(1)
حين ساقني أبي للسفر إلى الزقازيق لأول مرة، قدم لي الكاكولة، وقال لي: البسها، والعمامة، وقال لي: ضعها على رأسك. ارتديت الكاكولة طائعًا، ووضعت العمامة على رأسي طائعًا، وعانقتني أمي وقبلتني، وأوصتني بنفسي، والدموع تترقرق في عينيها.
سرت بجانب أبي طائعًا، تتبعنا زوجة جدي، حاملة فوق رأسها قفة بها زادي وزوادي، تعلوها ثيابي، وضعت فوقها فوطة، وقطعة قماش حيكت بدائر القفة بالدوبارة والمسلة.
لم نكد نتوسط الشارع الكبير في طريقنا إلى محطة الدلتا، حتى فوجئت بعيال الحي، وكلهم من أصحابي، يسيرون وراءنا، وهم يرددون: شيل العمة شيل. تحت العمة فيل. حط العمة حط. تحت العمة قط. لم يزجرهم أبي. فقط التفت إليّ، وقال لي:
- لا تسأل عنهم.
والتفتّ إلى زوجة جدي، رأيتها تبتسم، وهي تنظر إليّ مرة، وإلى العيال مرة.
كانت عمامتي على رأسي محبوكة مسبوكة، فقد كان أبي خبيرًا بتعميم العمامة، وكثيرًا ما كنت أراقبه هو ودبابيسه كل يوم جمعة، وهو يلف الشال حول عمامته. وكانت الكاكولة واسعة عليّ، عريضة الأكمام، لا ينقصها في كل كم سوى جيب داخلي، لأخفي فيه ما أشاء. وكان الحذاء في قدمي جديدًا أسود اللون مثل كاكولتي، أنا الذي أحب السير حافيًا، وأفضل لبس الصندل. وغاظني ضيقه عليّ. كنت حتى ذلك الحين قصير القامة، مجرد صبي تجاوز الرابعة عشرة من عمره ببضعة شهور.
حين بلغنا المحطة كان القطار واقفًا كأنه ينتظرنا. ووضعت زوجة جدي القفة تحت قدمي أبي بعربة القطار، ورأيت زوجة جدي تمد يدها لتسلم عليّ، ويدها الأخرى لتأخذني في حضنها، وهي تهمس لي من وراء أبي:
- صغير على الحكاية دي يا حبيبي.
ثم قبلتني، وقالت لي بصوت مرتفع يسمعه أبي:
- مع السلامة يا حبيبي. نشوفك عالم كبير إن شاء الله.
تركتنا زوجة جدي، ونزلت من القطار. وجلست بجانب أبي. وظل القطار واقفًا فلم يأت موعد مغادرته بعد.
شعرت بالحر، فخلعت العمامة عن رأسي، فزغر لي أبي قائلا:
- البس العمة. لا تخلعها أبدًا إلا في البيت.
همست مترددًا معتذرًا، وأنا أعيد العمامة إلى رأسي بعناية، بحيث يكون زرّها فوق وسط عنقي:
- الدنيا حر.
فلم يرد عليّ. وفكرت أنني أضع فوق رأسي قبة صغيرة حمراء، لها زر أزرق، ولها أضلاع أربعة. واستغرق أبي في تسبيحاته الصامتة، على حبات مسبحته الكوك.
تحرك بنا القطار. كان واحدًا من هذه القطارات التي كنا نحن الصبية نجري وراءها، حين تدخل السنبلاوين، وحين تخرج منها، نصعد إليها، وننزل منها، وهي سائرة. كنا نسميها أحيانًا: السحلية، وأحيانًا: عزيزة. كانت عزيزة بائعة جرجير بشارع القنطرة. كانت سمينة بعرض دولاب، تمشي ببطء، وتتهادى في سيرها يمنة ويسرة، كبطة مزغطة. ودار القطار مع القضبان، ليسير على جسره الخاص فوق الترعة الذي لا يسير عليه أحد سواه.
كان الجسر قضبانًا فوق عوارض خشبية، كثيرًا ما كنا نتنافس نحن عيال المدينة بالقفز فوقها، واحدة بعد واحدة، ذهابًا وعودة. ابتسمت للذكرى. فاجأني القطار نهار يوم مضى، كان قادمًا وأنا أثب فوق العوارض الخشبية، من عارضة إلى عارضة. وجدت نفسي آنئذ بين أمرين: أن أقفز في ترعة البوهية، وأنا لا أعرف السباحة. أو أتعلق بكفيْ يديّ في عارضة خشبية إلى أن يمر القطار من فوقي. ومرت عربات القطار من فوقي وعجلاته تملأ قلبي بالرعب. لا أرى سواها.
رحت أرقب المزارع من شباك النافذة، راجعة إلى الخلف مع أعمدة التليفونات، وخيل إليّ أنه يسير بنا إلى الوراء. وبين حين وآخر كان القطار يتوقف أمام قرى، ليأخذ ركابًا، وينزل ركابًا، وأجد نفسي أتأمل في كشك ناظر المحطة الخشبي، وأنتظر اللحظة التي يصفر فيها بصفارته، ليبدأ القطار في السير.
عند محطة ديرب نجم خلع أبي عمامته عن رأسه، ووضعها فوق ركبته. نظرت إليه مستفهمًا، فقال لي:
- اخلعها. وحطها على ركبتك.
وراح يمسح بمنديله ما تجمع من عرقه تحتها. ووجدتني أشم رائحة عرقي في عمامتي، وأضعها بالمقلوب على ركبتي ليجف عرقها. ورأيت أبي يفعل مثلي، ويقلب وضع عمامته على ركبته.
***
دخل بنا القطار مدينة الزقازيق. اجتاز بنا الطريق وسط كفر يوسف، حتى وصل إلى موقفه الأخير. نزلنا من القطار ونحن نحمل القفة من أذنيها، أنا من أذن، وأبي من أذن. ودعا أبي إليه حمالا فحمل القفة. كانت المحطة مفتوحة ككل محطات قطر الدلتا بلا أرصفة ولا بوابة، ورحنا نعبر القضبان وراء الشيال، حتى بلغ بنا موقف الحناطير. اختار أبي لنا حنطورًا، وساومه على قرشين، أجر المسافة إلى كفر الحريري.
توقف بنا الحنطور في كفر الحريري أمام بيت من طابقين. أنزل السائق القفة. واستدار عائدًا بحنطوره. خبط أبي على باب بيت، ففتح صاحبه لأبي الباب. كان مطربش الرأس. تصافحا وتعانقا. ولم يضع أبي وقته. ظل واقفًا أمام الباب، وعاد المطربش وهو يدفع أمامه سريرًا حديديًّا أدهشني منظره. كان السرير مطبقًا وله عجل. بدا لي كصندوق من سيور الحديد، وملَّته سيور من الصاج متقاطعة عرضًا وطولا. وفي قلبه كانت مرتبة مطبقة على وسادة، وملاءة، وكيس المخدة. فتح المطربش مصراع الباب الآخر، ودفع السرير بعجله خارجًا. ودفعنا السرير معًا عبر الحارة، وانعطفنا منها إلى حارة أخرى. كانت الحارة التالية لبيت المطربش.
توقفنا أمام باب بيت في الحارة المجاورة. فتحت لنا صاحبة البيت الباب. كانت أرض البيت منخفضة نحوًا من ربع المتر. أنزلنا السرير داخل البيت. وفتحت لنا صاحبة البيت ضلفتي باب غرفة على اليسار. فدفعنا السرير على عجله. وحرر المطربش صندوق السير من شنكل بأعلاه. فانفرد السرير واستقر على قوائمه تحت شباك الغرفة الوحيد. وبُسطت فوقه المرتبة، وفُرشت الملاءة. ووضعت الوسادة. وقال لي أبى مشيرًا إلى صاحبه المطربش:
- عبد القادر أفندي. أخ كريم وعزيز، وتيجاني زيي. إذا احتجت شيئًا زره في بيته.
ونهض أبي مع المطربش، وهو يقول لي:
- راجع تاني. اقعد واستريح.
خرجا معًا. وجاءت صاحبة البيت، وقالت لي:
- أهلا يا ابني.
كانت عجوزًا. في ملامحها جمال ذاهب. كانت سمراء مخضبة الخدين، مكحلة العينين، حادة الملامح، يبدو جلدها كلحاء شجرة مغضنة. وكانت الغرفة مسفلتة ومغسولة، وجدرانها مطلية بجير أصفر، لا تزال تفوح رائحته. تركتني العجوز، فجلست على السرير، وخلعت عمامتي وكاكولتي، ووضعتهما بجانبي.
جاء أبي ومعه مصباح زجاجي نمرة 10 مملوء جازًا، وزجاجة جاز، وفوطة، وصابونتان نابلسي، وشاكوش، ومسامير، وحصيرة، وصحيفة قديمة. راح أبي يدق مسامير متباعدة على جدران الحائط، وعلق الكاكولة على مسمار من قبته، ودلى العمامة على مسمار ثان، وعلق المصباح بالقرب من سريري على مسمار آخر. تأمل الغرفة، وقال لي:
- سأعود.
وذهب وعاد ومعه حلتان، وصحنان غويطان، ووابور جاز، وإبر لتسليك الوابور، وملعقتان، ووضعها في ركن الغرفة. ونظر أبي إلى ساعة جيبه. وقال لي:
- تعال نفتح القفة.
سلتنا من غطاء القفة خيط الدوبارة. ورحنا نخرج ما بها. الثياب، والخبز الطري، ومحشرة المحشي، وبرام الأرز المعمر، يعلوه زوجان من الحمام المحشي المحمر، وعلبة سمن بلدي، وبيض لم تنكسر منه بيضة، وباكو شاي، وقمع سكر. وملح ناعم، وفلفل أسمر. وعلبة كبريت، ورصها أبي على الأرض في ركن الغرفة المقابل للسرير. ووضع ثيابي الداخلية في ورقة جرنال دسها تحت المرتبة والمخدة. وفردنا ورقة جرنال على السرير، ورحنا نأكل معًا.
جاءتنا عجوز البيت بإبريق ماء وطشت قديم، وأعطاها أبي ما فيه النصيب من طعامنا. وغسلنا أيدينا. وقالت لي العجوز:
- خللي عندك الطشت والإبريق يا...
فقال لها أبي:
- اسمه سليمان.
فقالت:
- عاشت الأسامي.
ومد لها أبي يده بإيجار الشهر، ريالا وخمسة قروش. وزاد فنفحها خمسة قروش أخرى قائلا لها:
- خلي بالك منه.
ونهض معها إلى المرحاض وعاد. وقال لي:
- خد لبالك لما تدخل الكابينه، أصله ضلمه شويه.
ونظر إلى ساعته، وقال لي:
- بكره الصبح تروح المعهد. اسأل عن السكة. فاتك نسيتها. استلم الكتب، وخد لبالك من دروسك، ومن البيت للمعهد والجامع. وصلّي. صلي يا ابني ربنا يفتح عليك.
نهض أبي واقفًا، وقبلت يده، فوضع كفه على رأسي، وراح يتمتم داعيًا لي بالبركة. وأعطاني جنيهًا ونصف الجنيه، وقال لي:
- حرس عليهم قرش قرش لآخر الشهر. وأول كل شهر تدي صاحبة البيت ربع جنيه. مصروفك اليومي أربعة قروش. وخمسة قروش فنطزية في الشهر. وعين فلوسك دايمًا في جيب الجلابية. ماتنساهاش وراك أبدًا في الأوضة، ولا وانت بتغير الجلابية. واعرف طريق بيتك كويس. اوع تتوه عنه. حتعرفه لوحدك. واللي يسأل ما يتوهش.
ولم يكن للبيت رقم، ولا للحارة اسم. وغادر أبي البيت في طريقه إلى محطة الدلتا. وثقل عليّ رأسي من السفر والأكل، فرددت باب غرفتي عليّ، كانت بلا ترباس من الداخل، وتمددت على سريري، واستغرقت في النوم.
***
صحوت قرب الغروب. سارعت إلى المصباح الزجاجي. أشعلت فتيلته، وشرعت في وضع الزجاجة على المصباح. فوجئت بها تنكسر من حلقتها. طار صوابي. فذهبت إلى عجوز البيت، لكنها كانت قد خرجت. خرجتُ من البيت باحثًا عن البقال، وعدت بزجاجة مصباح دفعت فيها قرشين ونصف, ولم أكد أضعها في حلق المصباح حتى طقت مكسورة. سارعت مرة أخرى إلى البقال، وجئت بزجاجة ثانية فانكسرت بدورها عند تركيبها، ورحت أروح وأجيء، وقد ركبني عناد أحمق. وقال لي البقال في المرة الخامسة، وقد أشفق على قروشي:
- أكيد حلق اللمبة مش مظبوط. روح هات لي اللمبة الأول.
عدت بها إليه. نظر في حلقها، وقال:
- تمام.
وجاء ببنسة، وأصلح لي بها حلق المصباح، وزاد فأضاءه لي، ووضع الزجاجة في مكانها بيسر، وسرت بها متمهلا عائدًا إلى البيت.
علقت المصباح في مسماره. وجلست على سريري مكتئبًا. فقد صرفت من شهريتي اثني عشر قرشًا ونصف القرش. ولا أعرف لم تذكرت ثدي أمي، وأنا أرتد عنه بفمي باكيًا، فقد دهنته أمي بالمر، أو الصبر. وقلت لنفسي: "دا فطامك الثاني يا سلم".
وفكرت أنني قد صرت رجلا، وأن عليّ أن أتعلم كيف أحيا وحدي. وشعرت برغبة في إفراغ مثانتي وأمعائي معًا.
كانت طرقة البيت مضاءة بلمبة بشعلة موضوعة على رف. وبدا لي الكابنيه في ركن أمام السلم. كان مجرد خن من الطين. وليس أمامه حوض. حملت لمبة الشعلة من الرف، وأطللت في ذبالة ضوئها داخل الكابنيه. وشعرت بالقرف. مجرد حفرة كالثقب بجانبه مخدتان من الطين للقدمين. وأمامه جردل في قلبه كوز ماء. سارعت بالتراجع. قائلا لنفسي: "ونعم السكن". وضعت اللمبة على رفها. وفكرت حائرًا فيما عليّ أن أفعله مع مثانتي ومصاريني.
شددت باب غرفتي. وباب البيت ورائي. وغادرت البيت. سألت البقال عن اسم الشارع فعرفته، ومدخل الحي وعرفته، وسألته عن أقرب جامع فدلني على جامع "أبو خليل"، وشرح لي الطريق إليه. ولم أجد كابينهات الجامع تسر حبيبًا، لكنني قررت أنها أفضل حالا. وحين خرجت مستريحًا، غسلت كفي تحت حنفية الميضأة. وأذهلني أنني سمعت على بعد سحيق صوت جدي يقول لي من قريتنا على بعد لا أعلمه: طلب العلم له ضريبة يا ابو داود. استحمل. وشققت طريقي مستدلا بأعمدة الكهرباء على مواطئ قدمي، وعلى طريقي إلى البيت.
***
في الصباح سألت مرارًا طوال الطريق عن السكة إلى المعهد الديني، سرت نحوًا من كيلو مترين، وأنا أخب في كاكولاتي الواسعة الأكمام والصدر والذيل، بصورة تتناقض مع إحكام وأنافة العمامة على رأسي. حاذيت سور المحطة مارًّا بكفر الحريري وكفر النحال والمقابر، ثم عبرت مزلقان القطار على يميني، وانعطفت يمنة أمام حي الحسينية، بجانب أرض فضاء خربة مهجورة بها بقايا زرع. بلغت أخيرًا سور المعهد الديني صانع الشيوخ وأبوابه الحديدية، وكان الحذاء يخنق قدمي خنقًا.
لا يزال هناك نصف ساعة لدخول المعهد لأنتظم بالدراسة به لأول يوم في حياتي. فكرت في الجلوس على الرصيف، وخلع حذائيّ لإراحة قدمي، لكنني خشيت أن تكون قد تورمتا، ولا أستطيع لبسهما مرة أخرى، فلم أنزعهما من قدمي.
أمام المعهد كان بائع بطاطا مشوية صفراء، أعرف طعمها المسكر، الأكثر حلاوة من البطاطا البيضاء. كانت الرائحة فائحة، وكانت النار متقدة على فرن عربة اليد، والبطاطجي البطاط يشوي ويشق بالسكين البطاطات التي شويت بطولها. وثمة طلاب يأكلونها من حولي بنهم وتلمظ. سال لعابي. تذكرت أنني لم أفطر. كانت البطاطاية بتعريفة. لم أفكر كثيرًا أنا الذي خسرت ثمن خمس زجاجات لمصباحي. ورحت آكل البطاطا بطاطية إثر بطاطية، يدفعني الجوع وفراغ البطن وسخونة البطاطا وحلاوة الطعم. ومثل عدد الزجاجات أكلت خمسة بطاطايات.
رأيت الطلاب آكلي البطاطا يتوقفون عن الأكل. ويدخلون المعهد. حان الوقت لدخولي بدوري متحاملا على قدمي خطوة خطوة كمن ختن لتوه. لا أدري بأي رجل أعرج. وأتذكر يوم ختاني ومشيتي مفرشحًا. كان يومًا لا أنساه.
***
كانت الساعة الثامنة إلا الربع حين دق الجرس النحاسي الضخم، إيذانًا باصطفاف الطلاب في طوابير، يشرف عليها مدرس التربية البدنية كما قيل لي، لكن الطلاب بعمائمهم لم يصطفوا وهم في اليوم الدراسي الأول. ظلوا متناثرين في أماكنهم بساحة المعهد الفسيحة، بين مبانيه الثلاثة الضخمة، والحديقتين الوارفتين بالأشجار، وأحواض الزهور. ولم أر بينهم شيخًا كهلا أو هرمًا من شيوخ المعهد. أحسست بنذر الشر تخيم على الساحة، تتجمع تحت العمائم، وتستتر وراء الكواكيل، وتومض بالغضب وراء الجفون.
وقفت تحت تعريشة أسمنتية السقف، تحملها أعمدة رخامية لا جدران لها. وتحتها كنبات خشبية مصطفة. كانت وقفتي بجانب مدرس الرياضة البدنية في بدلته البيضاء، وحذائه الكاوتش الأبيض. ورحت أرقب ساحة المعهد، أو ميدانه، وأنا لا أفهم شيئًا مما أراه.
على غير توقع، وفي لحظة خاطفة، بدأت بين الطلاب معركة طاحنة، لا بندقية فيها ولا مسدسًا. أخرجت الهراوات والعصي من تحت الكواكيل الأنيقة، وظلت العمائم فوق الرءوس ناصعة البياض، على وجوه محمرة السمرة. تركزت عيناي على "عُتل" فحل فتي معمم، يصول ويجول، مبارزًا في مكانه وهو يدور حول نفسه كل من يحيط به. يضرب بهراوته الرءوس تحت العمائم والأعناق والسواعد والسيقان، كأنه لاعب تحطيب ماهر، لا تطوله هراوة أي أحد. كانت هراوته مدقة طعمية مبططة. فأسميته العتل. لا تجسيد عندي للعتل الذي ورد ذكره في القرآن سواه.
وجدت نفسي أرتجف فزعًا، تائهًا في كاكولتي، تحت عمامتي، مرائي الدم المتدفق على الوجوه، والكواكيل الملونة بين الرمادي والأسود والبني، وعلى العصي نفسها، والكل يطارد الكل، ولا أعرف كيف كان الخصم منهم يميز خصمه الآخر، والكل في رداء واحد، وعمائم متماثلة. وفي كل الجوانب، من ساحات المعهد الأربع، كان أكثر الطلاب يتفرجون صامتين، لا يعنيهم من الأمر شيئًا. صرخت بكل قوتي:
- تعال شوف يابا. تعال شوف يا جدي.
أشفق عليّ مدرس التربية البدنية. ضمني إلى جانبه بساعده بحنو. ورأيت الدموع تتحدر من عينيه، دمعة إثر دمعة. وسمعته يتمتم بحزن كأنه يغني:
يا عيني ع المشايخ.. يا عيني. يا عيني ع المشايخ يا عيني.
رأيت العتل العفي يجر طالبًا عفيًا آخر وراءه، وقد أحاط بساعده عنقه حتى بلغ به فراغًا بين بناءين، وراح يضربه بهراوته القصيرة على أم رأسه، والشعر يتخضب بالدم، والجلد يتفسخ عن عظم الرأس، والجمجمة تتشدخ.
لم أدر بنفسي، اندفعت نحوهما. حتى بلغتهما، لأنقذ مقهورًا من الموت. جرى ورائي مدرس التربية البدنية، وأمسك بيدي وجرني عائدًا بي إلى السقيفة. وأجلسني بجانبه على أريكة خشبية خضراء كأرائك الحدائق العامة. وفي تلك اللحظة أسميت في نفسي هذا اليوم: "يوم السقيفة".
سمعت أبواق سيارات الإسعاف تزعق أمام أبواب المعهد الثلاثة، وكانت المعركة قد همدت فتوقفت. وراح الكل يتقي شر الكل. وقال لي مدرس التربية البدنية:
- روح يا ابني. روح. وما تجيش بكره. الدراسة حتتأجل. لحد امته. ما تسألنيش. علمي علمك. الله يعلم.
لم أسأله: لم؟ كنت من حلمي مع صفاء الملائكة، وعمائمهم البيضاء في فجيعة لن تفارقني أبدًا. خدعني جدي وأنا صغير، وهو يحدثني عن الشيخ الزنكلوني حين زار القرية، وظل يفسر للناس في الجامع الملحق بدوار العمدة، طوال ثلاث ساعات، آية واحدة: "ولا تأكلوا أموال اليتامى". وخدعني أبي وشيخه الحافظ التيجانى حين زارنا في بيتنا بعزبة حبيب بالسنبلاوين. وقال لأبي وأنا أسمعه: ومن يدرس الحديث والتفسير يا شيخ عبد المعطي؟ فكرت آنئذ أنني سأكون شيخًا مطمطمًا، زنكلونيًّا آخر.
على مقهى البوسفور بميدان المحطة، تكشفت لي على ألسنة طلاب مشايخ من لاعبي الشطرنج والطاولة حقيقة ما جرى في يوم السقيفة. أئمة الشيوخ الكبار ممن هم فوق بالقاهرة كان بينهم صراع. كان الصراع بين أتباع المذاهب الأربعة من جهة، وأنصار القصر وأنصار الوفد من جهة أخرى، ونزل الصراع من فوق إلى شيوخ المعاهد السبعة في أنحاء مصر، وبُيَّت له في ليالي الصيف، ونزل من شيوخ المعاهد إلى من دونهم من الشيوخ، فإلى طلابهم ممن لا دخل لهم بصراع الأئمة. لم؟ حتى اليوم لا أعلم. الله وحده يعلم.
***
لم أذهب إلى معهدي إلا بعد يوم السقيفة بأسبوعين. كان الطلبة قد عادوا إليه قبلي بأسبوع، ولم أكن قد عرفت أن تأجيل الدراسة قد انتهى. شغلتني المدينة الجديدة عن نفسي ومعهدي، فرحت أجوب طرقاتها، وكورنيش بحر مويس، والشوارع والأحياء، وأظل فيها عاري الرأس بدون كاكولتي وعمامتي، وحتى بدون حذائي، وأظل في ضلالي وتوهاني في معرفة طريقي إلى بيتي غرفتي. وصرت أستحم في مغطس جامع "أبو خليل"، وأغسل ثيابي في ميضأته، خجلا من غسلها في طشت البيت، وأتردد على مرحاضه. وفي كل مرة تخدش أظافري جلد كفي وتدميها. لم يعلمني أحد غسل منديل ولا ثوب.
وتحيرت في أحياء الزقازيق، فكلها تحمل اسم: كفر. كفر النحال. كفر الحريري. كفر يوسف. كفر عبد العزيز. كفر النظام. كفر الحسينية. كفر "أبو حسين". كانت كلها كفورًا مثل كفر العنانية القريب من قريتي. خيل إليّ أن الزقازيق كانت كفورًا متباعدة، ثم نمت والتحمت، وصارت مدينة الزقازيق. وهزرت مع نفسي مبتسمًا. تساءلت:"لكن. أين كفر الزقازيق نفسه؟"
وعرفت الجلوس على المقاهي، والفرجة على من يلعبون الطاولة، والدومنه، والشطرنج والكوتشينة. وكان الشاي بتعريفة فقط، وكثيرًا ما كنت أشرب الشاي مجانًا من طلبات الفائز في مقامرات اللعب. ولم أجرؤ قط على دخول السينما. كنت أقف أمام واجهاتها مندهشًا، وأتعجب كيف يدخلها الرجال والنساء والشيوخ وأنا أظن أن من يدخلها والعياذ بالله من الشواذ والمنحرفين الفاسدين.
***
تسلمت كتبي من ساع بالمعهد، وتسلمت معها ربع جنيه جراية، فوجئت بدخوله جيب جلبابي. فعوضني عن خسائر زجاجات المصباح الخمسة وأزرار البطاطا الخمسة، وقيل لي:
- روح فصل الشافعية. أولى ثالث.
كانت الفصول مقسمة على المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي. أدهشني ذلك. ولأن أبي شافعي جعلني شافعيًّا مثله.
كان الدرس الأول لي درس فقه، وكان المقعد المتروك لي شاغرًا. وكتب الشيخ عنوان الدرس على السبورة بين التاريخين الهجري والميلادي. كتاب: الغسل. ولم يكتب بعد العنوان شيئًا قط. فتح الشيخ كتابًا في يده، وقال لنا:
- افتحوا الكتب يا مشايخ على الدرس.
رنت في أذني كلمة يا مشايخ. كدت أضحك. صرت فجأة شيخًا. وراح شيخ الفقه يقرأ ونحن نتابعه. وبين الحين والحين، يشرح لنا معاني المفردات. عند كلمتي الحدث الأكبر نهض الولد الهنداوي. قال للشيخ متسائلا، متغابيًا، كأنه لا يعرف:
- الحدث الأصغر وعرفناه وعرفنا سببه. لكن الحدث الأكبر يعني إيه؟ والمنيّ يعني إيه؟ والودْي يعني إيه؟ والمذْي يعني إيه؟
قال الشيخ بهدوء:
- لا حياء في الدين.
