت - حاول معرفة ما تحتويه الخطبة، يقول بهاء الدين: "لم أكن أريد أن أذكر أي شيء عن موضوع العفو الشامل الذي سيعلن في الخطاب، لا لسبب معين، إلا السلوك الطبيعي وهو أنه ليس من حقي أن أذيع أي شيء عن أي خطاب قبل أن يلقيه صاحبه، ولكنني تحت إحراج لباقة سيد مرعي، وجدت نفسي أقول بشكل غير محدد: أظن أن الرئيس يفكر في نوع من العفو الشامل. وفوجئت بالمهندس سيد مرعي الذي يتميز بهدوء أعصابه وحنكته وابتسامته الدائمة، فوجئت به يتجهم ويسألني بانفعال شديد لم أعرفه في المهندس سيد مرعي لا من قبل ولا من بعد ‘يعني إيه عفو شامل’ وطلب الاتصال بممدوح سالم – رئيس الوزراء في ذلك الوقت. ولا شك أنه انتبه إلى أنه من الأصوب أن لا يتحدث مع ممدوح سالم في حضوري، فانصرفت. وفي يوم إلقاء السادات الخطاب جلست أمام التليفزيون لأستمع إلى الخطاب. وأخذ السادات يلقي الخطاب بحذافيره، حتى وصل إلى الجزء الأخير وألقى مقدمة الختام أيضا بحذافيرها (..) ثم أنهى خطابه دون أن يقرأ الأسطر الثلاثة الأخيرة التي تعلن عن العفو الشامل!! "(34).

ليس لدينا ما يكشف عما حدث بعد أن عرف رئيس مجلس الشعب ورئيس الوزراء باقتراح العفو الشامل، ولا ما اتفقا على فعله بخصوص هذا الموضوع. لكننا عرفنا النتيجة وهي إسقاط الفكرة على الرغم من اقتناع السادات بها لوهلة. وقد يشير إسقاط الفكرة إلى تأثير مؤسستي مجلس الشعب ورئاسة الوزراء على صياغة خطب الرئيس. لكن هذه الإشارة واهنة في ضوء حقيقة سيطرة الحكم الفردي الممثل في رئيس الدولة على الحكم في تلك الفترة. والأقرب للحدوث هو أن يكون رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب قد مارسا ‘إقناعا’ مضادا لكي يتخلى السادات عن الفكرة.

4. جدل الكاتب والحاكم: الاختيار بين ‘كتابة الذات’ و‘كتابة القناع

لكل منا بصمة إصبع لا تتطابق مع بصمة شخص آخر، وإن تشابها في بعض الملامح. وبالمثل فإن لكل منا ‘بصمة’ فكرية وأسلوبية لا تتطابق مع بصمة غيره وإن تشابها في بعض الملامح. ففكر المرء وقيمه وأخلاقه نتاج لتأثير عميق وتداخل معقد بين طبيعته الفردية، والبيئة التي نشأ فيها، والتعليم الذي تعرض له، والثقافة التي حصلها، ومصالحه التي يسعى لتحقيقها .. إلخ. هذه الأمور لا يمكن أن يشترك فيها شخصان حتى لو كانا توأمين تربطهما وحدة الدم ويعيشان نفس التجارب الحياتية. ومن هنا فإنه لا يمكن أن يوجد تطابق كامل بين آراء وأفكار كاتب الخطب وآراء وأفكار الحاكم الذي يلقي هذه الخطب في الجماهير. لكن الحاكم يحتاج إلى قلم الكاتب، والكاتب بدوره قد يكون متشوقا لكي يصبح لسان الحاكم؛ فما العمل؟ كيف يستطيع الكاتب والحاكم التوفيق بين اختلافاتهما ليعبرا عن ‘صوت’ واحد؟ أو بالأحرى، كيف يستطيع الكاتب - وهو الطرف الأضعف في المعادلة- أن ‘يُلغي’، أو ‘يطوع’ اختلافه ليقترب من توقعات الحاكم؟ تكشف تجربة بهاء الدين وصبري في الكتابة للسادات أنه توجد طريقتان في الكتابة لتحقيق هذا التوفيق؛ الطريقة الأولى سوف أسميها ‘كتابة الذات’، والثانية أسميها ‘كتابة القناع’. في إطار كتابة القناع يقوم الكاتب بارتداء قناع الحاكم؛ يرى صالحا ما يراه الحاكم صالحا، ويرى شريرا ما يراه الحاكم شريرا؛ يحاذيه حذو النعل للنعل، ولا يحيد قيد أنملة عما يعتقد أنه رؤية الحاكم أو موقفه أو اختياراته. بل إن بعض ‘كتاب القناع’ قد يكونون أكثر حرصا على التقنع بقناع الحاكم من حرص الحاكم نفسه على نقاء صورته.

