كان عبدالحكيم قاسم ـ ولايزال ـ أحد أبرز الأصوات المتميزة في جيل الستينات وأحد صناع رؤيته منذ نشر روايته الرائدة (أيام الإنسان السبعة) وعبر نصوصه السردية المتلاحقة. و(الكلمة) إذ تنشر لأول مرة مجموعة من رسائله النادرة. تطرح جنسا أدبيا لم يحظ بالاهتمام، وتفتح الباب أمام قراءة جديدة له.

كتابات نوبة الحراسة: رسائل عبد الحكيم قاسم

الكتابة بلا مكياج

محمد شعير

هذه مجموعة من رسائل واحد من أبرز كتاب جيل الستينيات فى مصر: الروائى الراحل عبد الحكيم قاسم، تبادلها مع مجموعة من أبرز أدباء جيله والأجيال التالية له. وثمة عده طرق لقراءة هذه الرسائل: الأولى باعتبارها واحده من رواياته ! ولكنها رواية الغربة والحنين والأسئلة! أسئلة لاكتشاف الوطن والذات والآخر... وهى الأسئلة التى انشغل بها فى مشروعه الروائى! إذ لم تكن حياة عبد الحكيم قاسم فى بيت جده فى ميت غمر سعيدة، فكتب وهو فى سن العاشرة خطابا لأبيه يشكو له من بؤس الحياة التى يحياها، ولكن خاله ضبط الخطاب وصادره... وكانت هذه هى البداية التى تعرف فيها على إمكانيات الكتابة لديه! كما يمكن اعتبار الرسائل (سيرة) ليست فقط لصاحبها، ولكن أيضا سيرة لجيل الأحلام المسروقة. فقد كتب قاسم رسائله ـ معظمها ـ وهو فى غربته فى برلين الغربية التى هاجر إليها فى السبعينيات تحديدا عام 1974 وظل بها حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى. وتعكس الرسائل الجو الأدبى الذى نشأ وتكون فيه جيل الستينيات، واللحظات الرهيبة التى عاشها الجيل تحت وطأه حكم عبد الناصر، ثم السادات وخاصة بعد كامب ديفيد، مرورا بغزو بيروت، وحرب الخليج الأولى، بل أن قاسم كان قد احتفظ فى أرشيفه الخاص بقصاصات بعض الجرائد التى تناولت غزو العراق للكويت باعتبارها من اللحظات الخاصة فى تاريخ اللحظات العربية التى أنهت كثيرا من أحلام الجيل، ولكن لم يتح لقاسم أن يتناولها فى كتاباته أو حتى فى رسائله، فقد كان قد عاد إلى القاهرة، وكان الموت أسبق منه كذلك... كل هذا يجعل من هذه الرسائل توثيقا سياسيا واجتماعيا لجيل كامل، ليس فقط لشخص عبد الحكيم قاسم! كما يمكن قراءة الرسائل باعتبارها سيرة ذاتية لواحد من كتاب الجيل وصاحب (أيام الإنسان السبعة)، و(محاولة للخروج) وغيرها من الروايات الهامة، ويمكن قراءتها باعتبارها روايته الأكثر صدقا وحميمة!! أمر ثان يضيف أهمية لهذه الرسائل هو كونها جنسا أدبيا وفنيا لم يول بعد العناية الكافية فى الثقافة العربية. رغم انتشار هذه الجنس الأدبى في الثقافة الغربية، في حين أن ما يتركه الأدباء العرب من أوراق لا يتم الالتفات إليها بعد رحيلهم، رغم أهمية هذه الأوراق في إلقاء الضوء على الكثير من الجوانب المختفية تحت أقنعة الكاتب، كما يمكن أن تقدم لنا أسرار العملية الإبداعية.

ولعل من أشهر كتب الرسائل فى الثقافة الغربية ما تركه دوستويفسكى من رسائل وصفها أندريه جيد الأديب الفرنسى الشهير بأنه كان يتوقع العثور على (إله) فى رسائل دوستويفسكى، ولكنه اكتشف أنه أمام إنسان بائس، متعب، مريض، محروم من هذه الصفة التى يعيبها هو نفسه على الفرنسيين وهى البلاغة!! أما (كافكا) فقد بدا فى رسائله العاطفية إلى ميلينا: "إنسانا عذبا، يتبدى عاشقا قد استرخى، فى غير انتباه، إلى حين، لآلهات النقمة اللائى يطاردنه"، كما يقول أحد نقاده تشارلز أوسبورن. وكانت رسالته إلى الوالد بمثابة محاكمة رهيبة لوالده يستحضر فيها جميع عذابات الطفولة التى لم يكن بالإمكان تخطيها. وكذلك الأمر بالنسبة لرسائل رامبو كانت ـ كما يقول مترجمها شربل داغر ـ محاولة للبحث عن الجذور بعيدا عن إلزامية الوطن، وعن الحياة بعيدا عن طمأنينة الإقامة فيها، أى البحث عن أجوبة جديدة لأسئلة قديمة، أى العيش خارج الأجوبة المطمئنة والمنغلقة ... أما رسائل ريلكه فقد كانت أشبه بوصيته غير الرسمية!!

هكذا عرفت الثقافة الغربية فن الرسائل، فن البوح، أما الثقافة العربية فقد همشته، ربما لأسباب خاصة بوجود عوامل تعوق بوح الأدباء بأسرارهم الشخصية وتقيده؛ وحتى لا يتم خدش الصورة المستقرة فى ذهن القراء، ربما لهذا السبب غابت أجناس أدبية كثيرة عن ثقافتنا الحديثة: السيرة الذاتية التى لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة فى الثقافة العربية ... و(الرسائل) إلا باستثناءات قليلة، فالمناخ الثقافى لا يسمح دائما أن يقول الإنسان ما يريد. ويضطر أن يفصح عن رأيه فى (حديث مجالس) يختلف كثيرا عما يكتبه، يصبح باختصار للمثقف العربى كلامان ـ كما يقول أحد المثقفين العرب ـ كلام للورق وكلام عليه، وتتسع الهوة بين "المسكوت عنه" و"المعلن"!!! كما يمكن تفسير غياب فن الرسائل إلى (الفروق الحضارية) بين المجتمعات العربية والغربية.

الثقافة الغربية تهتم بكل ما يكتبه مبدعوها، تحولهم أحيانا إلى (سلع) ثقافية، تهتم بكل ما تركوها من أوراق، ومخطوطات ورسائل و....وغيرها.

عبد الحكيم قاسم احتفظ بكثير مما أرسله من خطابات، كتبها على أوراق شفافة، كان يبدو أن الكثير منها ليست أصولا وإنما صورا كربونية (لم تكن آلات التصوير قد انتشرت فى ذلك الوقت ـ أوائل السبعينيات) بهدف ربما أن تنشر ذات يوم...

الرسالة الأولى مما ترك قاسم كانت قبل سفره إلى ألمانيا، كتبها من القاهرة للناقد والمترجم ناجى نجيب الذى كان يقوم بتدريس الأدب العربى فى إحدى الجامعات الألمانية، وإليه يرجع الفضل فى تعريف القارئ الألمانى بكثير من الأعمال الإبداعية العربية، حيث ترجم إلى الألمانية عددا كبيرا من الأعمال العربية من أهمها: مأساة الحلاج لصلاح عبد الصبور، قنديل أم هاشم ليحيى حقى، ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ، على جناح التبريزى لأفريد فرج، أهل الكهف لتوفيق الحكيم ورجال في الشمس لغسان كنفانى. كما ينسب له قاسم الفضل فى دعوته لألمانيا لزيارتها ثم الإقامة فيها لخمسة عشر عاما متواصلة. فى هذه الرسالة يحكى قاسم عن نفسه وعن حياته وطفولته.

القاهرة 26 /2/1973
عزيزى الدكتور/ ناجــى نجيـــب

تحية واحتراما،
منذ مدة طويلة وأنا أعلم باهتمامك بكتاباتى، وهذا يسعدني إلى أقصى حد، وحينما سلمنى الأستاذ/ يوسف الشارونى نسخة من مقالك عن روايتى الأولى (أيام الإنسان السبعة) وقرأت المقال أدركت إلى أى مدى كان إخلاصك في قراءة عملي هذا، ومدى نفاذك إلى أدق جزيئاته، وقد أعجلت لك، كلمات قليلة فى رقعة من الورق أسلمتها إلى الأستاذ يوسف الشارونى ليرسلها لك، وقد كنت أتمنى أن تكون كلماتى لك بداية لمراسلة بيننا، وانتظرت طويلا أن تكتب لي على العنوان الذي أثبته في هذه الورقة، وطال انتظارى دون جدوى. ثم قابلنى الأخ جميل عطية وطلب إلى أن أوافيك بمعلومات عن شخصى، وفي الحقيقة لم أعرف على وجه الدقة أى نوع من المعلومات وأى قدر منها ولماذا، واتصلت بشقيقكم الأستاذ/ سامح نجيب وقرأ على الكلمات التى وردت في خطابكم بهذا الصدد، ولم تكن هذه الكلمات شافية في وضوحها.

وطلبت أنا من الأخ جميل عطية أن يرسل لك عنوانى لتكتب لى شخصيا بما تريده عنى، أليس غريبا أن نظل إلى الآن وليست بيننا علاقة مباشرة.

إننى سأكتب لك الآن عن نفسى ما أتصوره وأرجو أن تكتب لى فورا بما قد تريده من تفصيلات أو من إجابات لأسئلة تكون ما تزال قائمة في ذهنك دون إجابة وسوف أبادر بالرد عليك فور تسلم خطابك.

ولدت في قرية صغيرة اسمها (البندرة) تبعد حوالى عشرين كيلومترا عن مدينة طنطا عاصمة محافظة الغربية في اليوم الأول من عام 1935. وكنت طفلا عليلا تنفينى علتى عن صحبة أقرانى من العيال، وتلزمني كُن أبي ومجالس أصحابه في الأصائل الرقيقة والأماسى الندية في ردهة دوارنا. ولقد كان أبى محدثا رائعا، قادرا على السيطرة التامة على مستمعيه، وكانت تجربته الحياتية هائلة، فهو رجل كثير الأسفار في البلاد، كثير الأصحاب مشغول بالأولياء والمزارات والموالد والأسواق.

لكنه قبل كل شىء وبعد كل شىء مفتون بالكلمة يجيد قولها ويجيد الانصات إليها. يدرك سرها ويطوعها لحكايته، ويصنع منها عالما مغايرا للواقع اليومي المترب المنضوح للشمس. لقد فتح أبى هذا العالم لي لأهرب إليه، أنا الطفل العليل غير القادر على ممارسة الحياة العادية لأقرانى من العيال، هربت إلى عالم أبى هذا وأحببته ولزمته. وفي عام 1943 رحلت إلى بيت جدى لأمى في مدينة (ميت غمر) لألحق بالمدرسة الابتدائية وفي هذه المدينة ازدادت غربتى عما حولى عمقا، أنا الطفل النحيل الشاحب الريفى اللسان، ولم يكن ثمة حضن أبى لألبد فيه، في بيت جدى عرفت الكتاب، وقمت برحلتى في عالم الكتب وحدى، وربما بقيت سنين طويلة أعرف أشكال بعض الكلمات ومعانيها دون أن أعرف كيف تنطق نطقا سليما. وكم كنت أحلم أن أكون أحد هؤلاء الصغار الريفيين الآتين إلى ميت غمر مثلى من القرى القريبة لكنهم يعيشون بأنفهسم دون رقيب في غرفة مأجورة، يحيون فيها حياة فقيرة، لكنها بسيطة وطليقة، وقد حولت حلمى هذا إلى صفحات كثيرة تحكى عن شاب يعيش وحده في غرفة على السطوح، ويقع في حب جارته، كان حلما رائعا، وكأننى لم أصدقه فأنهيته نهاية فاجعة، انتحرت الفتاة وجن الفتى. وبعد ذلك ضاعت صفحات القصة وأنا نسيتها، ولكن شيئا هاما جدا بقى لي، أن القراءة والكتابة هما عالمى، هما مهربى من عالم لا أستطيع التواؤم معه.

وفي عام 1948 انتقلت إلى المدرسة الثانوية في مدينة طنطا، أقيم فيها أحيانا في غرفة مأجورة في حى فقير أو أسافر إليها يوميا في قطار الصباح الباكر وأعود في المساء إلى قريتى. في هذه المرحلة أستفحل إحساسي بالغربة، لكنه اتخذ معنى جديد، لم يعد سببه كامنا في ذاتي بل في كونى أنتمى إلى عالم الفقراء، ذلك العالم المنفى، المعزوب على مستوى الواقع والقيم، ولم يكن بوسعي أن أكسر غربتى بتغير انتمائى، وإنما بأن أعمق هذا الانتماء، ومن هنا أصبح مدار حياتى هو إعادة اكتشاف قريتى، وبدأ حب قريتى يشرق في نفسى، وأصبح هذا الحب التزاما يكبل روحى بالقهر والكآبة. وفي المرحلة الثانوية كنت مستغرقا تماما في محبة صوفية للتجربة الإنسانية العظيمة التي خاضتها ثورة النبي محمد وأصحابه الفقراء العظام، وكانت سيرة النبى وأصحابه ونضالهم المجيد وفقه القرآن والسنة هما معظم قراءتى في المرحلة.