وراح يشرح لنا يعني إيه، حتى وصل إلى عضوي الحياء والمضاجعة فتوقف، لكن الهنداوي أصر أن يعرف موجبات الغسل، والجنس نفسه. وطلب أن يشرح لنا ذلك بالرسم. ضحكنا وزطنا وتغامزنا واحمرت وجوهنا. كان واضحًا لنا أن الهنداوي يحول الدرس إلى لعب، مجرد لعب. فكلنا يعرف ما تعنيه تلك الكلمات, أدرك الشيخ أن الهنداوي يعرف، وأنه لا يريد سوى استثارته. فسحب خرزانة قصيرة من تحت كاكولته. واتجه إليه غاضبًا قائلا:
- افتح إيديك الاتنين.
قلت لنفسي: "أهون من الضرب في الفلكة على الرجلين في الكتاب."
وفوجئ الشيخ بالهنداوي يثب فوق درجه، وراح يقفز من درج إلى درج، ومن صف إلى صف، وهو يزعق: وطي راسك انت وهوه. والشيخ يطارده دون أن تطوله خرزانته. وراح يلهث حتى لم تعد به طاقة. فجلس على كرسي الفصل محمر الوجه، وراح يسعل كمن به ربو.
ساد الصمت في الفصل لمنظر الشيخ، وأخاف الصمت الهنداوي، فغادر الفصل هاربًا. وقال الشيخ بغلب لطالب:
- خللي الساعي يجيب لي كوباية ميه يا ابني.
وأخرج من جيبه زجاجة، وسحب من أقراصها حبة، ووضعها تحت لسانه. شرب الشيخ كوب الماء. وظل جالسًا. وجاء ملاحظ القسم، وأعطى الشيخ كشف الغياب والحضور، فأعطاه الشيخ للولد خضر عريف الفصل قائلا له: ناد على الفصل. وراح كل حاضر للدرس يرد: نعم. نعم. واحدًا بعد آخر. وقلت لنفسي: "يا نهار اسود. دا فيها حضور وغياب. كل يوم. ويمكن كل حصة."
ذلك اليوم ظل شيخ الفقه صامتًا جالسًا على كرسيه، ونحن صامتون في أماكننا، لا يلتفت أحدنا إلى الآخر. وسمعنا صوت الجرس يدق معلنًا نهاية الدرس. فنهض شيخ الفقه واقفًا. ووقف لوقوفه الولد خضر قائلا لنا:
- قيام.
وقفنا احترامًا لشيخنا. وغادر الفصل بهدوء. وتبعناه متدافعين إلى طرقة مبنى القسم الابتدائي الممتدة الواسعة.
كان كل الطلاب في الطرقة يصيتون ويزيطون، وضجتهم تتردد أصداؤها في الطرقة الحجرية الضخمة العالية الجدران. ودهشت حين رأيت طلابًا يجرون في الطرقة، من أولها إلى آخرها، وهم ينشدون: أبو سنة دهب لولي. وشيخ يجري وراءهم بخرزانته لاهثًا، ويضرب بها كل من تطوله عصاه مرددًا:
- خش الفصل انت وهوه.
ولم يتوقفوا عن الجري، ويعودوا إلى الفصول إلا حين دق الجرس لبدء حصة تالية. كان الشيخ ذا سنة ذهبية في فمه، وكان لقبه في شهادة ميلاده: أبو سنة، وكان مسئولا عن الضبط والربط في القسم الابتدائي، بغرفه العشرين من أولها إلى آخرها.
***
إثر انتهاء الدروس بفصلي غادرت القسم الابتدائي، وتوقفت حين نزلت السلم إلى فتحة باب القسم الحديدي، ورحت أعد الدرجات. كانت سبع عشرة درجة. كان ذلك عادة عندي ملازمة. كلما صعدت درجًا أو نزلت درجًا. لم أستطع الخلاص منها إلا بعد سنين، عندما تكاثر عليّ الدرج قي كل مكان. وعبرت الباب الحديدي المفتوح على مصراعيه، ونزلت ست درجات أخرى.
خطر ببالي أن أكتشف هذا المعهد لأول مرة. طوفت في الزقازيق من شرقها إلى غربها في أسبوعين لأكتشفها، مجرد اكتشاف لهيكل مدينة. وها هو المعهد لم أعرفه بعد. لا من داخله ولا من خارجه. بدا لي المعهد مهيبًا مثل قلعة في الخيال، من هذه القلاع التي كانت ألف ليلة وليلة وروايات الجيب تتحدث عنها. أحجاره الجيرية الضخمة التي لا طلاء عليها من الخارج. مبانيه الثلاثة المهيبة بأقسامها الثلاثة: القسم الابتدائي على يمين الداخل المواجه. والقسم الثانوي على يساره. وبينهما مبنى الإدارة. الدراسة، والإدارة كلها في الطابق فوق الأرضي. وغرف الطابق الأرضي كلها في المباني الثلاثة للسكن الداخلي للطلاب الفقراء. وأمام غرف السكن كانت أرصفة ثلاثة لها بواكٍ تقطعها أعمدة بانتظام. النوافذ الخارجية لجدران المعهد بالطابق الأرضي من الحديد المزخرف المتقاطع، وكلها ذات تكوين تشكيلي واحد.
مبنى الإدارة هو المبنى الوحيد الذي يصعد إلى طابقه الثاني بدرجين من الرخام. أحدهما في أوله، ويؤدي إلى غرفة شيخ المعهد المغترب، ولصقها غرفة نومه، ثم غرفة شيخ السكن المقيم، ووكيل شيخ المعهد حين يغيب. ثم غرف الإدارة الأخرى السكرتارية والسجلات وعهدة النظافة، وبوفيه المشايخ وما أشبه.
وأمام المباني الفخيمة حقًّا كانت ساحة المعهد لطوابير الطلاب الصباحية ولنزهات العصاري لطلاب السكن الداخلي. ثم حديقتان عن يمين وشمال كحديقتي أصحاب الجنتين في سورة الكهف، يمتد بينهما ممر مترب كحوش المعهد. فثلاث بوابات هائلة: باب كبير، يتوسطها بين عمودين من الحجر، ثم بابان صغيران عن يمين وشمال. والسور الخارجي بأسياخه الحديدية المبطنة بشجيرات الحديقتين، يمتد على الجانبين.
في ركن من الحديقة، بجانب باب صغير على يمين الداخل، كانت غرفة صغيرة لعم مرسي، فيها ينام، وفيها يعيش، وفيها يأكل، وعلى كرسي أمامها يجلس. وبالمفاتيح الحديدية الضخمة، والأغلال المعلقة على جدار غرفته، يغلق البوابات الثلاث ويفتحها. يعيش وحيدًا، يلبس عمامة على جلباب بلدي الطراز، ولا يخفي تأففه كلما رأى طالبًا عاري الرأس، بدون عمامة أو طاقية.
توقفت أمام عم مرسي وأعطيته شلنًا من جرايتي، وتركت عنده كتبي، وسحت في المعهد لأكتشفه. قطعت الممر المترب بين مبنى القسم الابتدائي، ومبنى الإدارة، لأكتشف مبنى رابعًا فخيمًا، يسد مؤخرة المعهد كلها أمامه بطوله ممر مترب. كان المبنى من طابق واحد. عن يمينه في ركن السور كان مسجد المعهد لمن شاء أن يصلي، لم أر فيه فيما بعد صلاة جامعة. كان الكل يصلي فيه فرادى، وفي الجمع كانت الصلاة في أي مسجد جامع من مساجد المدينة.
وفي ركن السور الآخر كان مطعم المعهد الخاص بالفول والطعمية والمخللات، ولا شيء سواها. وبه كانت مناضد ممتدة مكسوة بالصاج، كان من النادر أن يجلس إليها أحد من طلاب السكن الداخلي ليأكل طعامه. كانوا يؤثرون أخذ ما يشترون في أطباق الصاج، أو السندويتشات في مزق من الصحف أو ورق الزبدة، ويعودون إلى عنابر سكنهم ليأكلوها على أسرتهم. أو يأكلوها وقوفًا أمام المطعم.
وبين المسجد والمطعم كانت الكابنيهات في قسم خاص بها على اليمين، والحمامات العشر في قسم ملاصق لها على اليسار. كان بالكابنيهات عشرون مرحاضًا وراء ساحة مبلطة ببلاطات كبيرة بيضاء. وعلى جانبي الساحة كانت أحواض الوضوء على الواقف بيضاء ناصعة إذا وجدت من ينظفها.
بهرني الاكتشاف، فهنا يجب أن أستحم تحت دش، وأنجو بنفسي من مغاطس المساجد البئرية المسمنتة المنتنة الجدران، التي يستحم فيها المريض والسليم. وقد يتبول فيها لو حزقه البول. وبهرتني المراحيض فبها خراطيم أدخلت أطرافها بالحنفيات. وبهرني المطعم، فمنه يمكن أن أتناول فطوري بنصف قرش لا غير. وبهرتني أحواض غسل الوجوه والأيدي والوضوء، فبها يمكن أن أغسل جلبابي وملابسي الداخلية وشال عمامتي. وبهرني فراغ المسجد المضاء في الليالي دائمًا، فهنا يمكن أن أذاكر، وهو أمر لم أفعله قط طوال سبع سنوات سوى مرة واحدة.
عدت إلى عم مرسي لآخذ كتبي. وحين وقفت أمامه تذكرت أنه كان يجب علي أن آكل سندويتشًا في مطعم المعهد. فوجئت بعم مرسي يدعوني إلى الغداء معه داخل غرفته. ترددت معتذرًا فقال لي:
- اجلس. اجلس. كله من فضلة خيرك.
كشف عم مرسي مفرشًا أبيض عن صينية، ففوجئت بما عليها. وراح عم مرسي يحدثني عن بركات الشلن الذي أعطيته إياه: البطيخة الشليان ثلاثة كيلو بنصف قرش. واللحم نصف رطل بثلاثة قروش ونصف. والزبدة لقلي اللحمة بنصف قرش. وخضروات السلطة: جرجير وشبت وبقدونس وكسبرة وكرفس وخيار وفلفل أخضر وبصل بنصف قرش.
- كم يبقى من الشلن؟
قلت:
- نصف قرش.
فقال لي:
- اديته للبنت اللي بتبيع بطاطا مشوية لصاحب العربية اليد قدام المعهد. غلبانة.
***
بعد أسبوع واحد، سئمت الدراسة بالمعهد. ركبني غرور ما، وأقنعت نفسي، دون أن أعرف ما بهذه الكتب، أن بوسعي أن أذاكرها وحدي، بدون المشايخ، وقضاء ست ساعات كل يوم مشدودًا إلى درجي، بين طلاب أشد عوزًا مني، تفوح من أفواههم روائح البصل والثوم والمش ودقة الفول، ومن أجسام بعضهم روائح عرق كبريتي. رحت أحضر دروسي يومًا، وأتغيب ثلاثة، وأحضر حصتين، وأتدلى من النافذة لأسقط في الممر الفاصل بين جداري المعهد الديني ومدرسة الصنائع غير مبال بسقوطي على عجزي، أو التواء كاحلي.
على كورنيش بحر مويس، رأيت عمارة من طابقين على الرصيف، يصعد أمامها سلم إلى الطابق الأول، تحته باب بيت مسكون. أسفل السلم رأيت لافتة نحاسية لامعة. مكتوب عليها: مكتبة بحر مويس. همست لنفسي: "فرجت. سأقرأ كتبًا بالمجان." ورحت أروح وأجيء أمام المكتبة مترددًا في صعود سلم الرصيف الملتصق بالجدار. كانت أول مكتبة عامة أراها في حياتي. وكانت لافتتها أول لافتة أراها لمكتبة عامة.
صعدت السلم. ووقفت على البسطة أتأمل ما وراء باب المكتبة. عبرت الباب، وشيء فيّ يرتجف. أمليت اسمي. لم يكن في يد أحد في مصر كلها بطاقة شخصية. أمليت عنواني بكفر الحريري. ذكرت أنني طالب بالمعهد الديني. قال لي من يكتب: غرفة الكتب اللغوية على الشمال، والدينية على اليمين. قلت له بدون حياء:
- عايز أقرا روايات جيب.
نظر إليّ بدهشة، ومط شفتيه بقرف مني، وقال لي:
- قدامك في الوش، على الجانبين، دواليب كلها قصص.
كانت مكتبة مفتوحة. الكتب فيها واقفة متضامة على أعجازها أو رءوسها. كان الضوء المنار طيبًا. ووقعت عيناي على صف من المجلدات: طرزان. روكامبول. باردليان وفوستا. كنت شديد الحنين إلى روايات الجيب. قرأت الكثير منها في السنبلاوين، كل يوم رواية أو اثنتين أو ثلاثًا، حسب فلوسي.
قلت لنفسي، وأنا أفتح المجلد الأول من مجلدات طرزان التسعة: "دي القراية والا بلاش، وببلاش." ورحت أقرأ صفحة بعد صفحة إلى أن تغلق المكتبة في الواحدة والنصف، لتعود لتفتح بابها مرة أخرى في الخامسة مساء. لكنني كنت أوثر في العصاري والليالي سهرات مقاهي الزقازيق، وأعود لأنام مخمودًا وسعيدًا بعد تناول نصف رغيف، أحشوه لنفسي بالسمن البلدي، خير أمي، والسكر المدشوش، خير أبي، وكتب المعهد كلها فوق بعضها البعض لم تفتح، فوق ورقة جرنال أسفل السرير.
***
طارت فلوسي، وأمامي من الشهر أسبوع بطوله. ولعنت يوم الزجاجة، وأيامًا أخرى على المقاهي. توقفت أمام دكان نجار بكفر الحريري، وقلت له:
- عم. يا عم.
نظر إليّ فقلت له:
- مش عايز نقَّار؟
فقال لي وهو يضحك:
- نقار؟ يعني إيه؟
فقلت:
- يعني أنقر الخشب بالأزميل. أنا شاطر في النقر. جربني.
كنت أساعد نجارًا بعزبة حبيب من باب قضاء الوقت، وتعلمت النقر بالإزميل في كافة أوضاع النقر. ورحت أعمل بمهارة والرجل يراقبني، وهو يمسح بالفارة قطع خشب أخرى، ويضعها أمامي، وعليها علامات النقر بانتظام بالقلم الرصاص. وعندما انتهيت كان الظهر قد ولى، والعصر قد ولى، وحان وقت الغروب، فناولني عشرة قروش.
مر الأسبوع بسلام. وبعث إلى أبي بجنيه ونصف، مصروف الشهر، مع طالب زميل عائد من السنبلاوين. رحت أتأمل الجنيه لأول مرة. كان مكتوبًا عليه: تتعهد وزارة الخزانة بدفع جنيه من الذهب مقابل هذا السند.
***
رآني عبد القادر أفندي صاحب أبي أنقر الخشب عند النجار بحي كفر الحريري. رأيت ظله على الأرض ورأسه مائل نحوي. رفعت رأسي، وبهت حين رأيته يتثبت من أنني هو ابن صاحبه. توقعت أن يقول لي شيئًا، لكنه تركني ومضى في طريقه إلى بيته. أدركت أنه سيكتب إلى أبي، ووجف قلبي رعبًا، لكنني استمررت في عملي. سألني النجار:
- أتعرفه؟
قلت له:
- هو يعرفني، وهو صاحب أبي.
فقال لي:
- من الغد ستعمل داخل المحل حتى لا يراك أحد ويعرفك.
وسكت لحظة ثم قال:
- الشغل مش عيب.
وسكت لحظة، ثم قال:
- يا ريت ليه ابن زيك، يجمع بين التعليم والشغل. الصنعة أمان. والتعليم نور.
شعرت بالخجل من نفسي. فأنا في الحقيقة أشتغل ولا أتعلم، وأصيع في المدينة مثل.. مثل..
***
أمام غرفتي، في بيت المعلمة المتقاعدة، كان يسكن كهل وسيم، حليق دائمًا، أنيق دائمًا، مسبسب الشعر دائمًا، معووج الطاقية القطنية، في جلبابه البلدي السمني اللون. كان باب غرفته يقابل باب غرفتي. ونادرًا ما كنت أراه. كان يبيع ما تيسر من سلع المواسم الزراعية على عربة كارو، يستأجرها ويطوف بها في حارات الأحياء، للكسالى عن الذهاب إلى الأسواق. كان الوقت صباح يوم جمعة. سمعته يبكي بحرقة، ويتواصل بكاؤه، ويتردد حتى يصبح نشيجًا مفجعًا.
فتحت باب غرفتي. ورأيت باب غرفته مفتوحًا. وسمعت المعلمة المتقاعدة تحادثه. سمعتها تقول له:
- عملت اللي عليك يا راجل يا طيب يا سكره. جواز وما تجوزتش بعد ما هربت أمه وسابته. ضيعت سنين عمرك علشان تربيه. وما طمرش فيه. شوف حالك. خده وارجع العزبة، وافتح لك دكانة، وشغله فلاح. سيب الأيام تعلمه.
سمعته يقول لها:
- حيهرب من العزبة يا ست الناس. كنت عايزه يتعلم ويبقى ابن مدارس.
سمعتها تقول له:
- يبقى تسيبه لقضاه زي أمه.
سمعتها تتنهد، وتقول:
- مكتوب علينا وعليه.
رددت باب غرفتي، وجلست مهمومًا، وقد زاد خجلي من نفسى. سألت نفسي: ذلك حاله، مع ولد واحد، فكيف يكون حال أبى مع أربع من البنين والبنات والبقية ستـأتي. كان قلبي هشًّا بطبيعته. شعرت برغبة في البكاء، لكن دمعة لم تسقط لي من عين.
في الليل، راح جاري المفجوع في ابنه، يصرخ صرخات مدوية أفزعت الحارة والحارات القريبة. ولم يلبث أن خمد صوته فجأة. وجاء الإسعاف وأعلن موته، فقد طفحت معدته دمًا تدفق من أنفه. وظل ابنه حيًّا من بعده. رأيته مرارًا يدفع مع الأولاد المشردين عربة الدعاية المتجولة لدار سينما، نظير عشرة قروش، ودخول السينما كل ليلة، وفوقها كان مثلث خشبي بطول العربة وعرضها، عليها من ناحية أفيشات الأفلام التي تعرض حاليًا، ومن ناحية أخرى أفيشات الأفلام التي سيبدأ عرضها في الأسبوع القادم.
قلت لنفسي:"سأعود إلى دراستي بالمعهد، وأنتظم بها." وأكدت ذلك لنفسي، لكنني لم أنتظم مرة أخرى، فيما عاهدت عليه نفسي، حتى رأيت أبي يطب عليّ ذات نهار، وأنا النقّار أنقر الخشب بدكان النجار.
***
أشار أبي إليّ فنهضت واقفًا، والنجار ينظر إلينا، دون أن يقول لي أو له شيئًا. أشار إليّ أبي فتبعته طائعًا. جلس بجانبي في الغرفة على سرير مهوش الملاءة، ورأى الكتب تحت رجل السرير موضوعة فوق بعضها البعض، وفهمت ما فهمه هو. كتاب منها لم يفتح بعد.
توقعت أن ينهض واقفًا، وأن يسحب خرزانته من تحت كاكولته، ويضربني بها علقة. لكنه لم يفعل، وظل مطرقًا صامتًا يفكر. ثم رفع رأسه، وراح يسألني بصوت محايد، عن لبسي، وثيابي، وحمامي، ومعهدي، ودروسي، وأوقات فراغي. ورحت أجيبه بصدق إلا عن أمر واحد، هو مدى انتظامي بدروسي في المعهد. قال لي:
- لن تعيش بعد ذلك وحدك. أنت بحاجة لا تزال إلى من تعيش معه ويرشدك. لكن، فلندع ذلك إلى أن أعود من الحج مع جدك. سنغيب شهرًا. سنسافر ونعود بالمركب في البحر. سأدعو لك بالتوفيق في رحاب الكعبة، ومسجد النبي.
دهشت لحديث أبي لي بهدوء مخيف. وما أدهشني أكثر أنه كان يتحدث بالفصحى، مع تسكين أواخر الكلمات، شأنه شأن أفراد عديدين من أسرتي بالقرية، حين يفرض عليهم الموقف التحدث بحكمة، أو حين يغضبون أيضًا، ويتحدون الغير.
ونهض أبي قائلا لي:
- تعال معي. سنتغدى معًا.
ثم قال لي ونحن على باب البيت:
- أتعرف مطعمًا قريبًا للكباب؟
تغدينا معًا في أول مطعم قابلناه بشارع كفر النظام. وطلب ماء مثلجًا لنا. ودفع الحساب لنا معا عشرة قروش بحالها. وقبل أن ننهض مد يده في جيبه، وأعطاني شهريتي، وقال لي:
- ستزور أمك كل أسبوع، لتطمئن عليها وعلى إخوتك. أنت الأكبر فلا تخيب أملي. وستأخذ منها الشهرية القادمة بعد شهر لمن يعيش.
ثم قال لي:
- انت استلفت ربع جنيه من عبد القادر أفندي. أعطيت له ما عليك. مد رجليك على قد لحافك يا سليمان. دبر حالك. ولا تمد يديك لأحد. الدين ذل عند السؤال، وهم عند الدفع.
ثم نهض ونهضت معه وهو يقول لي:
- حتوصلني للمحطة.
في المحطة، رحت أبحث عما ينبغي لي أن أقوله، وهو ذاهب إلى الحج. عثرت على ما أريده. قلت له:
- حج مبرور إن شاء الله.
ابتسم، ومسح بكفه على رأسي، وقبلني قائلا:
- بورك فيك. عقبى لك.
كدت أن أبكي لحنانه. ولم يلبث أن قال لي:
- وافتح كتبك يا سليمان.
وجمت. أخيرًا قالها أبي. وأخيرًا قال لي ما جاء من أجله وهو يركب القطار:
- إذا عايز تشتغل نجار، في عزبة حبيب نجار. أسيبك عنده وانت حر نفسك.
وتحرك به القطار مبتعدًا. وتركني غارقًا في الخجل. عاجزًا عن تبرير نفسي.
والقطار قد تحرك بأبي زعقت لأبي:
- آبا. خد لبالك من نفسك ومن جدي.
وغاب القطار واختفى.
***
قضيت ساعة من الليل في بخ شال عمامتي بالماء. كان شالا أبيض حريريًّا، أحد شالين زودني بهما أبي من أجل عمامتي. وأوصاني. في كل أسبوع كان عليّ أن ألف شالا وأغسل الشال الأخر، وأنثره وأعلقه على أي جلباب معلق على مسمار، وسوف يجف وحده بسرعة. وفي كل أسبوع، قبل ظهيرة يوم الجمعة عليّ أن ألف شال عمامتي، ومن أجل لفها زودني بعلبة دبابيس، ذات رءوس دقبقة جدًّا كرءوس دبابيس الخياطين الذين يخيطون البدل والكواكيل.
ولم أكن بحاجة إلى أن يعلمني أبي لف عمامتي، فقد راقبته طويلا وهو يلف عمامته بعد بخه لشاله، ولفه مكورًا على بعضه البعض بخفة مرهفة، ليصل الماء إلى كل خيوطه، وتركه برهة. ثم فتح تكويره ونثره بعزم الجهد، لكي لا يبقى فيه من الماء سوى نداوة خفيفة، ثم ثنيه كمثلث، طرف ركن فوق الركن الآخر بطرف الشال المناظر له لا المقابل، ثم طي الشال على قاعدته طيتين، بحيث يكون وضع رأس مثلث الشال دون القاعدة. ثم شد الشال بدءًا من طرف قاعدته على دائر العمامة من أسفلها، ركنًا بعد ركن من أركانها الأربعة.
كان أبي عند لفه لشال العمامة يضع أولا فوطة وجه قطنية على ركبته، ويلبس فراغ العمامة للفوطة وركبته ويكبسها كبسًا محكمًا. ثم يبدأ بلف الشال من قاعدة العمامة وإدارته مع حركة لف الشال على الركبة. وأثناء التدوير كان أبي يغرس دبابيس بشال العمامة تقريبًا ركنًا بعد ركن من أركان العمامة في أوضاع شتى. وكان رشقه للدبابيس متفننًا وعجيبًا بالحدس، وحسب تقدير يده الماهرة، وعيناه مركزتان على الشال والدبابيس، ولا يستطيع أحد حين ينشغل أبي بلف عمامته أن يوجه إليه أي كلمة. حتى لا يقطع عليه حبال اللف. دبابيس من اليمين إلى اليسار وبالعكس، ودبابيس من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس، ودبابيس مائلة وموروبة بأوضاع شتى.
وفي كل ذلك اللف، فشراريب الشال كلها متجهة إلى أعلى لا تبين إلا عند اللفة الأخيرة، وليس بالوسع رؤية عين ناظر إليها، عندما تتألق في كمالها وبهائها، وتتجلى كما الشمس والقمر في كامل استدارتها وانتصابها، إلا أن يعجب لإحكام الصنعة، ويزدري بجانبها أي طربوش لا شال له، أو أية عمامة لف شالها عليها على عجل، وكيفما اتفق. كان ذلك طراز عمامات المتأنقين النظاف الوجوه والأيدي والقلوب. هكذا كان يقول لي أبي.
من يلف العمامة مثلي. لقد صرت خبيرًا منذ عامين مضيا، منذ أن أدخلت إلى كتاب الشيخ إدريس. جربت مرة، وفي يوم جمعة، وهو يأخذ حمام صباح الجمعة، أن ألف له شال عمامته دون أن أستأذنه. فعلت مثلما كان يفعل، بخًّا وتكويرًا ونترًا وفردًا وطيًا وتسوية، لفة لفة، ودبوسًا دبوسًا، وشرابية شرابية، أبلها بريقي، وأبرمها يمينًا بخفة من أسفل الشرابة إلى أعلاها.
وحين طلب أبي مني عمامته لبخ شاله، ولفها بيده، فوجئ بها ملفوفة مقلوظة، وأنا أديرها أمامه مزهوًا بها، على طرف سبابتي في قلب جوفها. رآها أبي جيدة القلوظة، متأنقة. فهم أبي. نظر أبي إليها لمس دائرة الشال، فلم يغزه منها دبوس واحد. وضعها على رأسها وجدها محكمة لا واسعة ولا ضيقة. نظر إليّ بزهو انبكَّ معه الدم في بشرة وجهه. قبلني. منحني قرش صاغ. قال لي:
- كل أسبوع لفها لي يا شيخ سليمان.