أما في إطار كتابة الذات فيقوم الكاتب بالتحرك في إطار مساحة القناعات المشتركة مع الحاكم، ويحاول تضييق الخلافات الموجودة بينهما بواسطة التحاور قبل الكتابة، أو تجاهل الاختلافات الطفيفة التي لا يمكن تسويتها، أو تبني وجهة نظر الحاكم فيها. لكن حين تكون الاختلافات جذرية فإن الكاتب يختار ‘صمت الذات’، بديلا لكتابة ‘آخر’ لا يقبل به. هذا الاختيار هو الذي يفسر لنا موقف بهاء الدين من كتابة خطبة السادات إثر أحداث انتفاضة الجوعى في يناير 1977. لقد رفض بهاء الدين كتابة الخطبة التي اعتزم السادات إلقاءها بعد مظاهرات يناير. فبعد ساعات طويلة من النقاش بينه وبين السادات وضح الاختلاف بين موقف الرئيس الذي يسعى لتقديم الحدث على أنه انتفاضة حرامية وعملاء وملحدين، ومن ثم فإن المخرج يكمن في اللجوء إلى ‘الحديد والنار’، وفي ‘الضرب بشدة وبلا هوادة’، وموقف الكاتب الذي يرى أن الحدث مجرد احتجاج شعبي على أوضاع اجتماعية واقتصادية مزرية. ومن ثم فإن المخرج هو إعادة النظر في السياسات العامة للدولة؛ خاصة الاقتصادية منها. كلا الإدراكين المختلفين للحدث سوف ينتج عنه إجراءات وقرارات مختلفة للتعامل معه. ولأهمية هذه الواقعة فسوف أنقل بعض فقرات كاملة من وصف بهاء الدين لها. يقول:

"كنت وقت وقوع الانتفاضة في الكويت (..) توقعت أن يستدعيني الرئيس السادات، وصلت إلى القاهرة. وتعمدت ألا أبلغ مباشرة عن وصولي كالعادة حتى أكسب يومين أو ثلاثة أيام، أُلم خلالها بحقيقة ما حدث في مصر. وأدركت أنها كانت انتفاضة شعبية حقيقية، وليست انتفاضة حرامية كما حاول السادات أن يسميها. وعرفت أن المظاهرات اندلعت بطول القطر كله من الإسكندرية إلى أسوان (..) كان لا مفر من المواجهة بالرئيس، وهو كما توقعت يطلب إلي أن أكتب خطابا له يوجهه إلى الجماهير (..) وأنا أخالف كل ما يريد أن يقوله على خط مستقيم، ولا أريد أن أشارك في ذلك. وبدأت المناقشات الصاخبة حينا والهادئة حينا آخر حتى منتصف الليل لم يتخللها أي غداء لأن الرئيس كان في روتينه اليومي لا يتناول الغداء في كثير من الحالات. كان موقفه ببساطة أنه يريد انتهاج سياسة بالغة العنف من الردع والشدة، وكان يقول إن الشيوعيين هم الذين افتعلوا المظاهرات ضده، ويريدون أن يسموها انتفاضة شعبية. (..) وقال: إن ما حدث لا يمكن أن أسمح بتكراره مهما حدث .. ولو لجأت إلى الحديد والنار، وأنا أريد أن أتحدث بذلك وبصراحة للناس على شاشة التليفزيون، وأن أُصدر قوانين رادعة حتى ولو لم يسبق لها مثيل". قلت له: إنني أرى الناس مبسوطة بعد كل ما حدث! ما حدث كان مؤسفا ولكن المواطنين العاديين – كما رأيتهم - مسرورون لإلغاء رفع الأسعار، وشاعرون بأنهم قد كسبوا مطلبا شعبيا (..) كانت خلاصة الرأي السياسي الذي يتجه إليه فكر السادات ومستشاروه هو: إنه لابد من الضرب بشدة وبلا هوادة. وكانت خلاصة فكرتي التي قضيت الساعات أشرحها وأدافع عنها أنه شخصيا لم يمسسه من الأزمة شيء مباشر إذا تغاضينا عن المظاهرات والهتافات التي محاها قراره الشخصي بإلغاء قرار رفع الأسعار، وأنه يجب أن يحشد عددا أكبر من الطاقات لوضع سياسة اقتصادية أكثر تماسكا وواقعية واقترابا من مشاعر الناس، ثم يتقدم بهذه السياسة الجديدة إلى الشعب مهما كان فيها من قرارات ضرورية قاسية. ولكنه بالتالي كما نصحته لا يجوز له أن يظهر على التليفزيون ويخاطب الناس قبل أن يتم كل هذا، فيكون حديثه منصبا على الحاضر والمستقبل لا على ما حدث وانتهى، ومن غير أن ينسى؛ لأنه إذا أصر على أن يتحدث إلى الناس هذا الأسبوع فإنه لن يتحدث بالطبيعة إلا مدافعا عن إجراءات خاطئة، وإلا مذكرا الناس بوقائع مريرة.

حوالي منتصف الليل كان التعب قد بلغ بي وبالرئيس حدا هائلا، وقد اختلفنا واقعيا حول كل شيء حتى إنه كان أحيانا يقول لي: سأتركك تتمدد وتستريح في الحجرة نصف ساعة وأعود إليك. وكان الرئيس قد أدرك بوضوح أنني لن أشارك بكتابة مشروع خطاب فيما تصورت أنهم مقدمون عليه (..) وسكت طويلا ثم قال لي في لهجة رقيقة ومجاملة: طيب يا أحمد، تقدر تروح تستريح، واعتبر إنك لا صلة لك بهذا الموضوع كله! وودعني – لدهشتي - في مجاملة شديدة. وإن كنت أيضًا حملتها على محمل الوداع الذي لا لقاء بعده."(35)