وفي عام 1955 التحقت بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وقد كنا جماعات من أبناء الريف في غرف مأجورة ونعيش حياة مغلقة بعيدة عن حياة المجتمع السكندرى ندير غربتنا بيننا، غربتنا في الإسكندرية، غربتنا في مصر كلها. كنا نناقش كل شيء العلم والفن والفلسفة والسياسة والتاريخ، نناقش بانفعال وحنين وسخط، إن كل مسلماتنا وثقافتنا مأزومة إزاء فداحة مشاكلنا، كان علينا أن نكسر شرفة فكرنا المثالى وننطلق إلى رحابة الفهم العلمي للعالم والفهم الجدلى للفلسفة لصراع الطبقات عبر التاريخ، ولم يكن ذلك أمرا سهلا كان غرما فادحا أديناه ببسالة الشباب وجسارته. وربما كانت هذه المناقشات دائرة في أماكن كثيرة أخرى بين شباب جيلنا كله، ذلك الجيل الذى أعطى مصر جيلنا من الكتاب الشبان. ونحن متفقون مع الأجيال التي سبقتنا من الكتاب المصريين الحقيقيين في أننا ننتمي إلى شعب متخلف يحيا ظروفا غير إنسانية فرضتها عليه سنون طويلة من الاستعمار والاستغلال الأسود أفقرته صحيا وفكريا. وألغت دوره تقريبا من الحياة السياسية والفكرية والحضارية للعالم. ولكننا نختلف عنهم في أننا متخلصون تماما من أسلوب حياتنا وتفكيرنا وكتابتنا والتزامنا السياسي من أي انتماء برجوازى، ومن أى تصورات مثالية للفلسفة أو التاريخ أو حركة المجتمع، ونحن منعزلون تماما حياتيا وفكريا عن القيم السائدة في الحياة والثقافة والفن، ولذلك فإن حركتنا تأخذ طابعا معارضا وتحاط بالريبة والحذر، ومن هنا فإن إنتاجنا يتسم أحيانا بالإغراب والألغاز والإغراق في الرمزية، ويكبله من أعماقه إحساس لا علاج له بالخوف أو الحصار.

هذا وأنا في انتظار ردك على العنوان التالي:
منزل رقم 6 شارع رقم 8 خلف نادى الترسانة الرياضى بريد امبابه، القاهرة.
وتقبل شكرى واحترامى،

المخلص
عبد الحكيـــم قاســـم

الرسالة الثانية
فى رسالة لصديقه حسنى عبد الفضيل:

كنت أريد تفجيرا ما فى حياتي يخرجني من هذا الجمود! تسرب لنا رسائل عبد الحكيم قاسم الكثير من الضوء حول أراءه فى الفن، الدين، السياسة، والمرأة وغيرها من التصورات حول الحياة والموت، ويبث فيها الكثير من آرائه، أقرب لأن تكون كتابة بلا مكياج وخاصة وأن قاسم اشتهر بعنفه وصدقه الجارح فى أوقات كثيرة! معظم الرسائل قادم من ألمانيا، التى سافر إليها فى بدايات السبعينيات ـ تحديدا فى 1974 ـ بدعوة من معهد العلوم الإسلامية بجامعة برلين الحرة، كان من المفترض أن يظل هناك وقتا محدودا كما جاء فى الدعوة التى وصلته للسفر، إلا إنه قرر أن يخوض المغامرة لنهايتها...(سافرت بعزم البقاء فى أوروبا مدة طويلة، فنحن جيل من الكتاب لم تتوفر لنا الفرص التى توفرت للأجيال السابقة، أقصد البعثات المدعمة ماليا من الجامعة أو من الدولة. قررت أن أبقى فى برلين كنوع من المغامرة الشخصية تحملت تبعاتها فيما بعد كاملة).

بعد النجاح الذى حققته روايته الأولى ( أيام الإنسان السبعة ) التى صدرت عام 1968، شعر أنه: (لم أحدث شيئا عبقريا فى شبابى أفرضه على المجتمع، لكنني لا أريد أن أتحول إلى نموذج متكرر مصبوب فى قالب معروف سلفا وعليه سافرت. هنا ـ فى ألمانيا ـ لا يعرفني أحد. بدأت اعمل أتعلم. استعدت شبابى وقدرتي على القلق. وبدأت أرى مصر من بعيد وارى ألمانيا من قريب تجربة خارقة. بقيت مدة طويلة لا اكتب. لكنني حين بدأت اكتب أدركت أنني ولدت من جديد). فى ألمانيا تنقل قاسم بين عده مهن كان أكثرها استقرارا: حارسا ليليا فى قصر شارليتنبورج ببرلين الغربية، وأثناء ممارسته لمهنته كان يسجى وقته ـ كما يقول ـ فى الكتابة. مقاومة الغربة، والرغبة فى البوح دفعته أن يكتب محاورا أصدقاؤه فى رسائل طويلة.

وهناك أيضا كتب العديد من أعماله: (المهدى، الأخت لأب، طرف من خبر الآخرة، سطور من دفتر الأحوال، قدر الغرف المقبضة، رجوع الشيخ... وغيرها). فى ألمانيا حاول أن يعيد اكتشاف نفسه من جديد!

هنا فى هذه الرسالة التي أرسلها لصديقه المقرب حسنى عبد الفضيل يتحدث عن قراره بالسفر ومعاناته هناك. وحسنى عبد الفضيل هو الصديق الأقرب إليه التقاه أثناء دراسته فى الإسكندرية فى كلية الحقوق، كان عبد الفضيل يكتب القصة، بينما كان قاسم يكتب الشعر قبل أن تنقلب المعادلة ويتجه قاسم إلى الكتابة، بينما يتوقف حسنى نهائيا عن الكتابة من أجل الهندسة التى درسها والسياسة التى قادتهما إلى المعتقل فى الستينيات. هنا نص الرسالة:

برلين صباح السبت 20 /8/76
أخي حســــنى
أذكر شعرا لشوقى خميس يبدؤه بدعاء
يا ربات الشعر المجد لكن
يا من صغن العالم لحن
وأذكر أن دعاءا شبيها يكون في مفتتح القصائد الطوال، ربما يكون الشاعر فريسة الخوف من ألا تحيط قدرته على القول بما في صدره من شوق ورغبة في الإفاضة، وإننى لفى مفتتح الكتابة لك الآن فى قبضة خوف شبيهه، حصر الوقت وحصر العجز وامتلاء القلب، أهدى إليك هذه (العينة) التي تعيننا على القدرة فى هذه اللحظة، وأتعزى بما كان بيننا دائما من استشفاف يجعل للكلمات آفاقا، شواسع تتردد فيهن الأصداء. لا يعدل حنقى عليك إلا اتساع قلبى للغفران لك، فآخر ما وصلنى منك قبل الذى فى يدى وصف مروع للمرض الذى نزل عليك ورددت فورا، وما كنت بصدد حديث رخى البال، بل بصدد ترتيب سفرك لى، وانتظرت أن تبرق بوصولك، فلما لم يصل منك شىء كان التفسير الوحيد أن المرض زاد عليك وأنك سافرت لمصر وربما أنك مت، لقد كان وقتا قاسيا، فإننى رجل صلب عزيز الدموع، ولكنى أقول لك أننى لا أحتمل أبدا أن يموت لي صديق أو أن يعجزه المرض، لقد عشت وأعيش فى برلين تجربة أليمة (مثمرة) ولكن أشد مافيها وطئا هو أننى أُقصيت عن دائرة الأصدقاء، هذا التجاوب الفكرى والوجدانى العميق غاب عن حياتى فأصبحت قاحلة كصحراء، ربما أدركت زينب هذا بغريزة المرأة، أو بغريزة (الوليف) ففرحت لخبر قدومك وهى التى لا ترحب كثيرا بالضيوف.

وإذا كنت قلت فى خطاب لى إننى أنسى ما أقول فليس للكلمة دلالة أخرى أبعد من دلالتها اللغوية، نحن نكتب، نبادل أصدقاءنا الرأى والشعور، نلقى عن أكتافنا ثقل اللحظة ثم ننسى (في غالب الأمر) ما قلناه، ليس هذا سوى أحد عيوبنا القديمة، وربما هو لون عن عدم الثقة بالنفس، ما نراه، ما نحسه يكاد يكون كالعيب، كالعورة (فى الدين) لا نكشفه إلا أمام الأقرباء الحميمين (المحارم)، ولقد دهشت د. سلوى نور جدا وأنا أحدثها عن رسالتى وما أنوى أن أقول فيها، قالت إننى كلمتها مرتين مختلفتين بطريقتين مختلفين وفى كل مرة عدد من الأفكار الجيده أطلقها هكذا، والصحيح أن أتبعها وأرصدها وأضعها فى سياقها من عمل علمى، قلت لها لقد رحلت إلى هنا وتحملت ما تعلمينه من المشاق لأتعلم هذا، سيدتى وما يزال فى العمر بقية.

وإذا كنت قد جعلتك غريبا عن عالمى الجديد فما عمدت إلى هذا أبدا، وما أريده، بل إننى محتاج لقرابتك إلى عالمي هذا وأظن أنك محتاج لهذا أيضا، وبوسعى أن أكرس للمراسلة وقتا وجهدا لن يضيعا هباءا، أوفى سبيل متعة قليلة بل في سبيل مواصلة جهدنا الشاق معا لنعرف أكثر ولنرى أبعد ولنكون أفضل، هكذا وليس فقط من أجل أن تجمع لي الكتب (وهذا فى ذاته أمر شديد الأهمية بالنسبة لي يكاد يكون فى أهمية أن أنجز رسالتي أو لا أنجزها)، إن عملي هنا هو مرحلة جديدة فى رحلة طويلة التقينا أنا وأنت على دربها فى الإسكندرية، ثم لم نتخل عنها حتى الآن لحظة واحدة (معا دائما). وسوف لا نتخلى عنها أبدا (معا دائما)، وإنه ليفجؤني الآن أن جزءا من هذه الرحلة خاف عنك، لا لأن ذلك غريب، بل لأنني أفترض دائما (افتراضا ميتافيزيقيا) أنك معي وأنك تعرف كل شيء عني. الآن فى هذه اللحظة أحاول أبدأ (توصيفا) لهذه الحقبة من حياتي (بتعبير المهندسين) بهدفين الأول أن الكتابة محاولة للسيطرة العقلية على هذا الواقع، أحاول أن استخرجه من دائرة سحب الهم التي تملأ آفاق وجداني، أحوله إلى كلمات منطوقة مكتوبة، شيئا أمسكه وأتحسسه وأقول فيه رأيا. فقد كنت أكتب يومياتي حتى حضرت زينب وبمصادفة قرأتها جميعا وكانت زوبعة كادت تعصف بحياتنا معا، ولم يعدها شيئا منذ أكثر من سنه، إن حضور زينب الشامل فى سكن مؤلف من غرفة واحدة كبيرة وغرفة صغيرة وغرفة بعيدة كما هذا الحضور الشامل المتوجس المستريب المفتش المدقق يحرمني من الانفراد بنفسي نهائيا، يصادر تماما أى قدرة على العزلة والتأمل، الآن أكتب بأمل اصطياد الطيور التي تفزعها النواطير المخيفة.

الهدف الثاني أن أقتسم معك عالمي هذا، اقتسمنا الأشياء دائما وكانت القسمة مخصبة للفكر دافعة للعمل، لى فيك أمل لم يخب أبدا، لقد سافرت ورأيت، وإذا فردت أمامك منديلي وفرشت عليه أشيائي فإنك مقلب فيها تقليب الحريص، وذلك لي شيء نافع. أنت أيها الصديق الكريم فيك تنزه غريب عن أشياء فى طرز الناس التي أعرفها هنا تجعل علاقتي بهم عقيمة تماما حينما خرجت عن دائرة الأصدقاء إلى هذه الغربة فى برلين تعلمت كيف أن هؤلاء الأصدقاء يكادون أن يكونوا بشرا آخرين. الآن أنظر خلفي فأجد اثنين وثلاثين شهرا، تألمت فيها كثيرا، وشقيت وتعست، لكنني لو عدت للوراء مائة ألف مرة لأخترت أن أرحل وأن أعيش ما عشت، وحينما أنظر خلفي أبعد وأبعد أجد أن الرحلة إلى أوروبا تنسجم مع منطق الحياة كلها، طفل فى البندرة، تلميذ فى ميت غمر، الثانوي فى طنطا، طالب فى الإسكندرية، كاتب فى القاهرة، ثم أكاديمي فى برلين (منطق؟) ثم أن يكون لأوروبا كل هذا الفعل فى حياتنا يكاد يصل إلى صياغة أقدارنا، ثم لا نرى هذه الأوروبا ولا نتحسسها ونشمها..؟ أشواق لها صنعت فى عربات المترو فى اسكندرية والبنات الجميلات والرجال النظاف الأقوياء يتكلمون اللغة الأجنبية ونحن لا نكاد نفهم كلمة، ثم ذلك الشوق (للترحال) كمعنى مجرد، وأن تثبت أنك قادر على أن تخرج وترى وتعرف هذه الطلاسم التي يتفوهون بها ويسكننوننا بها هؤلاء المتعالمون ويمارسون علينا لونا من القهر كريه.