***
اكتشفت مصادفة عمل صاحبة غرفتي بكفر الحريري. كنت قادمًا من الشارع الرئيسي لكفر النظام، حين رأيتها جالسة تحت كوبري القطار، على رصيف ضيق، وأمامها حزم من البصل والجرجير والفجل، وكومتان من الليمون، والرنجة، وبجانبها كانت صفيحة صدئة بها أنشوجة، تفوح منها رائحة زاعقة.
كان لصاحبة البيت ابن، وكان الابن سائق حنطور وصاحبه. رأيته في عربته يومًا أمام باب البيت. وكانت للابن زوجة، وسيمة الشكل، مهضومة البدن، تكاد تكون جلدًا على عظم، لم أرها في البيت يومًا، حين تأتي لزيارة حماتها، إلا ومعها أربعة أبناء صغار، فوق رءوس بعضهم البعض. لم أعرف الصبي منهم من الصبية. وكانت دائمًا ترتدي على اللحم ثوبًا واحدًا أصفر اللون، نقوشه ورقية صغيرة خضراء. وكثيرًا ما كانت تأتي إليّ في غرفتي، وتدفع الباب، وتعرض عليّ تنظيف غرفتي، واعتدت أن أضع في يدها مبلغًا، خمسة قروش دفعة واحدة، ولم أكترث بصاحبة البيت حين لامتني قائلة:
- كفاية عليها قرشين.
لم أشعر بمحنة زوجة الابن إلا حين قالت لي في مرة:
- مش عايزة فلوس. عايزة عشا العيال.
قلت لها آنذاك:
- قدامك الأكل في الركن. خدي اللي انت عايزاه.
ذهبت إلى ركن الغرفة، وفردت حجرها، وأخذت ما تريده. وحين وقفت، جاءت إليّ، وقد فتحت أطراف حجرها بيديها، لتريني ما أخذت، وقالت لي:
- أخذت خمس بيضات، وحتة جبنة، ولوحتين سكر وسمن.
نظرت إلى حجرها، لأنظر أين وضعت السمن في حجرها، وأدركتْ ما خطر لي، فقالت لي:
- ما تخافش. السمن في قلب رغيف.
واتجهت إلى الباب المفتوح. وعند الباب التفتت قائلة لي:
- انت طيب. لو عزت أي حاجة، في أي وقت، أنا تحت أمرك.
وأضافت:
- ما تخافش من حماتي. ما هيش داريانا بالدنيا.
وردت الباب وراءها. ولا أعرف لم تذكرت في تلك اللحظة، درس الغسل الذي استمعت إليه صباح يوم مضى، في فصلي بالمعهد الديني. أحسست بجسد المرأة فجأة، وهي ماثلة أمامي. لحم على عظم، داخل جلباب. نهدان ممصوصان، وعينان واسعتان ربما من الجوع. وشعر مرسل على كتفيها لم يفلح مشط الفلاية العظم في تسريحه، بعد غسله بالجاز. ومعها رائحة أنثى يشي بها عرق تجمد وسدّ المسام.
شعرت تحت أظافري بدبيب نمل لأول مرة. أدركت أنها فتنة كفتنة يوسف، فاستغفرت الله في سري. يخيل لي الآن أنها أحست بي عبر الفراغ بيننا، في حمرة وجهي، أو توقد عيني، فقد بدا على وجهها طيف بسمة، وتألق عينين، وهي ترد الباب وراءها.
***
تلك الليلة. استسلمت للنوم وهي ماثلة أمامي، وقد انكمش بعضي في بعضي في رجفة، أتضاغط في نفسي على نفسي، كأني على وشك حمى، ودخلت في غيبوبة نوم وسنان ناعم، موجع وقاس، ذكرني بأدوار الملاريا التى كانت تعاودني بكوابيسها في القرية، كل صيف.
أحسست بباب غرفتي يدفع برفق في ظلام الليل، وقد خمد ضوء المصباح على الحائط. رأيت عينيها تسيران نحوي. نظرت إليها بافتتان ولهفة وخوف، أحسست أن أحدنا سيأكل الآخر. لم أرها تغلق وراءها باب الغرفة. بدت لي الغرفة بلا جدران، ولا أرض، ولا سقف. لا شيء، ولا أحد سواها وسواي. دفعتني بكوعها فتزححت على سريري السفري جهة ما أظن أنه نافذة. تمددت بجانبي مستلقية على ظهرها. انتظرتْ لحظة، لكنني ظللت غارقًا في الخوف بلا حركة. همست:
- لا. دا انت خام خالص.
أو لعلها قالت:
- لا. دا انت خيبة خالص.
استدارت لي. لزت نهديها في كتفي، كانتا أغنى نهدين في الدنيا. أدرت نحوها وجهي. قالت لي لاهثة الأنفاس:
- بوسني.
قبلتها فأطالت القبلة. عندئذ جلست، وقالت:
- استنى.
نزعت عنها جلبابها وحده، فقفزت لي عروس البحر في ظلام الليل. نزعت عني جلبابي دون أن أكون بحاجة إلى وقوف أو جلوس، وأحسست بالأرض تدور، والأفلاك تدور بنا من حولي وحولها. صرنا مركز الكون كله، وليله ونهاره، وفصوله الأربعة، مرة بعد مرة. قالت لي وهي تغادرني:
- بكره. ما تنامش.
واختفت فجأة.
صحوت فجأة. وجدت الباب مغلقًا، والغرفة مظلمة، وقد هدأت الرجل في الحارة، وأحسست ببلل، وشممت رائحة عجين متخمر، وصفار بيض محترق يملأ الغرفة. سألت نفسي حائرًا:
- أكانت هنا؟ أكان ما جرى هو الاستحلام في المنام، لأول مرة؟
***
في الصباح صحوت. تذكرت ما حدث. بدا لي ما كان حلمًا لا حقيقة له. تحسست نفسي. كان كل شيء بي شاهدًا على ما حدث. أنا جُنب إذن، ولقد بلغت ودخلت دنيا وصرت رجلا. كنت بالأمس فقط غير مكلف ولا مسئول أمام الله. اليوم وقد بلغت الحُلُم، صرت مسئولا أمامه عن كل ما أفعله، وأفكر فيه. انتهت طفولتي وصباي، ولم يعد حتى أبي مسئولا عني. شعرت في تلك اللحظة باليتم، وصار عليّ، أنا الذي لا أصلي، أن أغتسل من الجنابة، مثلي مثل أبي وجدي.
صررت جلبابًا نظيفًا، وفانلة، ولباسا، وفوطة. وحرت لحظة أين أذهب لأغتسل. عدلت عن الذهاب إلى حمامات المعهد فالدراسة قائمة به الآن. لا مفر لي إذن من مغطس مسجد "أبو خليل."
التففت حول المسجد من طرق جانبية، حتى لا أمر على المعسكر الإنجليزي الصغير المقام في ميدان فسيح أمام المسجد. دخلت الميضأة، ونزعت ثيابي، ونويت الغسل، وانزلقت في بئر المغطس. جففت نفسي، وصررت الفوطة والثياب المخلوعة، وحملتها منسلا عائدًا إلى غرفتي.
***
لم أطق عصر ذلك اليوم البقاء ساعة في غرفتي المقبضة. لم أطق الجلوس في مقهى البوسفور الأثير لديّ، وقطع الوقت أو قتله بالفرجة على ألعاب المقاهي. لم أطق التجول على غير هدى في شوارع الزقازيق وحاراتها، ولا ترقب غروب الشمس، وانعكاسات الشفق على مياه بحر مويس الرجراجة. شدتني إليها فقط، بعد ليلة زائرة الليل، صور الإعلانات السينمائية بشارع عباس، وبها وجوه شابة كالورود، شبْعى بجمال الصحة، وألَق الألوان. رحت أتنقل بينها حالمًا بعوالم مسحورة، أعرف أنني لن أصل إليها قط، إلا في لحظات عابرة من الخيال والأوهام.
أدرك أن ليلة زائرة الليل، وهمًا كانت أو حقيقة، قد تعدت بي شاطئ المألوف، إلى عوالم ألف ليلة. أدركت أنني قد دخلت دنيا أعيش فيها، ولم أر ما بها من مسرة، وتجاوزت حدود الرضا والألفة، إلي دنيا يختلط فيها الرضا بالشعور بالذنب والإثم، ولا سبيل إلى المقاومة. توقفت أمام سينما أبو لون، استعرض أفيشات الفيلمين العربي والإفرنجي وصور أبطالهما.
رأيت صورة طرزان الخيالية تخرج من مجلدات طانيوس عبده المترجمة، في مكتبة بحر مويس، وتتجسد أمامي، وهو معلق بحبل في الفضاء، طائرًا به مع حبيبته من شجرة سامقة إلى شجرة سامقة. كانت عارية إلا من ورقتي شجرة على النهدين، وورقة شجرة على موضع العفة. ورأيت أفيشًا آخر لفيلم عربي بطلته وسيمة حلوة التقاطيع رشيقة، اليوم سأرى أنثيين، لا أعرف كيف ستتحركان، على ما يقال أنه شاشة فضية.
عجزت عن المقاومة. وقفت في الصف. وصلت إلى شباك التذاكر. وقفت أمام أنثى الشباك. قدمت لها شلنًا، وعيناي مثبتتان على وجهها، ومفرق ممر مسحور بين نهديها. أعطتني تذكرة، وناولتني ثلاثة قروش، ولمست كفها كفي. سرى في جسدي دبيب النمل ودفؤه مرة أخرى فلم أسحب يدي، ولاحت لي بسمتها، وهي تسحب يدها. خرجت من الصف، واتجهت إلى المدخل، فأخذ مني عامل الباب نصف التذكرة، وأعطاني النصف الآخر.
جلست في الترسو أنتظر لحظة البدء، وعيني مثل غيري تنظر إلى شاشة جيرية من القماش الأبيض، مشدودة على الجدار المقابل، والضوء كاب، والضجة هائلة، وقشور اللب تتطاير من الخلف على الأقفية، وروائح عرق الدنيا تزكم أنفي من كل جهة. انطفأ الضوء بقاعة السينما فانقطعت في التو أصوات الترسو، والصالة، والبلكون، والألواج. تركزت عيناي على الشاشة الجيرية كانت من قماش أبيض مشدود. لماذا يسمونها إذن شاشة فضية؟
فوجئت بمن كانوا على الأفيش يتحركون ويتحدثون على الشاشة. نظرت حوالي لأرى من أين قدموا. رأيت خلفي على أعلى الجدار اثقبًا تتدفق منه درجات من الأشعة متقلبة، تدور حول نفسها، تتجسد لتوها على الشاشة الجيرية، والمكان من حولهم قد صارت له أبعاده. تابعت المشاهد التالية، بحركاتها وأغانيها، لم يكن ينقصها لحواسي شيء سوى الروائح، روائح البشر والأماكن، والخروج من الجدار الجيري.
فجأة انتفضت واقفًا صارخًا. كان ثمة قطار يقبل بواجهة وابوره، نحو كل من في الصالة. أيقنت أنني قد ضعت، وضاع معي كل من حولي. سمعت انفجارات الضحك والشتائم: اقعد اقعد. وبينها لم يفارقني صوت: اقعد يا غبي. احنا في سينما. اختفى القطار كما أقبل. وجلست خجلا. تذكرت مشاهد صندوق الدنيا حين كان يهلّ حامله على قريتي. الصور مثلها عدا أن هذه أروع وأكثر حياة وحركة وتتكلم، وتسلم وتعانق وتقبل، وتمشي وتأكل وتشرب. غادرت السينما. سرت كالتائه في المدينة.
***
جلست على المقهى بردان متوحدًا. خيل إليّ في تلك الليلة، ليلة السينما، أنني قد انتقلت من عصر إلى عصر. تذكرت يومًا سمعت فيه صوت الراديو، ورأيت الراديو لأول مرة. كان أبي قد انتقل بنا من قريتنا إلى السنبلاوين، واستقر بنا في عزبة حبيب، وبدأ يمارس عمله هو الأزهري، حامل شهادة الثانوبة الأزهرية، سكرتيرًا لمدرسة المدينة الأولية.
أمام ساحة قصر أصفر بشارع القنطرة بالسنبلاوين، سمعت صوت مقرئ يقرأ القرآن، أجمل وأعمق وأرحب صوتًا يمكن أن يسمعه أحد، لقارئ يقرأ القرآن، كأنه في معبد. كان الصوت خارجًا من محل ساعاتي. توقفت أمامه أسمع. جرؤت ودخلت المحل. جلت بعيني فلم أر القارئ. سألت الساعاتي:
- مين بيقرا القرآن هنا. صوته حلو.
ابتسم الساعاتي. نهض. سحبني من يدي. وأراني صندوقًا من الخشب به مسطرة من زجاج، وقال لي:
- الشيخ محمد رفعت بيقرا في الراديو ده. صوته جاي من مصر.
صحت:
- من مصر، لحد هنا؟ ازاي؟
حين عدت إلى بيت الأهل، رحت أتوسل إلى أبي باكيًا، ليشتري لنا راديو الشيخ رفعت، وليس أي راديو آخر.
وضع أبي يده على رأسي، وقال:
- إن شاء الله.
ولزم الصمت. أحسست بعجزه عن شراء الراديو. أحسست أننا جئنا من قرية وراء الشمس. أقصى ما شاهدته من عجائب الدنيا في القرية. يوم دخل عسكري من النقطة قريتنا، وهو يركب عجلة، فرحنا نحن أولاد القرية نجري وراءه ووراءها، فالحديد يجري براكبه على عجلتين كأنه شيطان، ويوم جاء الحاج بلهنية من طنطا، وفاجأ القرية في وقت القيلولة، بصوت يغني مدويًا: أحب عيشة الحرية. صحت القرية من قيلولتها، واتجهت من كل جهة ناحية الصوت. رأت الجرامفون لأول مرة في أرض محروثة، وشهدت وسمعت أسطوانة تغني، وبوقًا فوقها يزعق: أحب عيشة الحرية. زي الطيور بين الأغصان. يومها ضحك عبده الفشار، وكان خالا لأبي، وقال باستنكار:
- عيشة الحرية. تعال عيشها، وشيل الفاس.
وضحك الناس وعبد الوهاب لا يزال يغني.
***
في طريق العودة تذكرت أن اليوم عيد ميلادي. خطر لي خاطر مجنون: لم لا أحتفل به كما يحتفل به ناس رأيتهم على الشاشة الفضية. حسبت ما بجيبي. اشتريت في كوب دفعت ثمنه عسلا أسود، بنصف قرش. ورغيفًا بمليمين ونصف مليم، وزجاجة كوكاكولا كبيرة سأذوقها لأول مرة بنصف قرش آخر، وشمعة كبيرة بمليم واحد. فوجئت بحي الحريري وقد هجع، وانطفأت أنواره الهادية عبر ثقوب النوافذ والأبواب.
فوجئت في ظلام الليل، بهرير كلب ضخم يقبل نحوي من قلب الحارة. سرى إليّ شعور بالخطر. أدركت أن الكلب مسعور. في اللحظة التالية وثب الكلب عاليًا نحو وجهي، في اللحظة نفسها، أنا البطيء التفكير والاستجابة، طوحت بقدمي نحوه. أصابت مقدمة حذائي الكلب في عنقه، تحت فمه. هوى الكلب وعوى. وارتد عاويًا ومبتعدًا. رأيته ضخمًا أسود اللون، أكثر ظلمة من ظلام الليل.
عند باب بيتي رأيت صاحبة البيت واقفة في فراغ الباب بعجزها وخضاب وجهها، وفي يدها مصباح بشعلة. قالت لي:
- يا حبيبي. انكتب لك عمر. ادخل يا ابني.
قادتني إلى غرفتي. دفعت الباب. أضاءت لي مصباحي. وبسطت لي ورقة صحيفة جلبتها من الركن، ووضعتها على طرف سريري لأتعشى, رأت الشمعة. فهمتْ. ابتسمت. قالت:
- عيد ميلادك؟
ذهبت إلى غرفتها، وعادت بكوبين وسمكة رنجة شويت من قبل، وتفسخت. سكبتْ الكوكاكولا في الكوبين لي ولها. أضاءت الشمعة. تراقص ضوؤها مع أنفاسها وأنفاسي، والهواء المتسلل من ثقوب النافذة. فجأة، قبل أن نمد أيدينا إلى طعامنا، رأيتها تغني: هابي برث دي تو يو. هابي برث دي تو يو.. هابي برث دي تو داووود. كأن السينما قد نقلت إلى غرفتي. ضحكنا. مالت إليّ، وقبلتني قبلة خاطفة، ونهضت قائلة:
- كل سنة وانت طيب.
***
لم أنفذ شيئًا مما عاهدت أبي عليه بيني وبين نفسي، سوى الانقطاع عن الذهاب إلى النجار. ومقاطعة صاحبه عبد القادر أفندي القريب السكن مني. ورحت أضيع وقتي في مدينة الزقازيق مرات أخرى، بين مكتبة بحر مويس، وكورنيش بحر مويس، ومقهى البوسفور، وأفلام السينما الجديدة، في كل دور السينما بالمدينة، يعينني عليها أن تذكرتها في الترسو بقرشين. ورأيت في عز الظهيرة، على شاطئ بحر مويس حين تنقطع الرجل، أو يسقط المطر، ويقيل الكثيرون في منازلهم، ما يثير خجلي وحسدي وفضولي.
تحت أشجار الكورنيش، كانت فتيات شريدات، بين باعة للمناديل والجوارب والأزهار والعطور والأمشاط، ومحترفات للبغاء، يستترن وراء الأشجار، ويمارسن البغاء علانية، نظير قرشين أو خمسة قروش، وهن واقفات متعجلات، مع شباب من العمال والمشردين وطلاب المدارس المراهقين.
تمنيت أن أدخل في اللعبة، شأني شأن غيري، لكن الخجل من العلانية، وبهذه الصورة المقرفة، حجزني دائمًا. وتمنيت مرارًا، أن أضع على رأسي طاقية إخفاء، وأقتحم حي الوسعة، مع المستترين المتنكرين الساعين إليه، في ظلام الليل، أو عز الظهيرة، أو مع قواد من هؤلاء القوادين المنتشرين في مقاهى المدينة، وهم يعرضون صورًا لفتيات ونساء في أوضاع محتشمة، وأوضاع فاضحة. وحققت هذه الأمنية ليالي طويلة، مع الاحتلام حينًا، والاستمناء حينًا آخر. قدَرٌ ما كان يسوقني سوقًا.
***
على ميدان المحطة، بمقابل شارع عباس، كان نفق يرى فاغرًا فاه، مغمورًا بالضوء من خارجه في النهار، والضوء في داخله في الليل. كان النفق ممتدًا تحت قضبان القطارات المارة فوقه شمالا إلى المنصورة ودمياط، وجنوبًا إلى القاهرة وشرقًا إلى معسكرات الإنجليز والإسماعيلية. كل الأنفاق التي عرفتها في الدنيا كان لها مدخلان عدا هذا النفق، فلم يكن له مخرج آخر على الناحية الأخرى تحت قضبان القطارات. كانت وظيفة النفق التي شيد لها هي خدمة أرصفة القطارات فقط، بدرج إثر درج على يمين الداخل إلى النفق يصعد عليه المسافرون، إلى رصيف إثر رصيف، وينزل منه المسافرون، من رصيف إلى رصيف.
كان نفقًا للمسافرين فقط، لا يجد معه المارة من أهل مدينة الزقازيق فرصة للعبور تحت القطارات من جهة إلى جهة أخرى، ومن أحياء بجهة إلى أحياء أخرى تقابلها. وبدا لي أن المدينة مقسومة بقضبان القطارات ونفقها إلى نصفين. نصف تجاري مدني ميسور الحال هو قلب المدينة ينتهي بفوهة النفق على ميدانه، ونصف شبه معدم وراء سور ممتد مع القضبان يمنة ويسرة، يقطنه العمال والطلاب وأصحاب البيوت الصغيرة المؤجرة، في غرف مقبضة وشقق بائسة لهؤلاء وهؤلاء.
وكان على من يريد العبور من جهة للمحطة إلى جهة أخرى أن يتبع أحد سبيلين. سبيل طويل مرهق ومنهك بجانب طريق السور ليعبر منه فوق قضبان القطارات إلى الجهة الأخرى على الكوبري العلوي بين حي "أبو الريش" ومدرسة الصنائع والمعهد الديني، وسبيل آخر طويل ومرهق ومنهك بجانب طريق السور أيضًا ليعبر مزلقانًا للقطارات بين حي الحسينية والمعهد الديني من جهة، والمقابر العطنة بترابها الذي يحمل روائح الموت وحي كفر النحال من جهة أخرى.
ولذلك كان لا بد مما ليس منه بد أمام أهل المدينة على الجانبين. شقوا فتحات بالأسوار الأسمنتية من الجانبين للدخول منها والخروج، واجتياز قضبان القطارت كلها قفزًا بينها وفوقها في النهار، وتلمسًا لمسارات القضبان المتقاطعة في الليل، ومراقبة حركة القطارات المقبلة ذاهبة وعائدة، طلبًا للنجاة، والعبور بسلام. وكثيرًا ما كان ينكفئ عابر قضبان ما على وجهه متعثرًا بقضيب أو بزلطة أو بحجر، أو يفاجأ بدهم وابور له كان في طريقه إلى عنابر مخازن الفحم والصيانة. وأحيانًا كانت القضبان المتقاطعة تطبق على رجل عابر تعيس الحظ لتتركه ذا عاهة، أو تريحه منها بدهم قطار مقبل له.
ومع ذلك لم تتوقف مغامرات المارة في العبور اختصارًا للطريق، ولم يقدم أحد من حكومة المدينة ولا حكومة بر مصر على فتح مدخل أو مخرج آخر لنفق ميدان المحطة، فوجود مدخل واحد ووحيد للنفق ييسر مهمة الأمن مع النصابين والنشالين وحماية عساكر الإنجليز وقطاراتهم من الوطنيين المغامرين. ولا أظنني توقفت يومًا من أيام الهروب من حصص الدراسة بالمعهد، عن اجتياز شق السور المقابل للمعهد، واجتياز قضبانه، وأرصفته، ونزول درجها، لألحق بحفلة صباحية من حفلات السينما، أو بجلسة في الضحى على مقهى البوسفور، أو الذهاب إلى مكتبة بحر مويس على الكورنيش، أو سبق مظاهرة خرجت من المعهد إلى ميدان المحطة، قبل أن تصل من مزلقان الحسينية إلى شارع عباس.
وفي مدخل النفق كان يجلس أو يقف على الجانبين باعة سريحة، يبيعون كل ما خف ورخص ولمع من أشياء وسلع وساعات مسروقة، وأمتار من أقمشة المظلات المسروقة أو المباعة من معسكرات الإنجليز بالتل الكبير والقصاصين، أو حتى من عساكر الإنجليز في شبابيك القطارات، نظير قطع من الصابون، أو تمثال فرعوني مغشوش، أو تربيعة مصرية مزينة بالخرز والترتر. وعبثًا كان عساكر البوليس يطاردونهم، فدائمًا يعودون. يسقط منهم من يسقط. وينجح في الهرب منهم من يهرب، ليعود من جديد.
***
وراء مبنى المحطة كانت أرض فضاء، بها سرية من عساكر الجيش المصري، لحماية قطارات الإنجليز عند الضرورة، وحماية المحطة نفسها عند الضرورة أيضًا، كان عساكر السرية بخيامهم ليلا، ويتناوبون الحراسة في جوانب معسكرهم الصغير طوال الليل والنهار، ويمارسون تدريباتهم اليومية كل ضحى، ويتناولون طعامهم البسيط من العدس والفول واللحم أحيانًا، والتمر المنقوع في الشاي. كان يحلو لي مراقبتهم عن بعد من وراء رصيف مهجور لمبنى المحطة. لم أر أحدهم قط يتجول على الأرصفة لحراسة لقطارات الإنجليز الذاهبة والعائدة.
ذات نهار رأيتها على المحطة. كانت تبيع وتشتري لعسكري إنجليزي بشباك قطار مفتوح. دار الحوار بينهما بالإشارة. فهمت من إشارات الحوار ما فهمته هي. فالعسكري يساومها على ما يعطيه لها بمضاجعتها تحت القطار بين القضبان. أبدت له قبوله بهزة من رأسها، وإشارة من يدها لكي ينزل. أخذت منه خيرًا من خيرات المعسكرات مقدمًا. وحين نزل من القطار حاملا بندقيته اللي أنفيلد كانت الفتاة قد اختفت. تلفت العسكري حوله، وطار صوابه. لمحها وهي تختفي وراء المحطة، تبعها وتبعته بدوري. أدركت أنها مقتولة لا محالة. لاذت البنت الهاربة بسرية العساكر المصرية في الخيام. ورأيت شاويشًا يتبعه عسكري بشريطين، وعسكري بشريط واحد، يخرجون من الخيمة شاهرين أسلحتهم في وجه العسكري الإنجليزي. رطن لهم وبرطم، وهدد وتوعد، ورطنوا بمقابله وبرطموا، وهددوا وتوعدوا، ولم يجد العسكري الإنجليزي مفرًّا سوى الانسحاب والعودة إلى قطاره.
وظهرت البنت الهاربة من الخيمة. والتف عسكر الخيام حولها، وفي عيونهم الجوع نفسه الذي كان في عيني العسكري الإنجليزي، ولكنه ظل جوعًا مكبوحًا. حكت البنت وأنا بالقرب أسمع، أنها هربت مع أهلها من الإسكندرية، خائفين من غارات الألمان بطائراتهم عليها، ونزلوا ضيوفًا فقراء على أقارب فقراء بمدينة الزقازيق.
على غير توقع انتبهت للشاويش يحدق فيّ ويقترب مني، ويقول:
- ازيك يا سليمان. انت هنا بتعمل إبه؟
حدقت فيه. تعرفت إليه. صحت به:
- ازيك يا محمد يا ابو ابراهيم. انت هنا بتعمل إيه؟
ضحك محمد عليّ، وقال لي:
- ما انت شايف. أنا شاويش السرية.
أخبرته أنني طالب بالمعهد الديني، وأنني أتسلل إلى أرصفة المحطة لأرى المسافرين والقطارات وعساكر الإنجليز، وأسلي نفسي.
كان الشاويش محمد قريبًا لي من فرع آخر لشقيق أبي جدي لأبي. كان أكبر إخوته الأربعة، وكان أبوه معروفًا بين أهل القرية كلها باسم "بلهنية"، لكرمه البالغ الحد في السر لا العلانية، ولضحكه الدائم كأنه لا يحمل همًّا، ولا يسنح لهمٍّ أن يعرف طريقًا إلى قلبه.