يبدو النص السابق بالغ الدلالة على ثراء عملية الكتابة للحاكم حين تصبح ‘كتابة ذات’ لا ‘كتابة قناع’. فالكاتب يُلزم نفسه بتحري حقيقة الأحداث التي سيكتب عنها. ثم يدافع عما يعتقد أنه الصواب، ويحاج –بكل ما أوتي من مقدرة على الإقناع والبرهنة- لكي يعيد توجيه لغة السياسة وخطابها نحو ما يرى أنه الأفضل والأنبل. ثم إنه في النهاية يستطيع اتخاذ قرار القفز من السفينة، حين يتبدى له أنها سترسو حيث لا يريد أن يكون. على الجانب الآخر يبدو السادات من الصورة التي رسمها بهاء الدين لحواره معه صبورا إلى أقصى مدى، فهو يقضي ساعات طويلة في محاولة إقناع كاتبه بارتداء قناعه. وحين يأبى الكاتب لم يؤاخذه الحاكم بقراره، وإنما ودعه في رقة ومجاملة تعجب لها الكاتب نفسه. وفي هذا درس آخر لا يقل إيجابية عن الدرس الذي يقدمه موقف الكاتب. ربما كان استمرار أحمد بهاء الدين في كتابة خطب السادات بعد أحداث انتفاضة الجوعى - آخر خطبة أشار إلى أنه قام بكتابتها هي خطبة السادات في 23 يوليو 1977- مثيرا لبعض التساؤلات. مصدر هذه التساؤلات هو موقف بهاء الدين من الاختيارات الأساسية لنظام السادات. فقد كان لبهاء الدين انتقادات جذرية للسياسات الاقتصادية لنظام السادات؛ وهو الذي صك تعبير‘انفتاح السداح مداح’ ليصف به جوهر هذه السياسات. كما أنه لم يكن راضيا لا عن الطريقة التي أدار بها السادات التفاوض مع إسرائيل، ولا المسار الذي اتخذه نحو العرب. كما أنه يشكك على مدار كتابه بصدق التوجه نحو الديمقراطية، وينتقد بشدة المسافة بين الوعود الوردية التي تقدمها الخطب، والواقع الفعلي البائس الذي كان يعيش فيه معظم المصريين. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا يشارك كاتب في صياغة أفكار وتوجهات والتنظير لسياسات لا يؤيدها بشكل كامل؟ لماذا يحمل على عاتقه تبرير سياسات يرفضها، أو الدفاع عن مواقف هو نفسه متحفظ عليها؟ وأخيرا؛ لماذا يقبل أن يكون أداةً لإقناع الجماهير بأشياء يدرك تماما أنها ليست أفضل ما يمكن أن يُقدم لهم؟ وعلى الجانب الآخر، لماذا يستعين الرئيس بكاتب يدرك – ولو إلى حد بسيط - أنه يختلف معه؟

ليس لدي أجوبة دقيقة عن الأسئلة الثلاثة الأولى. فعلى الرغم من أن بهاء الدين خصص معظم صفحات كتابه للحديث عن عمله ككاتب لخطب للسادات، فإنه لم يتطرق مطلقا لدوافعه لقبول هذا العمل، ولا للطريقة التي استطاع بواسطتها التكيف مع الاختلافات بينهما. ومع ذلك يمكن تفسير قبول بهاء الدين لهذا العمل من واقع فهمه لشخصية السادات، وبالاستعانة بطبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة على نحو عام والصحفي والسلطة في مصر بعد الثورة على نحو خاص. من الواضح فيما يتعلق بفهم أحمد بهاء الدين لشخصية السادات، أن بهاء الدين لم يكن يحمل تقييما سلبيا لشخصية السادات على الرغم من أن كتابه يقدم موقفا انتقاديا لحكمه. ومحاوراته مع السادات تكشف عن إدراكه أن السادات منفتح للنقاش، وحريص على التحاور والتشاور. كما توضح أنه كان يدرك أن السادات يحاول بذل أقصى ما يستطيع لحل القضايا التي تواجه البلاد، وأن المشكلة تكمن في الحلول التي ينحاز إليها لا في مدى الجهد أو الإخلاص.

من زاوية أخرى فإن العلاقة بين المثقف المصري والسلطة تجعل من حرية المثقف في اتخاذ مواقف على هامش السلطة السياسية أو في مواجهتها عملا ذو كلفة عالية، وفي بعض الأحيان باهظة. فالسلطة السياسية عادة ما تبذل قصارى طاقتها لاحتكار المنافذ الثقافية وأدوات الإنتاج الثقافي معا؛ ومن ثم فإن المثقف المستقل يجد صعوبة في النفاذ إلى وسائل التواصل الجماهيري الحاملة للثقافة. يزداد هذا الموقف صعوبة في عصر ما قبل الصحافة المستقلة؛ حين كانت الدولة هي المالك الوحيد للصحف. ولنتخيل صعوبة الموقف الذي يجد فيه مثل هذا الصحفي نفسه حين يصبح ‘مغضوبا عليه’ من السلطة، ومطرودا من ‘جنتها’، إذا لم يكن يستطيع العيش على هامشها. ومما له دلالة في هذا السياق أن السادات كان قد منع بهاء الدين من الكتابة بعد بيان الأدباء والكتاب الذي طالبوا فيه السادات بخوض معركة لتحرير سيناء في 1972. وأن بهاء الدين أرسل رسالة إلى السادات يطلب منه أن يراجع قراره حتى يتمكن من توفير سبل العيش لنفسه، ولمن يعتمدون عليه في توفير سبل عيشهم! والرسالة واضحة الدلالة على ‘سلطة التجويع’ التي تستطيع الدولة المصرية منذ الثورة ممارستها على الصحفيين المعارضين ممن يعملون في ‘الصحف القومية’. وبالمقارنة يمكن أن نتخيل ‘سلطة الإشباع’ التي يتم التلويح بها للصحفيين الراغبين في الزود عن حمى النظام والتمسح به. وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن الاقتراب من الحاكم -في إطار سلطة يمتلك فيها الحاكم ذهب المعز بلا قيود- هو في ذاته سلطة كبيرة، وبوابة للحصول على مزايا لا يُستهان بها. فإن من المؤكد أن هذه المزايا تلعب دور إغراء كبير بقبول إنتاج خطب سياسية لا تنسجم تماما مع قناعات الفرد. وهكذا تصبح مهمة الخطب السياسية متطابقة مع مهمة اللغة السياسية بعامة في عصر ‘التضليل الجماعي’. تلك المهمة التي وصفها الروائي العظيم جورج أوريل ذات مرة بأنها "الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه" .(36)