هكذا تنتسب هذه الرحلة إلى الأشياء القديمة أو تخرج منها خروجا طبيعيا، إنما ينبغي هنا أن أسأل سؤال طرح على كثيرا بمودة وخوف حقيقي علىّ، وطرح مرات بخبث ودهاء وحقد، وأنا فرضته على نفسي مرات كثيرة منعكس علىّ خوف الأصدقاء وخبث هذه الأنماط التي تحيط بي هنا: ألا يؤثر إنصرافي إلى البحث العلمي على موهبتي ككاتب...؟ ولقد نحيت هذا السؤال بسؤال آخر، هل أنا إنسان أم صفة...؟ إنني إنسان، أكون قصاصا حينما أكتب قصة وباحثا حينما أكتب بحثا، وإذا كانت فى داخلى هذه القدرات كلها فلماذا أقهر واحدة قهرا لا يمكن أن يكون لصالح القدرة الأخرى؛ بل قد يكون خصما منها، كنا دائما يا أخي نقول رأيا ثم حينما نكتب تكون قصة، خوف عميق من ممارسة الرأي، أهو ربما نزاهة أصبحت عقدة، تطهر ديني أصبح يشلنا عن الإنتاج، إنني ألقيت كل هذا خلف ظهري وبدأت العمل.

لكن كيف كان البدء، كيف اتخذت قرار السفر، الحق يا أخي أنه لم يكن قرار، لقد كنت غارقا أُلقي إليه حبلا فتشبثت به لم يفلته، كانت الحياة فى الأسرة قد أصبحت جحيما، لم يكن بالوسع أن تستمر أمي مع زينب فى بيت واحد، ولم يكن ممكنا أن تبقى فى الإسكندرية مع منعم، والرجل يريد أن يتزوج، ولا يريد أن يكرر مأساة أمي وزينب. ولم يكن بوسعنا ماليا إفراد منزل خاص لأمي، ولا نطيق إقامتها مع رجل غريب زوج إحدى بناتها، لو كنت أعرف كل هذا ما تزوجت. لم أكن باحتياج جسدي ولا روحي للزواج، لكنني تصورت حالما أن أمي وزوجتي سيعيشان معا كملاكين، وعشت تجربة كريهة ثمنا لهذا الحلم.

كانت علاقتي بحكمت قد بدأت تعد شيئا أليما جدا، هي تراقب أسرتي تنمو وارتباطي بها يزيد ويصيبها الرعب ويزداد إلحاحها على ألا أفترق عنها لحظة. كنت أتغدى عندها وامتلئ طعاما، ثم أعود إلى البيت وأجد زينب تنتظرني جائعة، وأجلس لآكل معها، هذه تفصيلة أليمة من عشرات التفاصيل، ولم أكن أعرف أين المفر، وإلى أية نهاية تتطور الأحداث.

كانت الكتابة قد أصبحت شيئا عسيرا علىّ، أصبحت اللغة عندي عبئا على التجربة، أعرف هذا وحدي ولا أدري كيف الخلاص منه، كتبت قبل سفري بقليل قصة (الموت والحياة) وهى فى رأيى قصة جيدة وكبيرة، لكنني كنت أدرك دائما أنني استطيع أكثر وأنتج أقل، وكنت أريد تفجيرا ما فى حياتي يخرجني من هذا الجمود، ويبدر إلى ذهنك الآن سؤال، وترى هنا فى أوروبا هل تدفقت الكتابة علىّ، وأقول لك لا، لم يتم هذا، لكنني أتدفق كإنسان، حياتي الآن شديدة الإيجابية، فإذا لم تأت الكتابة مع هذا... وأيا كانت هذه الكتابة ـ فعلى الكتابة، أن تأتي، وسوف تأتي أنا أعرف. وكان ثمة شيء غريب فى حياتي فى القاهرة قبل سفري، لقد رسمت فى ذهن الناس، فى الحياة الثقافية فى القاهرة، ككاتب وموظف فى المعاشات، أو موظف فى المعاشات موهوب ومظلوم وهو يكتب أحيانا كتابة عظيمة، وكان بعض الناس يحاول كتابة مرثية وأنا حي فيقول أنه لن يستطيع شيئا بعد الرواية الأولى مع أن (البيع والشراء) أعظم ,(الموت والحياة) عمل كبير، لكن منطق الصورة (الموظف الموهوب) يقتضي أن تموت هذه الموهبة نتيجة للظلم حتى تصير المأساة حكاية تحكى، وكان لابد أن أقفز فوق ظهر هذه القصة، وأمسكها من قرونها حتى لا تنطحني أنا، وهكذا أغيب فترة ثم أعود من أوروبا اسما جديدا، بدءا جديدا، وربما يكون الوقت فى مصر قد تغير، وهو لابد متغير بحيث يكون لنا فيه مكان.

هكذا نكسر عن أنفسنا هذا الوهم الأبيد ونمارس الرأي بعظمه كما مارسنا الفن يكون دور متعدد النواحى فى حياتنا الثقافية والسياسية لا نترك الأوغاد يتقافزون على أكتافنا، وكل آن نكتب قصة ونرجو أن يكون ثمة فى مكان القرار إنسان (كويس) يتيح لنا أن نظهر للناس. فإذا لم يكن ماتت أعمالنا كما ماتت روايتي (محاولة للخروج) ثم (الأشواق والأسى). أخيرا فقد كنت أريد أن أعوض زينب شيئا وهي التي تخرجت بامتياز مرتبة الشرف الأولى ولم تكمل دراستها، كنت أريد أن أمنحها فرصة إكمال دراستها، وأن أعطي أولادي درسا عظيما عن الحياة كم هي كبيرة فيها شعوب عديدة ولغات مختلفة، وفيها بشر مختلفو الألوان والعادات، لم يكن بوسعي أن أعطيهم أماسى الدوار المضاءة بالفانوس، فحاولت شيئا آخر لا أدري كيف يثمر. هل قلت لك الآن لماذا سفرت..؟ هل كنت وافيا تماما، ألم يفتني أن أقول لك أن ثمة إحساس كان لدي بفجوة بين وضعي الاجتماعي كموظف فى المعاشات واعتدادي بنفس كإنسان موهوب، سأعود للقاهرة دكتورا حتى لو لم يكن معي مليما، وسوف أتغلب على عيب عندي هو قلة الصبر على القراءة فأرغم نفسي على الدراسة والتعلم ثم أن أرى وأتحسس، أثقف شعوري بالحواس ما يفعله غيري بأوصاف القراءة والصبر عليها.

وكان أن سافرت.
ولعلك تعلم أن أيامي الأولي فى برلين كانت رائعة كان حماس تسلر لى لا يوصف، والنجاح الذي صادفه الدرس عن مصر والأدب المصري بوجودي كان رائعا، وكان على أن أعود بعد ذلك لمصر، لكنني قلت أنني أريد أن أبقى فى أوروبا فترة، وأريد السفر للندن، وقالوا إن لندن مأزومة بإضرابات عمال الفحم وقدموا إلىّ ضيافة مدتها شهرين آخرين، ومضى الشهران وألححت على أن أبقى، كان لدى احساس ريفي قديم بأن ما أرى ليس هو الحقيقة، إن الحقيقة خلف هذا وهي غيره، وكانوا يلحون على أن أعود، الحياة هنا صعبة، وجود الأجانب غير مرغوب فيه، ماذا تفعل هنا، لقد رأيت كل شيء ليس أكثر من هذا، بلدك واجبك الوطني والثقافي زوجتك وأولادك، وأنا أواجههم بوجه حمار ليس فيه أي تعبير، كلمة واحدة أريد أن أبقى، وتحول الالحاح إلى عداء وكراهية ومقاطعة. وأنا أشق سبيلي ببطء، أصير طالبا فى الجامعة، أحضر زوجتي وأولادي، أدرس اللغة، أجد عملا لنفسي، أحصل على شقة صغيرة. مكانين للأولاد فى الحضانة. وهكذا تسير الأمور.

كان لدي أحساس ريفي قديم بأن ما أرى ليس هو الحقيقة وأن الحقيقة خلف هذا وهي غيره، وأنا عندي بلادة ريفية تجعلني أعجز من أن أستنطق الأشياء سرها بحذق ومهاره، وأنا لا أنقم على نفسي هذا، ولا أرجو له تغيرا، إنما أدأب على أن أقعد جنب الشيء محبا صموتا حتى يفصح عن سره، يلقيه فى حجرى كثمرة فات نضجها، ولقد كنت هكذا دائما أقعد طويلا جنب الأشياء والمدن، خمس سنوات فى ميت غمر، ست سنوات فى طنط،ا خمس سنوات فى الإسكندرية، ثلاث سنوات فى قلب الشيوعيين فى الواحات، سبع سنوات فى القاهرة، هل لخص لي هذا مصر..؟ إلى حد كبير، جعلني أحبها، إنها حياتي، حياتى كلها حقا، ولقد كانت برلين لغزا رائعا، ولم أكن أبدا لأتعجله أن يلقي فى حجرى ثماره، ولم أكن بالذي يلقي عليه نظره ويمشى، رأيت الأوبرا، حضرت الكونسرت، ودرت بالمتاحف والمعارض، وعبرت الحدود إلى برلين الشرقية، وكان كل هذا رائع.. لكنني كنت أقول دائما أريد أن أبقى... وبقيت.
عبد الحكيم

الرسالة الثالثة:
فى رسالتين إلى إدوار الخراط:
لا أريد أن (نُرص) متجاورين كأننا في متحف... بل أريد ككائنات حية أن نتجادل!

فى أحد حوارته الصحفية أجاب على سؤال محاوره: أين وجدت نفسك أكثر... فى القصة أم فى الرواية؟
فيجيب: (فى الكتابة، حتى إذا كانت الكتابة رسالة أو نص نقدي، أنا أستمتع بالكتابة، وأتذوق الكلمة، وحينما أكتب انتشى! ولا أستقر على مكتبى أبدا، أتمشى وأهتف بالكلمات وأرقص)! من هنا تكتسب كتاباته جميعها قيمتها، ليس فقط الروايات أو القصص، وإنما تمتد إلى الرسائل التى تركها، التى كان يكتب كل كلمة فيها من أجل متعته الشخصية، مما يقربها من أن تكون إبداعا أو كتابة موازية أو مفسرة للعمل الأدبى! أوهى روايته فى حالتها الخام، أقل تكلفا وأكثر عفوية، رواية بلا مكياج، قبل أن تمتد لها يد الفنان حذفا وتزينا! آراءه فى الفن والكتابة احتلت جزء كبيرا من مراسلاته التى تمت بينه وبين الروائى إدوار الخراط وخاصة أن الكاتبين يبدوان على طرفى نقيض فى كثير من التصورات؛ ولكنهما يضربان مثلا فى فن الحوار... هنا رسالتين أرسلهما قاسم للخراط.

والخراط هو روائي مصري، له مساهمات فى الشعر والنقد الأدبى والتشكيلي، كما قام بترجمة العديد من الأعمال النقدية والإبداعية. ولد في الإسكندرية في مارس1926 لأب من أخميم في صعيد مصر. من أهم أعماله: ( رامة والتنين)، (الزمن الآخر)، (ترابها زعفران)، (صخور السماء)، (يا بنات الإسكندرية) وغيرها. لا يذكر الخراط متى بدأت علاقته بعبد الحكيم قاسم، كما لا يذكر عدد الرسائل التي تم تبادلها بينهم وإن كان قد زاره أكثر من مرة فى برلين أثناء عمله فى منظمة التضامن الأفروأسيوي. يرى الخراط أن الحدة والصراحة المطلقة كانا أبرز ما ميزا قاسم، فلم يكن شخصية مهادنة أو مسالمة، بالعكس كان شخصية مقتحمة لا يتردد في الإفصاح عما يراه. يشير الخراط إلى خلاف بينهما أثناء إحدى الندوات فى أتيلية القاهرة، كان الخراط يتحدث عن (الحساسية الجديدة) ورد عليه قاسم قائلا (نحن نتحدث عن الكتابة لا عن البطيخ) ... وهى جملة أغضبت الخراط، ولكن تمت المصالحة بينهما فى دقائق لإدراك الخراط أن خصومات قاسم لم تكن إلا نفثات من روح مبدعة صافية حتى آخر لحظة.

برلين صباح السبت 15/9/84
عزيزى إدوار

ها نحن فى برلين. عربة أجرة تقلنا ومتاعنا إلى بيتنا. الذين قابلونا حييّناهم باختصار، دخلنا وعلى الفور بدأت حياتنا العادية فى مسكننا. كل الأشياء فى أماكنها المألوفة، تمتد إليها أيدينا دون أن ننظر، نروح ونجىء فى المسارات القديمة. هكذا يلتحم الوقتان قبل الأجازة وبعدها حتى تسقط هذه فى نوع من نسيان متعجب مستغرب. هكذا كان الأمر فى القاهرة حيث عدنا لبيتنا وكأننا لم نبارحه أبدا. ضحكت جدا من استئناف عالمين تفرقهما مسافة هائلة. ولم أدر أأفرح بهذا أم أحزن له. أيا ما كان الأمر فقد وجدنا برلين باردة، ووجدنا ديونا وإن قليلة جدا بالمقارنة للعام الماضى، وانتظمنا فى أعمالنا وما يحيط بذلك من خوف وحذر ولهفة. إننى أقرب للناس والأشياء فى القاهرة. شىء خاص بيننا أريد أن أتجاسر عليه بالمناقشة، لدى يقين أنك غاضب علىّ. من ناحيتى أنا لست غاضبا عليك، هناك أشياء أنتقدها فيك كفنان، وهناك نظريات لك أختلف معك فيها أشد الخلاف. وثمة منهج لحياتك كمثقف مصرى قد أتعشم أن يكون غير ذلك. لكننى لست غاضبا منك، بل إننى أقدرك كإنسان وفنان ومفكر ومثقف تقديرا شديدا. وأذكرك أننى الذى سعى لصداقتك وأصر ويصر عليها. ثم إنك رجل يمكن الكلام معه فى كثير من الموضوعات، والمحاذير قليلة ومحدودة. لكننى أحس أنك غاضب منى، لذلك فالموازين بيننا غير معتدلة وينبغى الكلام فيها.