أشار الشاويش محمد للأومباشي، فذهب وعاد لنا بكوبي شاي. وطاب لي المجلس والعساكر من حولنا يسألونني في أمور الدين، وأنا أفتي فيها بما أعرف وما لا أعرف. فلدي في البيت عمامة.
كان شهر رمضان ذلك العام يقترب، وقال لي الشاويش محمد:
- كويس اللي انت جيت. ما تشوف لنا من زمايلك واحد من الطلبة صيَّيت، يقرا لنا ربع قرآن كل ليلة من ليالي رمضان.
دهشت لطلبه، فأنا لا أعرف صيِّيتًا بين الطلبة، بل لا أكاد أعرف طالبًا لا يزال يحفظ القرآن. لكنني قلت بعد تفكير:
- حاحاول. لكن..
فقاطعني الشاويش محمد:
- لازم ينسى حكاية الفلوس، لكن ممكن نسحره كل ليلة ونسحرك معاه، وآخر الشهر يا شيخ سليمان، نجمع له من بعض عيديته. اللي فيها النصيب. يعني جنيهن تلاتة.
***
في المعهد بحثت عن صييت حتى عثرت عليه. كان أيضًا يحسن الغناء، وتقليد المغنين، والعزف على العود، ويرتجل شعر الإنشاد الديني في مدح الرسول، والابتهالات إلى رب العزة جل شأنه. وكان بوسعه فيما قاله للشاويش محمد حين التقى به، أن يعود إلى قريته وما حولها من القرى، ويكسب من ورائها جنيهات ذهبية، في بيوت العمد والأعيان لو وافق له أبوه، ولن يخسر بغيابه شيئًا من دروس المعهد، فهو يذاكرها وحده في شهر المذاكرة كل عام. وأكد له أنه ينتظر عامًا ما يأتي فيه شهر رمضان في غير شهور الدراسة بالمعهد الديني، لو عاش، ومد له في العمر.
في اليوم الأول من شهر رمضان ذلك العام حضر الإفطار مع عساكره ضابط السرية. كانت له خيمة خاصة بالمعسكر الصغير، ولكنه لم يكن يبيت بها أية ليلة. وفاجأ الشاويش محمد والعساكر ضابط السرية بالمقرئ الصييت الذي أنساني الزمن اسمه، وشكل وجهه، ولم ينسني بعد ذكره. وأحسبه صار صييتًا شهيرًا بأدائه الغنائي صعودًا وهبوطًا مع المعاني والإيقاعات القرآنية من مقرئي القرآن الكريم بالإذاعة، ومبتهلا ومنشدًا يحلو للناس سماعه، إذا لم يكن الأجل قد عدا عليه. وكافأ الضابط المقرئ الصييتً من جيبه في تلك الليلة بجنيه ذهبي، ودبر له ولي وجبتين من اللحم على الإفطار مع كل غروب. واعتاد الضابط أن يصحب معه بين ليلة وأخرى ضابطًا أو أكثر للسهر معنا في الشهر الكريم، والسماع للإنشاد والابتهالات، فيما يكون الديدبانات ساهرين لحراسة المحطة على حدود المعسكر الصغير.
وحين سرى الصوت للركاب المسافرين في قطارات الليل أمر الضابط بحواجز فوضعت حول المعسكر، وكان الناس يقفون عندها حينًا، وينصرفون حينًا، ويتجددون حينًا كل ليلة بلا انقطاع. واعتدت بين ليلة وأخرى أن أبيت بالمعسكر مع قريبي "محمد أبو إبراهيم في خيمته.
***
بين التلاوة والتلاوة كان يطيب الحديث ويحلو السمر. العساكر القادمون من النوبة وبلاد بحري وقبلي، مدنها وقراها، يحكون. يصدقون حينًا فيما يحكون، ويفشرون حينًا فيما يقولون، ولا يمر كثير من الفشر بسلام، فسرعان ما يرتفع الضحك على الفشار، ويضحك الفشار بلا حرج مع الضاحكين.
فشار واحد، أو صادق واحد، هو وحده الذي لم نستطع له تصديقًا، ولم نقدر معه على ضحك. هو الشاويش عبد السميع. كان من الصعيد الجواني. وكان غائبًا عن المعسكر في إجازة، وكان أقدم من قريبي الشاويش رتبة. كان لوحي القوام، هضيم الوجه، غائر العينين والخدين.
إثر سهرة ليلة راح الشاويش عبد السميع يحدثنا، ونحن مشدوهون لأدائه بما يحكيه، ولا نستطيع له تكذيبًا ولا تصديقًا، كأنه يحكي حكايا من حكايا ألف ليلة وليلة، وألاعيب من ألاعيب البطال والشاطر شيحة. حكى عبد السميع في تلك الليلة حكاية مطولة عن عربة بضاعة انزلقت عجلاتها عن قضبان قطار الصعيد، وتعطل القطار عن متابعة سيره إلى أسوان. وكانت العربة في منتصف القطار. ومع توقف القطار، توقفت حركة كل القطارات القادمة من أسوان، والقادمة من القاهرة. وقدم صعيدي مجهول وطلب فصل العربة عن العربة التي أمامها، والعربة التي وراءها. وحين تم ذلك تقدم الصعيدي المجهول، وانحنى بجسده على مؤخرة العربة، وصاح مستعينًا بالله: يا قوي. ورفع عربة البضاعة بكفيه وساعديه، وأعاد وضع عجلاتها على القضبان، وسارع رجال السكة الحديد بربط صواميلها المفكوكة جيدًا، وواصل القطار مسيرته إلى أسوان. وحين بحث المسئولون عن ذلك الصعيدي لمكافأته، لم يعثروا له على أثر.
وعلق عبد السميع قائلا لنا:
- كان واحدًا من أهل الله الذين يجوبون البلاد.
وحين علم ضابط المعسكر الصغير بتلك الحكاية ضحك من قلبه، لأننا صدقناه، فلو حدثت تلك الحكاية لتصدرت أخبارها كل الصحف.
وحكى لنا عبد السميع في تلك الليلة عن صديق له من أصدقاء عمره. كان طالبًا في الكلية الحربية، وعاد في إجازة إلى بلده وسار وحيدًا من محطة القطار في ظلام الليل، ولكنه لم يصل إلى بيته أبدًا. وفي عز النهار عثر الناس على ما بقي منه. حذاؤه وحزامه الميريان، وأشلاء من ثيابه العسكرية، وعظامه، وبطاقة كليته ملطخة بالدم. وتحدث الناس عن أن الضبع المتربص بين الأشجار الصحراوية هاجمه على غفلة وافترسه.
وحزن لأجله صديق عمره. وقرر الصديق قتل ذلك الضبع، وراح يستشير عواجيز القرية، ونفذ ما قالوه. استلقى في نفس المكان الذي افترس الضبع به طالب الكلية الحربية، حتى أقبل الضبع، وكتم الصديق أنفاسه متظاهرًا بالموت، فمن عادة الضباع أنها لا تأكل الموتى. وحين هم الضبع بالانصراف، وثب الصديق فوق الضبع، وأحاط جسده بفخذيه ورقبته بساعده، وجز بكف ساعده الآخر رقبة الضبع، وبات ليلته يسلخ جلده حتى الصباح، وذهب إلى والد الضابط بجلد الضبع، ومعه قلب الضبع وكبده ليأكلهما الأب الكليم، ويشفي غليله.
وصدقنا ما رواه عبد السميع، وأيقنا أنه كان هو ذلك الصديق. ولم يسأله أحدنا قط عن وجود أو عدم وجود ضباع في كل بر مصر.
***
دهشت صباح يوم من وجود مستشفى فخيم في قلب المدينة، تابع لوزارة الصحة، تقف أمامه نساء منتظرات دورهن في الولوج من الباب المرصود. وعلى الباب، بل فوق الباب، كانت لافتة كبيرة بعرض الباب ذات أرضية سوداء مكتوب عليها بخط الثلث الأبيض العريض، بكل زهو: مستشفى الأمراض السرية. وكانت النسوة بين جريئات سافرات الوجوه والسيقان، قارحات العيون، مزججات الحواجب والجفون، ومستترات بالملايات السوداء، ومقنعات بالبراقع، ومحجبات طلبًا للستر، وتخفيًا من المعارف. وظللت أراقب المشهد بفضول من مقهى بشارع عباس لا أذكر اليوم له اسمًا.
عصر يوم آخر، تغير جمهور المشهد من النساء إلى الرجال، على رءوسهم طواق، أو طرابيش. كنت في تلك اللحظة أقف على بعد في زيي المعهدي، وراقني وأسعدني أنني لم أر عمامة على رأس أحد الواقفين. جلست على المقهى، ورحت أرقب الموقف. قرب الغروب قلت لجاري بمقهى المراقبة بعبارة مزهوة:
- شايف. ولا عمة واحدة.
فضحك مني ساخرًا، وقال لي وهو يشير إلى أكثر من واحد:
- بص. شوف. كل واحد حاطط لثام أبيض على بوزه وخدوده من زمايلك يا مولانا.
ابتعدت عن المشهد والمقهى بسرعة، وأنا أقول لنفسي ما قرأته في كتاب من كتب أبي الصفراء: "إذا بليتم فاستتروا."
***
سافرت إلى أمي يوم الخميس. كانت تذكرة قطار الدلتا بين الزقازيق والسنبلاوين بقرشين ونصف، وعزمت على أخذ أجرة السفر ذهابًا وعودة من أمي خمسة قروش بالتمام والكمال. وقد ذهلت حين رأتني، وصاحت:
- بسم الله الرحمن الرحيم. فين عمتك؟
فضحكت زوجة جدي، وقالت:
- لسه بدري يا ام سليمان. سيبي الواد يعيش زي الناس.
ومع ذلك قال أخي الأصغر وهو يضحك:
- شيل العمة شيل.
فقلت له بغيظ وكأنني بليت ببلية:
- ما تستعجلش. بكره تحصلني.
عندئذ سكت. وبدا عليه الخوف. كان في الصف الثالث بالمدرسة التوفيقية الابتدائية. ولم تتردد زوجة جدي في أن تنهرني قائلة لي:
- تف من بقك يا ابو داوود. فال الله ولا فالك.
***
كنا في شهر مارس، وكانت امتحاناتنا على ما أذكر من تلك السنة، في شهر مايو. وكان من عادة الطلبة، في كل عام، أن يمنحوا أنفسهم قبل الامتحان شهرًا للمذاكرة، بل إن بعضهم كان يعطي نفسه شهرًا ونصف شهر، أو شهرين، يعيشها مع الكتب بين أهله في بلده. وبين الطلاب كان طلاب آباؤهم مياسير، يعطونهم شهريًّا من ثلاثة إلى خمسة جنيهات. كانوا أبناء عمد وأعيان من القرى، أو تجار من المدن الصغيرة. وكانوا جميعًا عايقين وفلاتية، ترى شعورهم مفلوقة من الجانب الأيسر أو الأيمن.
لقيني أحدهم بمقهى البوسفور، وقال لي:
- بيقولوا إن خطك حلو وجميل.
قلت له:
- يعني.
فقدم لي كشكولين مكتوبين وثلاثة كشاكيل فارغة الأسطر من الكتابة، وهو يقول لي:
- انسخ لي الكشكولين دول في التلاتة دول، وحاديلك عن كل صفحة كتبتها قرش صاغ.
قلت له في الحال:
- موافق. كل تلت أيام تاخد كشكول.
وتتالت عليّ الكشاكيل من غيره وغيره، حتى صرت لا أجد تقريبًا وقتًا لنفسي.
***
خلت فصول المعهد من الطلاب بقدرة قادر مع آخر شهر مارس، حتى عنابر السكن الداخلي هجرها معظم من كانوا بها، ومع أول إبريل كان عليّ أن أعود إلى أهلي حاملا معي ثيابي، وكتبي التي لم يفتح منها بعد كتاب واحد، ووجدت لسريري السفري بعجلاته ومرتبته ووسادته ومخدته وملاءتيه مكانًا أمينًا عند عم مرسي، مع أدوات النظافة بمخزنها بالمعهد.
حين فتحت لي زوجة جدي الباب. وجدت أبي وجدي جالسين في الصالة. قبلت بد جدي ويد أبي. وراح قلبي يرتجف. فقد كان أبي ينظر إليّ بغيظ لا أعرف له سببًا.
صحبني أبي وجدي إلى غرفة الصالون. وقال لي أبى:
- خير. إنت سيبت المعهد وجيت ليه.
أخبرته أن الطلاب يعطون أنفسهم إجازة للمذاكرة قبل الامتحان بشهر ونصف. عجب أبي، وقال غير مصدق:
- لم يكن ذلك في زماننا.
وفوجئت بأبي يتنهد، ويقول:
- لكن إيه الفائدة وأنت محروم من الامتحان السنة دي.
بهت لما قاله، وقلت:
- إزاي؟ وليه؟
فقال لي أبي:
- علشان حضرتك صعت في الزقازيق.
لزمت الصمت. وتساءلت بيني وبين نفسي. ما دخل الصياعة بالحرمان من الامتحان؟
وقدم لي جدي مظروفًا مفتوحًا ومطويًّا، وهو يقول لي:
- اقراه يا فالح.
سحبت الورقة من المظروف. في أعلاها بخط جميل راق لي: الجامع الأزهر الشريف. وتحته في السطر التالي: معهد الزقازيق الديني. ورحت أقرأ أنني حرمت من دخول الامتحان ذلك العام، لأنني لم أحضر سوى ستين حصة وعشرين يومًا طوال العام الدراسي. بهت ووجمت. وقال لي جدي:
- ليه يا سليمان. وانت مش خباص ولا غبي؟
ولم أجد جوابًا له ولا لأبي. ونظرت تجاه باب الصالون لأهرب من هذا الموقف إلى حين. رأيت أمي واقفة هي وزوجة جدي على الباب تنظران إليّ. كان وجه أمي الأسمر مزرودًا مثل الكبدة من الغم. قالت لي ما لم أتوقعه، فهي شديدة الحنان دائمًا، باسمة الوجه دائمًا، لا تهزها الأحداث العابرة. قالت لي:
- ليه يا ابن بطني. شقانا ترميه في شوارع الزقازيق. وترجع لنا إيد ورا وإيد قدام.
لم أرد. وسمعت زوجة جدي تقول لها:
- وحدي الله يا ام سليمان. كل مشكلة لها حل؟ يعيد السنة وإن شاء الله السنة الجاية...
ولم تدعها أمي تكمل. صاحت بها، متجاوزة حدودها:
- أنت خاسس عليكي إيه؟ ما هو مش ابنك.
في الحال، انسحبت زوجة جدي مصدومة مما قالته أمي. وصاح بها أبي:
- اخص. امشي اتأسفي لها.
وانسحبت أمي من الصالة. وساد الصمت في الصالون. فقد سمعنا نشيج زوجة جدي في الصالة الداخلية. وسمعنا صوت أمي يقول لها:
- سامحيني يا زكية. أنا دمي فاير. دا انتي اللي ربيتي ولادي.
وأخذ أبي مني الورقة وطواها، ودسها في جيب جلبابه العلوي، وقال لجدي:
- حاحاول ادخله الامتحان. حاشوف زميلي أيام الطلب الشيخ الجداوي. يمكن يعرف يدخله الامتحان السنه دي. يمكن. ادعي لي يا ابا.
وسكت لحظة ثم قال لجدي:
- حاسافر بكره الزقازيق. وربنا يعمل اللي فيه الخير.
ونهض أبي، ووقف لحظة، وهو ينظر إليّ بجانب عينه نظرته الساخطة القاتلة، حين يكظم غيظه. قال لي:
- حسابك معايا بعدين.
وغادر الغرفة ليريح جنبه على سريره في غرفته. كنت مطرقًا لا أستطيع أن أرفع رأسي. لكن عيني كانت تدور في محجرها تراقب ما يجري حولي. طال الصمت بيني وبين جدي. ولم أجرؤ على النهوض لأرى إخوتي، أو أجلس مع أمي وزوجة جدي، أو حتى لأذهب إلى الحمام.
قطع جدي الصمت. وقدم لي كعادته معي حين نكون وحدنا، علبة دخانه الفرط وورق البافرة، وقال:
- لف لي سيجارة يا ابو داود لف.
لففتها له. وقدمتها له قائلا:
- سامحني يا جدي. ما فيش حد بيتعلم بالساهل.
نبر جدي من أنفه ساخرًا وعيناه عليّ. ثم قال لي:
- أكيد نسيت كمان القراية والكتابة وحفظ القرآن. وأكيد ما فتحتش كتاب من كتبك.
صدمني ما يقوله فلم أنطق بحرف. ووضع جدي كفه على رأسي، وقال لي متضاحكا:
- ما عنتش تنفع فلاح يا ابو داود. ومن بكره حوديك تتعلم صنعة. الظاهر إن ما لكش في العلم نصيب.
ونهض جدي، وغادر الغرفة وبقيت وحيدًا. ودخلت زوجة جدي عليّ. وقدمت لي مسبحة، وهي تقول لي:
- دي هدية جدك ليك.
وقدمت لي سجادة صلاة عليها محراب به الكعبة، وقالت لي:
- ودي سبحة هدية أبوك ليك، من عند النبي.
لم أمد يدي إليها. وحاولت البكاء لينقذني، لكن عينًا من عيني لم تذرف دمعة واحدة. وضعت زوجة جدي الهديتين جانبًا، وقالت لي:
- فاتك ما تغديتش. تعال معايا أحط لك الغدا.
لم تنهض. ولم أرد. وأطل أخي أبو سمرة من باب الصالون، وقال لي:
- ما تاخدني معاك. نلعب ونهيص. أكيد اتعلمت طاولة وشطرنج ودومينو.
نهرته زوجة جدي وطردته من الغرفة. فاختفى من فتحة الباب. ومدت يدها لتأخذني في حضنها، لكنني أبعدتها. وغادرت الغرفة قائلا لها:
- حامشي شويه لوحدي وأرجع المغرب.
فزعت وهبت تجري ورائي:
- إوعى تعمل في نفسك حاجة يا ابني.
كان جدي في الصالة. سمعت جدي يقول لها وأنا أفتح باب البيت:
- سيبيه يتعلم يا زكية. أنا حاربيه.
***
بعد صلاة العشاء عدت إلى البيت. لم يكن لي مكان آخر أذهب إليه. وضعت لي جدتي طعامي فأكلت، وأعدت لي طشت الحمام فاستحممت. وصحبتني إلى غرفتها، وكان جدي نائمًا أو متناومًا على سريره. وجلست مع زوجة جدي على الكنبة التي سأنام عليها. وقالت لي زوجة جدي لتسليني:
- إيه أحسن حاجة شفتها في الزقازيق.
أجبتها على الفور:
- المكتبة. مكتبة بحر مويس. قريت فيها قراية. ياما.
لم تفهم زوجة جدي. قالت ساخرة:
- ما قريتش معاها كتب المعهد؟
عندئذ نترت يدها. وقلت لها:
- سبيني. عايز أنام.
وتمددت على الكنبة. وفكرت وأنا أدخل في النوم أنني لم أر إخوتي، وأن أحدًا منهم لم يأت إليّ. أبو سمرة وسها يذاكران دروس الغد. وسوسو وسونة جالستان بلا صوت، فلم يذهبا إلى المدرسة بعد. ونهضت زوجة جدي، وأطفأت نور الغرفة. وساد الظلام. ورحت في غيبوبة الموت الأصغر.
***
في الصباح كان أبي قد سافر مبكرًا إلى الزقازيق في قطار السكة الحديد لسرعته عن قطار الدلتا. وفوجئت بما يفعله جدي معي. كان يضحك في وجهي ويضاحكني. رابني ما يفعله معي، وكانت زوجة جدي تنظر إليه في دهشة لا تفهم سر انقلابه في معاملتى. وأمي تروح وتغدو من أمامنا في الصالة ناظرة إلى جدي نظرة لوم لمرحه معي. وجدي يتجاهل الاثنتين.
حين اقترب الظهر وضع جدي يده على رأسي، وراح يقلب شعرى، ويقول لي:
- شعرك طول يا ابو داوود. تعال معايا نحلق سوا. ونرجع سوا على الغدا.
انتهى الحلاق من حلق شعري. حلقه بنمرة تلاتة، وحين رفعت صوتي محتجا قائلا:
- تصليح بس..
كانت مكنة الحلاق اليدوية قد جزت بالفعل مستطيلا طويلا من منتصف رأسي. صحت به:
- مش حاحلق عندك تاني. دي حلاقة المساجين.
أغرق جدي في الضحك، وقال لي:
- الحلاقة كده بتثبت العقل يا ابو داود. وتخليك ذكي.
لم أرد عليه، وظللت أنفخ صامتًا في غيظ.
حين انتهيت من الحلاقة، أخرج جدي من جيبه طاقيتي الدبلان البيضاء المزدوجة الداير، وأعطاها لي وهو يجلس في مكاني أمام الحلاق. وقال لي:
- استناني حنروح سوا يا ابو داود.
جلست على كرسي في مواجهة مرآة كبيرة، أرقب قفاه، ووجهه أراه في المرآة، ويد الحلاق المدربة، وحركتها الرتيبة بمكنة الحلاقة، وسنه للموسى على سير من الجلد في طرف منه أبزيم من الحديد الأبيض اللامع. وطرقاته الموقعة عليه بالموسى.
حين انتهى جدي من حلاقته، قال للحلاق:
- زي ما قلت لك.
ولم أفهم شيئًا. كانا يتهامسان أثناء حلاقته بما لم أفهمه، وما لم أهتم به. وغادر جدي دكان الحلاق، وأنا أتبعه، لكن الحلاق وقف بيني وبين باب الخروج، وقال لي:
- حتفضل معايا هنا تتعلم الصنعة.
شتمته، وكان جدي يمضي في الميدان مبتعدًا دون أن ينظر وراءه.
كان سير المسن الجلدي لا يزال في يد الحلاق، فهوى به عليّ مرة بعد مرة. دفعته بلكمة في وجهه، فطار صوابه. وراح ينهال عليّ ضربًا بالسير من جهة الأبزيم. آلمني الضرب، فانهرت جالسًا على الكرسي، وجلس هو على كرسي آخر. وأدار ظهره لباب المحل، حتى لا أفكر في الخروج.
توقف بكائي. ومن غيظي لم أجفف دموعي. أيقنت في تلك اللحظة أنني سأكون حلاقًا، بل صبي حلاق. أفزعني المصير. انتظرت حتى أغفى الحلاق في جلسته، أو لعله كان مطرقًا يفكر.
نهضت من مكاني فجأة. وخطفت المكنسة ذات العصا الخشبية من ركنها، ورحت أدمر بها كل شيء تطوله يدي. المرآة. وأدوات الحلاقة، والشماعة العمود. وبدا الحلاق خائفًا للحظة من هياجي وسرعتي. هجم عليّ بسيره لكن عصاي ضربته على أذنه ففر من الدكان، وتبعته وأنا أجري، والعصا لا تزال في يدي، عائدًا إلى بيتي.
***
حين رأتني زوجة جدتي والعصا في يدي صرخت. ونادت:
- الحق يا حاج علي.
جاء جدي ونظر إلىّ مبهوتًا، وقال لي:
- انت عملت إيه؟
لم أرد عليه، ورميت بعصا المكنسة، وجلست في الصالة، ورحت أبكي بحرقة، فلم يزد جدي على أن قال لي:
- حنرجعك البلد تشتغل فلاح أحسن لك.
صحت به:
- حاشتغل نجار. أختار الشغلة اللي تعجبني. مش عايز أبقى شيخ علشان خاطرك.
جاءت أمي من حوش المطبخ لتعرف ما الذي يجري. قفزت من مكاني مغادرًا البيت. وقفت في الحارة حائرًا أجفف دموعي. ونظرت إلى باب البيت، فرأيت أمي واقفة تشير إليّ كي أعود.
رأيت زلابية وصفية ابنتي جارنا واقفتين في شرفة البيت المقابل. ضحكت زلابية الخفيفة الظل، وقالت لي:
- مين اللي ضربك يا سُلم. انت وديت شعرك فين؟
كانت قد نهدت وصارت أنثى مكورة الثديين، وبدت شفتها السفلى، وكأن عليها قطرات ندى. لم أرد عليها، واتجهت من الحارة إلى الشارع، واستدرت على الخرابة.
حين رآني روشة في شادر الخشب، هب واقفًا، وعانقني، وجلسنا، وفي الحال قال لي:
- أنا عندي شوية روايات جيب جديدة.. تهبل.
ظللت صامتًا. وآثر روشة الصمت مراعيًا لحالتي. وحين هدأت سحب من جانبه روايات جيب. وقدمها لي. وفوجئت بنفسي أقول له بهدوء:
- بعدين. بعد الامتحانات يا سعد.
عجبت من ردي عليه، وكأنني فعلا سأدخل الامتحان هذا العام، وكأنني فعلا سأكون شيخًا. ورحت أفكر فيما فعله جدي معي. شرخني ما صنعه بي، هو وحده من بين كل الناس من أمنت له، كما لم آمن لأبي ولا لأمي ولا لأي أحد. مع الغروب أغلق روشة شادر الخشب. وعدت إلى البيت لأعرف ما فعله أبي.
***
كان الصمت يسود البيت لما فعله جدي بي. غضبت أمي. وغضبت زوجة جدي وقاطعتاه. وجرؤت أمي فقالت لجدي:
- فال الله ولا فالك يا حاج علي.
وضحك أخي مما فعله جدي بي عند الحلاق، لكنه لم يلبث أن قاطع جدي بدوره.
حين هدأ مَن في البيت، جاء جدي وأنا جالس مع سيدتيْ البيت، وجلس بجانبي وابتسم، وقال لي أمامهما:
- كل اللي فكرت فيه يا ابو داود إنك تاخد درس. تشوف حتكون إيه لو سيبت العلم.
لم أرد عليه، ولم يرد عليه أحد آخر. وساد صمت قطعته زوجة جدي بقولها، وهي تنظر لجدي، وكأنها تحدث نفسها:
- عيني عليك يا عبد المعطي, عليك تدفع خسارة محل الحلاق.
نظر إليها جدي بغضب، وغادر الصالة، وذهب إلى سريره، وأضرب في تلك الليلة عن تناول عشائه.