ربما كان تفسير اختيار السادات لأشخاص لا تتطابق معه أفكارهم لكتابة خطبه أيسر من تفسير قبول الكاتب للترويج لأفكار يرفضها. فاختيار شخص لكتابة خطب الرئيس في السياق المصري ربما تحدده قدرات هذا الشخص البلاغية بدرجة أكبر من تطابق وجهة نظره مع الحاكم. بصياغة أخرى؛ يأتي معيار قدرة كاتب الخطبة على الإقناع والتأثير، في مرتبة سابقة على معيار تطابق ما يؤمن به هذا الكاتب بالفعل مع ما يؤمن به الرئيس. وهو أمر يبدو طبيعيا في مجتمع يوجد فيه عشرات الكتاب الذين لا يرون أية غضاضة في أن يكونوا لسان النظام الحاكم، ينطقون بما يرضى عنه هذا النظام وما يريده؛ بغض النظر عما يرغب لسانهم الفعلي في قوله. إضافة إلى ذلك فإن مؤسسة الرئاسة ممثلة في الرئيس أو معاونيه يُمدون كاتب الخطب بالرؤى والمنظورات والتصورات والقيم والمعلومات التي يرغب رئيس الدولة في نقلها إلى المواطنين. والكاتب لا يملك –لكي يستمر في أداء هذه الوظيفة- إلا الالتزام التام بها. كما أن رئيس الدولة لديه حرية مطلقة في قبول مشروع الخطبة التي تقدم له أو رفضها أو طلب تعديلها. وفي الواقع فإن السادات كان يكلف أكثر من شخص بكتابة مشروع خطبة واحدة إذا كان سيلقيها في مناسبة أو ظروف مهمة أو استثنائية -كما هو الحال في خطبة الكنيست-، ثم يختار هو من بين مشاريع الخطب التي وصلته. ومن المؤكد أن التوافق بين أفكار الرئيس وقناعاته وما تعكسه مشاريع الخطب من أفكار وقناعات هو أحد محددات الاختيار من بينها . وأخيرا فإن الرئيس يملك أن يُعفي الكاتب من مهمة كتابة الخطبة إذا لم يكن الأخير بارعا في ارتداء قناع الحاكم.

5. هيكل وعبد الناصر: نموذج بيان التنحي(38)

من حسن الحظ أن لدينا معلومات تفصيلية عن عملية كتابة أحد أهم النصوص السياسية في تاريخ مصر الحديث؛ هو بيان التنحي الذي ألقاه جمال عبد الناصر في مساء التاسع من يونيو 1967 عشية هزيمة يونيو(8). هذه التفاصيل تعطينا فرصة نادرة لدراسة عملية تشكل الخطاب السياسي في لحظة مفصلية من تاريخ مصر المعاصر. كما أنها تتيح لنا تتبع أشكال الصراع التي توجد بين رؤيتين للعالَم تختلفان في أشياء وتتفقان في أشياء أخرى؛ هما رؤية الكاتب والحاكم. وتمكِّننا من معرفة كيف أمكن ‘تسوية’ التعارضات التي توجد بين الرؤيتين بواسطة عمليات تحاور وتفاوض وتسوية مكثفة، وكيف تعكس الاختيارات اللغوية والبلاغية لكلٍ منهما حدود رؤيته للعالم. لقد قام هيكل بدور جذري في تشكيل توجهات السياسة المصرية وإيديولوجيتها في خمسينيات وستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي. فقد قام من ناحية بكتابة معظم خطب عبد الناصر طوال فترة توليه الحكم، ومعظم خطب السادات في الفترة من 1970 حتى 1974. كما يُنسب إليه كتابة بعض أهم الوثائق التي حملت توقيع عبد الناصر، وساهمت بشكل محوري في تأسيس ما بات يُعرف بـ‘الإيديولوجيا الناصرية’؛ أي مجموعة القيم والمبادئ والأفكار والمفاهيم التي تبنَّاها نظام عبد الناصر ودافع عنها، ومن أهم هذه الوثائق كتاب ‘فلسفة الثورة’. إضافة إلى ذلك كان هيكل من خلال رئاسته لتحرير جريدة الأهرام - أكثر الجرائد العربية مبيعًا في تلك الفترة - يسهم في توجيه الرأي العام المصري والعربي على نحو ربما لم يتسن لصحفي عربي آخر في العصر الحديث. وبالمثل كان لمقاله الأسبوعي في جريدة الأهرام، الذي حمل عنوان ‘بصراحة’، تأثير في صياغة وعي الجماهير وسياسات الحكم لم يتسن لأي مقال أسبوعي آخر. إضافة إلى ذلك فإن هيكل - وقت كتابة البيان - لم يكن مجرد ‘كاتِبَ خُطب’، بل كان شريكًا أساسيًا في الحكم. لقد ذكر أنه كان أحد أشخاص قلائل أُتيح لهم لقاء عبد الناصر والجلوس معه، في اليوم السابق على التنحي، واليوم الذي تلاه. كما ذكر أن عبد الناصر أعطاه تفويضا كاملا حين خلد إلى النوم بعد انتهائه من إلقاء البيان، وأن رجال الدولة جميعا ابتداءً من رئيس مجلس الأمة، وانتهاء بوزراء الداخلية والإعلام، لم تكن لديهم وسيلة للوصول إلى عبد الناصر نفسه - بعد أن ألقى بيان التنحي - إلا من خلال هيكل. ومن يستمع إلى وصف هيكل للوقائع التي أعقبت إلقاء بيان التنحي لا يساوره شك أنه كان الحاكم الفعلي في تلك السويعات العصيبة. وهكذا فإن هيكل عشية كتابة بيان التنحي لم يكن جزءًا من ‘لسان’ السلطة ممثلةً في رئيس الدولة فحسب، بل كان جزءا من قلبها وعقلها ويدها أيضًا.