عاتبتنى بشكل سريع وغامض إننى أتكلم عن كتابتك فى غير حضورك. وأنا قبل كل شىء دعنى أبصق فى وجه من نقل هذا لا لأنه كذب، بل لأنه بالضرورة انتقص الحقيقة من أطرافها. والناقص أن كلامى العالى النغمة فى نقده كان فصلا مليئا بالحب والتقدير. غير أننى أهملت (أصول الجدعنة) ولم أنتظر لتكون حاضرا. إننى لا أفعل هذا عادة ولن أحرص عليه مستقبلا. إننى إذا امتلأت بفكرة مضيت أتكلم عنها لا أكف. ولا أريد أن تكون صداقتنا إصرا علىّ، بل أريد لها أن تعطينى إزاءك حرية لم تكن لى. أرسل لك صفحات لتلحقها برجوع الشيخ وتعدم مقابلها. إننى فكرت طويلا فى (انبعاج البناء) الذى حدثتنى عنه، يشغلنى، أعتقد أن المسألة أعمق من ذلك. وأتصور أن النقلة من جو حضرى عربى إسلامى فى الأجزاء الثلاثة الأولى إلى جو فلاحى مصرى فى الجزء الرابع مفاجئ وحاد. حتى ليشكل ليس فقط انبعاجا فى البناء، بل أيضا فى المحتوى والمناخ الروحى للعمل. أرجو أن تتحدث مع محمود درويش ليتيح لى أن أغير مرة أخرى صفحة أو اثنتين وأرسلهما له على عنوانه فى باريس أو نيقوسيا أو غير ذلك.

رجاء أن تكتب أسفل القصة أنها تمت فى القاهرة 3/9/ 84 وأن تكتب أعلاها: (مهداة إلى الأخوة الأصدقاء أعضاء اتحاد الكتاب المغربى شكرا وتحية).

أنت مدين لى برد على خطاب كتبته لك من برلين قبل الإجازة، الآن أصبحت مدينا باثنين أنا فى انتظارهما.
عبدالحكيم

برلين صباح الخميس 18/10/1984
عزيزى إدوار
سعدت إلى أقصى حد بأنك "لم تمر بقلبك منى غمامة ولا شائبة". إذن فإننى لفرط حساسيتى ومرضى فى القاهرة تصورت أشياء لا أصل لها فى الحقيقة. وكم أنا الآن مطمئن ومرتاح. ولنعد إذن إلى أشيائنا القديمة (as usual) كما قالت السيدة تاتشر بعد أن نجت من انفجار الفندق فى برايتون. أما التواضع الجم الذى هو فيك طبع أصيل فلا يجعلنى أهمل ملاحظة أن ما وجدته أمامى فى القاهرة من كلام عن (الحساسيات الجديدة) وعن (الحداثة) إنما أنت محركه والمؤصل له. وأنا أختلف معك فى الأمرين. لكن انظر، إننى إذ أختلف مع هذا الفكر فليس معنى ذلك أننى أسفهه، أو أغض من قيمته، أو الجهد الفكرى الذى وراءه. الحق أن شرط وجود الفرض وجود مخالفة هذا الفرض. وتصورى أن فكرى المخالف فى جدله مع فكرك يُكونان معا مناخا طيبا وصالحا. يمكنه أن يقضى بحسم على كثير من الترهل واللغو فى حياتنا الثقافية؛ والمتمثل فى الترديد الببغاوى لمصطلحات لم يبذل العناء الكافى فى الانشغال بها، بالرغم مما يبدو من افتعال جدية مكذوبة وتعالم سخيف. أما عن (المحاذير) التى أشرت إلى وجودها بينى وبينك فإنما قصدت بها التحوط حيث لا يسعنى أن أقول! إننى أتكلم مع فلان فى كل شىء! هذا لا يكون! تلك عاطفة وبحبحة شرقية! إننى لا أتكلم مع نفسى فى كل شىء! هناك محاذير مع نفسى! هل فهمتنى؟!

ويوسفنى أنك تألمت مما قلته أنا من أنّ لك منهجا كمثقف، أن ثمة منهجا لحياتك كمثقف مصرى أتعشم أن يكون غير ذلك، إننى لازلت على رأيى! لكن بداية يجب أن أنفى بشدة أية موافقة من ناحيتى على ما تقترحه من أن منهج الحياة هو لبها، لا! إنه ببساطة الطريقة فى التصرف، تلك التى قد لا تعبر بحال من الأحوال عن لب وجود الإنسان وموقفه من الحياة. وأنا رأيى أن كاتبا مصريا يملك التأثير على الحياة العقلية المصرية من ناحيتين: بقلمه أولا ولمدة قد تطول أو قد تقصر، ثم ثانيا بوجوده المادى بين الناس. وأنا أعرف أن لك بوجودك المادى دورا هاما ومؤثرا وجيدا. لكن ما لا يعجبنى أنك تمارس هذا الدور بنوع من الإطلال من برج عاجى على الأشياء التى تدور تحت. وحصاد ذلك أننى كنت مضطرا لأن أقوم أنا بالمرور عليك، رغم مرضى الشديد أكثر من مرة لأنك تقريبا لا تزور أحدا. لا تحك لى عن أنك لا تسوق العربة وأن المواصلات رديئة وغير ذلك. إننى أتحرك فى برلين النظيفة الهادئة بعربة. وفى القاهرة المرعبة أجرى فى التراب والحر لأرى الناس. فإذا وصلت أنا القاهرة ورفعت السماعة أطلبك فأنت تفرح جدا وتقول لى: تعال !

وكنت أتمنى أن أسمع منك مرة: أين أنت يا عبد الحكيم ... سأكون عندك فى دقائق! أتمنى أن أسمع هذا مرة، لكنه لم يحصل. ذلك منهج يحد من فعالية دورك كمثقف مصرى فى الحياة المصرية. إنه قد يعطيك بعض سمات أبوية قد تكون مفيدة أحيانا، لكنه قد يخلق بينك وبين ناس آخرين مسافة وحساسيات ليس لها أصل واقعى فى العلاقة بينكم. ذلك ما قصدته بالمنهج، وأظنه لا يمس لب الحياة من قريب أو من بعيد. أما خلافى معك فى طبيعة إنشائك فلست أتعمده بحثا عن الإثارة، أو لأن التطابق ممل، بل لأنّ لى مثالا فى الفن يختلف عن مثالك. وحياتنا المصرية محتاجة لنا معا وبنفس الدرجة. لكنها محتاجة بشكل أكثر إلحاحا لشىء ثالث : للجدل بين رؤيتينا. أنا لا أريد أن (نُرص) متجاورين كأننا فى متحف، بل أريد ككائنات حية أن نتجادل. وأقول لك على المستوى الشخصى إنك يجب أن تحمد الله، وتبوس إيدك وش وضهر، لأنك تجدنى إلى جوارك أقرأ لك بهذا العمق. كان جابر عصفور موجودا حين تكلمت عن أعمالك فقال إنه لم يجد قبل ذلك من يقرأ بهذا الشكل. أنا يا إدوار لا أجد من يقرأنى هكذا! أنا لا أبحث عن ناقد مأفون من إياهم يكتب عنى سطورا مملة، بل أبحث عمن يقرأنى .... ولم أجده للآن .... إلا فيك ... وكم سعدت حين كلمتنى عن رجوع الشيخ ... ليس للمديح، فأنا قد اهتممت بالنقد أكثر ... ولكن لأنك رجل يقرأ ... مرة أخرى يغضبنى منهجك فى المجاملة ...على سبيل المثال. أحس أن الشاعرية والتجويد فى لغتى تحوشنى عن أبعاد فى الواقع قلتها لى مرة أنت عن رواية محاولة للخروج (فلاحين متعلمين) ولا أجد من يأخذ بيدى بقوة وبحق وبإنصاف ووضوح. هل فهمتنى أيها الصديق؟!

أما عن خطابى السابق، وردك عليه فلن أمس هذا الموضوع خوفا من طول رسالتى. لكننى أرجو أن يكون لنا حول الموضوع حديث فى مساء قاهرى جميل، لا تشاغلنا عن ذلك مواضع أخرى تتزاحم علينا بلا رحمة. فى السطور الباقية أسالك عن التعديلات التى أضفتها إلى (رجوع الشيخ)، هل نجحت فى معالجة الانبعاج الذى لاحظته أنت فى بناء القصة ولاحظت أنا بعد ذلك أنه يشمل المناخ، ويكسر الاضطراد الروحى للعمل ... وهل حضر محمود درويش وأخذ الأشياء؟ وأخيرا هل أجسر على أن أترجاك ترسل لى نسخة أو اثنتين من مجموعة قصصى (الأشواق والأسى) الذى قال لى جميل عطية أنها تصدر عن مختارات فصول أول نوفمبر؟ إن ذلك يكون رقيقا منك جدا يا إدوار! وهل أطمع فى العشم أن ترفع سماعة التليفون وتسأل دار المستقبل عن مجموعتى (الظنون والرؤى) وهل هم متجهون لقبولها أم أنها لم ترق لهم؟ تلك أمور ثلاثة أرجوك فيها أنا الرجاء الرابع فيأتى من أمير ابنى.

حكى له صديق أن عالما مصريا فى عصر محمد على أو إسماعيل أو غيرهما قاس محيط الأرض أو أثبت أنها كروية أو ما يشبه ذلك عن طريق ملاحظة ما تلقيه الأشياء جنبها من ظل ودرجة ميله أو ما هو قريب من ذلك. وأمير يريد أن يتكلم فى فصله عن هذا الموضوع فى حصة الجغرافيا. هل لك أن تجلو لنا الأمر يا إدوار حتى أترجمه لأمير؟ ودمت لنا أيها الصديق.
عبد الحكيم

الرسالة الرابعة:
فى رسالة إلى الناقد السورى بطرس الحلاق:
المخيف فى الكُتاب العرب أنهم حادوا السمع..يكثرون الجلوس على المقاهى لكن ينقصهم دائما اللمحة النافذة إلى العصر!!

عبد الحكيم قاسم هو خارج دائما، لم يكن (محاولة للخروج) عنوانا لرواية كتبها فحسب، بقدر ما كان تلخيصا لمسيرة حياته، لأزمته الشخصية فى البحث الدائم عن ذاته، فى الشئ ونقيضه معا. فى التصوف أحيانا فى الماركسية أحيانا أخرى. كان دائما يحاول التحرر من أسر المكان ووطأة جدرانه. فى السجن، تركت السنوات التى قضاها فيه فى منتصف الستينيات مرارة لم ينسها طول حياته، ولكنه كتجربة: "توشك أن تكون استحالة هى من أعظم ما شهدته فى حياتى ... تعلمت فيه كيف يقترب الواحد من ظاهرة اقترابا علميا حتى يفهمها"، كما يقول فى إحدى حواراته. وفى السجن أيضا تعلم أن الماركسية ليست هى "بدلة العمال الزرقاء" بل هى "علم" وعندما هجرها بقى من آثارها معه تلك النظرة العلمية لتفسير الأشياء.

إلى برلين سافر بحثا عن ذاته، ولكنه عاد إلى قريته، عاد مدافعا عن قيم اجتماعية كثيرا ما كان يهاجمها، حتى زملاء جيله الذين تفيض رسائله حبا لهم، وكانت أطروحته للدكتوراه التى لم يستكملها عنهم، لم يسلموا من هجومه. يسأله عزت القمحاوى: لماذا تخسر أصدقاء، والخلاف بينكما غير جوهرى، لقد عرفت قلبك أخضر يحب ويكره. فيجيبه: أليس من حق هذا القلب الأخضر أن يغضب مرة أو يثور!! وعندما قرر خوض الانتخابات منافسا نماذج من البشر لا يملك شطارتها ونفوذها، هزم، وكان الأمر بداية لهزيمة الجسد تحت الروح.