***
اقترب منتصف الليل، ولم يعد أبي من الزقازيق، وكان واضحًا أنه لم يعد ثمة قطار سيأتي الليلة إلى المحطة، وراحت أمي تتلفت يمنة ويسرة، وتنهض وتروح وتجيء، وتجلس، وتنظر من الشباك إلى الشارع المظلم، وزوجة جدي تقول لها مرة:
- الغايب حجته معاه.
وتقول لها مرة:
- ما دام اتأخر يبقى خير إن شاء الله.
وتقول لها مرة:
- هوه فيه حاجة بتنقضي في يوم واحد يا أم سليمان.
كانت زوجة جدي برغم ما تقوله أكثر قلقًا من أمي. تقول ما تقوله لتصبر نفسها وتصبر أمي معها.
كنت أكثر مَن في البيت قلقًا، فمع قلقي وتراوح نوبات من الأمل واليأس عليّ، بين دخولي الامتحان وحرماني منه، كان الشعور بالذنب يغمرني، ويرعشني خوفًا على أبي أكثر من خوفي على نفسي، حين يصبح حرماني من الامتحان أمرًا واقعًا. وكان جدي يخرج من غرفته بين فترة وأخرى، بل بين لحظة وأخرى، لينظر من النافذة دون أن يسأل أحدًا: هل جاء أبي؟ ولم يتعلل في كل مرة بأي عذر يخفي به قلقه. كان ابنه الوحيد على ثلاث بنات تزوجن، وعائلنا الأوحد، ولا عائل لنا بعده.
كان جدي قد توقف عن الفلاحة، وأجّر الأرض، وجاء مع زوجة جدي نزولا على إلحاح أبي، ليعيش معنا في المدينة، ليطمئن عليه أبي، وليريحه من الأرض وشقاء الأرض، ولم يكن جدي سعيدًا بهجره القرية، وأهله وأهلها، وأراضيها وسمائها، وذهابه إلى الأرض، وتفقده لغرس يديه، وعودته سعيدًا يطلب العشاء، وجلوسه يمني نفسه بأيام الحصاد، وبقائه وحيدًا وغريبًا في مدينة غريبة لا شأن له بها، ولا مكان له فيها، ولا صديق، إلى أن اصطنع له صديقًا.
كان الصديق كبير السن مثله، كاتب عرضحالات للناس، أمام المركز، وبالقرب من المحكمة، وحديقة المركز، يجلس بجانبه، ويجلسني معه، لألف له سجائره اللف، وسجائر كاتب العرضحالات، وأقدم لهما أقداح الشاي، ويروح يرقب شكاوى الناس، ويسمعها، ويحاورهم، ويعجب حينًا لعبط المظاليم، وحينًا لعبط الظالمين، وحينًا لكاتب العرضحالات، ينطق وهو يكتب: لا سيما، ويا حبذا، وحيث إن، ويضحك ساخرًا قائلا للشاكين:
- هيه دي اللي فيها البركة إن شاء الله.
***
في الصباح، أيقظتني أمي. كان في يدها منبه البيت، وكانت أرقامه هي الوحيدة التي تعرفها من القراءة والكتابة، على حين كانت أمها تعرف القراءة والكتابة وتتحدث بالتركية أيضًا. قالت لي:
- الساعة عشرة يا ابني، وأبوك لسه ما جاش.
جلست في الحال لاهتمامها بي كأكبر بنيها، ورحت أخترع لها حكاية أبرر بها غياب أبي، دون أن أكون على ثقة بأي شيء مما قلته. ومن الغريب أن كل ما قلته لها تحقق بالحرف الواحد.
مع الغروب جاء أبي. دق الباب دقة، فأرهف كل من في البيت سمعه، كأن الزمن قد توقف، فدقة، فخفق قلبي منتظرًا الدقة الثالثة. جاءت الدقة الثالثة. قفزنا كلنا من حيث كنا نحو الباب، فتلك هي دقات أبي الثلاثة المعتادة المنفصلات المتتابعات، والتقت على مزلاج الباب من الداخل يد أمي ويد زوجة جدي في وقت واحد. وكان أول ما فعله أبي هو ذهابه إلى جدي في غرفته، ورده الباب وراءه. وظل أبي معه برهة.
ظل جدي في غرفته حين غادرها أبي. وأحاط الكل أبي بالأسئلة عن.. وعن.. ومع أن أبي لم يرد على أحد، لا أمي ولا زوجة جدي، ولا أخي "أبو سمرة"، فقد نزلت الراحة على قلوب الكل، لأنه عاد، ولأنه كان ينظر إليّ في لحظة، وللحظة خاطفة مبتسمًا، ولكنه لا يلبث أن يسحب ابتسامته. وذهب من فوره إلى غرفة جدي مرة أخرى. وتبعه الكل، ولم أجرؤ على أن أتبعه، فلا زلت خجلا من نفسي.
***
كان جدي جالسًا على طرف سريره متوشحًا كعادته بكبريائه، كجد وأب ورجل، حريصًا أبدًا على أن يبدو ثقيلا وحكيمًا. وقدم له أبي ورقة في يده. فقلبها جدي لحظة في يده من أعلى ومن أسفل إلى أعلى، ومن يمنة إلى يسرة. نسى أبي أن جدي لا يعرف من القراءة إلا أن يقرأ آيات المصحف، ويعجز عما عداها، ويعجز كذلك عن الكتابة إلا عن كتابة اسمه. رفع جدي رأسه باسمًا وضاحكًا. وقال لأبي وكأنه قد قرأ وعرف:
- الحمد لله.
واشرأب جدي برأسه، فلم يرني، فغادر الجالسين وأقبل نحوي وفي يده الورقة وتبعه الكل. وحين وقع نظره عليّ قال لي:
- مبروك يا ابو داود.. شد حيلك بقى.
فانصرفت من الصالة وأنا بين الرضا والغضب. وخلوت بنفسي في حوش البيت، وقلت لنفسي وقد غفرت لجدي: "علقة تفوت ولا حد يموت."
بعد الغداء خلا أبي بأمي، وروى لها سبب تأخره في العودة، وما فعله كي يأتي لي بموافقة المعهد على دخولي الامتحان هذا العام. وحين انتهى، سمعت أمي تقول له:
- ده اللي قاله ليه سليمان بالضبط. الواد ابنك ده شيخ مرفوع عنه الحجاب يا حاج.
فضحك أبي وسمعته يقول لها:
- قولي ذكي.. ماشي.. لعبي ماشي.. لسه بينه وبين المشيخة بدري.
في تلك اللحظة، وضعت يدي على رأسي أتحسس عمامة لا وجود لها. وضحكت على نفسي. وانسللت إلى غرفة المذاكرة، وكانت غرفة إخوتي. وانحنيت تحت السرير. وسحبت حقيبتي، وأخرجت منها كتبي. رصصتها صفًّا واحدًا فوق واحد، وأنا لا أعرف اسمًا واحدًا منها، ولا في أي مادة هو. وكانت لها رائحة غبرة لزجة قد التصقت بها من طول الهجر.
***
في مدينة الزقازيق، لجأ أبي إلى زميله في سنوات الطلب الشيخ عبد المنعم الجداوي. وجده جالسًا مع المشايخ في غرفة شيخ السكن. انفرد به أبي وشكاني له، أنا الذي لم أره ولم يرني إلا مرة واحدة، حين صحبني من يدي إلى لجنة القبول بالمعهد، وأجلسني. وقال لي ببساطة، وكأنه يضع كل شيوخ الامتحان في حفظ القرآن في جيبه:
- سمّع يا ابني .. أول آل عمران.
ولم أكد أقرأ بضع آيات لا تزيد عن الخمس، حتى قال لي:
- بارك الله فيك. إنت حافظ كويس.. روح لأبوك يا ابني. وشد حيلك في امتحان الإملاء وامتحان الحساب.
ولم يكن الشيخ الجداوي يعرف أنني ماهر فيهما فقد درستهما ودرست الخط الجميل معهما بالمدرسة الإلزامية بقريتي ثم بالمدرسة الأولية بالسنبلاوين.
في الحقيقة كنت قد حفظت نصف القرآن جيدًا. وحفظت النصف الباقي الأخير نص نص. وفي انتظار امتحان القبول بعد شهرين. كان أبي يجلس ويجلسني أمامه ويفتح المصحف ويتابعني على صفحاته، وأنا أقرأ له غيبًا عن ظهر قلب ما يقرؤه هو بعينيه. خمسة عشر جزءًا كنت أسمعها له عن ظهر قلب كل يوم نصفها في الصباح، ونصفها في المساء فقد أعطى نفسه إجازة من المدرسة طوال شهر كامل. كل يوم بعد أن ينتهي تسميعي أعاود الحفظ لما سأسمعه له في اليوم التالي، حتى ما لم أكن قد حفظته جيدًا من القرآن الكريم. عندئذ تركني أبي لأعاود تسميع القرآن بنفسي لنفسي، فتظاهرت بذلك، مع أنني لم أسمع القرآن لنفسي طوال ذلك الشهر مرة أخرى، حتى ظننت أنني قد نسيت القرآن كله، وبت قلقًا من لحظة الامتحان به بالمعهد الديني.
***
نصح شيخ السكن أبي والشيخ الجداوي بالذهاب إلى دكتور المعهد للحصول على شهادة طبية منه، تبرر انقطاعاتي غير المنتظمة، أيامًا وحصصًا وأسابيع، عن حضور دروسي بالمعهد. ولم يتح لأبي وصديقه الفرصة للقاء طبيب المعهد في الليل بعيادته، إلا في الليل، ووضعا في يده الواجب وما ينبغي، فحرر دكتور المعهد لي شهادته بأنني كنت مصابًا بحمى راجعة، متقطعة، تذهب بدون مناسبة، وتعود بدون مناسبة، وأنني كنت تحت العلاج في عيادته. وقضى أبي ليلته في لوكاندة بميدان المحطة.
وفي اليوم التالي قرب الظهيرة، اعتمد شيخ السكن شهادة طبيب المعهد، وكتب غي ورقة في من أصل وصورتين ما يفيد السماح لي بدخولي امتحان العام الدراسي الميلادي 1942/ 1943.
***
في الصباح فاجأني أبي بدخوله عليّ. وقال لي وهو يجلس على الأرض بجانبي:
- كويس إنك افتكرت الكتب. وكويس إنها لسه معاك.
ورفع كتابًا منها وشمه، وتحسس غلافه، وفر أوراقه، وكانت به بعض أوراق متصلة ببعضها لم تطلها حد سكين. وكرر ذلك أبي مع ما يليه، وما يليه. ثم قال لي دون أن ينظر إليّ، ولو نظر إليّ لقتلتني عيناه:
- ولا كتاب منها اتفتح.
ونهض واقفًا. وكاد أن يغادر الغرفة، لكنه توقف، فوقع قلبي في قدمي، خوفًا مما سيقوله أو يفعله. قال لي أبي:
- النهارده سماح.. من بكره الصبح حتذاكر.. حاذاكر لك بنفسي.
وتركني وحدي. حملت كتبي إلى غرفة الصالون. جلست على كرسي. ورحت أحاول أن أفهم: كيف سيذاكر هو لي، وأنا الذي سيذاكر لا هو. وكيف سيذاكر لي وهو يجلس على نَفَسِي، وأتوقع منه في كل لحظة صفعة بيده، أو نقحة من خرزانته.
***
في الليل، جذبني صوت ضحك أبي، وهو جالس مع زوجة جدي وأمي، في غرفة جدي. كان جدي يحكي له ما فعله بي عند الحلاق، وما فعلته عند الحلاق، وبدلا من أي رد فعل آخر من أبي راح أبي يضحك. فجرّ بضحكه معه ضحك جدي وزوجة جدي وأمي. كان أبي سعيدًا لأنني سأدخل الامتحان، وسعيدًا لأن جدي أعطاني تحذيرًا قاسيًا. قالت أمي محتجة فجأة:
- الحلاق ضرب ابنك يا حاج بسير الجلد.. وبتضحك؟
فقال لها:
- براوه.. براوة عليك يا ابا.
فقالت له أمي:
- الواد ابنك ضربه بالمقشة يا حاج وكسر له المحل.
فوجم أبي لحظة ثم ضحك، وقال:
- اتعلم يبقى راجل.
فضحك جدي، وقال:
- بيفكرني بيك يا عبد المعطي، يوم ما مسكت طه فياض من رقبته وفقعته راس.. فضل نايم فيها تلت تيام. طالع لك.
فعلقت زوجة جدي لجدي:
- هه.. وفلوس المحل اللي اتكسر.. مين حيدفعها يا حاج علي. دي تلاقيها إيجار فدان.
صمت جدي. وصمت أبي, وأدركت في تلك اللحظة، أن أبي سيدفعها حتى لو اقترضها، وأن أبي سيسترد مني ما دفعه لسبب ولغير سبب، علقة وراء علقة. وانسحبت من باب الغرفة في الحال، لأبحث عن خرزانة أبي، وأخفيتها من غرف البيت كله. دسستها في قلب الفرن بحوش البيت، مع ركن الحطب به، في قلب الرماد.
وبت ساعات من ليلتي ساهرًا بغرفة الصالون، أقلب في كتب علومي، وأفكر بأيها أبدأ، وكلما أمسكت بكتاب وقلبته، شعرت بالفزع مما به، واستثقلت ظله، وحدثت نفسي بأنه سيسد نفسي عن المذاكرة، أو وضعته جانبًا لخفة ظله، فالكتب الثقيلة الظل هي التي ينبغي أن أركز عليها أولا، وأعود أحدث نفسي بالبدء بكتاب خفيف الظل لفتح النفس، ورحت في نوم كابوسي كالتيه، وكتاب منها في يدي، وامتدت يد أحد بالبيت، وأطفأت نور المصباح المدلى من حبل بسقف بالغرفة، وردت عليّ الباب.
***
صحوت مبكرًا، خرجت لغسل وجهي ورأسي طلبًا للإفاقة واليقظة. وحين عدت إلى غرفتي وجدت أبي جالسًا بها، وفي يده كتاب الأجرومية في النحو. قال لي دون أن ينظر إليّ:
- اجلس. جلست.
قال لي:
- سنبدأ بكتاب النحو.
قلت له:
- الفقه أحسن. الفقه صعب.
قال لي:
- بدون نحو ما فيش فقه. بدون لغة. ما فيش علم. أنا أدرى منك.
وفتح لي صفحة على أول درس عن الكلام المفيد والكلام غير المفيد بكتاب الأجرومية. كان الكتاب مكونًا من متن وتحته خط في كل صفحة بعرض الكتاب. وتحت الخط شرح لما ورد بالمتن. وقال لي أبي:
- اقرا. عايز اعرف قرايتك.
قرأت بعجلة وسرعة، ثم بهدوء وتؤدة. فقال لي:
- قرايتك كويسة. غلط في النحو كتير. ماشي. مش مشكلة.
ثم قال لي:
- أنا حاروح المدرسة. وارجع العصر. المغرب حاسمع لك عشر صفحات تكون حفظتها صم، وفهمتها كويس.
وأخرج لي خرزانة من تحت كاكولته، ووضعها بجانبي، وقال لي:
- الخرزانة دي تفضل هنا. ما تنشالش من هنا زي الخرزانة التانية. عندي غيرها وغيرها. فاهم.
ونهض مغادرًا البيت. وجاء جدي وجلس بجانبي، وقال لي:
- أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة.
فقلت له بغيظ:
- أنا اعرف أكتر منه بألف سنة.
قال لي جدي:
- ازاي؟ مش فاهم تقصد إيه.
قلت له محتجًا:
- كله حفظ حفظ. هوه قرآن. فيه فهم. العلم فهم. بقى معقول يا جدي احفظ كل الكتب دي. عشر كتب في شهر ونص قبل الامتحان.
فقال لي متوجسًا شرًّا:
- لو بدأت من أول السنة. كانت اتحفظت كلها وانت السبب.
بدا لي يائسًا وغير فاهم. ونهض وتركني. في طريقه إلى الباب، ودخلت زوجة جدي حاملة الفطور لي وله على صينية, فقال لها جدي:
- مش عايز آكل. سد نفسي. نفسه هوه مفتوحة. ادي له ياكل.
وخرج، ووضعت زوجة جدي الصينية بجانبي، وقالت لي:
- كل يا ابو داود علشان تعرف تذاكر.
وهي تخرج. قلت لها ساخرًا بوقاحة ما لم تفهمه:
- قصدك علشان اعرف أحفظ.
***
عاد أبي مع العصر من مدرسته. كنت لا أزال بالغرفة. وعاد بعده إخي وإختي. ولم يفتح عليّ أحد منهم الباب. كنت كالمنبوذ الذي تقررت مقاطعته. دخلوا وتغدوا وقيلوا، وتغديت وحدي غداء خفيفًا على عجل، حتى لا يغلبني النوم. ولم أجرؤ على الخروج من البيت لتمشية رجليّ. اكتفيت بالمشي في الغرفة.
حين صحا أبي من النوم، توضأ وصلى المغرب بالبيت. ودخل عليّ غرفة الصالون. وجدني وكراسة في يدي، أروح وأجيء وأتمتم أحيانًا، وأنظر في الكراسة أحيانًا. ونظر أبي جانبًا فرأى الخرزانة لا تزال في مكانها كما تركها. جلس أبي، وقال لي:
- هات الأجرومية.
أعطيته الكراسة، فطوح بها إلى مقعد بالصالون دون أن ينظر فيها، وعاد يقول لي:
- هات الأجرومية.
أعطيته الأجرومية. واستعددت لتلقي علقة على رجلي أو كفي أو ما شاء أبي من جسدي، ولن ينجدني أحد، فالكل غاضب عليّ في هذا البيت. أخذها مني، وقال لي وهو يشير إليّ لأجلس أمامه تحت قدميه على السجادة:
- اجلس وسمَّعْ.
جلست أمامه على السجادة. فقال لي قبل أن أقول له حرفًا:
- سمع من الأول. وأي غلطة حتاخد عليها خرزانة.
لزمت الصمت مبهوتًا أمام إصراره على التسميع. قال لي مكررًا:
- سمَّعْ.
فقلت له:
- لم أحفظ منها حرفًا. قرأت ثلث الأجرومية في نهاري، وفهمت ما يقوله المؤلف. فاسألني ما شئت في هذا الثلث.
لم يرق لأبي ردي، وبدوت له مغرورًا. فقال لي:
- افتح إيديك الاتنين.
فتحت كفي وأنا أقوله له بهدوء:
- اضرب. اضرب. مش حاصرخ. مش حاقول آه أبدًا.
أحسست بحركة. خارج الباب المغلق. قدرت أن جدي وأمي وربما إخوتي خارج الباب ينتظرون ما يحدث، ويتسمعون ما يقال. راح أبي يضرب كفي بالخرزانة، ولم أقل له: آه. ووصلت إلى لحظة لم أعد أشعر معها بأن كفي هما كفاي. فرحت أبتسم له فقط، وأنا أنظر إليه فصاح بي:
- انت حتعمل لي زي ما عمل لي ابن الطرشوبي.
كان ابن الطرشوبي زميلا لي بمدرسة القنطرة الأولية التي يعمل أبي سكرتيرًا بها. وكنت وإياه نعاقب يومًا بخرزانة على قدمينا في الفلكة. أنا لأنني اتهمت ظلمًا بمعاكسة بنت قبيحة شعثاء الشعر في الحارة، لم أستجب لمعاكستها لي قط. وهو لأن أباه جاء إلى المدرسة وشكا منه، وطلب من ناظرها معاقبته، أنا صرخت وصرخت وتلقيت على قدمي عشرين خرزانة، وهو تلقى خمسين خرزانة، ولم يصرخ قط، فقط كان يضحك، ويقول مستفزًا: اضرب. لسه. لسه. كمان. كمان. اضرب. اضرب. رقدت في البيت متورم القدمين طوال يومين، أما هو فلم يكذب خبرًا. انتقم من أبيه، لا من أبي، ولا من المدرسة، حمل نبوتًا، وهاجم محل أبيه، وحطم معظم ما فيه، وضرب كل من اعترضه، وامتلأت أرض المحل بقطع الأكواب الزجاجية، والشفاشق، والأطباق الصيني، وطواجن الخزف.
توقف أبي عن ضربي وغادر الغرفة غاضبًا ويائسًا.
دخل جدي إليّ، وقال لي:
- وريني الكراسة.
نظر فيها فرأى عشر صفحات بها ملأى بالكتابة بقلم كوبيا، راح يقلبها صفحة بعد صفحة. وقال لي بدهشة:
- عملت ده كله النهاردة.
قلت له بغرور:
- أنا أذكى منه.
ضحك جدي من غروري. قال لي مستفهمًا وهو يمسك بالأجرومية والكراسة معًا:
- يعني كل اللي هنا هنا. اللي في الكتاب ده في الكراسة دي.
أكدت له ذلك بهز رأسي، وقلت:
- كلام الكتاب دقة قديمة وكلامي يفهمه أي حد. ويتفضل يسألني من الكتاب والا من الكراسة أسئلة فهم مش حفظ.
كأن أبي كان وراء الباب، فقد دخل وقال لي متحديًا:
- هات الكراسة يا فالح. حنشوف.
أعطيته الكراسة تنقلت عيناه على صفحاتها بسرعة. كتم شعوره بالرضا عما لقطته عيناه من كتابتي. وقال:
- طيب. جاوب يا فالح.
وراح يسألني عن الكلام المفيد وغير المفيد، والجملة الاسمية، والجملة الفعلية، وشروط المبتدأ، وأنواع الخبر الخمسة، وأزمنة الفعل، وأنا أجيبه وأضرب له لكل ما يسألني عنه بدلا من المثال الواحد مثالين وثلاثة. وبدا لي أبي في لحظة وقد نسى النحو كل النحو، فقد كانت عيناه دائمًا على الكراسة. وقدرت أن أبي جرى تعليمه بالحفظ والتسميع والفهم يأتي بعد ذلك أو لا يأتي قط. ووضع أبي الكراسة، وقال لي بشك ورجاء:
- يعني حتنجح وتقدر تخلص كل الكتب دي في شهر ونص على الامتحان؟
قلت له مؤكدًا:
- سأذاكرها كلها بطريقتي مرة واحدة في شهر. والمرة التانية في نص شهر. زي ما زمايلي قالوا لي. انت مش عايزني أنجح حانجح. والله حانجح.
فقال لي:
- قول إن شاء الله.
قلت:
- إن شاء الله.
نهض وقال لي بشك:
- حنشوف يابني. حنشوف. اتوكل على الله وعوض اللي فات.
وغادر الغرفة، وعز عليّ أنه لم يعتذر لي لضربي ظلمًا. ولمت نفسي، فاعتذاره لي سيوجع قلبي، هو أبي، ومن حقه ضربي, وأطل وجه زوجة جدي علينا مشرقًا، فقال لها جدي:
- عشيني أنا وابو داود هنا. عشا كويس يا زكية يغذي.
ورحت أذاكر وحدي. في النهار والليل كيفما شئت، في البيت وخارج البيت كيفما شئت، على شاطئ ترعة البوهية، أو في حديقة المركز كيفما شئت. وضربت الرقم القياسي في مذاكرتي ثماني عشرة ساعة في كل يوم. وصارت لكل علم كراسة خاصة، وفي المذاكرة الثانية اعتمدت على كراريسي وحدها.
وسافرت إلى الزقازيق وحيدًا قبل الامتحان بيومين. سكنت غرفة في بيت لا يكاد يوجد فيه أحد سواي. أطعم نفسي، وأشعل مصباحي. وأضبط منبهًا زودني به أبي لصحوي ونومي.
***
كانت الغرفة الوحيدة المسكونة في بيت بحي الحسينية بمدينة الزقازيق. قادني إليها الشيال من المحطة. قال لي:
- البيت فاضي إلا منك. وأنا مسئول عن البيت ده في غياب صاحبته عند أختها بالقنايات.
كانت الغرفة تطل على حارة، لا يزيد عرضها عن متر ونصف المتر. غرقة متربة أرضها بلون جدرانها مدهوكة بالطين دهكًا جيدًا. وكان بها سرير ومصباح فعلا كما قال لي الشيال. كل ليلة كنت أذاكر في كراستي العلمين الذين سأمتحن فيهما غدًا, لا أغادرها قط إلا لأذهب في الصباح إلى الامتحان. وأعود إليها كل ظهر، لآكل ما حملته في عودتي من طعام، وأغفو ساعة، وأصحو على جرس المنبه الذي اشتراه لي أبي حتى لا تروح عليّ نومة. وكل عصر كنت أنظر من النافذة حين أسمع صوته على رأس العطفة. رجل كبير السن يجلس محتبيًا، وفتاة على جسدها ملاية لف، وعلى وجهها برقع، وفي يد الرجل خرزانة طولها بعرض الحارة. يقول لها نفس العبارة عصر كل يوم:
- رايحه على فين يا وسخة، يا...
فتقول له:
- يوه يابا. ما انت عارف. مطرح ما بروح كل يوم. رايحه للسيد.
فيقول لها وهو يمد الخرزانة إلى الجدار المقابل معترضًا طريقها:
- مش فايته إلا ما تجيبي حق السجاير.
تمد البنت يدها في عبها، وتخرج منه صرة صغيرة، ومن الصرة الصغيرة تخرج ريالا فضيًّا. وتضعه في حجره، فيسحب عصاه، وتنعطف إلى حارة أخرى أوسع وتختفي. كان الاثنان تسليتي الوحيدة. الصوت والحوار والمشهد، والبنت في الملاية اللف التي لا أعرف لها وجهًا ولا عينين.
في الليلة قبل الأخيرة لي في هذه الغرفة، رأيت النافذة المقابلة لنافذتي بالعطفة مضاءة. مغلقة الشيش كانت، ومفتوحة الزجاج، وصوت الكركرة والضحك والرقص يصل إليّ مع رائحة الحشيش. أدرت للمشهد كله ظهري، وتحولت الأصوات مجرد غاغة بعيدة، وحين انتهيت من المراجعة للكراسة التي كانت بيدي، غالبني النوم، فضبطت المنبه، ومسيت المصباح، ورحت في النوم.