يصف هيكل وقائع تكليفه بكتابة البيان قائلا: "كان عبد الناصر قد طلب إلي أن أُعدَّ له مشروع خطابه إلى الأمة بالتنحي (..) ولم يكن في مقدوره – إنسانيًا - تلك الليلة مع أحزانه وشواغله أن يجلس ليكتب خطابًا، فاتفق معي على نقاطه، وتعهدت بأن أكتبه له(9)". ويذكر أنه قضى ساعات مع عبد الناصر يتناقشان حول صياغة البيان، في وقت كان العالم من حولهما في حالة غليان حقيقي، وكانت مصر على حد الموسي كما وصفها هيكل. ويبرهن الانشغال لساعات كاملة في صياغة الخطاب في هذا الوقت العصيب على الأهمية التي كانا يوليانها لهذه الصياغة. على الرغم من ‘اتفاق’ عبد الناصر وهيكل على ‘نقاط الخطاب’ والتلاقي الواضح بين أفكارهما واختياراتهما، فقد نشأت بعض الاختلافات بين ما ‘سطَّره’ هيكل وما ‘أراده’ عبد الناصر. بعض هذه الاختلافات كان يتعلق بمسائل محورية مثل التعبير عن مدى مسئولية عبد الناصر عن ‘النكسة’؛ فقد ذكر هيكل أن عبد الناصر "أقر ما كتبته حتى نقطة: (إنني على استعداد لتحمل نصيبي من المسئولية)، عبد الناصر قال لي: لا، اكتب (أتحمل المسئولية كاملة)"(10). وقد أعاد هيكل كتابة العبارة مبقيا على تعبير (إنني على استعداد)، ومضيفا إليه (المسئولية كاملة) بدلا من (نصيبي من المسئولية). كما اختلفا حول مسألة من سيخلف عبد الناصر بعد تنحيه. كان رأي عبد الناصر أن يكتب هيكل اسم ‘شمس بدران’ وزير الحربية في ذلك الوقت؛ لكن هيكل رفض: "أنا حاولت أكتب اسم شمس بدران ولم يطاوعني أي قلم"(11). وبالفعل اقتنع عبد الناصر بحجج هيكل المفنِّدة لاختيار شمس بدران، واختار بدلا منه ‘زكريا محيي الدين’؛ عضو مجلس قيادة الثورة، الذي شغل منصبي رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية. وبالمثل رفض عبد الناصر اختيار هيكل لتعبير ‘النكسة’ ثم اقتنع به في نهاية الأمر.

يبدو من الأمثلة السابقة للاختلاف بين هيكل وعبد الناصر أن شطرًا كبيرًا من النقاش تعلق مباشرة باختيارات بلاغية؛ مثل الاختيار بين مفردتي (النكسة) و(الهزيمة)؛ أو الاختيار بين تركيب (على استعداد لتحمل)، و(أتحمل)، أو الاختيار بين ‘المسئولية’ و‘مسئولية’؛ وهي اختيارات أثرت في المحصلة النهائية للبيان. إضافة إلى أنها تشي بوجود اختلاف بين ‘الكاتب’ و‘الحاكم’ في نوع البلاغة التي يميل إلى استخدامها؛ ففي حين يبدو عبد الناصر أميل إلى إنتاج بلاغة مباشرة، تُسمِّي الأشياء بأسمائها وتقول الأشياء بأوضح الطرق وأوجزها، يبدو هيكل أميل إلى استخدام بلاغةٍ مراوغة، تَكنِي وتُلطِّف، وتُخفي أكثر مما تُصرح. ويظهر من الصيغة النهائية للبيان أن الكاتب والحاكم كليهما قد انحاز لبلاغة المراوغة في نهاية المطاف.

6. معضلة الأسلوب: من هو الرئيس؟

الأسلوب هو الرجل’! هكذا يتعلم الطلاب في بداية دراستهم لأساليب الكلام والكتابة؛ سواء في الأدب أم الصحافة أم الحياة اليومية. فالأسلوب الذي نتكلم أو نكتب به يحمل خريطة شخصيتنا بكل ملامحها وتفاصيلها. فعلى صفحة الأسلوب تنعكس تربيتنا والبيئة التي نشأنا فيها وخبراتنا وتجاربنا وثقافتنا ومعارفنا واختياراتنا الاجتماعية والسياسية. وإذا تخيلنا الأسلوب ‘مرآةً’؛ فإن ما يقف أمام هذه المرآة هو شخصية الإنسان عارية من كل شيء. إن عبارة ‘تكلم حتى أراك’ ليست إلا تعبيرا بليغا عن قدرة ‘أسلوب’ المرء على صياغة شخصيته أمام الآخرين. هذه القدرة هي التي تمكننا من الإلمام بمعلومات جوهرية ومهمة عن الشخص بمجرد أن يتكلم. فما إن ينطق بضع عبارات حتى نصبح قادرين على تخمين البيئة التي خرج منها (بواسطة اللكنة أو اللهجة)، والعمل الذي يمارسه (بواسطة شيوع مفردات بعينها)، ومستوى ثقافته (بواسطة درجة استخدام الفصحى مقارنة بالعامية)، والأفكار التي يعتنقها (بواسطة الذخيرة الخطابية التي يتضمنها كلامه كأن يمتلئ بالمفردات الدينية أو الليبرالية..إلخ)، وطبيعة تفكيره (بواسطة أساليب الحجاج التي يوظفها في الإقناع)، والمستوى الاجتماعي الذي ينتمي إليه (بواسطة شيوع مفردات بعينها، واستخدام الأساليب المباشرة)، بل يمكن من خلال اللغة كذلك التعرف على ملامح دقيقة من شخصيته مثل الوضوح أو الغموض والثقة بالنفس أو اهتزازها إلخ من خلال استخدام أدوات التوكيد وصيغ المبالغة والمجازات والتراكيب اللغوية ..إلخ.