هذه الرسالة التى أرسلها إلى الناقد السورى بطرس الحلاق تكشف بوضوح بعضا من عنف قاسم تجاه كاتب من جيله هو صنع الله إبراهيم، والذى زامله لسنوات فى معتقل الواحات، عندما حبسا فى سجن الواحات فى بداية الخمسينيات. يصف صنع الله إبراهيم ما جرى بأنه: (كنا ننتمى إلى تنظيمين مختلفين وقضينا الوقت شبه متخاصمين ولم تنشأ بيننا علاقة إلا بعد ذلك بشهور بعد أن غيرّ موقفه السياسى، وأنتقل إلى حدتو(إحدى التنظيمات الماركسية الشهيرة فى الخمسينيات)، وتكونت شبه مجموعة اربعتنا: هو وكمال القلش، ورؤف مسعد، وأنا، ولم يكن لها شأن بالسياسة، وإنما كانت العلاقة تقوم أساس المناقشات المستمرة حول الكتابة والمحاولات التى يقوم بها كلا منا، وكنا نعبر عن معارضتنا للمفاهيم الجامدة لمدرسة الواقعية الاشتراكية فى الأدب والفن ونسخر من تصريحات خروشوف حول الفن التجريدى. ويواصل صنع الله حدثه: تواصلت علاقتى بعبد الحكيم بعد الإفراج عنا. وخلفنى فى العمل بحانوت للكتب الأجنبية فى الزمالك كانت تملكه أرملة شهدى عطية الشافعى (أحد أبرز المناضلين الشيوعيين، وقتل اثناء اعتقاله فى الخمسينات)، والتقينا فى برلين واختلفنا حول علاقته بالبعثيين العراقيين، ثم التقينا فى مؤتمر الرواية فى فاس المغربية.

برلين الغربية صباح الجمعة 5/6 / 1981
أخى بطرس

أخيرا جاءتنى رسالتك وانشرح قلبى. فإننى كنت فى ريبة مما كتبت لك. أقول فى نفسى إننى أسرفت، ثم أعتذر لنفسى عما فعلت بأننى لم أقصد إلا أن أكون صادقا وحارا كما أتصور الصديق. وإننى لأعيذ نفسى وأعيذ صديقى أن أسر عنه ما أراه تصورا عن الكمال، أكتمه عنه ويمضى الحديث وهو لا يعلم حفيظة نفسى. ثم جاء خطابك فسعدت بأنك فهمتنى على الفور وأرحتنى من شقوة أيام انتظار ردك. لقد قابلت جمال الغيطانى فى باريس، أول مرة على المقهى تحت الفندق الذى نزلت به. نقل إلىّ خبر موت يحيى الطاهر عبدالله. ذعرت، بكيت، نشجت بصوت عال من قلب محروق كأنما أبكى كل الموتى والذين يموتون، كأنما أبكى غربتنا وتشردنا وعارنا. بكيت كاتبا بسيطا صادقا كان الموت يتربص به من سطر إلى سطر حتى صرعه ... ونحن نكتب السطر تلو السطر، ونرتب النهاية بقلوب مفطورة وعيون مقروحة. وقابلت جمال الغيطانى بعد ذلك مرة أو اثنين. لم يكن أبدا لقاء طويلا أو حديثا شاملا، إنما هى خطفات تحيات وسلامات وعتاب وأسئلة عشوائية وإجابات سريعة، لكن كان جميلا أن أراه وأن نتواعد على المراسلة وأن نكون دائما على اتصال.

أما قدوم إدوار الخراط إلى باريس فقد علمت به، وبقيت أياما أتعشم فى أن يتصل بى تليفونيا ولكنه لم يفعل. وكنت أقول فى نفسى لعله يقابل الناس فى باريس الآن وتأتى سيرتى ويثنى علىّ الثناء كله، ثم يقوم فى جيبه رقم تليفونى وبيوت الهاتف الزجاجية الصغيرة فى الشوارع وهو لا يطلبنى. مهما يكن ما قلته فى نفسى فهو لم يعزنى عن أننى لم أسمع صوت إدوار ولم أسأله عن الدنيا والناس ولم أسمع حديثه فى ذلك. أعود إلى مقالك فأقول إن ثمة حقيقتين أساسيتين أولاهما أنك أكبر من ذلك المقال، هذا شئ أعرفه ويقوله المقال نفسه فى تأكيده على نقطتين عظيمتين. الأولى: استبدال تعبير الرواية العربية بالرواية المصرية. ليس حبا للعربية بل لأنه الحقيقة أن العالم العربى مجال ثقافى وشعورى واحد تقريبا، رغم التنوع بين وحداته المختلفة. الثانية: أنك تحاول تحديدا دقيقا للتأريخ للرواية العربية وهذا هدف يستحق أن يجهد الباحث له. الحقيقة الثانية أننى أعرف نفسى جيدا ولا أرانى كفؤا للاعتراض عليك، وإنما أنا صديق يعتز بصديقه وقارئ نشيط يعلق على ما يقرأ.

ملاحظة صغيرة هى أن عبدالمحسن طه بدر رجل ريفى مثلى وهو من جيلى تقريبا. ولقد نشأنا ... غذاؤنا اليومى تلك الكتابات الدارجة عن الريف المصرى، وقذارته وجهل ناسه، حتى ليضطر الأثرياء وأولى السلطة من المصريين إلى السياحة فى أوروبا أو لبنان. فإذا صادف الفلاح الطيب عبدالمحسن بدر رواية مصرية ترى فى الريف المصرى جمالا فإن ذلك يفتنه. هذا إلى أن الافتخار بالمصرية كان فى الحقيقة قيمة معادية للاستعمار الإنجليزى وليس مباهاة على أقطار أخرى فى تعاستنا وأشد. وأنه ليسعدنى ما تقوله من أنك تزمع كتابة مقال لتصحيح وضع كلمات ترجمناها عن اللغات الأوروبية إلى لغتنا ونستخدمها أحيانا فى سياق مخالف مثل رومانسية. هذا سيكون عمل عظيم. الأمر لا يقتصر على كلمة رومانسية، بل إلى غيرها كثير مثل نهضة وتنوير وبرجوازية وإقطاع وثورة ورجعية ومحافظة وغير ذلك مما يحتاج إلى جهد هائل لوضعه موضعه الطبيعى. الأمر فى الحقيقة أن نعيد: (1) قراءة تاريخنا. (2) فهم تاريخنا. (3) الالتزام به. إننا إذا فعلنا ذلك ستكون نتيجته الطبيعية أن نتكلم العربية.

الآن أشكرك على إرسال مجلة (الباحث) لى. وقد قرأت مقالك عن رواية صنع الله إبراهيم (نجمة أغسطس). وأبدى لك إعجابا بلا حدود بالمقالة لغة ومنهجا فى البحث ونتائج. هذا عمل جيد وعظيم. لكننى أريد أن أحكى لك قبل أن أتكلم عن المقالة حكاية. أبدأ الحكاية بملاحظات هامة:
(1) أننى أعتبر السد العالى أعظم الأعمال المعمارية فى تاريخ مصر كله.

(2) وهو ليس عملا معماريا بالمعنى الشامل لهذا التعبير. بل هو على الأدق جراحة تحويلية فى تكوين مصر الجغرافى، تشبه فى ذلك قناة السويس، وإن كانت أعظم وأعمق تأثيرا فى كل طبقات الشعب المصرى وفى أرض مصر ومناخها ونظام ريها واقتصادها.

(3) إذا علمنا أن السد الآن لا يستفاد منه نهائيا وأن المشروعات المكملة له لم تتم وعليه فهو عنصر هدام للتربة المصرية ... وعليه فالأصوات ترتفع للمطالبة بنسفه؟ وأنا أتصور أن هذا ممكن ... وإذا كان قد حدث أن السادات أصدر بيانا مشتركا هو وبيجين يدين سوريا، فلماذا لا يكون متصورا هدم السد العالى ؟ !

(4) السد إذن أعظم عمل معمارى فى تاريخ مصر، وهو يهم كل مصرى بصفة شخصية ... أقول مرة أخرى كل مصرى على حدة وبصفة شخصية ... ومع ذلك لم يهتم به أى مصرى ... بل وعورض وكره حتى ليمكن نسفه دون أن يتحرك أحد ... هذه هى المأساة فما سببها؟

(5) إن تفسير ذلك بالفرعنة والبيروقراطية شئ سطحى جدا. إن السد درس مؤداه التشكيك فى قدرية علاقة مصر بالنيل، فى قدرية عملية الرى، فى قدرية علاقة مصر الفكرية بالعالم الرأسمالى. وهذا الدرس تجسد فى صورة صخرية. الكلام عن الهرم أو المساجد أو البيروقراطية والبوليس كلام سطحى. كل مصرى كان يعمل فى السد كان يعمل لصالحه الخاص ... وضع البوليس كان مجازا فارغا، الهرم نصب للعبادة ... السد نصب لضرب القدسية.

تلك الملاحظات قبل أن أحكى الحكاية وهى ملاحظات مختصرة بل ومبتسرة أرجو أن تقرأ ما وراء الكلمات. أما الحكاية فهى عن صحفى ... مراسل الازفستيا فى مصر ... رجل نحيل شاحب ... شديد الذكاء شديد الإخلاص ... شديد المرارة والسخرية ... ويهودى ... كان يرى السد ويرى مصر ويرى روسيا ويسخر من كل شئ ... كان يعرف أنه لا أحد يدرك شيئا ... وأن الشئ الذى ينبغى أن يدركوه شئ يفوق الخيال فى عظمته ... ولم يكن يدرك سر مصر ... فكان يسأل كل الناس ... يتجنب كل من فى يده سلطة ... كل من فى مركز ... كل هؤلاء مزيفون بشكل أو بآخر ... يسأل ناس معينين، يلمس فى ملامحهم ذكاء وإخلاصا. قابل صنع الله إبراهيم ... شيوعى ... خارج من السجن ... ناقم على عبدالناصر ... تلك هى العناصر الدرامية القادرة على خلق موقف قادر على استيعاب وجلاء اللغز ... سأل صنع الله: هل رأيت السد العالى؟ قال :لا ... قال: لماذا لا تراه وتكتب عنه ... لا يملك نقودا ... إذن خذ خمسمائة جنيه واذهب واكتب ... اكتب ما تشاء ... كل ما تكتبه سأنشره لك ... فى مصر وفى روسيا بالعربى وبالروسى ... كان ذلك فى ربيع 1965.

لقد أصابنى الذعر عندما قرأت فى رواية صنع الله أنه أخذ معه إلى أسوان كتاب مايكل أنجلو ... إن تجربة أنجلو مع الحجر غير تجربة مصر مع السد على النيل ... ثم العصر غير العصر ... كل شئ غير كل شئ ... أنت تفهمنى طبعا وتعرف عن أنجلو وعن سد مصر. لكن الشئ المخيف أكثر أن صنع الله لم يأخذ معه الكتاب عند سفره لأسوان فى الحقيقة بل قرأ الكتاب بعد ذلك، وركب الأشعار على فصول الرواية. لكنه قال إن هذا الكتاب كان معه، وسواء أكان الكتاب معه، أو كان غيره، فالآخر لم يكن على أى حال صلة بالموضوع. أليست هذه بداية محزنة ... الرحلة للسد بإيحاء من صحفى أجنبى ... وبنقود أجنبية ... والكتاب كتاب لا علاقة له بالموضوع (أيا كان) ... ليس هذا طعنا شخصيا ضد صنع الله ... إنها مأساتنا التى يجب أن نكتب عنها ... نحن فى عزلة عميقة عن التغيرات العميقة التى تحدث فى حياتنا ... ونحن فقراء المحصول من لغتن ا... السادات خائن ... عبدالناصر ديكتاتو ر... الملك حسين عميل. من باب التغيير نقول (...) ويمضى فى حال سبيله.

وعليه يبدو التاريخ قطعة واحدة مصمتة ... واحد على القمة .. .رمسيس ... محمد على ... عبدالناصر ... ثم سجون وعمال مظاليم، بكائيات تلك هى اللحظة المروعة التى يكف فيها الأدب عن أن يكون أداة لاكتشاف الواقع ... عملية معرفية. ثم يكون الموقف من الآلة وموقف الإنسان (المنسحق) إزاءها ... بهذا تبدو المجتمعات مكررات لشىء واحد ... الأوروبى منسحق أمام الآلة، وإحنا كمان والله العظيم منسحقون أيضا. والحقيقة ليست كهذا ... السد ليس آلة، إنه جراحة جغرافية تحويلية، والآلات التى عملت به مشروطة به كمشروع ... ليست كآلة المترو التى هى شرط للمدينة، وليست المدينة شرط لها. السد ليس عالما آليا ... بل هو قدرة جديدة أضيفت وذهل عنها الناس ... تلك هى القضية التى يجب أن تهتم بها الرواية. الرواية لم تجد هدفا، لم تجد كلمة محددة واضحة لتقولها، اكتفت بالبكاء واللطم والإشارات الذكية واللمحات الجنسية ...

انعكس هذا على البناء ... وأنت بالتصاقك الحميم بالكتاب أشرت باقتدار إلى تكديس من الملاحظات دون أن يرى الواحد إلى أين تتجه السهام. وعليه فأنا أتصور أننا كمجتمع مصرى لم ندرك إلى الآن واقع مصر بعد السد العالى، وأنه سيمر وقت طويل قبل أن يستوعب الضمير العربى البطىء الحركة هذا العمل وعندما يتم ذلك سيعود الناس إلى الأرشيف لمحاولة التصور وإعادة الفهم والكتابة عن هذا العمل ... كل ما يقدم على عجل من مفاهيم لتفسير السد العالى خطأ؟

(1) وضع عبدالناصر فى صف واحد مع كل الطغاة فى تاريخ مصر خطأ ... كل مرحلة تاريخية لها قوانينها الخاصة ... وعبدالناصر لم يبن معبدا ... ولم يحفر قناة لتيسير التجارة ولخدمة طبقة محددة بل أقام سدا لتغيير التكوين الايكولوجى والاقتصادى والنفسى للشعب المصرى.