حين عدت من المعهد ظهرًا كانت النافذة المقابلة لي مفتوحة المصراعين شيشًا وزجاجًا. وكانت هي ذات الملاية اللف في مواجهتي على سريرها، وكان وجهها ناحيتي وعلى جسدها ملاية، وكأنها أحست بي أنظر إليها وأرقبها، فقد فتحت عينيها، وحدقت فيّ لحظة خاطفة، نترت بعدها الملاية التي تغطيها، وعادت تنظر إليّ وهي وتخرج لي لسانها من فم مذموم، ثم انقلبت على جنبها، فحدقت للحظة في كل استدارات ظهرها. وخجلت من نفسي، فأغلقت نافذة غرفتي، وانطرحت على سريري ورحت في النوم.
بعد يوم، في ظهيرة اليوم الذي أديت فيه امتحاني الأخير، بحثت عن الشيال في المحطة، وأعدت له مفاتيح البيت، ونفحته كل ما بقي معي. وركبت قطار الست عزيزة عائدًا إلى السنبلاوين، ويدي من مخاوف الامتحانات لا تزال على قلبي.
***
حين جاءت شهادة نجاحي بالبريد، فوجئت وفوجئ أبي معي وجدي، بدرجات نجاحي. كانت كل الدرجات لا تقل عن أربع درجات دون الدرجة الكبرى للنجاح. وقبلني أبي، وقبلني جدي. وقال جدي لأبي:
- من هنا ورايح ما لكش دعوة بأبو داود إن سقط والا إن نجح.
ومنحني جدي ريالا فضيًّا لأنزه به نفسي كما يقول. وسارعت أكاد أطير شوقًا إلى روايات روشة بشادر الخشب، تاركًا كل من في البيت، والغداء المخصوص الذي راحت سيدتا البيت تعدانه للكل فرحًا بنجاحي. النجاح الوحيد الذي كان له طعم في فمي، في سنوات التيه بالزقازيق. وسارعت للذهاب إلى ما وراء البيت المفتوح الباب دائمًا أمام بيتنا.
***
قبل عامين فتح باب البيت المهجور المقابل لبيتنا بعزبة حبيب. لم تكن له إلا واجهة واحدة، على يمينه على الناصية كانت مدرسة ابتدائية تظل مغلقة الباب طوال شهور الصيف، وعلى يساره بيت آخر لا يعنيني أمره فلا يجذبني شيء إليه. وراء البيت المهجور كانت خرابة واسعة مهجورة أيضًا، لا يجتازه أي أحد، ولا يلعب فيها أحد لعبة الكرة الشراب، لكثرة ما بها من شقف الخزف والأحجار المسننة، والزجاج المكسر الذي تخفيه الأتربة، فلا يومض له بريق، حتى في عز الشمس، وكثيرًا ما كانت تفزعني في كوابيس النوم بشتى الرؤى.
على غير توقع فتح باب البيت المهجور. اكتشفت فتحه ذات عصر، اكتشفت أن البيت المفتوح الذي كان مهجورًا له عمق يمتد إلى الأرض الخراب. ورحت أتفرج على هذا البيت، وأدور حوله، يدفعني الفراغ، وفضول لا أعرف له غاية. اجتزت الخرابة التي وراءه آمنًا ففي قدمي حذاء. اكتشفت أن وراء هذا البيت سور خشبي يحد ساحة واسعة وراء البيت. من السور والساحة كانت تطل من الأعالي عروق من الخشب والألواح. وفي السور كانت بوابة خشبية مفتوحة. ومن الباب المفتوح لاح لي بآخر صالتيه باب آخر مفتوح، سمعت صوتًا يقول لي:
- تعال يا مولانا.
درت بعيني. رأيته جالسًا في ظل العصاري، وفي يده كتيب مفتوح. دخلت نحوه يجذبني إليه أنفه الواسع المنخارين، وعيناه الكبيرتان، وجبهته العريضة، وشعره الجاف الأكرد المتلبد كما لِبدة لازقة، وقصره الفادح حتى في جلسته على كرسي يكاد يبتلعه، كأنه طفل, كان ظهره متباعدًا في جلسته المستريحة عن ظهر الكرسي الخشبي. أول مرة في حياتي أرى فيها قزمًا كبير الرأس جالسًا أمامي. رأيت فقط مثله فيما بعد في فيلم به سيرك يقوم فيه أقزام لا أدري من أي جهة جلبوا يقومون بأدوار المهرجين. قال لي:
- ادخل واقعد ما تخافش.
جلست أمامه على كوم من الألواح الخشبية فلا مقعد آخر بالمكان سوى المقعد الذي يجلس عليه. سألته للتعارف، وفتح الحديث عن الكتاب الذي في يده. قدمه لي. كان رواية جيب أراها لأول مرة من الروايات البوليسية، روايات التحري والمغامرات. لاحظت أنه أحدب الظهر. وأراني أحدب الشادر صفًّا من روايات الجيب بجانبه.
رحت أتصفح سطور أغلفتها. سألني عن مدى حبي للقراءة. ٍسألته من أين يشتري هذه الكتب. أجابني بصراحة أنه يشتري من كل كتاب عددين كل أسبوع، أو كل شهر، حسب التساهيل، كل عدد بقرشين. ويحتفظ لديه بعدد منهما لوقت الحاجة إليه، ويؤجر العدد الآخر بنصف قرش لمن يريد، حسب رغبته واختياره. سارعت بالمغامرة، واستأجرت منه روايتين بقرش واحد، مطمئنًا إياه بأنني أسكن في مواجهة البيت الذي وراء هذا الشادر. فطلب تأمينًا قدره أربعة قروش. أكد لي أن ذلك هو مبدؤه في التعامل. أعطيت له شلنًا. ضحك وقال لي راضيًا:
- أهل هذا البيت هم أصحاب هذا الشادر, وبوسعك كجار، الدخول إلى الشادر من بابهم واختصار الطريق.
لكنني لم أجرؤ أن أفعل ذلك طوال شهور متوالية، وحل الغروب ونحن نتحدث. أخبرني أن اسمه روْشة حرضني اسمه على الضحك، لكنني لم أضحك حتى لا أفقده لمجرد ضحكة. أتى به معه الحاج عبد الجليل أفندي من حي الحسين بالقاهرة، ولا أهل له بها سوى عائلة جليلة زوجة الحاج عبد الجليل، ليكون لهم حارسًا لهذا الشادر في الليل والنهار، ينام فيه ويصحو فيه، ويقضي حاجته في وقت متأخر من الليل بآخر الخرابة، ويجلب الماء لإبريقه من زير بصالة البيت. ولم يتردد في إخباري بممارسته للعبة واحد وثلاثين الشبايية، ليفرغ أتواقه وأشواقه.
أنست لصدقه، وصرنا صاحبين في جلسة واحدة. ولم أجرؤ زمنًا، في أي يوم، على الوصول إليه من باب أصحاب الشادر. كانوا لا يزالون مجرد جيرة.
***
حين عدت من مدينة الزقازيق مع الصيف إلى بيت الأهل في السنبلاوين، كان الحاج عبد الجليل أفندي قد عاد إلى مصر، مصطحبًا معه زوجته جليلة، وكانت أمي وزوجة جدي تتحدثان عن نذالته، فقد ترك وراءه أولاده، وجرى وراء امرأته ممسكًا بذيلها، وكانتا تتسايران عن مكر المصراوية، التي لابد وأنها قد دبرت المجيء بهم إلى السنبلاوين، وتركهم بها، والعودة به إلى مصر، لتنفرد به وحدها، وتنام على قدرته على الكسب وعقد صفقات السمسرة. هكذا يقول الجيران وجيران الجيران.
وكان إبراهيم بن عبد الجليل قد أصبح حديث أهل السنبلاوين ودهشتهم، كان كل عصر يسلي نفسه بلعبة من ألعاب سيرك عاكف أو سيرك الحلو بالقاهرة، اللذين يجوبان مدائن المديريات في مصر بين الحين والحين. كان يطيل رجليه بعرقين من الخشب بارتفاع أربعة أمتار، ويصنع بمكان بعينه في الساقين الخشبيتين عارضتين أفقيتين، ليقف عليهما بقدميه. وتحت العارضتين كانت زاويتان رأسيتان لتعزيز متانتهما وقدرتهما على حمله.
رأيته في الحارة يجلس بين العارضتين، فوق سطح بيته، ويضع قدميه على العارضتين، ويرفع نفسه بمهارة وحذر وجرأة، ويقف بالقائمين ممسكًا أعلاهما بقبضتيه، ويأخذ في السير مجتازًا شوارع السنبلاوين، مرتفعًا فوق رءوس السائرين والجالسين والماشين، متفاديًا السيارات في طريقه، والسيارات تتفاداه بدورها، وربات البيوت وبناتهن وصبيانهن يتفرجن عليه من النوافذ والشرفات كل عصر، ولم يقلده أحد في السنبلاوين، فمن أين لهم بجرأته الهائلة، أو بعروق الخشب، أو بمواجهة صرخات الأمهات الخائفات الفزعات.
وجاء وقت اعتاد الناس فعلته، وصاروا يضحكون على عبطه وعبثه، فابتكر إبراهيم حركة جديدة للعبته. جاء بقماش وصنع له الخياط بنطالا بطول القائمين جعله حين يسير بعرقي خشب ماردًا عملاقًا مخيفًا يسير على أطول قدمين رأتهما عين أحد، ولم يلبث أن أضاف إلى البنطال جرسين يتدليان من أسفل القدمين، ينبهان في سيره المارة والسيارت والعربات إلى قدومه، وكان يحلو له أن يستريح أحيانًا على شرفة بيت، أو سطح بيت، ويشرب ماء أو شايًا من أهل البيت، ثم يواصل مسيرته. وفتنت به وبما يفعله بنات من بنات السنبلاوين، وصار الناس في السنبلاوين يتحدثون عن خطورته على بنات السنبلاوين، فقد يحمله الشيطان ببنطاله الطويل إلى شرفة إحداهن في ظلام الليل، والناس نيام.
وجاء يوم منع فيه بوليس السنبلاوين إبراهيم بن عبد الجليل من ممارسة لعبته، بسبب ومن غير سبب، والأسباب ميسورة عند أهل الضبط والربط وأهل المدينة معًا, ولا أعرف كيف تفجرت في السنبلاوين في شهور هذا الصيف نفسه ألعاب أخرى، وجدت نفسي فيما بعد منبهرًا بها، ومشاركًا فيها، وكانت كلها من ألعاب السيرك: المشي على الكفين بدل القدمين أمامًا وخلفًا. مشية الساقية الدوارة على طول الطريق. لعبة المقص بطول الشارع نهبط فيها على اليدين فالرجلين وبسرعة فائقة على طول طريق خال، أو حتى على طريق يسير فيه الناس.
ولم يلبث إبراهيم أن تزوج. كان شريكنا وقائدنا في كل الألعاب، لم نعرف مَن تكون الزوجة. لم يكن ثمة فرح. ولا دعوة لأحد، وربما لم يعلم أبوه أنه قد تزوج. غاب عنا شهرًا بطوله داخل غرفة الزوجية، وحين رأيناه ليلا في جلسة سمر بالخرابة، في ضوء القمر، أمام شادره، كان مصفر الوجه غائر العينين، وأضحكنا بقوله أنه انهرى واتبرى في شهر العسل. وراح الأحدب روشة يطوف علينا في الجلسة بأكواب شربات وشاي يجلبها من داخل البيت دورًا بعد دور. وأغرقنا في الضحك والعجب وهو يخبرنا بما جرى له من الزواج. حبسته زوجته الشابة معها شهرًا، ثم أطلفت سراحه، لتبدأ شهور البصل بعد شهر العرق والعسل. كنا غارقين في الضحك، وهو يحكي لنا كيف تفترس الزوجات الأزواج، وكانت بينه وبينها مفاكهات لا يبوح بمثلها أحد سوى جدي، فقد حرره كبر سنه من كل تردد.
وما لم يقله إبراهيم لنا أخبرتني به زوجة جدي. ضجت أختا إبراهيم زلابية وصفية من خدمة العروسين ليلا ونهارًا، والطهي لهما كعروسين، وربما أثارت ضجتهما الغيرة من العروس لأنها عروس دونهما، ولأنهما صارتا لها خادمتين، وبدأت المشاجرات بين الزوجة والأختين. واحتاس إبراهيم فأخذته الحماسة وضرب زوجته وأختيه بلوح خشب علقًا ساخنة. فنهضت زوجته بواجبتها على ضغن وترصد.
وعدت إلى البيت مع الليل بعد أن أغلق روشة شادر الخشب حاملا على صدري وساعدي عشر روايات من روايات الجيب. كانت أمي وزوجة جدي مشغولتين بجمع وربط كل ما سيلزمنا في بيتنا الكبير بالقرية. انتهت الامتحانات، وظهرت النتائج، وآن لنا أن نقضي شهور الصيف في بيتنا الكبير المهجور بقرية برهمتوش.
(2)
صرت طالبًا بالسنة الثانية الابتدائية. سكنت مع بلدياتي فرج، بحي الحسينية القريب من المعهد. اختاره لي أبي لأسكن معه. شاء أن يسكنني مع طالب كبير، يجمع لي ما تشتت من أجزائي في عام مضى، وما تفرق من حياتي في مدينة الزقازيق. وأحسب أنه لم يعد مطمئنًا إلى حسن تصرفي في الغربة لو عشت وحدي، في مسكن منفرد خاص بي.
كان مسكننا غرفة نظيفة بصالتها بالطابق الثاني في بيت الست أم عبده، بها نافذتان، وكانت حسنة التهوية، تضربها الشمس معظم النهار شتاء، وتنحرف عنها قليلا في الربيع والخريف.
كان فرج محمر الوجه يبدو لي دائمًا مسلوخ الجلد، ملون العينين، مصفر سواد العين، كما العساكر الإنجليز الذين يطلون من نوافذ القطارات العابرة بمحطة السكة الحديد. وكنت دائمًا أحس بثقل ظله، وأضيق ببخر فمه حين أقترب منه. وكان سريرانا بالغرفة متباعدين في ركني الغرفة، ولأنه كان الطالب الأكبر سنًّا، والأرقى فصلا، صار عليّ خدمته، وخدمة ضيوفه، وخدمة نفسي، مع أن أباه كان أبونيه القرية، يروح ويجيء بين القرية والمركز لقضاء الطلبات لذوي الحاجات من أهل القرية. أكنس الغرفة، والصالة الصغيرة أمامها، وأمسح بلاطهما، وأغسل الأطباق والحلل تحت الطلمبة في الطابق الأسفل، وأشتري كل ما نحتاجه لطعامنا من السوق، والبقال أبو عفارة، ومطعم الفول المجاور. صباحًا ومساء.
كان طعامنا الفول المتبل بالصلصة والزيت، وأقراص الطعمية الفواحة الرائحة بزيتها المحروق مرارًا, وأحيانًا كنا نرتقي بأقراص الطعمية إلى طعمية أخرى ذواتِي متبلة بالبقدونس، ومحشوة ببيضة مفقوسة في قلبها، وأخترق المقابر في عز الظهر للحصول عليها، من مطعم بعينه في حي كفر النحال، المقابل لحي الحسينية. لم يكن يفرق بين الحيين سوى شريط القطار المتجه نحو حي بسطة أو العائد إلى ميدان المحطة. كان قطعي للمقابر على عفن هوائها وروائحها يوفر لي الوقت، ويريحني من سير الطريق الطويل تحت وقدة الشمس إلى مدخل كفر النحال، ثم إلى ميدانه الفسيح.
يوم الخميس وحده. كان يوم الفرج في بيت فرج فلم أشعر قط أنه بيتي أيضًا. كنا نطهو الكشري في حلة، ونسلق بها أربع بيضات لي وله، ولمن قد يطب علينا من الطلاب الجياع أو المتطفلين. ويوم الجمعة وحده كان هو يوم الخضار واللحمة، نطبخهما مسبكين على مهل بالبصل والقوطة والثوم، ونأكل طعامًا شهيًا كطعام أمهاتنا، مع السلطة الخضراء المكونة من الطماطم والخس والخيار والجرجير والبقدونس والشبت والكسبرة والكرفس والبصل والثوم والزيت والليمون، ونبيت ليلتها متخمين منفوخين بلا عشاء.
وبرغم انتظام حياتي لم أفارق عاداتي السيئة، أو الحسنة، الفرار من الدراسة بين الحين والحين بالسقوط من النوافذ، وتسلق بوابة السور الخلفية للمعهد، لأذهب إلى المقهى، أو إلى مكتبة بحر مويس. وحدثتني نفسي يومًا بأن المعهد به قاعة مكتبة، لا أعرف الطريق إليها، وقد أجد فيها كتبًا بديلة لكتب مكتبة بحر مويس.
سألت الشيخ أبو سنة المشرف على الضبط والربط بالقسم الابتدائي بين الحصص، وفي الفسح، فنفى لي وجود مكتبة بالمعهد للطلاب. به فقط غرفة مكتبة مغلقة، خاصة بشيوخ المعهد وحدهم، ويشرف عليها شيخ السكن، وهي مكتبة بها كتب دينية ولغوية وكلها كما قيل لي فوق مستواي.
***
في أوقات الفراغ، في أيام الجمع خاصة، حين لا يكون فرج بالبيت، كنت أشغل نفسي بفتح البرجل، ورشق سنانه في باب صالتنا الصغيرة، حين يغادر فرج البيت، إلى أن انغرس سنان البرجل بخشب الباب، وانكسر به، ولم يفارقه، وبت بحاجة إلى برجل آخر أحصل عليه لحصة الجغرافيا أو الأشيا كما كنا نسميها، وحصة الرسم وحصص أخرى لا أذكرها. وحين يكون فرج بالبيت أسارع بالخروج منه لشعوري الدائم بمراقبته لي، ولضيقي من أسئلته السخيفة المتكررة عن أهلي وعائلتي وإخوتي. كان فرج ابنًا لرجل غريب وفد على البلد، واشتغل مرسالا للعمدة بينه وبين القرى الأخرى الصغيرة التابعة لقريتنا. ولعل فرج كان يحدث نفسه بمصاهرتنا يومًا، فقد كان دائم السؤال لي عن إخوتي من البنات وأعمارهن.
أفر من البيت إلى أماكن فراري المعتادة، إلى أن اكتشفت المكان الدائري الذي تدور منه قطارات الدلتا خارج مدينة الزقازيق, ركبت على عربة به من عربات الصينية، ورحت أدفع بذراعها أمامًا وخلفًا فجرت بي دائرة فوق القضيبين الدائريين. وحين مللت من هذه اللعبة وثبت متعلقًا بسيخ من الحديد بجوار القضبان لسبب أعلمه. كان السيخ محمولا على عمودين متوسطي الارتفاع، ورحت أذهب وأجيء عليه بكفي وكأني أمشي عليه بيدي. كنت أرجو بهذه اللعبة أن أطيل جسمي قليلا في سن النمو، حتى أصل برأسي حين عودتي لبيت الأهل إلى الحافة السفلى لنافذة عالية به تطالها رأس أبي، وكانت تطل على منور البيت.
سئمت اللعبة فخرجت بنفسي إلى طريق المعاهدة، كان طريقًا يربط بين شرقي مصر ومدن القناة، أنشئ بعد معاهدة 1936. أسير بجانبه طويلا وبعيدًا، وأجري وأغني فلا أحد سواي يسمعني، وأتوقف وأحاول الخطابة في جمهور ما لا وجود له، بما يحضرني من هلوسة وخواطر في السياسة والناس والأحزاب والأحوال، مقلدًا طلبة المعهد الكبار. كنت أعاني كثيرًا، وأتوقف كثيرًا بسبب البحث السريع عن الألفاظ والمعاني، وانقطاع حبال التفكير، وكانت السيارت تمرق فيه بين حين وآخر رائحة وغادية.
وأحاول إشعال سيجارتي وظهري إلى ريح شتوية في الطريق المكشوف بعود كبريت، حتى قاربت الأعواد أن تنفد, كانت الريح تصب دائمًا في بطن كفي، وتطفئ الأعواد عودًا إثر عود. جربت أخيرًا مواجهة الريح بكفي، وأنا أشعل السيجارة. ولدهشتي اشتعلت السيجارة واتقدت بالعود الأخير.
***
يوم جمعة أيضًا، اشتقت إلى تدخين سيجارة، وكان جيبي خاليًا من كل مليم وكان زميلي فرج مسافرًا إلى أهله لم يعد بعد. صحبتني نفسي لتحقيق هواها. ذهبت بي إلى بيت الهنداوي، لأستلف منه سيجارة عبرت باب بيته. ودفعت باب غرفته الموارب. وجدته نائمًا على سريره يغط في شخيره. بجانبه كانت علبة سجائره البحاري. فتحتها. أخذت منها سيجارة واحدة. أغلقت العلبة. هممت بالخروج. لاحظت أن محفظته متدلية من فتحة جلبابه، خارج صداره. دفعتها إلى جيبه. واتجهت خارجًا من باب الغرفة. لاحظت في مغادرتي لبيت الهنداوي أن صاحبة البيت جالسة بفسحة صغيرة مظلمة، وراء باب الصالة المعتمة، متشحة بالسواد.
قرب المغرب، والدنيا لا تزال منيرة، عاد فرج إلى غرفته ومعه قفة الزاد والزواد. لم يكد يضعها، ولم أكد أسحبها إلى ركن الغرفة، حتى طب علينا الهنداوي وكأنه كان مع قدوم فرج على موعد. جلس. وزفر ونفخ. سأله فرج عما به. فوجه إليّ اتهامًا أمامه بأنني ذهبت إلى بيته أثناء نومه، ودسست يدي في جيبه، وأخذت من محفظته مائة وكذا وعشرين قرشًا وتركتها له خاوية. صعقني الاتهام. صرخت مقسمًا بأنني لم آخذ من غرفته إلا سيجارة من علبته البحاري. وأنني لم أفتح محفظته. ضحك الهنداوي وقال غاضبًا:
- اعترفت. جئت إلى البيت كما قالت لي صاحبة البيت. ومن أخذ سيجارة أخذ الفلوس.
لم ينتظر فرج ردًّا مني. قال للهنداوي:
- شوف لي خرزانة وتعال بسرعة.
أذهلني أن الخرزانة كانت جاهزة تحت جلباب الهنداوي. أخرجها من فتحة جلبابه وناولها لفرج. وطرحاني على بلاط الغرفة على وجهي. وجلس الهنداوي على ظهري وجذب قدمي نحو وجهه. وانهال فرج على بطن قدمي بالخرزانة، حتى تعب. انهمر الدمع من عيني، لكنني لم أصح بصرخة واحدة. كأنني قد شللت وفقدت صوتي. وحين تركاني. جلست في الركن صامتًا، فلا جدوي من قسم ولا من تبرئة نفسي بأي كلام، والدموع لا تزال تنحدر من عينين باكيتين. قال لي فرج:
- طلع الفلوس ورجعها لصاحبها.
قلت بهدوء:
- ما فيش معاي مليم واحد في جيبي من فلوسي. وفلوسه لا أعرف عنها شيئًا. وفتش كل شيء.
فعاد يقول لي:
- خبيتها فين؟
لم أرد عليه بحرف. نهض هو والهنداوي وراح يفتشان كل شيء لي وكل شيء لفرج، وزادا ففتشا كل السطح، وعاد فرج ليقول لي:
- حتدفع الفلوس ازاي؟
قلت له بهدوء:
- سأكتب لأبي ليرسلها . وسأترك السكن معك.
بهت فرج لردي. صمت لحظة، وأخرج من جيبه فلوس الهنداوي ودفعها له. وظل جالسًا حتى قدم له فرج الطعام من الزاد والزواد. رفضت الأكل معهما. وقلت للهنداوي:
- سيب السكن اللي انت فيه. صاحبة البيت هيه اللي سرقتك واتهمتني.
وأدهشني أن الهنداوي قد أقسم أن صاحبة البيت لم تدخل غرفته، ولم تسرقه، وأنني الذي سرقه.
لزمنا الصمت. وكتبت إلى أبي رسالة أخبرته فيها بما حدث، ولم أخبره بحكاية السيجارة. فأرسل إليّ بالمبلغ لأعطيه لفرج ومع المبلغ أرسل جنيهان لي. وأمرني بتغيير سكني معه والسكنى وحدي. وجهد فرج ليقنعني بالبقاء معه. لكنني كنت قد استأجرت لي غرفة أسكنها وحدي. غرفتي، بقية عامي.
***
واجهت محنة أخرى في علم الفقه لا قبل لي بها. كانت دروس الفقه في تلك السنة في أبواب المعاملات. وكان الكتاب تراثيًّا قديمًا مثقلا على الورق الأصفر بأقوال فقهاء المذهب الشافعي، وآرائهم في المسألة الواحدة، والعنعنات والقيل والقال والاحتمالات والتجويزات، حتى صار المذهب الشافعي نفسه مذاهب، مثلما صار تفسير القرآن والحديث معه مذاهب وروايات، على ألسنة الفقهاء والمفسرين والمحدثين. وانفرجت عني تلك المحنة بكتاب رأيته في يد طالب، يعرض فقه المعاملات الشافعية في تلك السنة بأسلوب حديث ومنظم، وحتى الأقوال والآراء، والقيل والقال، خضعت بدورها في هذا الكتاب للتحديث والتنظيم.
بذلت جهدي مع ذلك الطالب لأستعير منه الكتاب لأنسخ نسخة منه بيدي، لكنه رفض، فسرقت من غلافه الداخلي اسم ناشره، والمطبعة التي قامت بطباعته بشارع رشدي بمدينة القاهرة. كان الكتاب من تأليف الشيخ الخضري فسارعت بكتابة رسالة إليه أشكو إليه بثي وحزني مع الفقه، وأتوسل إليه ليرسل لي نسخة من كتابه، وأقسمت له أنني سأرسل إليه ثمنه بحوالة بريدية، ولم يمض أسبوع واحد حتى جاءتني أول رسالة لي في حياتي، كانت الرسالة منه، وكانت بداخلها الكتاب الذي طلبته، وكانت على صفحته الداخلية كلمة إهداء موجهة إليّ، باسمي، وإعفاءه لي من ثمنه. وقد صرت فيما بعد صديقًا لابنه، وصاحب المكتبة بعده.
***
على الدرج نفسه بفصلي الدراسي، كان يجلس إلى جواري تحت النافذة طالب اسمه سامح، والاسم من عندي. كان سوسة قراءة ومذاكرة، حريصًا على الحضور الدائم كل يوم للدروس كلها، حصة حصة، حريصًا على الاستماع للدروس، وتدوين بعض الملاحظات على هوامش الكتب. وكم أدهشني دائمًا بفتحه لكتب باللغة الإنجليزية أو الفرنسية في الدقائق الخمس بين كل حصة وحصة. وفي فسح الظهيرة، لا يغادر درجه، لأنه يواصل مذاكرته، بل حفظه لدروس أخرى في الكتاب الإنجليزي أو الفرنسي. حتى شنعت عليه يومًا بأنه ليس من البشر، وأنه لا ينام مطلقًا، وإذا نام فهو يواصل التسميع لنفسه، لما حفظه من كتب المعهد، أو كتب الإنجليز أو الفرنسيس.