إن حقيقة أن ‘الأسلوب هو الرجل’ تضعنا أمام معضلة مربكة فيما يتعلق بالخطب السياسية: فالخطبة غالبا ما يكتبها ‘رجل’، ويلقيها ‘رجل’ آخر؛ فأي ‘رجل’ منهما يمثله أسلوب الخطبة؟ هل الخطبة هي الرئيس أم الخطبة هي الكاتب؟ وهل يمكن المزج بين ‘أسلوبين’ بحيث يمكن أن تمثل الخطبة الرجلين معا؟  لقد ذهب بعض المغالين في رفض ‘مهنة كتابة الخطب السياسية’ إلى أن الرئيس الذي يوكل لغيره مهمة كتابة خطبه يغامر بالاختفاء؛ إذ لا يبقى سوى شخصية كاتبه، وأن عمل كتابة الخطب السياسية يدخل في باب التزييف، لأنه يجعل الجماهير تكوِّن صورة للرئيس مغايرة لما هو عليه بالفعل.(39) لكن هذه المغالاة في تقدير تأثير كتاب الخطب تواجهها حقائق واضحة؛ منها أن كاتب الخطب ينتهي وجوده بالنسبة للخطبة، في اللحظة التي يقوم الرئيس بإلقائها. حيث تصبح الخطبة ملكية كاملة للرئيس، ليس لكاتبها الحق في ادعاء أي شيء فيها لنفسه. وبالمثل فإن الجماهير تتعامل مع ما يقوله الحاكم على أنه ‘قول’ الحاكم، وليس قول مستشاريه أو مساعديه. حتى في دائرة البحث الأكاديمي فإن دارسي الخطب السياسية يدرسون الخطب وفق مسلمة هي أن ما يقوله الرئيس يمثل أسلوبه وبلاغته بغض النظر عما إذا كان هو من قام بكتابته أو كتبه أشخاص آخرون. وهكذا نقرأ دراسات عن ‘بلاغة حسن نصر الله’، و‘لغة أوباما’، و‘أسلوب جوردن براون’ دون أن توجد مشكلات حقيقية بسبب وجود أشخاص يكتبون لهم ما يقولون. ربما كان المدخل الأكثر عملية لدراسة معضلة الأسلوب هو محاولة الوقوف على الملامح الأسلوبية للنصوص أو الكلام الذي يتأكد لدينا أن الرئيس قد كتبه بنفسه، ثم مقارنة ملامح أسلوبه بالملامح الأسلوبية للنصوص أو الكلام الذي كتبه له غيره، وأخيرا، مقارنة أساليب الكتاب المختلفين الذين كتبوا له. هذه المداخل سوف تمكننا من تحديد ‘أسلوب’ الرئيس مقارنة بأساليب كتَّابِه. كما أنها يمكن أن تعيننا على إعادة تصنيف الخطب السياسية؛ من خلال رد الخطب مجهولة المصدر إلى أصحابها استنادا إلى معايير التشابه الأسلوبي. هذه المعايير تُستخدم ‘كبصمة أسلوبية’، يمكن من خلالها التعرف على هوية كاتب الخطب. لكن هذه ‘البصمة الأسلوبية’ يمكن أن تزيف إلى حد كبير؛ من خلال عملية ‘محاكاة الأسلوب’، التي يحرص بعض كتاب الخطب السياسية على إتقانها بهدف إحداث تماهي بين أساليبهم في الكتابة وأسلوب الرئيس في الكتابة والإلقاء معًا.