(2) الكلام عن مجتمع الآلة فى مصر أثناء بناء السد، أو بعد السد، كلام غير صادق وغير محسوس، والآلة فى المجتمع الأوروبى غير مرفوضة لذاتها بل لتجاوز الوسيلة للغاية التى وضعت من أجلها. شيئان كان يجب أن تقولهما الرواية أن السد عمل عظيم، وأنه يتم والشعب المصرى فى حالة من حالات انعدام الوعى. إن أهمية رواية صنع الله إبراهيم فى أنها لم تقل أشياء كثيرة وهامة، وسجلت حالة الخرس التى عاشها الضمير المصرى تحت حكم عبدالناصر. لكن صنع الله لم يعبر عن خرسه بصدق وإخلاص بل أغرقنا فى (تحليلات) سياسية عن الظلم وستالين وعبدالناصر ورعمسيس والفتيات والجنس والمباحث.

المخيف فى الكُتاب العرب أنهم حادوا السمع؛ ويكثرون الجلوس على المقاهى وسماع المقابلات والتضادات والسجع والبديع والجناس الذهنى. وينقصهم دائما اللمحة النافذة إلى العصر. هل هذا نقص صنع الله إبراهيم؟ ... لا ... إنه جيل كامل كان فى عصر عبدالناصر مخبوط على رأسه. وجاء السادات وصفى التركة والورثة لا زالوا ذاهلين ينظرون. ما الذى يدفع ناقدا مثلك لأن يكرس هذا الجهد الخارق لكتاب مثل هذا، أنا لا أعتقد فى أهميته. أرد على هذا بعرض تصورى للنقد فى مجتمعنا العربى. إنه تصحيح علاقة الناس بالكتب. ثمة كتب تنشر وتهمل، أو يتحمس لها أو يساء فهمها. قليل هو الكتاب الذى يفهم ويلاقى اهتماما ما يوازى بالضبط قيمته الحقيقية. هنا يكون دور الكاتب أقصد الناقد ... إنه يحدد قيمة الكتاب بالنسبة للحظة التاريخية التى تعيشها الأمة؛ ويطالب له بما يوازيه من اهتمام. وتصورى أن الناقد تكون وظيفته إما واعية واضحة تماما له، أو هى غريزة عنده بعد قراءة واطلاع واسعين. وأتصور أنك واع بوصفك كناقد أستشفُ هذا من جدول أتصورك وضعته لنفسك لدراسة أعمال متعاقبة مهمة فى حقل الرواية وأنك تحاول أن تصحح وضع المجتمعات العربية بالكتب العربية فى لحظات تاريخية مختلفة.

منهجك فى الحقيقة يجعلك تلتصق بالعمل التصاقا شديدا فتغفل أحيانا المجتمع الذى نشأ فيه أو الذى يقرأه والأسئلة التى يطرحها المجتمع على هذا العمل ... لكن إخلاصك الشديد فى الالتصاق بالعمل يجعلك تصل إلى نتائج حاسمة تدارى النقص الذى أشرت إليه ... بل أقول تتلاشاه ... وعليه أحس أن كل الذى آخذه أنا على رواية صنع الله إبراهيم قد أشرت إليه أنت بشكل أو بآخر ... بل إن مقالتك تجعل أى نقد على هذه الرواية بعد ذلك عبثا. ولكنك بشكل غير منطقى تنيط بها أهمية تاريخية ليست لها ... أهميتها فى الحقيقة أنها أثبتت حالة الفصام بين (الفعل) فى المجتمع المصرى و(وجدان) هذا المجتمع فى فترة عبدالناصر. هذا الفصام هو الذى يوجد الثرثرة والتكرار والشطحات التاريخية، والترابطات غير المنطقية، والاستعارة من مجتمع الآلة الأوروبى، ونقل ذلك إلى مجتمع مصرى ريفى فقير للآلة.

الرسالة طالت وأحس أنى لم أقل شيئا ... لم أقل ما أردت أن أقوله ... أو قلت ما لم أرد أن أقوله ... على ذلك أتوقف ... وأثبت للحقيقة والتاريخ أنه مقال رائع جيد التركيب منصف، لغته رصينة ساطعة ... إنه ينبئ عن ناقد كبير.

تحياتى لك ولأياد ,استرد ,أرجو لكم السعادة
تحياتى لبرهان وتمنياتى له بالصحة.

أشكرك على الاهتمام بنشر(سطور من دفتر الأحوال) ... أنا أكتب الآن (سطور من دفتر القبر) ثم أكتب (سطور من بكائية قديمة) وأريد أن أنشر الثلاث فى كتاب ... فقد صدروا عن حالة نفسية واحده، وبينهم قرابة فى اللغة والشكل والبناء والمحتوى تقريبا. وأريد أن أنتهى من كتابة مقدمة لمجموعة قصصى القصيرة لنشرها ولقد بدأت فى رواية جديدة (دعنى فقد ملك الغرام أعنتى) ولكنها سوف تستغرق وقتا حتى تتم.

فى الختام أشكرك على رسائلك ... إنها تتيح لى أن أكتب ... أن أعيش.
عبدالحكيم

الرسالة الخامسة:
فى رسالة إلى الروائى محمود الوردانى:
الحلم بالكتابة أجمل من الكتابة ذاتها!

(الريفى والخواجاية) ثنائية انشغل بها قاسم فى أعماله حتى قبل سفره إلى ألمانيا. وقد جاءت تسميته لها ـ كما يحكى فى رسالته لمحمود الوردانى: (كان فى بلدنا عمدة والعمدة له ابن، والابن تزوج من عيلة سالم من الدقهلية، وانجب صبيانا وبنات عماليق بيض شقر لم يكونوا يأتون البلد إلا فى عربات، ويأتون نادراً ولا يخرجون من بيتهم ذى الحديقة الشاسعة إلا لماماً. لكن مرة جاءت (توتو) اسمها هكذا، جاءت بالقطار لأول مرة فى حياتها. نزلت فى محطة سابقة، بلد اسمها القرشية ... المهم نزلت توتو تسأل عن البندرة وتاهت فى الحقول، وخرجت من وسط أعواد الذرة وعلى جماعة من العيال، وهى طويلة شقراء على رأسها أجمة من الشعر الذهبى ... طار العيال ذعرا يقولون: عفريتة !!!) الثنائية هنا هى تعبير عن ( الأنا والآخر) والتى احتلت فى أعماله الروائية مساحة كبيرة، منذ (أيام الإنسان السبعة) ... كان الآخر فيها هو صاحب الثقافة الثابتة المتكلسة، وهو الأمر الذى يلاحظه الناقد على عفيفى فى دراسته (الرواى والمروى له فى روايات عبد الحكيم قاسم) حيث: "يبدأ عبد العزيز ـ بطل الرواية ـ يقرأ كتبا أخرى غير التى يقرأها أهله، و عندما يمتلك عبد العزيز كتبه الخاصة التى تختلف عن كتب الدراويش، يبدأ فى الانفصال عنهم مكانيا وعقليا فيستقل بغرفة له على السطوح ويبدأ وعيه فى التغيير، بينما يظل فكر الجماعة على حاله، ملتصقا بعاداتها التى تتكرر حتى النهاية".

المحاولة تكررت فيما بعد فى (محاولة للخروج) كان الآخر الذى يقصده قاسم هو الغرب هذه المرة ... وإّذا كان أبطال طه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقى والطيب صالح قد ذهبوا بأنفسهم إلى هناك وعادوا ليحكوا عن تجربتهم، فإن قاسم يعكس الوضع، فتأتى إلزبث الفتاة السويسرية إلى الشرق نفسه، ويبدأ التصادم بينها وبين عالم كريم الشرقى منذ اللحظة الأولى. الراوى كما يلاحظ عفيفى مشغول طوال الوقت بما يعتمل داخله وكيف يراه الآخر، إلى الدرجة التى تجعله ينطق بما يظن أن الآخر الأجنبى يريد النطق به "نحن فقراء... ومتخلفون" فى حين لم يطلب إليه أن يقيم المصريين، ولكن شعوره بوجود نموذج متحضر من وجهه نظره، وإلى أن هذا النموذج يرى الأشياء عارية الآن، ربما دفعه إلى هذا الاعتراف الذى تشى به المرئيات. لكن قاسم فى رسائله يصف الرواية بأنها غير منتحلة وأنها تتناول أزمته الشخصية: "إن ثنائية الريفى والخواجاية شديدة التعقيد، لذلك فإن (محاولة للخروج) تضم قطبا صامتا هو البنت، وقطبا متحركا هو الولد الريفى. لذلك فهى قصته هو وليس القطب الآخر سوى المثير والمحرك ... قاسم هنا ينفى أسطورة التناقض المطلق بين الشرق والغرب (اللذين لا يلتقيان) وينفى كذلك (المصالحة الرومانسية) بينهما، إذا ينجح الحب فى التأليف بين العالمين المتناقضين!

عندما يسافر قاسم إلى برلين يصبح فى مواجهة الغرب ذاته! ينبهر بالغرب :(عشت فى برلين الحياة الأوروبية نظيفة، لامعة أنيقة، مرتبة، فعالة، متفوقة، متدفقة، متقدمة) ... ولكن بعد عودته يعلن فى حوار معه : (إننى غير مستعد للتصالح مع النموذج الأوروبى على أى مستوى من المستويات)!! المحبة الخالصة والكراهية المطلقة هنا هما وجهان لعملة واحده، كليهما انسحاق قد يحجب الحقيقة! عاد قاسم من الغرب بعد أن قضى أثنى عشر عاما فى برلين، مطالبا باحترام مجمع اللغة العربية؛ وإتباع قراراته حتى وإن بدت غريبة وغير معتادة. وكان ذلك ردا على من هاجموه لأنه استخدم كلمة (مرنأة) بدلا من (تلفزيون) بدا الأمر لكثيرين وكأن هجوم قاسم جزء من دفاع عن هوية مهتزة!!!

هذه رسالة للروائى محمود الوردانى الذى ولد فى إبريل 1950، من أهم أعماله الروائية:(نوبة رجوع)، (رائحة البرتقال)، (طعم الحريق)، (الروض العاطر)، (آوان القطاف)، (موسيقي المول). ومن مجموعاته القصصية: (السير فى الحديقة ليلا)، ( النجوم العالية)، و(فى الظل والشمس). لم تبدأ علاقة عبد الحكيم قاسم مع الوردانى إلا بعد عودته من ألمانيا، وكان بينهما ود بدأ من إعجاب قاسم بقصة قصيرة نشرها الوردانى في مجلة اليسار العربى، وكتب قاسم مقلا عن القصة وأرسله لنفس المجلة ولكنهم لم ينشروه، كانت العلاقة بينهما قائمة على مراسلات شفهية، ثم تطورت إلى خطابات متبادلة. ربما يكون عدد هذه الخطابات خمس (عثر الوردانى على أربع منهم). وبعد عودة قاسم من ألمانيا بدأت العلاقة الشخصية بينهم: "بعد عودته التقينا لنستأنف علاقة شعرنا معا أنها بدأت منذ سنين. تحدثنا فى كل شئ وتبادلنا الزيارات، ورأيت ابنيه الجميلين وزوجته الراحلة التى ما أزال أحمل لها حتى الآن مشاعر احترام ومحبة فهي ذات معدن نادر". رسائل قاسم للوردانى من أواخر ما كتب قاسم قبل عودته إلى القاهرة، وهى العودة التي وزع فيها كثير من عدواته على كثير من أبناء جيله وأصدقاؤه بما فيهم الوردانى نفسه: "كثيرا ما تشاجرنا ـ عبد الحكيم وأنا ـ وما نلبث أن نتصالح عندما نتقابل مرة أخرى، بل إنه داهم ندوة في الأتيلية لمناقشة مجموعة قصصية لى وراح يصيح مهاجما فيما يشبه الغارة العسكرية، لكننا كنا نعود للتصالح. ويصحب كل منا الآخر لأى مكان نجلس معا لنستأنف شجاراتنا!!

الرسالة تعكس بوضوح حالة عبد الحكيم قاسم فى الغرب:

برلين الغربية صباح الاثنين 20/12/1982
أخى محمود الوردانى

أخرجتنى رسالتك من حالة (العزم على أن أكتب لك) ودفعتنى لأن ( أجلس وأكتب). ولقد كانت الحالة الاولى نقمة ونعمة. أعزل نفسى عن صخب الدنيا حولى فى البيت أو فى العمل أو فى الحافلة على الطريق وأشرد أنشئ لك الخطابات. تنسطر على لوحة خيالى فى لمحة كما تنسطر الكتابة على لوحة المرناة، وبهجس خواطرى يتغير البدء والوسط والختام. الحلم بالكتابة أجمل من الكتابة ذاتها. إن قوانا إذن لا تكون معطلة بالخوف ولا باستلزام الإجازة. إننا إذن نكون متحررين من القلم والصفحة والجمهور الذى يقرا والكتاب الذى قرأناه. ونحن إذن نكون قادرين على اصطياد الأنغام الطائرة بأجنحة شفيفة، خفاف فى سماوات لانهائية، الأنغام العائمة كأسماك ذهبية فى محيطات لانهائية، الحلم بالكتابة هو أنا بكل بربريتى، بكل لامحدوديتى واقتدارى. العذاب أننى أعيش أسير بقعة من الضوء مسلطة على جزء من ضميرى، أتفحصها بكل ما أملك من دربة واصفها وأكتب عنها وأعيش عليها وأتآمر على حقيقتى التى هى المتاهة المظلمة الهائلة خارج بقعة الضوء هذه المحدودة. أتآمر بالصمت والتجويد والحنكة. لا تسألنى عن الذى كتبت، وأعرف أنها كتابة المقعد للمقعدين. لكن الحلم لا يبارح خيالى ولعلى يوما أملك حريتى.