وقيل لي من طلاب الفصل إنه ابن عمدة غني جدًّا، وقيل لي إنه من أبناء الأعيان الكبار في قريته، وقيل لي إنه يعيش وحده في شقة مستقلة تطل على بحر مويس نفسه، ويخدمه خادمان من أهل قريته، أحدهما يطهو له، والآخر مخصص لخدمة شخصه. وقيل لي إنه ملتحق بمدينة الزقازيق بيلسيه الفرنسيس، وفي الوقت نفسه بالمجلس البريطاني لدراسة اللغتين. ويذهب إلى أحدهما عصرًا بين يوم ويوم.
حاولت التودد إليه، والتعارف معه، لكنه ازورّ بنفسه عني، كأنه من طينة أخرى. وبقدر إعجابي بطموحه الذي لم أعرف له آنئذ غاية، بقدر ما لعنت حظي بمشاركتي له في درج واحد. وجهدت لإقناع غيري من الطلاب بتبديل درجي مع درجه، لكنهم جميعًا رفضوا واحدًا بعد واحد. وصرت كلما ذهبت لحضور درس محدد في وقته المعلوم أترصد لدرج آخر بالفصل غاب صاحبه، وأسارع بالجلوس بعيدًا عنه، فقد كان بالنسبة لي بلا طعم ولا لون ولا رائحة. ورحت أرقبه عن بعد بفضول شديد.
لم أره يومًا بمصادفة ما، وما أكثر المصادفات، يشهد فيلمًا في أي حفلة من حفلات الليل والنهار، أو يجلس على مقهى، أي مقهى، وكنت بها جميعًا ولها جميعًا من العارفين والطارقين، ولم أره يوما يقرأ صحيفة أو كتابًا قراءة حرة. كتب الدراسة وحدها، والتعلم، هي التي كان حريصًا عليها، حرص البخيل على جمع المال، وحرص البخيل على ألا يعطي منها أحدًا، وحرص البخيل على ألا يدل على طريق المال أحدًا سواه.
فيما بعد، عرفت أنه كان أيضًا طالبًا منتسبًا بمدرسة ابتدائية، ثم بمدرسة ثانوية، وكان يتقدم للامتحان أربع مرات في ختام كل سنة، مرة بالمعهد الديني، ومرة بالمركز الفرنسي، ومرة بالمجلس البريطاني، ومرة بالمدرسة الابتدائية أو الثانوية. وعلمت أنه كان يدرس بمدارس التعليم المدني دون أن يعلم أبوه، فقد أقسم عليه أن يكون طالبًا بالمعهد الديني، ثم طالبًا بكلية أصول الدين دون سواها، ليصبح يومًا عالمًا كبيرًا من كبار العلماء، وقد يكون مفتيًا للديار المصرية، أو شيخًا مطمطمًا للإسلام، وإمامًا للجامع الأزهر نفسه.
ولم يخب سامح أملا لأبيه ولا لنفسه. كل عام كان ينجح في كل الامتحانات الأربعة، وكل عام كان ترتيبه الأول دائمًا على المديرية أو المملكة المصرية أو في المجلس البريطاني أو في المركز الفرنسي. وكل عام كان يحتفظ بشهاداته المدنية لنفسه، ويعطي الشهادات الأزهرية لأبيه.
وحين نجح ذات عام في الشهادة الثانوية بالأزهر، والشهادة الثانوية بمدارس نظارة المعارف، وكان ترتيبه فيهما الأول، صارح أباه بما فعله في سنوات التعليم التسعة، ورجاه أن يأذن له في الالتحاق بكلية العلوم دون أي كلية من كليات الأزهر، فأبى أبوه وأقسم عليه بالطلاق والعتاق من أمه، والتبرؤ منه إذا لم يكمل تعليمه بالأزهر. ولم يجد سامح مفرًّا من مواصلة مسيرته مع الكذب. التحق طالبًا بكلية أصول الدين، وكان مبناها آنئذ بحي شبرا، والتحق طالبًا بكلية العلوم، في العام نفسه، من وراء ظهر أبيه، وفي كل عام كان ينجح، وكان ترتيبه الأول، هنا وهناك، ويقدم شهادة الأزهر لأبيه، ويحتفظ بالشهادة الأخرى لنفسه.
وفي العام الأخير عين معيدًا بكلية العلوم بجامعة القاهرة، ورفض أن يكون معيدًا بكلية أصول الدين، في قسم من أقسامها، وكان في اختياره هذه المرة حرًّا لأول مرة، فقد ودع أبوه الدنيا.
***
اعتاد شيوخنا وأشياخنا في معهد الزقازيق الديني مخاطبتنا نحن الطلاب بقولهم لنا في مفتتح أي كلام يقولونه لنا: يا مشايخ. يقولونها لنا في فصول الدراسة، وبين أيدي المتظاهرين التي يحثوننا على المشاركة فيها، أو ينهوننا عنها. واعتدنا نحن الطلاب ألا نخاطب أحدهم إلا بالقول: يا شيخنا، وألا نتحدث عنهم جماعة إلا بقولنا: شيوخنا. اكتشفت ذلك منذ عامي الأول بهذا المعهد، داخل الفصل، وخارجه. واحترنا نحن الطلاب أيامًا في هذا الجمع: مشايخ. فجمع شيخ هو شيوخ. ولكن ما مفرد مشايخ، وفعله الثلاثي المجرد لازم. وتوكل على الله أكبر من معي بغرفة السكن عمرًا، وقال:
- وجدت لها حلا هو: مشيوخ. وفعله شيَّخ بتضعيف عين الفعل. وهو جمع مخالف للقياس. فالقياس هو: مشيَّخ.
وضحك قائلا:
- أعرفتم أيها المشايخ المشيَّخون. هذه فتواي، وذلك تأويلي. والله أعلم.
وأضاف ضاحكًا:
- فمن شاء عمل به، ومن شاء لم يعمل.
***
ضحكنا جميعًا، حين قال لنا شيخ شيوخ المعهد، وهو يستند إلى شرفة مبنى الإدارة، أثناء استعدادنا للخروج في مظاهرة وطنية:
- يا مشايخ. مالي أرى عمائمكم على رءوسكم كلوزات قطن بيضاء، أو كككك.. ككككك...
وتعلق توالي الكافين على لسانه مرارًا، وهو حريص على نطق كلمة بعينها. فانفجر كل الطلاب المحتشدين للمظاهرة بضحك صاخب، كان يريد أن يقول متفاصحًا في تشبيهه: ككواكب. وأخيرًا قالها دفعة واحدة: ككواكب مضيئة في ظلام السماء. كان بوسعه أن يستبدل الكلمة بقوله مثلا: كنجوم، وكان بوسعه أن يغير كاف التشبيه بقوله: مثل، ولكنه لم يفعل. ورحنا نضرب كفًّا على كف في بيوتنا، ونحن نتذكر ما حدث.
كان هذا الشيخ عضوًا بهيئة كبار العلماء. وكان هو الذي جهر في قلب اجتماع لهذه الهيئة يومًا ما بتكفير الشيخ الدكتور المتفلسف المطربش العائد من أوروبا: محمد البهي، لأنه يدعو إلى تحويل الأزهر إلى جامعة مدنية حديثة، تضم مع علوم الدين علوم الدنيا. كان الشيخ عالمًا فحلا باللغة، ولكنه كان على قد الحال في التعبير الأدبي، شأنه شأن عالم بلاغة، كان فحلا من فحول حلقات دروس البلاغة في أزهر ما قبل سنوات الثلاثينيات، ولكنه كان يستكتب غيره ممن حوله، لينشئ له رسالة أدبية على لسانه يوجهها إلى صديق، أو يلتمس بها أمرًا ممن هم فوقه في الأزهر، وخارج الأزهر.
وجاء من بعده شيخ جديد لشيوخ معهدنا هو على ما أذكر الشيخ الدكتور الجميل الطباع، الشديد التواضع، العالم المتنور بالشريعة الإسلامية، الشيخ عبد الرحمن تاج الذي صار فيما بعد شيخًا أكبر، وإمامًا للجامع الأزهر. رأيته أول مرة عصر يوم ما، يمسك بمقشة، وبجانبه سلة وجردل مليء بالماء، وهو يروح ويجيء، كانسًا أرض المعهد بالمقشة بيده التي تمسك بالقلم، ويده الأخرى التي تمسك بالأوراق. ظننته لأول وهلة ساعيًا جديدًا بالمعهد، وبلغت صدمتي منتهاها، حين قيل لي إنه شيخ المعهد الجديد. لم ترق لهذا الشيخ حال نظافة المعهد كله: باحاته ملأى بالأوراق والأكياس والأتربة، وجدرانه لطختها الأكف الملوثة ببقايا الطعام، ودورات مياهه مثل كثير من دورات المدارس والمساجد في الأحياء الشعبية.
لزم الشيخ تاج الصمت حتى انتهى دروس اليوم الأول بالمعهد، ولم يعاتب الوكيل المسئول عن المعهد، وهو شيخ السكن المقيم بغرفة نظيفة خاصة به بالمعهد. ولم يدع إليه أحدًا من السعاة بالمعهد وفراشيه، ليعاتب أحدًا منهم أو يحاسبه أو يزجره أو يعاقبه متوعدًا ومهددًا.
عند انتهاء اليوم الدراسي ذهب الشيخ تاج إلى مخزن أدوات النظافة، وسحب منها ما يلزمه، وملأ الجردل من صنابير حمامات المعهد، ورفع ذيل جلبابه الأبيض، وعقده حول وسطه كأي فلاح، وراح يمارس بتواضع وهمة عمل غيره. تصايح عندئذ طلاب السكن، وتنادى المقيمون من السعاة والفراشين إلى حيث الشيخ. حاولوا جاهدين إراحته من هذا العمل، لكنه نهرهم، وواصل العمل، فسارعوا يعملون مثل ما يعمل، جالبين من المخزن كل أدوات النظافة الوفيرة.
في ساعات قليلة، والشيخ على رأسهم، كانت باحات المعهد مكنوسة مرشوشة، وبواكيه تضوي، ومصابيحه عند الغروب تومض بعد خفوت أضواء، وأحواض الحمامات، والحمامات، والمراحيض، تلمع بالبياض والنقاء، وجدران المباني الحجرية داخل الفصول وخارجها تبدو بعد جهد من مئات الطلاب بعنابر السكن الداخلية، وكأنها قد خرجت لتوها من أيدي البنائين. وكان وكيل المعهد وشيخ السكن يرقب الأمر كله من الشرفة، ويدخن سيجارة إثر أخرى، ويدهسها في النهاية بحذائه، على أرض ممر مبنى الإدارة، وهو ينفخ ويزفر في قلق. وكان الشيء الوحيد الذي لم تمتد إليه أيدي النظافة بعد في تلك الليلة مطعم المعهد المغلق الباب، وأكوام الزبالة الهائلة وراء الجدار الخلفي للمعهد، ترتع فيها الحشرات من الصراصير والبورصات والسحالي والنمال والهوام الأخرى.
في تلك الليلة اغتسل الشيخ تاج في حمام من حمامات الطلاب بالمعهد، وغير ثيابه، وطرح فوطته على كتفه، وعاد بها إلى غرفته الخاصة بمبنى الإدارة، ورقد إلى الصباح. ومع الضحى دعا إليه وكلاء المعهد، وأعلن إعفاء الوكيل المدخن من مسئوليته كشيخ للسكن، وخيره بين البقاء بالمعهد والعودة إلى المشيخة بالقاهرة لنقله، فاختار الرحيل عن المعهد. وإثر انفضاض الاجتماع تحدث الشيخ تاج، فيما كانت تتناقله الأخبار، إلى جهة ما بالمدينة فأقبلت سيارات النظافة، وعمال النظافة بالمديرية، وحملوا معهم في السيارات أكوام الزبالة من وراء المعهد.
وفي ذلك الصباح أغلق الشيخ تاج مطعم المعهد إلى أن ينتهي متعهد المطعم من تجديد مطعمه كله، وتنظيف أدواته ومناضده المصفحة بالصفائح، وجدرانه العارية الكئيبة، وحمله مسئولية التخلص يوميًّا من زبالة مطعمه، وتنظيف أدواته كلها وفاء بتعاقده مع المعهد، وهدده يإلغاء التعاقد معه. وامتدت من داخل المعهد خراطيم المياه لتغسل كل جدران المعهد الخارجية وأسواره. وشن حملة لكنس سقف المعهد وغسله عصر نهار.
نهض كل من بالمعهد في تلك السنة بواجبه. واعتاد الشيخ أن يفاجئ بحضوره كل مكان بالمعهد في مواعيد متكررة، وغير منتظمة، وأن يسعى مهيبًا بين قاعات الدرس، وعنابر السكن، ويتحدث بهدوء بالغ إلى الطلاب والشيوخ والسعاة، وأن يترك بابه مفتوحًا لكل قادم. وفي الليل، كان الليل له وحده، مع خواطره أو كتبه أو قلمه وأوراقه.
كلما تذكرت حال هذا الشيخ معنا في تلك السنة تذكرت حوادث أخرى مماثلة يقوم بها أفراد بطولهم. وحين يعفون من هذه المسئولية، بالمعاش، أو بالغضب عليهم، ويأتي سواهم وذلك ما حدث تمامًا مع معهدنا حين نقل الشيخ تاج من معهدنا، ولم نعرف حينها أين ذهب. وطوال السنوات التالية التي عشتها بهذا المعهد كان الشيخ تاج هو الشيخ الوحيد الذي حدث في عهده ما حدث بمعهدنا.
***
رُوِّع طلاب المعهد وشيوخه بمصاب نزل بأتقى وأوْرع شيوخنا بالمعهد. كان له ابن وحيد لم يرزقه الله بسواه. كان رياضيًّا ووسيمًا وعالي الذكاء، وكان طالبًا بالمدرسة الثانوبة، القريبة من معهدنا، وكان من أبطال رياضة العقلة. وفي حفل رياضي بالمدرسة، ووسط الحضور، وبينهم كان أبوه الشيخ الورع التقي، سقط هذا الابن من فوق العقلة على عنقه، فانقصفت في سقطته رقبته. وأسلم الفتى روحه إلى ربه في لحظته. في تلك اللحظة لم يزد الشيخ وهو يقف عن قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم صبرك. ورفض أن يساعده أحد، فيما روي لنا، في وقوفه أو سيره قائلا لمن حوله: الله معي.
وما أدهشنا نحن الطلاب، وأذهلنا، هو رؤيتنا لهذا الشيخ يسير في اليوم التالي، بيننا نحن المشايخ والشيوخ بالمعهد، يتلقى العزاء مصافحًا على عجل، ويدخل الفصل بعد الفصل ليلقي درسه على مهل. يسأل ويسمع، ويجيب عما يُسأل. وظل يأتي إلى المعهد طوال أيام ستة، صامتًا كان أو متحدثًا. وفي اليوم السابع لم يأت الشيخ لأول مرة إلى المعهد في سنوات اشتغاله بالتدريس كلها. وجاء إلى الشيخ تاج من يقول له: البقية في حياتك. وحمل كل منا طلابًا وشيوخًا، حزنه عليه وحده لا يتحدث عنه لأحد.
***
لم يمض شهر على عودتي إلى السنبلاوين، حتى نجح أخي في الشهادة الابتدائية، بمدرسة التوفيق الابتدائية, وصار مؤهلا لدخول المدرسة الثانوية.
وقرر أبي أن يوقف أخي عن مواصلة التعليم المدني، وأن يدفع به إلى كتاب الشيخ إدريس ليحفظ القرآن عنده بدوره، ثم ليلحقه معي طالبًا بالمعهد الديني بالزقازيق بالصف الأول الابتدائي، وكأنما قد كتب عليه أن يدرس المرحلة الابتدائية مرتين. حدثني جدي بذلك الأمر، وكان يأنس لي، بقدر أنسي به.
بدا لي قرار أبي، مع أنه أبي، قرارًا أحمق غاية الحمق. جلست إلى أبي أناقشه في هذا الأمر، فازور عني، فلاحقته دفاعًا عن أخي، وحتى لا تتبعزق أربع سنوات مضت من عمره.
لاحقت أبي يومًا بعد يوم، وحرضت أمي وزوجة جدي عليه، وزدت فوسوست إلى أخي بما سوف يكون مصيره عليه.
يئست من أبي. جلست معه جلسة الختام الحاسمة. قلت له وهو يسبح في سره بعد الصلاة وردًا من أوراده:
- أبي. لا تفعل. كفاية العيلة تضحي بواحد.
فنظر أبي إليّ باستنكار، ربما لتعبير التضحية. ولم أجد مفرًّا سوى مواجهته وصدمه وتحديه، وجدي جالس على قرب يرقب، ويسمع، ويدخن صامتًا. عدت أقول له:
- إذا صممت، حاروح البلد، واقعد عند جدتي، وأشتغل فلاحًا في أرض جدي إبراهيم، ومش حارجع المعهد مرة تانية.
لم يبال بي أبي, ونهض، وطوى سجادته، وغادر البيت غاضبًا.
***
في اليوم التالي نفذت ما قلته بالحرف الواحد دون أن أخبر أحدًا. ودخلت بيت جدتي، وحين انفردت بي قالت لي:
- خير يا ابني. إيه اللي جرى.
قلت لها ما جرى. فضربت كفًّا على كف، ولم تقل كلمة تخطئ بها في حق أبي. وطلبت مني البقاء عندها، فسوف يأتي أبي بعد أن يعاود التفكير في حكايته مع أخي.
في اليوم الثالث جاء أبي يبحث عني عند جدتي. كان خائفًا أن أكون قد هربت منه إلى حيث لا يعرف لي خبرًا. حين رآني بدت عليه الراحة، وتراقصت على فمه المزموم ابتسامة خفية. رحبت به جدتي، وجلست تنظر إليه حتى يفتح هو الموضوع، لكن أبي قال لي وجدتي تسمعه:
- خلاص با ابني. أنا قدمت لاخوك في المدرسة الثانوية بالسنبلاوين.
وعصر اليوم، بعد غدائنا عند جدتي، عدت مع أبي إلى السنبلاوين. وأخبرني أبي ونحن معًا في قطار الدلتا بأن شهادة نجاحي قد وصلت في اليوم التالي لسفري. وأن درجاتي بها عالية في علوم اللغة والدين خاصة, وعلى غير عادته قبلني راضيًا عني. وخيل إليّ أن أبي كان يائسًا مني، وأنه لم يعدل عن قراره إلا بسبب هذه الشهادة وحدها.
***
أتى حج أبي وجدي في عام مضى، والمرض الذي بات ملازما لجدي إثر حجه، ونفاد ما كان جدي قد ادخره من عائد أرضه الصغيرة، ولم يبق له ولأبي كما يقول سوى غفران الله لما قدماه من ذنوب في دنياهما عملاها أو لم يعملاها. وصار واضحًا لي ولأبوي وجدي وزوجة جدي أن الجنيهات الخمسة عشر التي يتكلفها أبي لنفقاتي كل عام، في مدينة الزقازيق، صارت أمرًا مجهدًا.
وضغطًا لكل أبواب النفقات قرر أبي وجدي، فالقرار كان لهما معًا ألا نذهب في صيف عامنا لقضاء إجازة الصيف في بيتنا وقريتنا. وراح بيتنا في القرية وحنيني إليه يتخايل لرأسي طوال شهور الصيف في أحلام نومي ويقظتي. ورحت أعبر في نفسي لنفسي عن حنيني لهذا البيت، ورحيل أهله عنه في مراثي الديار النثرية، أحملها بين جوانحي، ولعبي مع الزنابير والفراش، وأفراس النبي الخضراء المتقافزة بين الأشجار، وصيد السمك في قناة الجربوع، وبركة الشعايرة والمصرف الكبير الذي يجري بمياهه الآسنة صوب بحيرة المنزلة، والجري حافيًا على الجسور الطينية والمتربة، والنوم في بيتي الخاص بين أغصان شجرتي على شاطئ ترعة اللظمية، وسهر الليالي على حواف حلقات الرجال الكبار مع غيري من الصبيان في مجالس الليل، أستمع إلى حكاياتهم عن الراحلين من الأهل وكأنهم لا يزالون أحياء بينهم، ونكاتهم المفاجئة والمحاذرة من جرح مشاعر الآخرين، أو على حواف حلقات النسوة المجتمعات للخبيز عن الرجال والأزواج المتعبين منهم والمريحين، ولعب الكرة الشراب بالرجل حينًا وباليد في أغلب الأحيان. وصرت في عصاري الأيام وأضاحيها أزعق بها خطبًا منفلوطية عصماء، بين قضبان قطار السكة الحديد خارج مدينة السنبلاوين، كما المراثي في أشعار الرثاء للديار، وتذكر الأطلال، وصرت أدفع عن نفسي رغبة محرقة في كتابة خواطري الموجعة في صحيفة الإصلاح بمدينة السنبلاوين، فقد يقرؤها أبي، ويقرؤها بدوره لجدي فأزيد جدي وجعًا على وجع.
كنا منذ انتقل بنا أبي من قريتنا إلى مدينة السنبلاوين قبل بدء الحرب العالمية بسنة نقضي الصيف كل عام في بيتنا الكبير. نعيد ملأه بأنفاس أهله، وملء مقاعده العلوية بالطيور التي اعتادت أمي وزوجة جدي تربيتها على عجل، في غرف المقاعد العلوية، والنوم جماعة على الحصير عدا أبي وأمي على سطح البيت فوق حوش البيت، أمام مقاعد السطح، ننظر إلى نجوم الليل، وقمر الليل في أشكاله الليلية المتوالية والمتغيرة من ليلة إلى ليلة، نتنسم نسمات هواء رطبة، تهب عابرة ومفاجئة. لكننا في ذلك العام حرمنا من ذلك كله. وفقدت وإخوتي مباهج الحصاد في الصيف، جمع القطن من أرضنا المزروعة بالمزارعة لأعمام أبي، ونفضه من قشبره، وكبس القطن في الأكياس الكبيرة بالأرجل، وقفزي وإخوتي من فوقها بعد امتلائها، ومراقبتها وهي توزن بميزان القبان، وهي تحمل على ظهور الجمال، ومشاهدة جدي وهو يقبض ثمن القطن المباع، وهو يسلمه لأبي، مسارعًا للخلاص منها.
لحظ جدي ما بي من حزن لبقائي بالسنبلاوين، وكان يخشى بوادر غضبي، خشيته لنوبات عزلتي، فراح يحاول ملء فراغ وقتي بمحادثتي، إلى أن اهتدى إلى ما ظنه ملئًا لفراغ ساعات من نهارات الأيام. راح يطلب مني أن أحدثه عن مدينة الزقازيق والمعهد الديني وشيوخي ورفاق الطلب من المجاورين، فأحكي له بعضًا، وأحجز عنه الكثير منها، حتى لا يزل لساني بحكاية ما عما أعيشه بمدينة الزقازيق من مفاسد تبدو لي صغيرة وهينة وعبث صبية، وتبدو له كبيرة ومنذرة بالخطر، والوقوع في الفواحش. وصار يصحبني معه إلى صديقه العرضحالجي.
كنت أعجب لنفسي من نفسي لصبري وحرصي على المراقبة والمشاهدة، وكان بوسعي دائمًا أن أحكي لجدي وزوجة جدي فهما الأقرب إليّ عما شاهدته وسمعته، وأزيد عليه أوصافًا لوجوه الناس وملابسهم وحركات الأيدي، بل وأزيد عليها من عندي ما لم يكن ولم يحدث قط. حتى قال لي جدي ذات ليلة:
- ستكون واعظًا يا سليمان قادرًا على رواية قصص الأنبياء والأولياء في المساجد الكبيرة.
وحدثني فجأة حديثه المعاد عن الشيخ الزنكلوني الذي زار القرية، وألقى على الناس درسًا امتد ساعات في تفسير آية واحدة عن أكل مال اليتيم. وعندئذ فوجئ جدي بي أصيح به غاضبًا في حمق:
- لا أريد أن أكون واعظًا.
اكتأب جدي، وبان الهم على وجهه، وران عليه الصمت، وراح ينظر وهو يدخن إلى حجره، وهمس قائلا لي:
- ماذا تريد أن تكون؟
فقلت لفوري:
- لا أعرف. العلم عند الله.
فقال لي مستسلمًا:
- ونعم بالله.
وفي خاطري تذكرت رفاق طفولتي بالقرية في سنوات مضت، ذلك الولد الذي كان يخترع لنا الحكايات عن الجن والعفاريت والمردة وخطفهم للناس وركوبهم لأرواح الناس، ولكن لم يكن أبوه ولا أمه قارئًا ولا كاتبًا، ولم يكن في بيته مجلة ولا كتاب ولا جدة تحكي، ومات قبل عام واحد حاملا معه حكاياته وخرافاته كلها، وذاك الولد الذي كان قادرًا على رسم الوجوه والعيون خاصة بقلمه الرصاص، وبدرجات من الخطوط والرتوش والتظليل، وكان يعطيها لنا هدايا بالمجان، لنعلقها على الجدران في بيوتنا، وجاء وقت صار فيه حلاقًا مثل عمه وأبيه في دكان أبيه، وهجر التفنن بالقلم إلى التفنن في حلق الرءوس. وعدت أكرر لجدي قولي زاعقًا:
- مش عارف. والله ما انا عارف.
ولم أكد أصمت. حتى قلت له كأنني أحدث نفسي:
- نفسي اقعد في بلدنا واعيش فلاح.
فقال لي:
- فال الله ولا فالك. انت ما تعرفش لسه مر الفلاحين والفلاحة، ومقاومة الدودة وعيا البلهارسيا والدوسنتاريا والانكلستوما, فال الله ولا فالك.