في سياق حديث موسى صبري عن تجربته في الكتابة للسادات يقول: "وكان يريحه أنني أكتب الخطاب بأسلوبه لا بأسلوبي، ولكي أعبر عنه لا عن نفسي، وكثيرا ما قال لي: أشعر وأنا أستمع إليك أنك تعبر عني وبأسلوبي، وهذا ما يريحني ".(40) تكشف عبارة السادات عن وعيه بالتفاوت بين أسلوبه وأسلوب كتاب خطبه، وأن هذا التفاوت لا ‘يريحه’. ومن هنا فهو يعبر عن إعجابه بخطب موسى صبري لأنه يستطيع محاكاة أسلوبه أو التماهي فيه. يمكن القول - استنادا إلى عبارة السادات - إنه توجد طريقتان لكتابة الخطب السياسية. الطريقة الأولى يقوم فيها الكاتب بمحاكاة أسلوب رجل السياسة في الكلام والكتابة؛ بحيث يبدو النص نتاجا طبيعيا لرجل السياسة. الطريقة الثانية يكتب فيها الكاتب الخطبة بأسلوبه هو. وهو ما يؤدي - سواء بقصد أم من غير قصد - إلى أن تعرف شريحة من الحاضرين ممن لديهم فكرة عن أسلوب الرئيس أن الخطبة ليست من تأليفه؛ بل قد يؤدي ذلك إلى معرفة شخصية مؤلف الخطبة إذا كان ممن لهم أسلوب معروف على نطاق واسع. ومن الطبيعي أن يفضل السياسي الطريقة الأولى التي تحقق له هدفا مزدوجا؛ الأول هو الإفادة من القدرات الإقناعية والتواصلية للكاتب، والثاني هو انتساب الخطبة له على مستوى الأسلوب واللغة. ما استوقفني في عبارة السادات هو استخدامه تعبير ‘هذا ما يريحني’ عند حديثه عن تفضيله لطريقة صبري في محاكاته. وتعبير ‘يريحني’ يستخدم في العامية المصرية ليفيد إحساسا بعدم القلق أو التوتر أو الخوف. وسلب الصفة يضعنا أمام حقيقة أن استخدام الكاتب لأسلوب مغاير لأسلوب الحاكم قد يضعه في حالة من القلق أو التوتر؛ استنادا إلى إدراكه أن المسألة ليست مسألة مفردات وتراكيب فحسب؛ لأن المفردات والتراكيب هي بذاتها مواقف واختيارات. وقد كان للسادات كل الحق في الإحساس بعدم الراحة من أن بعض كتاب خطبه يكتبون ‘بأساليبهم’، وليس بأسلوبه هو. والسبب في ذلك هي الفجوة التي توجد بين أسلوبه وأساليب كتاب مثل محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين. تلك الفجوة ليست مسألة لغة فحسب بل هي مسألة قناعات ومصالح بالدرجة الأولى كما اتضح لنا بجلاء حين تناولنا الصراع بين إيديولوجيا الحاكم والكاتب. وهو صراع يتجلى من خلال اللغة أولا وقبل كل شيء.

 

جامعة القاهرة

Emad.abdulatif@gmail.com

هوامش

(1انظر، (Enos, T. (ed.). (1996). Ghost-writing. in "Encyclopedia of Rhetoric and Composition: Communication from Ancient Times to the Information Age", Routledge، ص 285-286 بتصرف.

(2) نفسه، نفس الصفحة.

(3) الخطبة التي ألقاها السادات في الكنيست من الحالات القليلة التي اشترك فيها أكثر من شخص في كتابة خطبة واحدة؛ فقد اشترك في كتابتها موسى صبري وأسامة الباز المستشار السياسي الحالي للرئيس مبارك. ويروي موسى صبري وقائع ذلك بقوله: "طلبني الرئيس السادات وكلفني بإعداد خطابه الذي سوف يلقيه في الكنيست الإسرائيلي بعد 48 ساعة. وتمكنت من إعداد الخطاب (..) قابلت الرئيس وقرأت الخطاب وأعجب به السادات، وكان أسامة الباز قد أعد خطابا عن الجانب السياسي في المطالب العربية، وطلب السادات إدماج ما كتبتُه مع ما كتبه أسامة الباز". انظر، صبري (1985)، مرجع سابق، ص 421-422.

(4) درس الأستاذ محمد عبد السلام الزيات في كلية الحقوق، وعمل في اللجنة المركزية، حتى عينه السادات نائبًا لرئيس الوزراء بعد حركة مايو 1971. اشترك في كتابة الدستور الدائم في 1971، وكان معروفا بميوله اليسارية. أما محمد حسنين هيكل فقد ولد في حي باب الشعرية في 23 سبتمبر 1923، عمل محررا بجريدة The Egyptian Gazette. ثم انتقل إلى دار أخبار اليوم عام 1946. رأس تحرير مجلة آخر ساعة، كما رأس تحرير جريدة أخبار اليوم، قبل أن يرأس تحرير جريدة الأهرام في الفترة من 1957 إلى 1974. أما موسى صبري فقد ولد في مدينة المنيا في 2 أكتوبر 1942. درس في كلية الحقوق، وعمل بجريدة أخبار اليوم، ثم رأس تحرير جريدة الجمهورية ثم جريدة الأخبار. وقد ولد أحمد بهاء الدين في محافظة أسيوط عام 1927، ودرس في كلية الحقوق، ورأس تحرير مجلة صباح الخير، ودار الهلال وجريدة الأهرام. والملاحظ أن ثلاثة من هؤلاء الكتاب هم من كبار الصحفيين المصريين الذين رأسوا مؤسسات صحفية مهمة. فمحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين توليا رئاسة مجلس إدارة جريدة الأهرام الناطقة بلسان الحكومة في فترات متباينة. أما موسى صبري فشغل منصب رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم. وربما يشير هذا إلى الروابط الوطيدة بين مؤسسة الصحافة ومؤسسة الرئاسة في مصر بعد الثورة، وهي روابط تحتاج إلى مزيد من الدراسة من زاوية التحليل النقدي للخطاب المعني بدراسة العلاقة بين الخطاب والسلطة.

(5) نقلا عن حوار أورده: صبري، موسى. (1985). السادات: الحقيقة والأسطورة. المكتب المصري الحديث. ص 251.

(6) انظر، المحلاوي، حنفي. (1997). السادات بين هيكل وموسى. الدار العربية للكتاب، القاهرة، ص 222.

(7) انظر، صبري. 1985، مرجع سابق، ص 12، وص 315، وص 417، وص 421-422، وص 532-533.

(8) انظر على الترتيب، ص 100، ص 105-106، وص 141.

(9) لمراجعة تفصيلية لأفكاره انظر، عبد العليم محمد (1990)، مرجع سابق، ص33-35، وص 98-103.