ما لهذا أكتب، إنما لكى أرد على رسالتك. وإذ تحكى لى أنك رأيت ذراعى فى الجبس أقول لك إنه لم يكن جبسا، إنما كان ضمادة والفرق كبير فى نظرى، ومن ناحية اللغة أيضا. فالكسر شئ جليل ومهيب ويؤتى له بالـ(مجبراتى) وهذه الكلمة كانت لها عندى وأنا طفل رنين عميق. أما الجرح فهو شئ مفضوح دام فيه تهتك وربما تقيح و(شمسان) وغير ذلك، ويؤتى له بالـ(مزين). والذى فى ذراعى كان جرحا. إذ أننى ثرت فدفعت بقبضتى الاثنتين من زجاج مصراعى باب البلكونة فتحطم وطرش الدم فى كل اتجاه. أما عن روايتى "محاولة للخروج" فأنا أحبها ولازلت أقراها أحيانا وأفرح بها جدا. وزوجتى لما قرأت خطابك قالت لى: أرأيت.. محمود الوردانى لم تعجبه الرواية أيضا ... قلت لها: طظ فيك أنت ومحمود الوردانى ... نعم يا سيدى ... لماذا لم تعجبك الرواية..؟

لان فيها إفصاح اكثر مما يجب!! يدهشنى أنك تقول ذلك وأنت كاتب فنان.. فالكاتب فى الحقيقة صناعته الإفصاح ... بالذات ذلك الإفصاح الذى هو أكثر مما يجب ... والعلاقات العاطفية الأكثر مما يجب. إن المنطقة الفنية هى فى الحقيقة واقعة مباشرة بعد ما يجب وليس قبله. والريفى والخواجايه ستظل تثيرنى إلى أن أموت ... والحقيقة أنا لازم أسألك:
- أنت منين يا جدع أنت ؟
أما أنا فمن ناحية البندرة مركز السنطة غربية. وكان فى بلدنا عمدة والعمدة له ابن والابن تزوج من عيلة سالم من الدقهلية وانجب صبيانا وبنات عماليق بيض شقر لم يكونوا يأتون البلد إلا فى عربات، ويأتون نادراً ولا يخرجون من بيتهم ذى الحديقة الشاسعة إلا لماماً. لكن مرة جاءت (توتو) اسمها هكذا، جاءت بالقطار لأول مرة فى حياتها. نزلت فى محطة سابقة. بلد اسمها القرشية حيث ولد ومات الشاعر الوطنى أحمد الكاشف ... المهم نزلت توتو تسأل عن البندرة وتاهت فى الحقول وخرجت من وسط أعواد الذرة، وعلى جماعة من العيال، وهى طويلة شقراء على رأسها أجمة من الشعر الذهبى ... طار العيال ذعرا يقولون: عفريتة!

وأحكى لك حكاية لكن لا تقولها لأحد أبداً. كنت فى باريس وقابلت محمود (...) إننى احب هذا الرجل بكل عيوبه ... هل تستطيع يا محمود أن تحب شخصا وأنت تعرف عيوبه؟ إذا فعلت فانك تكون قد حَصلت من الدنيا فائدة مجربة. أقول لك بعد أن تكلمنا أنا ومحمود (...) فى شئون الدنيا؛ ورسمنا خطة النضال للعشر سنوات القادمة ... بعد ذلك بدأنا نحكى عن الحريم. قلت له: إن من أجمل تجاربى ما كان مع امرأة سوداء ... قال محمود :لا. إننى أبدا لا تسرنى امرأة سوداء ... إننى محمل بالعقد ... والانتصار عندى هو امرأة شقراء هى المرأة فى نظرى.

محمود ... لابد أن لك اعتراضا آخر على "محاولة للخروج"... كم أنا شغوف لأن اسمعه ... وحتى ذلك الحين أقول لك.. إنها منطقة فى نفسى بجانب منطقة "أيام الإنسان السبعة" ... فهى رواية غير منتحلة. بل هى أنا. أما عن رواية المهدى فتجد نسخا منها عند صبرى حافظ وشوقى خميس وعبد المحسن بدر وإدوار الخراط وحسنى عبد الفضيل.. عند هؤلاء تجد: (1- قدر الغرف 2- الأخت لأب 3- طرف من خبر الآخرة 4- سطور من دفتر الأحوال) ذلك حمل بعير ستقرأ حتى تقرف. لكنك لو قرأت "خبرا من طرف. كلام فارغ. اسمها: طرف من خبر الآخرة ... لو قرأت هذه القصة وكتبت لى عنها فان ذلك سيسعدنى جدا ... كل من قرأها من الأصدقاء قال عنها كلاما مائعا ... وأنا كتبتها بكل نبضة فى عروقى ... وكنت أرقص وحدى فى الليل حتى أقع على الأرض منهوكا.

أتصل بى جميل عطية اليوم تليفونيا ... وسألته عن الكتاب الذى ارسلته لى. قال آه! إنه تذكر .. وسيرسل لى الكتاب فورا .. سأقرا القصص وسأكتب عنها. فإننى كنت قد قرأت لك قصة فى اليسار العربى، وأرسلت لهم مقالة كاملة لتقييم القصة كنت أعرف أنها أول مقالة تكتب عن قصة قصيرة ... وذلك من غباء القيم النقدية عندنا ... عن القصص القصيرة ما يمكن أن تكتب عنه الكتب ... ومن الروايات ومجاميع القصص ما لا ينبغى الالتفات اليه ... لكننا لا نزال نزن بالأقة ... والله هو الغفور. أضاع أهل اليسار مقالتى. وبقى إعجابى الذى بلا حدود. وحينما يصل الكتاب. إننى محتاج لأن أكتب عنك ... إننى أراك كما لم يرك أحد وكما لا يستطيع أحد غيرى أن يراك ... والله أعلم. لا يعلم الغيب غيره.

حينما قرأت قصتك أدركت أننى أحب الكتابة أكثر من أى شئ فى الدنيا. إنها قضيتى. هذه الكلمة تقال فى كل مناسبة حتى تبتذل. لكننى أمسح عنها تراب الابتذال وأقولها لك: هى قضيتى ... ومن خلال ذلك أحبك بكل قوة واعرف موهبتك، وأعرف الذى يعوقك، وأعرف الذى يكبلك والذى يثقلك، ولا أستطيع أن أفعل شيئا سوى أن أقول لك: اعلم أننى صديقك بلا حدود وبلا تحرج ... ثق من هذا دائما ... واعلم أنه لا يتغير أبداً ... اذا أجداك هذا فإننى سعيد. وان لم يجدك فهو لن يضرك.

أما عن مجلة إبداع مرحبا بها ... الاسم لا يسعدنى كثيرا ... فالإبداع كلمة مسحت بها مقاهى مصر. لكن أنا مش زعلان. بل فرحان. ومستعد للكتابة. عندك من القصص ما ذكرت لك. خذها من الناس وانشر فيها ما تراه (صالحا للنشر) غير ذلك مستعد لكتابة مقالات ورسائل من برلين، وأخبار من كل أوروبا. المهم ترسلوا لى المجلة لأرى شكلها وموادها وأوائم نفسى معها، واكتب لها ما يلائمها. الآن أقول لك إنني أنوى أن ينتهى خطابى عندما تنتهى هذه الصفحة.. مع أننى كنت أريد أن أحدثك كثيرا عن حياتى هنا. عن الغربة المريرة ... وعن المسرح الألمانى والأوبرا والفيلهارمونى. عن ابنى أمير وبنتى إيزيس. لكننى لا أستطيع الآن بدء أى حديث وأنا أحس أننى كلما كتبت السطر نقصت الصفحة سطرا. لكننى فرحت جدا برسالتك التى قلت إنها مفككة. إنها أسعدتنى جدا. وعلى عكس ما تتمنى أنت أرجو أنا أن تكون رسائلك القادمة لى أكثر تفككا.

إنما أنا سأحكى لك فى السطور الباقية حكاية صغيرة. كنت كتبتها لك فى خطاباتى الكثيرة الخيالية. فأصل الحكاية أننى أحببت بنتا وأنا تلميذ فى الثانوى، وكان أخى يحب أختها. وتقابلنا نحن الأربعة خارج القرية وكان الليل مقمرا ... وإذا كان الليل مقمرا فان العالم يكون عالما آخر ... تكون البيوت من مادة أخرى حلمية ... وكذلك أوراق الأشجار وتراب الأرض وعيدان النباتات ... ويكون صوت العالم آخر ... وتكون ألوان الوجوه أخرى ولمعة العيون. وحاصل كل ذلك ما يسمى جنون القمر ... ليلتها تمشينا ... وكانت ثمة مكنة طحين قديمة ... وأنا ركنت البنت على الجدار واحتضنتها. ضغطها على الجدار وهى متوسدة كفى. تمزق ظهر يدى تماما من خشونة حائط المبنى. مشينا معا ويداى ملطختان بالدم ... عندما كنت فى بلدنا هذا الصيف مررت بالمكان ظهرا ... لا ضوء حلمى ... الشمس فاضحة والأشياء متربة مكسوفة تحت هذه الكمية من الضوء ... والواقعة تقع على بعد ثلاثين سنة إلى الوراء ... والبنت الآن سيدة غبية لها ست عيال وزوج بليد عصبى، ويداى سليمتان لا تقطران دما ... أيهما الحلم ... وأيهما الحقيقة؟

أتعرف خَطرتَ على بالى ساعتها ... وأتعرف ... كان ثمة سؤال محدد أريد أن أوجهه إليك ... أنت بالذات ... ذلك عن التحول ... إنه كان بالقطع كامنا فى اللحظة عند حدوثها. لا أدرى كيف ... ولكننى أتصور أن الكتابة من غير ملاحظة سحر التحول عنه تصبح نوعا من الخداع ... ولكنى كيف تثبته دون أن تقع فى أخلاقية دينية تعطل الرؤية وتحشو الكثير من الأحكام المسبقة الجاهزة والمواعظ الحسنة.. مهما يكن من شئ فإن رسم البنت على الجدار لا يزال وأنا قبالتها أسال وتبقى أسئلتى بلا إجابة ... لك تحيتى.

الرسالة السادسة:
فى رسالة لمحمد روميش:
المنفى ضار والرفاق شتى!

يصف عبد الحكيم قاسم المراسلات التى كانت تتم بينه وبين بعض أصدقائه بأنها (جديرة بأن تسجل وأن يحفظها تاريخنا) وهذا ما يؤكد عليه فى رسالة لصديقه محمد روميش، حتى أنه طلب من روميش أن يعيد له رسالة كان قد أرسلها له يوما أو ينسخ له صورة منها! فى رسالة قاسم لروميش يناقش ليس فقط أحد التناقضات الهامة التى حركت جيل الستينيات للكتابة أو للتوقف عنها، وهى العلاقة بجمال عبد الناصر الذى يوصف دائما بأنه الدكتاتور العادل، أو الأب الذى ينبغى الثورة عليه ... جيل الستينيات وقاسم وروميش كلاهما من أبرز رموزه. عانيا من تلك الإشكالية ولكن الأول استمر فى الكتابة وتوقف الثانى ... أسباب توقف روميش يناقشها قاسم فى رسالته وربما هى نفس الأسباب التى أدت بكثير من المواهب الكبرى فى الجيل نفسه أن تتوقف. محمد روميش قاص مصرى أصدر مجموعته القصصية الأولى (الليل الرحم) ... ثم (الشمس فى برج المحاق)