(10) انظر، بورديو، بيير. (1990). الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، ص 95.

(11) من حوار منشور في ‘صحيفة المصري اليوم’، في 4/4/2009.

(12) أورد موسى صبري (1985، ص 251) تفاصيل هذه الواقعة على لسان السادات. وذكر صبري أن السادات قام بتسجيل ذكرياته عن تلك الفترة في قرية ميت أبو الكوم في شهر رمضان من عام 1977، وفيها يقول السادات: "قبل أول مايو (1971) طلبت من هيكل أن يحضِّر لي خطبة عيد العمال، وأعطيته النقط، وقلت له: في نهاية الخطاب أريد فقرة عن مراكز القوى وعن أنني لن أسمح بأي صراع، ومسئوليتي كرئيس لهذا البلد أن أطحن كل من يحاول إحداث صراع. وقلت لهيكل: هذه الفقرة تكتبها بمنتهى الوضوح. وكتب الخطاب (..) وعند مراجعتي له لم أجد الفقرة التي طلبتها. وفي المساء طلبني هيكل، وسألته لماذا لم تكتب هذه الفقرة؟ فأجابني لأ يا أفندم، اعمل معروف الجزء ده سيادتك تكتبه.

-          كده يا هيكل، دي الساعة دلوقت 9 مساءً!

-          أرجوك يا أفندم.

وفعلا سهرت ليلتها وكتبتها بنفسي.. وفي اليوم التالي قرأت الخطاب". وتتضمن الحادثة إشارة ضمنية إلى أن قراء الخطبة سوف يميزون كاتب الخطب من أسلوبه.

(13) انظر، هيكل، (1988)، مرجع سابق، هامش ص 138.

(14) انظر مجموعة خطب وأحاديث الرئيس محمد أنور السادات في الفترة من سبتمبر 1970 إلى ديسمبر 1971، نشر الهيئة العامة للاستعلامات، ص 29.

(15) انظر، شكري، 1978، ص 61.

(16) انظر، إمام، عبد الله. (1996). حقيقة السادات. مدبولي، القاهرة، ص 288. وبيان 10 يوليو 1971 يتضمن إعلانا بالتمسك بسياسات عبد الناصر الداخلية والخارجية.

(17) هيكل، 1988، ص 105.

(18) صبري، (1985)، مرجع سابق، ص 160-161.

(19) نفسه، ص 12.

(20) نفسه، نفس الصفحة.

(21) نفسه، ص 532.

(22) انظر، صبري (1985)، مرجع سابق، ص 417.

(23)  نفسه، ص 12.

(24) انظر، بهاء الدين (1987)، مرجع سابق، ص 105-107. والتشديد من عند الباحث.

(25) نفسه، ص 140-141. والتشديد من عند الباحث.

(26) نفسه ص 145.

(27) بهاء الدين، (1987)، مرجع سابق، ص 141-145.

(28) صبري، (1985)، مرجع سابق، ص 161.

(29) نفسه، ص 332.

(30) من الطبيعي أن يلجأ الحاكم إلى متخصصين وخبراء في السياقات المختلفة التي يخطب في ممثليها. فالحاكم يخطب في فئات اجتماعية ذات خلفيات واهتمامات وأفكار مختلفة؛ فهو يخطب في الطلاب والعمال وأصحاب المهن ورجال الدين ..إلخ. وكل فئة من هذه الفئات لها لغة مميزة، وذخيرة خطابية تستند إليها. كما يخطب في مناسبات وأحداث وموضوعات مختلفة. ومن الطبيعي أن يستشير الحاكم فردا من هذه الشريحة أو قريبا منها في الخطبة التي سيلقيها، بل قد يلجأ إليه في كتابة الخطبة نفسها؛ لأنه يكون أكثر فهما لطبيعة المناسبة وأكثر تمكنا من تفاصيل الموضوع. وقد لاحظت -على سبيل المثال- أن خطب الرئيس مبارك في المناسبات الدينية مثل المولد النبوي ورأس السنة الهجرية تختلف في لغتها وأساليب حجاجها والذخيرة الخطابية التي تتكئ عليها بشكل شبه كامل عن خطبه في السياقات العادية؛ وهو ما يشير إلى أن الشخص الذي يكتب هذه الخطب وثيق الصلة بالمؤسسة الدينية الرسمية في مصر؛ إن لم يكن فردا منها.

(31) بهاء الدين، (1987)، ص 102-103. والتشديد من عند الباحث.

(32) صبري، (1985)، ص 160.

(33) سوف أعرض بالتفصيل لوسائل تكوين صورة الرئيس المؤمن ووظائفها في الفصل الثاني من القسم التطبيقي. انظر ص 203.

(34) نفسه، ص 145-146. والتشديد من عند الباحث.

(35) انظر، بهاء الدين، مرجع سابق، ص 125-129. والتشديد من عند الباحث.

(36) انظر، Orwell. G. 1946. Politics and English Language. Reprinted in " Inside the whole and Other Essays. London: Penguine, 1962. P353-367.

(37) انظر، محمد، (1990)، مرجع سابق، ص 98.

(38) لمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى: ‘بيان التنحي’ وذاكرة الهزيمة: مدخل إلى التحليل البلاغي للخطاب السياسي. ألف: مجلة البلاغة المقارنة، مجلة علمية محكمة، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عدد 30، 2010، ص ص 146-175.

(39) انظر على سبيل المثال، Brandt, D. (2007). “Who’s the President?”: Ghostwriting

and Shifting Values in Literacy. College English, Volume 69, p249-271.

(40) انظر، موسى صبري، (1985)، مرجع سابق، ص 161.