برلين الغربية 25/3/81
أخى محمد بن عم الحاج صادق

أرجأت الرد على رسالتك طويلا منتظراً رسالة أسامة الغزولى لكنها لم تصل، فقررت أن أجلس لأكتب يأسا من وصول رسالة أسامة. والحق أن الرد على رسالتك يعيش فى داخلى فور انتهائى من قراءتها.تصطدم الكلمات وتتضارب وتتبادل مواقعها. وإذا ما جاء الليل نام العيال فإننى أتيح لنفسى أن أحيا.. المنفى ضار والرفاق شتى. أتمشى فى ردهة صغيرة مستطيلة بين الغرف.. أقفز، أرقص، أكلم نفسى، أحدث أصحابى أشكو لهم و أعظهم و أحذرهم.. أصرخ فى الصحراء حتى ترخى قبضتها الحديدية الموحشة عن قلبى. وفى الآونة الأخيرة تشغلنى رسالتك وتسيطر على جزء من الأماسى الكئيبة كبير. إننى يا روميش أحب كتابتك إلى البكاء بدموع دافئة تغسل الجروح. ذلك بأنك نجوت بقلبك أن يكون فريسة للنغمات الزائفة والمشاعر المضللة وذلك أمر لا يتاح إلا لقليلين تقول فى خطابك أنه "فى مشهد آخر من الفيلم.. حين نهق حمار.. خفق القلب الصغير.. وأحس وسط المدينة المنصورة بلحظة رفقة وأمان" ويقرأ القارئون هذه الكلمة.. وليتندر بها الكثيرون منهم ويضحكون عليها.. وأنا لا .. القلب كبير والهم أكبر. وذلك لأن مدننا تكوينات خلاسية. تراكمات شائهة غريبة بلا شخصية ولا تاريخ ولا فكر ولا اتجاه. إن منظور هذا التراكم شائه متداع قذر.والصورة الصوتية لهذا التكوين تثقل على القلب والعقل وتعجزهما عن الدخول فى حوار معها. ذلك بأنها لا تقول إنما تهرف وتخلط.. النجاة إذن هى الفرار منها. ويكون نهيق الحمار دلالة على العالم المقابل.. ليس فقط نهيق الحمار، بل آذان المؤذن العجوز المنهدم الصوت فى فجر المدينة النائمة.. نامت ضجتها وستر الظلام قبحها، وصمتت قلوب ناسها تنصت لصوت آخر يمت إلى تاريخنا وشخصيتنا وقلوبنا. أليس هذا بالضبط هو منطلق الجماعات الدينية التى تنمو بعد ذلك وتتطور إلى الفاشية وتحطم كل شئ. حاربهم بكل ما تستطيع لكنك لن تستطيع أن تنتزع من قلوب الناس كرههم لخلاسية حياتنا فى منظورها وصوتها.. نحن فى هروب مستمر من قدر قبيح. والدين تركيبة صوتية وبصرية متناسقة ومتينة وجذابة لكل قلب. إنها تجمع لهم الناس مستعدين للانصات ... عندئذ يقولون لهم ما يشاءون. بعد ثلاثين عاما لازلت تذكر قصة نهيق الحمار لأن التناقض عندك لم يحل، وهو لم يحل عند أحد منا.. لكنك تحلم ... والأسبوع ليس وقتا يعاش أو وعاء يتسع للأعمال و الإنجاز. بل هو انتظار أليم طويل ليوم يتم فيه لأم التمزق، ورأب الصدع، والعودة إلى حيث الصورة لا تزال تحمل الصفاء القديم. والمسالة عجيبة فيها تجاوز الأم بلا حرج والبحث عن الأب بشوق. إننى أتشكك فى هذا الشوق بمعنى إننى لا أجد فيه آثارا كبيرة لوجد عاطفى بل هو بحث عقلى عن دعامة لعالم ينبغى أن يوجد وأن يبقى وأن ينمو فى وجه الزيف و الخلاسية وأن رمز العباءة الإمبريال رمز عبقرى. وفى كن العباءة، وحجر الأب يأتى صوته بالغناء الريف.

أهلا وسهلا باللى لقاهم عيد وزيادة ... وبعدهم يوم كأنه عام وزيادة
من منا ليس فى حياته عباءة إمبريال، ولقاء حار وأغنية ريفية ... من باب الغيرة سأقول لك أغنيتى أصل الحلاوة عسل ومخّلطة بعجين ... وأصل العسل مالقصب وأصل القصب مالطين كان علينا أن نرحل إلى مدينة خلاسية ... وأن نتعلم فى مدرسة خلاسية ... وكان من النعمة علينا أن كان لنا مآب ... عالم لازال بعد لم يتفسخ ... عالم عماده أب كبير ... الحاج صادق ... الحاج كريم. لكن كيف كان المدخل إلى جمال عبد الناصر؟ وقبله سعد زغلول ... وقبله عرابى ... وقبله الآباء إلى أول الزمن؟ سيقول العارفون إنه المجتمع الزراعى والنهر الواحد والمناخ الحار ومن ثم يكون الدين توحيدا ويكون الزعيم فى كل مرة موشكا أن يكون رسولا. وأنا أخاف العارفين، وعليه أصدقهم. لكننى استميحهم فى أن أقول كلمة صغيرة مؤداها أن ثمة شيئا ما، روحا ما أعلى من الأرض والنهر والجغرافيا والمناخ ربما هى خالصة من كل أولئك. يغذوها كل ما كتبناه وكل ما قرأناه، تغذوها وما تزال كل الكتب التى أغرقت فى نهر دجلة. تلك الروح أُحبست منذ قفل باب الاجتهاد وأنها تعجز أجنحتها عن التحليق ... ومنذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر إلى الآن تلقى هجوما ساحقا من الثقافة الغربية ... لن أتكلم عنه كثيرا ... لكننى فقط أرصده فى المدينة التى رحلنا إليها أنا وأنت والمدارس التى تعلمنا فيها. إن قريتنا هى تجربة الأرق ومعاناة التزييف وكراهيته ... عندئذ يكون الفرار إلى عالمنا القديم الذى يكون ملاكه الأب، ويكون ولعنا بالأب ولعاً عقليا، يلغى حتى إمكانيتنا العاطفية. أنت تنحى الأم ببساطة، ولا تجد ذلك غريبا بعد كل هذا العمر ويكون دورها أن تشير لك على مكان وجود الأب.

فأنا أتذكر أن أمى لم تضمنى إلى صدرها أبدا ... وأن هذه الحقيقة لا تزال إلى الآن تُلون ـ ولا أقول تشكل ـ علاقتى بالمرأة وعلاقتى بالحياة. والعلاقة العقلية سمتها المحاورة. ومن يقرأ "الليل الرحم" يجدها أغنية عبقرية فى الحوار مع كيان الأب الهائل، القصة تفرض معلق فى جوانبه هيئة صورة للأب. ولنحاول الآن إحصاءها: الأب ... العمة وهى جانب آخر من الأب رجل الليل الذى قتل، الباشا، أب تلك العائلة من الفرع تلك صور مختلفة للأب. وثمة صور مختلفة للابن ... عبد الشاطر. والولد الآخر وأبن الباشا على قدر ما أذكرالآن. فما مؤدى هذا الحوار فى ظروفنا الروحية و الثقافية العامة الآن. إن فكرة الأب كإطار لمجتمعنا ضد التيارات العاصفة فكرة لازمة. وبهذا الشكل أفهم الكلمة التى جاءت فى خطابك "هل لك عبد الحكيم أن تقنعه بأن بنات الدنيا جميعا فداء موطئ قدمه..!" إننى غير موافق على الصياغة وإن كنت لم أفهم العبارة بما يوحى ظاهرها بل أدركت أن الوعى بقضية الأب هو قضية عقلية، أعلى من أى قضية أخرى فى ظروفنا الحالية ومجتمعنا الحالى.

لكن الجانب الآخر من القضية هو بشاعة وقع الأب على مجتمعنا. إن وطأه ثقيل ثقلا مدمرا؛ يكاد يلغى كل ما فينا من طموح وقدرة على الحب. انظر العلاقة بالأم ... وعليه يرحل محمد الصادق روميش، ويتزوج من المدينة. إن هذا ليس ثورة ضد الأب. إنها محاولة لتحرير جزء من وجدان الواحد من أبيه. وأنت لازلت تقف جنب البنت إلى الآن ضد الأب. (كانت تمد يدها للسلام. لكن أنَى يا عبد الحكيم للعصفورة أن تواجه أسد الغابة). أنت تجهش بالبكاء، ليس ضعفا لكن محاولة حارة مبلولة لدفع الكفر عن القلب المؤمن ... الذى يريد أن يتحرر. تلك هى قضيتنا إذن أننا نؤمن بالأب. ونرى أن ذلك هو ضمان أصالتنا ضد أى تيارات تعصف بنا. ونحن ثائرون على نظرية الأب لأنها معوقة لنمائنا ... وعلى الفور أجدنى فى منطقة السؤال عن ماهية الكتابة. والجواب يشحن قلبى يكاد يسابق الكلمات السائلة من قلمى ... إن الكتابة بالنسبة لنا أبناء الثقافة العربية التى تكافح من أجل مكانها على الأرض ... الكتابة بالنسبة لنا هو جهد من لا يكل ليل نهار ... هم لا يرحم للصراع لتوضيح قضايانا ... لأنفسنا أولا لتعميق فهمنا لها ... ومن مجرى هذه العملية سيجد القارئ الكريم ساعة وقت يزجيها مع كتاب ليتفرج على كدحنا المؤلم لتعميق إدراكنا لعالمنا ... فيأخذ فكرة.

ولذلك فإنه أكثر ما يؤلمنى هو ما يتردد أحيانا من باب التظرف من شعار مؤداه "أن يقول الواحد كلمته ويمضى." عزائى أن من يقولون هذا لا يؤمنون به. وأنهم يكتبون ويكتبون ويثرون حياتنا الروحية والفكرية. لكننى أجد الشعار بالرغم من ذلك خطير. والخطورة فيه صياغته التى تحمل رائحة تراثية. والواقع أنه من الناحية الفكرية مزيف على التراث. فالمؤمن غير مطلوب منه أن يصلى ظهرا واحداً (ويمضى.) أو يصوم شهرا واحداً (وخلاص) بل أن الأمر أمر عبادة ... أو مجاهدة، وعليه فشعارنا ليس أن نقول كلمة ونمضى. بل (أن نجاهد لتعميق وعينا بعالمنا) وعليه فإننى لم يكفنى أنك كتبت (الشمس فى برج المحاق). إننى أطالبك بأن تكتب وتكتب، وتقول وتقول، حتى ما يبقى فى المحبرة مداد. تقول (بالنسبة للكتابة.. لعلى لست كاتبا محترفا ولعلى كنت ـ وأطمع أن أظل صاحب هم عام سمه ـ تسامحا ـ هم إنسانى). والقضية ما هو الاحتراف؟ هل هو العيش من الكتابة. إننى أكتب منذ عشرين عاما وانشر. وجميع ما كسبته من كتابتى لا يطعم أولادى شهرا.. وأنا هنا أعيش من تنظيف المراحيض. فهل أنا منظف مراحيض محترف. وكاتب هاو أو صاحب هم إنسانى؟ إننى كاتب محترف، رغم أننى لا أعيش من كتابتى. تماما مثل ناس يعيشون من الكتابة وليسوا كتابا محترفين، بل ليس لهم بعالم الكتابة صلة أياً كانت.

أنت يا روميش كاتب محترف. أعرف هذا إذ أقرأ لك. كما أعرف المعلم من صنع يديه، وكلمتك التى ذكرتها حالا تعكس وعيا حرفيا ناضجا. مؤداه أنك تنأى بالحرفة عن أن تكون صورة محزنة للكاتب فى عالمنا العربى أحيانا. انظر لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم. كانا كاتبين لامعين فى عصر جمال عبد الناصر. وحصل انقلاب على كل شئ من العصر الذى مضى. وهما ما زال نجمين جالسين على قمة (الأهرام). هذان ليسا كاتبين محترفين. إنهما مرتبطان بمؤسسة فكرية سائدة فى المجتمع مهما تغيرت مبادئه. هذه المؤسسة هى الإيمان بضرورة وجود النظام، بصرف النظر عن محتوى هذا النظام، على عكس صلاح عيسى أو إبراهيم فتحى الذى كان فى عهد عبد الناصر مطاردا وهو الآن مطاردا أيضاً. إنه كاتب محترف ليس بمعنى أنه يعيش من كتابته، بل بمعنى أنه يعيش لها، وينأى بها ـ عن أن تكون أداة لفكرة ما، بل هى وسيلة لصنع الفكرة. بهذا تعود، بقلمك تعود لتجاهد مع المجاهدين من أجل تعميق وعينا بعالمنا ... من أجل أن تكون الكتابة فى ثقافتنا العربية حرة من الارتباط بالمؤسسات الفكرية المستقرة وأداه لها. بل لكى تكون أداة لخلق الفكرة المتناسقة المتناغمة فى مقابل مجتمع تعصف به القيادات، وتؤدى به إلى الخلاسية، وفقدان اللون والطعم والشخصية. وإننى الآن لأحس الفرحة التى سأقرأ بها عملك القادم. لدى خوف صغير. أنك ياروميش إنسان ذو كبرياء شديد ... وأنك لو كتبت بعد انقطاع طويل، ربما لن يكون الأمر يسيرا. ذلك بأننا لسنا عباقرة. بل صنايعية لنا أصابع من ذهب. وبطول الانقطاع تكون العودة أحيانا صعبة. لو حدث هذا ... فلا يحزنك ... بل يملؤك ثقة ... سيكون العمل الذى يليه عملا عملاقا. انظر إلى يديك واعرف ما فيهما من قوة ... إنها قادمة من ينابيع العقل والقلب لتتدفق وتثرى.

أخى... تحية لك.. هذا جواب متواضع على رسالتك العظيمة التى فرحت بها فرحا لا يقدر. وإننى لأناشدك أن تكتب لى دائما وسأرد عليك فورا ... إن حدثا كهذا نحتاجه كلانا فلا ندع الكسل يردم الآبار العظيمة التى تنشر الخصب فى أيامنا.
*سلامى لأسامة و أسفى لرسالته التى لم تصل ... حبى لكما ... وفى انتظار.

فصول من كتاب (رسائل نوبة الحراسة: رسائل عبد الحكيم قاسم) من إعداد محمد شعير. يصدر الكتاب خلال أيام عن دار ميريت ... متضمنا ما يقرب من 40 رسالة من رسائل الروائي المصرى عبد الحكيم قاسم.