ثم عاد إلى الصمت مرة أخرى، وعاد إلى الكلام مرة أخرى:
- لو كان عندنا أرض كبيرة كان ماشي يا ابو داوود. أرضنا دقولتي حيكون نصيبك منها قراريط. وحتلاقي نفسك في الآخر عمال التراحيل انت وعيالك. عارف عامل التراحيل يعني إيه؟
وسكت، ثم نهض عني مفارقًا إلى حين. ورحت أفكر في حال عمال التراحيل، وبنات عمال التراحيل الذين يعيشون بالقرية حول بركة، بل مستنقع علي الأعرج، قرب طاحونة القرية بين قريتنا وكفر العنانية. وفي الليل انفردت بزوجة جدي زكية. فوق السطح. وقلت لها:
- احك لي.
(3)
مضى الصيف وعدت إلى مدينة الزقازيق. سكنت بحي الحسينية مع آخرين، في غرفة تحت مستوى أرض الشارع، مثلها مثل عتبة البيت، بين نافذتها ومستوى أرض الطريق نصف متر لا غير. كان لي، دون رفاق السكن، سرير موضوع تحت النافذة، وتحته كان حصير ممتد إلى الحائط المقابل لسريري، وفوقه كانت مراتب رفاق السكن الثلاثة، التي تطوى بجانب الجدار في النهار، وتفرد في الليل عند النوم. وفي ركن الغرفة كانت المواعين ووابور الجاز والمكنسة الليفية، وبراد شاي، وكنكة قهوة تتسع لملء فنجانين.
كانت النافذة ذات مصاريع أربعة، وكان يطيب لي حين أكون وحيدًا بالغرفة أن أفتح المصراعين التحتيين وحدهما لأرى الثلث الأوسط فقط من أجساد السائرين والسائرات، أو أفتح المصراعين العلويين من النافذة لأرى أثلاثهم العلوية، والسحنات الجانبية لوجوه السائرين والسائرات.
لا أدرى لماذا تصادف في هذا السكن أن يكون أسماء رفاقي من أسماء العبادلة مثل اسم أبي: عبد الوهاب، عبد الحميد، عبد العزيز. كان هذا الأمر يستوقفني.
اثنان من رفقة هذا السكن كانا من قرية قريبة من قريتي، كان أحدهما ابنًا لكاتب حسابات في دائرة باشا إقطاعي أميّ، أدخل كلا من أبنائه الأربعة، في حزب من الأحزاب الأربعة التي تتداول الحكم في مصر، ليضمن وجود واحد منهم دائمًا في برلمان الحزب الذي يحكم مصر. ذلك هو: عبد الوهاب.
كان عبد الوهاب يعاني من أنيميا لابدة بجسمه، وساعيًا للزواج من ابنة طحان في حارة قريبة، تعرف به يومًا على المقهى، ودعاه الطحان يومًا إلى بيته، فصار يتردد عليه، مفتونًا بمنظر علبة الكراملة المفتوحة، يأخذ منها من شاء ما شاء لما شاء، وبعلبة كراملة أخرى مفتوحة، وممتلئة أبدًا بقروش الوهبة في المطحن وشلناتها، يأخذ منها من شاء ما شاء لما شاء. ولا تفتأ ابنة للطحان في مخالسة عبد الوهاب النظر، وأمها تنهرها بنظرة عتاب راضية، وأبوها ينسج لها خيوط زواجها من عبد الوهاب على مهل.
كان عبد الوهاب في الصف الثالث الثانوي بالمعهد، وكان يخطط للزواج من ابنة الطحان المقتدر، وأخذها معه إلى قريته، فسوف يكون كاتب حسابات مع أبيه بدائرة الباشا الأمي، وانتهى به الأمر، في صيف ذلك العام، إلى إغراء الطحان وزوجته وابنتهما له، ليبقى معهم ويعيش معهم، ويعمل طحانًا مع الأب الطحان، فقروش الوهبة أعلى مما سوف يناله من الباشا، والناس لا يكفون أبدًا عن طحن حبوبهم، وابنة البندر لا يليق بها سكنى الريف، والغربة بعيدًا عن الأهل، لكن عبد الوهاب الممصوص الدم الضعيف المقاومة قضى على صدره غبار الدقيق شهرًا بعد شهر.
والثاني كان ابنًا لخولي أنفار في دائرة هذا الباشا، هوِي الدروشة، وحاصرته الوسوسة، فصار يشك في كل لحظة في طهارته، أو في كونه على وضوء، أو حتى في أنه توضـأ أصلا، فيسارع إلى الوضوء، تحت حنفية الحوض العطن، ويشك إثر كل رقدة في طهارته، فيسارع ساعيًا إلى الاغتسال في حمام من حمامات المعهد الديني، حتى في عز الشتاء، وشدة برودة الماء.
كان ذلك هو عبد العزيز، وكان طالبًا بالصف الثاني الثانوي، وانتهى به الأمر إلى العمل كاتبًا للحسابات في دائرة الباشا، وظل عبد العزيز يسعى إلى عمله بهدوء، إلى أن اجتاحته يومًا ثورة شباب أهل القرية من طلاب المدرسة الثانوية، ضد الباشا اليميني الإقطاعي الرجعي، فحملته معها إلى مهاجمة قصر الباشا الإقطاعي ذات نهار، يقودهم اليساري الثائر نجيب سرور الذي صار شاعرًا وممثلا ومخرجًا وكاتب مسرح فيما بعد. ولم يعجل الباشا بالعقاب. انتظر حتى كانت ساعة الغروب في أول رمضان، وانقض رجاله من حراس أملاكه المتنامية بكرابيجهم وأسلحتهم عليهم هم وأهلهم، وهم يتناولون الإفطار، ثم طردوهم في ظلام الليل بعيدًا عن القرية. وقيل لي إن عبد العزيز، انتهى به الأمر إلى أن يكون واحدًا من قطاع الطرق، في السنوات التي طغى فيها الإقطاعيون على الفلاحين في ريف مصر.
وكان ثالثهم، بلدياتي، تشيع الصفرة في بياض وجهه، تشي زرقة عينيه بأصول أجداده الفرنسية في عهد حملة لويس التاسع على مصر، أو من زمن حملة بلدوين أو نابليون. كان ذلك هو عبد الحميد. ممعود العود كان، رقيق العظام، فائق الجمال والوسامة لو كانت به صحة وعافية. كان عاكفًَا أبدًا على كتبه يذاكر بها، وظهره إلى الجدار، وركبتاه مطويتان إلى صدره، لا يقرأ شيئًا سواها، حريصًا على أن يغير قدره وقدر أبيه. كان أبوه متعدد الأعمال بالقرية. أحيانًا كان يشتغل "أبونيه" بين القرية وبندر المركز، يشتري للنساء والتجار الصغار حاجاتهم العاجلة من البندر. وأحيانًا كان يشتغل كاتب عرضحالات بجوار المركز، ويعود مع الليل في آخر قطار من قطارات الدلتا. وكثيرًا ما كان العملان يتداخلان. ونجح عبد الحميد في التخرج من كلية الشريعة بالجامع الأزهر. ولم تتم فرحته، ولا فرحة أهله به، فقد ودع الدنيا في القرية، وهو ينتظر تعيينه كواعظ أو كمدرس في أواخر الخمسينيات، وكانت التعيينات في مصر كلها موقوفة إثر حرب عام 1956 إلى أن أعلن التأميم، وآلت ثروة الإقطاعيين إلى بيت المال.
وأمام غرفتنا المشتركة كانت غرفة مقابلة بيننا وبينها طرقة متربة، كانت غرفة المجاور عبد الرحمن. كان ابنًا لعمدة ثري، كان وسيمًا فارع الطول، أشقر الوجه شقرة تميل إلى السمرة. كنا نراه أبدًا يدخل إلى غرفته، ويخرج من غرفته في جلباب إفرنجي بياقة وكمين بزراين من الحرير الأبيض، وكان شعره أسود فاحمًا غزيرًا وناعمًا، يحرص أبدًا على جعله ملتفًا حول بعضه البعض، ذا "غُرَّة" تتوج جبينه. وكانت له سن في جانب شدقه، يرى بها خفيف الدم، خاصة حين يبتسم أو يضحك بعذوبة تكاد تكون أنثوية.
على تحفظنا معه، كان هو عِشَريًّا، مقتحمًا للغير من حوله بظرف ولطف. يطرق بابنا أحيانًا للتعارف، وأحيانًا لتأكيد التعارف، وأحيانًا للمودة من جار لجار، وأحيانًا ليشرب معنا شايًا. وفي كل مرة، كان يوزع عليّ وعلى عبد الوهاب السجائر المكنة يخرجها لنا من علبة معدنية أسطوانية فاخرة، أو سجائر ملفوفة بورق البافرة، من أعقاب السجائر التي يدخنها، ولم تكن فلاتر السجائر قد وجدت بعد. كان يحتفظ بالأعقاب، من سجائره هو وحدها، عُقبًا بعد عقب، طلبًا لنظافتها ولخصوصيتها بفمه هو، لوقت الحاجة إليها، حين لا يجد سجائر في قلب الليل، وحين يكسل عن الخروج من غرفته لشراء السجائر المكنة، كان بالغ الشره للتدخين. وكان يقول لنا وهو يقدم لنا سجائره اللف:
- اشربوا اشربوا. دي أجمل ألف مرة من السجاير المكنة، وطعمها يا سلام عليه. معتّق آخر مزاج.
***
كان صاحب البيت تمورجيًّا بمستشفى الأمراض السرية بمدينة الزقازيق. وكان البيت معروفًا في الحي باسمه هو لا باسم زوجته زينب، ورثه عن أبيه الذي كان تمورجيًّا من قبله بالمستشفى نفسه. وكانت زوجته زينب جميلة جمالا تركيًّا فائقًا، بيضاوية الوجه بارزة الوجنات، أسيلة الخدين كما يقولون. كنا نراها أحيانًا خطفًا. وحين ترى أحدًا منا، تسارع بالاختباء في غرفتها المظلمة في عز النهار، ترى من في البيت والباب مقتوح ولا يرونها. فلا نافذة بالغرفة، وكان بابها مجاورًا لغرفة مغلقة الباب دائمًا، إلا حين يعقد بها صاحب البيت سهرة لأصحابه لشرب الحشيش، ولم يكن يدع إليها من بين سكان الغرف سوى عبد الرحمن.
كان رفيقي في الغرفة: عبد الوهاب وعبد العزيز قد سكنا قبلا في البيت نفسه، في العام الذي سبق في شقة من غرفتين وصالة على سطح البيت. ولأن إيجارها كان جنيهًا ونصف الجنيه، ولأن شريكيهما في الشقة، لم يأتيا للسكنى بها معهما مناصفة في الإيجار، آثرا اختيار الغرفة التي نسكنها، وضما إليهما شخصي وعبد الحميد. وعاد عبد الرحمن ليسكن في الغرفة المقابلة، الغرفة نفسها التي كان يسكنها وحده في العام الذي مضى، بالقرب من زينب ابنة الظلام.
أكد لنا عبد الوهاب وهو يستغفر الله ويطلب مسامحته مما سيقوله:
- الست زينب زوجة صاحب البيت كانت إحدى المترددات على المستشفى السرية، ووصلت بها المتاعب الصحية إلى درجة صارت معها بلا رحم. واختارها زوجها عبده لتكون له زوجة، وسترها فتابت على يديه. واختارت العيش قي غرفة مظلمة، لا ترى فيها أحدًا من السكان، ولا الجيران، ولا تخرج من البيت. تنتظر وحدها في قلب الظلام عودة زوجها في قلب الليل.
ولم أفهم سببًا لما قاله عن زوجة صاحب البيت، استدرجت عبد العزيز ذات ليلة، وكنا وحدنا في الغرفة، وكانت ثمة حلقة ذكر أقامها المجاورون في الحارة، فروى لي حادثة عجيبة. جرت بينه هو وعبد الوهاب من جهة وعبد الرحمن من جهة أخرى.
في العام الذي مضى، كان عبد العزيز عائدًا مع عبد الوهاب من المعهد، وقد اقتربت صلاة العصر، وقبل صعودهما سلم البيت، رأيا في ظلام غرفة الست زينب، والباب مفتوح، عبد الرحمن معها على كنبة، وهما في فعل فاضح. وهاج عبد الوهاب، وزعق وسب، واتهم الاثنين بالفجور، وسارع بصعود السلم، وعاد بمقشة ليف ذات يد خشبية، ليضرب عبد الرحمن بها.
واستعاذ عبد العزيز بالله وهو يكمل لي ما جرى. قال:
- عبد الرحمن ابن حرام. طوى عبد الوهاب والمقشة معه، تحت باطه، وحين تدخلت لنجدة عبد الوهاب من يده، طواني تحت باطه الآخر، وضرب رأس أحدنا برأس الآخر. وهددنا بالطرد من البيت، واتهامنا في البوليس بتهمة القذف دون دليل.
ثم قال عبد العزيز وكأنه سيبكي:
- من يقدر على عبد الرحمن. لا يقدر عليه أحد سوى الموت.
وأضاف:
- كل ليلة كان عبد الرحمن يسهر مع الزوج في الغرفة المغلقة الباب ، وتدور الجوزة بينهما معمرة بالحشيش، والست زينب تتولى التعمير وتشارك الاثنين في شد الأنفاس، واللي مش عاجبه البيت يمشي من البيت.
رحت أتعجب مما يقوله عبد العزيز. وأدرك عبد العزيز ما أفكر فيه، فقال لي:
- جوز الست زينب بطل حشيش. وعبد الرحمن وقف علاقته بزينب، وجوزها انحال ع المعاش وقاعد معاها زي ما انت شيف ليل نهار.
***
اكتشف زملائي الثلاثة في السكن، وكان غرفة واحدة مقبضة، كما البيت والحارة والحي، مهارتي في لف العمامة، وحبكها، وسبكها، وقلوظتها، وسبسبة شراريبها بمهارة.
أحاط رفاق السكن بي، لألف لهم عمائمهم ضحى كل يوم جمعة، ليذهبوا بها متأنقين لصلاة الجمعة، والمشي بعياقة إلى المعهد، والعودة منه في أيام الأسبوع الأخرى. كنت أعممها لهم على ركبتي لوجه الله، فهم رفقة السكن، والفول والطعمية والصلصة المبهَّرة المثوَّمة والكشري والسردين والأنشوجة والبيض والبصل الأخضر، وحلقات الذكر بالحارَة، في الليالي الحارّة.
وذاع وشاع خبر معْلمتي في لف العمائم على اختلافها ضيقًا وسعة، وخامات شيلان طيبة أو رديئة، شالات من الحرير كانت أو من السكروتة أو الدبلان الأبيض أو حتى من الدمور أو الشاش الرخيص. وصاروا يقفون بالحارة على باب البيت في انتظار دورهم. وهؤلاء كان عليّ أن أرزأهم في الكثير أسبوعيًّا من مالهم. قرش صاغ واحد عن كل عمامة نقدًا أو دينًا، أو أعزم نفسي عندهم على الغداء فجأة مما حضر دون دعوة كما أشعب، سدادًا للدين حين يخلو مني الجيب.
أتاح لي ذلك فرصة التدخين لسجائر السفير والكلوب والفيل. كان السبع سجائر منها بقرش واحد، والجولد فلاك الحادة المذاق الثقيلة النيكوتين التي تشتريها الزوجات لأزواجهن في ليالي غناء أم كلثوم. وكنت أقول لنفسي:"هم علموني التدخين، سامحهم الله، وعليهم أن يدفعوا الثمن."
***
أحببت رفقة السكن هؤلاء لبضعة شهور. ولم يتوقف حبي لهم إلا حين رأيت كراهيتهم لي، ربما بسبب سريري وحصيرهم، وربما بسبب صياعتي ومرحي ولهوي وشقاوتي، وفرحي بأنني حي، وربما بسبب قدرتي على الكسب بتعميم العمائم، ونسخ المذكرات للطلاب، وربما بسبب أنني ابن بندر آخر، وأبي سكرتير مدرسة يرسل إليّ كل شهر مائة وخمسين قرشًا بالتمام والكمال.
في شهور المودة الظاهرة لي، والضيق بي المكتوم في الصدور، كنا نتحدث معًا، ونأكل معًا، وننام معًا. أنام على سريري، وينامون على حصيرهم، وفي شهور الحب أمنت لهم حين مرضوني من أنفلونزا حادة، وجاءوا لي بدوائي، وكان الدواء عشوة سردين جيد مملح من سوق الثلاثاء الأسبوعي، وحزمة حراقة من البصل الأخضر، وصنعوا لي شايًا صعيديًّا مزرودًا، وغطوني بحِرَام ثقيل شبع قبلي من عرق النائمين. وفي الصباح كانت الأنفلونزا قد ولت. وأحببتهم حين شاركتهم بين ليلة وأخرى في حلقات الذكر الصيفية مع المجاورين بالحي، وحي. الله حي، إلى أن يقترب الفجر، ويذهب بعضنا إلى حصرهم، وبعضنا إلى المسجد لصلاة الفجر، وأحببتهم حين كان عبد الوهاب يصحبني معه إلى بيت الطحان، وأجلس معه على المصطبة، في غرفة المصطبة ذات الفرن والبحراية، وأشرب الشاي، وأجذب أنفاس الجوزة الدائرة بين الأيدي، يحلق دخانها فوق مصطبة القاعة، وبحرايتها، وفرنها الخامد، وأروح أراقب النظرات الفقيرة الودودة المختلسة بين عبد الوهاب وليلاه، ومذاق الكراملة في فمي.
وتوددت إليّ رفقة السكن ذلت يوم، فأطبقت سريري الحديدي، وركنته خارج الغرفة، وصرت أنام معهم على الحصير المبسوط من الجدار إلى الجدار، وألف لهم شيلان عمائمهم مجانًا، وأعير شال عمامتي الحريري الأبيض لمن يكون عنده مناسبة منهم، لزيارة ليلى من الليلات، أو حضور عرس، أو زيارة شيخ جليل من شيوخ معهدنا.
لكن شهور الود والحب انتهت فجأة، حين وقعت فريسة في يد طالب مجاور كان معروفًا بإقراضه الطلاب بالربا، أخطأت ورهنت عنده الشالين الوحيدين لعمامتي. وطويت عمامتي حمراء عارية على زرها الأزرق، وأخفيتها تحت المرتبة، وتجنبت الذهاب إلى المعهد.
***
عصر يوم شتوي، فاجأني عبد الوهاب بقوله لي في براءة وهدوء، كأنه لا يضمر شيئًا آخر:
- هات شال عمتك، ولف لي به عمتي.
طب قلبي وغار في قدميّ. أيقنت أنا الصبي أن كارثة سوف تقع فوق رأسي، من رفقة السكن، وأدركت أن عبد الحميد بلدياتي ورفيقي في السكن، لا يزال في الصف الابتدائي الأول، ولا يزال هش العود، وأنني وحيد في مواجهة عبد الوهاب وبلدياته عبد العزيز، وكلاهما بصف أعلى مني، ولهما بحق السن والقوة ورفعة الصف تأديب صغار المجاورين ممن يسكنون معهم. كان ذلك هو العرف في مساكن المجاورين، وعلى الصغار السمع والطاعة، والخدمة أيضًا.
لزمت الصمت برهة، وقلت لعبد الوهاب:
- لا.
فنظر لي قائلا:
- ليه؟
تهربت قائلا:
- ضيعت الشالين. بعت الشالين. أنا حر.
فزام ساخرًا:
- هم. حر. طيب حاوريك ازاي تبقى حر.
والتفت إلى عبد العزيز، وقال له آمرًا:
- روح ترعة أبو حسين، وهات لي نقْز نقاوة أخضر طويل ومليان من شجرة.
تردد عبد العزيز لحظة، وقال لعبد الوهاب:
- طيب ماشي. بس أفهم الأول السبب. إيه اللي حصل؟
وانتهز عبد الحميد الفرصة للدفاع عن ابن بلده، فقال بضعف شديد:
- واحد وباع شيلانه فيها إيه يعني.
فنهره عبد الوهاب قائلا:
- انت تسكت خالص. يا تسيب السكن معانا، وتشوف لك سكن تاني.
غمرني الكسوف، وأدركت أن ما يحدث الآن سيرويه عبد الحميد في القرية، وسوف يصل إلى الأعمام وأبناء الأعمام. وقال عبد الوهاب لعبد العزيز:
- حضرة الشيخ يا باشا، رهن شالين عمته عند الولد المجاور المرابي اللي مارضيش حد يسكن معاه، ولا يقعد حتى جنبه في تخته.
وبهت عبد العزيز وزاد الطين بلة، فقال:
- يا نهار اسود. رهنهم بالربا؟
والتفت نحوي قائلا:
- يعني ذنبك زي ذنبه. في النار وبئس القرار. فعلا لازم تاخد علقة، ونطردك من السكن معانا.
وغادر الحجرة مسرعًا ليأتي بالنقز. قلت متشجعًا لأهرب من الموقف والعلقة معًا:
- حاسيب السكن وآخد عفشي. أشوف لي سكن الأول مع حد تاني.
فقال لي عبد الوهاب بعزم:
- مش حتخرج من هنا إلا بعد ما تاخد العلقة الأول، واللي ما يعرفش يعرف.
قال عبد الحميد برفق لعبد الوهاب:
- مين اللي قال لك على الحكاية دي؟
فقال له عبد الوهاب مشوحًا بيده بقرف:
- الواد المرابي نفسه. خدني على جنب، وقال لي. وقال لي كمان.. يجيب الخمسين قرش وفوايدها عن شهرين مش شهر. وياخد الشالين.
فتعجب عبد الحميد، وقال:
- يعني شهد على نفسه إنه مرابي.
فقال عبد الوهاب:
- أيوه يا عبد الحميد. احنا في بلدياتك مش في المرابي.
كلمة بلدياتك فورت دمي، وأخزت عبد الحميد، فأطرق برأسه ناظرًا إلى الأرض، ثم رفعها، وقال لي:
- الفايدة كام؟
فأجابه عبد الوهاب:
- عشرين في المية عن كل شهر باابن الناس.
نهض عبد الحميد وأخرج من جيب كاكولته محفظته وعد منها سبع برايز، وقدمها لي قائلا:
- خدها وادفعها له دلوقتي وهات شالينك.
اعترض عبد الوهاب، وقال بحزم لعبد الحميد:
- لازم ياخد العلقة الأول واطرده شر طردة من البيت.
جلست بهدوء، وقد عزمت أمرًا. وجلس عبد الوهاب، وظل عبد الحميد واقفًا يفكر. ثم قال:
- روقوا بالكم، ووحدوا الله. حاعمل لكم شاي.
انتهزتها فرصة، واتجهت إلى براد الشاي قائلا:
- أنا حاعمل الشاي يا عبد الحميد. اقعد انت.
وجلس عبد الحميد، ورحت أغلي ماء البراد على وابور الجاز، وانتهزت الفرصة، فسحبت سكينًا وأخفيته في سيالة جيبي.
قبل أن أضع الشاي في الماء الذي يغلي، دخل عبد العزيز الغرفة حاملا نقزًا هذب عقده في الطريق بأسنانه، فصار مثل الخرزانة الملدنة، وهو يقول لعبد الوهاب:
- سيبهولي أنا ما تتعبش نفسك. انا حاربيه بإيدي. انت بس تأمر. ولما تقول لي بطل حابطل.
ونفخ في يده كأنه يبصق بها، وكنت واقفًا بانتظاره وظهري إلى الجدار، وفي يدي سكين. التفت فجأة. قلت لعبد العزيز شاهرًا سكيني في وجهه:
- جرب وانا حاسيح دمك ودمه.
في تلك اللحظة، كما في أفلام السينما، دخل الغرفة جارنا عبد الرحمن. كان يسكن وحده في الغرفة المقابلة لنا، ووجدناه يقف بيننا قائلا وهو يضحك:
- يُه يًه يُه. أكيد اتجننتم والسبب هايف.
وركبت نزعة العنف عبد العزيز لضربي برغم السكين في يدي، فقبض عبد الرحمن على يده، ونزع بيده الأخرى العصا منه، وقال لي:
- اديني السكينة دي.
ناولته إياها طائعًا بهدوء. كان وحده قادرًا على ضربنا نحن الأربعة. وسأل عبد الرحمن وهو يجلس:
- المية بتغلي في البراد. مين كان بيعمل الشاي؟
قلت:
- أنا.
ضحك وقال:
- يعني وانتو بتشربوا الشاي تضربوا بعض. الشاي زي العيش والملح. صلحة يعني.
وحتى لا أقدم الشاي لعبد الوهاب ولا لعبد العزيز، وضعت الأكواب على صينية الشاي، وحططتها في وسط المجلس. قال عبد الرحمن ضاحكًا وهو يسحب كوبه:
- ما فيش كلام إلا بعد ما تهدا النفوس، ونشرب الشاي.
حين أعدنا أكوابنا فارغة إلى الصينية أخرج عبد الرحمن علبة سجائره الفضية، وفتحها، وناولني سيجارة من تحت استكها بيده، ثم قدم العلبة للآخرين، وامتنع عبد الحميد وعبد العزيز عن التدخين.
وقال عبد الرحمن لعبد الوهاب:
- احكي لي بقى. إيه سبب الخناقة؟
حين انتهى عبد الوهاب من الكلام. أطرق عبد الرحمن لحظة. ثم قال لي بهدوء، ربما ليأخذ بثأر سابق من عبد الوهاب:
- تفتكر ليه عبد الوهاب وعبد العزيز زعلانين، وانت حر في السلف، وفي الشالين؟
زعق عبد العزيز:
- يا خرابي. بالفايظ.
فقال له عبد الرحمن بهدوء:
- لا انت ولا انا قاضي. ولا احنا القانون ولا الحكومة. والناس كلها بتشتغل بالفايظ على عينك يا تاجر. العيب مش على اللي خد بالفايظ. العيب على اللي بيسلف بالفايظ، اللي بيستلف مضطر. والضرورة لها أحكام، تسمح حتى بأكل الميتة عند الجوع.
ولم ينتظر ردًّا من أحد فقد التفت إليّ قائلا:
- ما قلتليش. ليه الشيخ عبد الوهاب زعلان؟
نظرت لعبد الوهاب قائلا:
- اقول يا كبيرنا. والا اخلي الطابق مستور؟
فقال عبد الوهاب متحديًا لي:
- حتقول ايه يعني. كفاية كسفتك.
استفزني. فقلت لعبد الرحمن مورَّيًا:
- السبب يا سيدي ليلى.
فضحك عبد الرحمن، وقال:
- ليلى؟ وما دخل ليلى بالشيخ عبد الوهاب؟ مين ليلي؟
فقلت:
- ليلى بنت الطحان. ليلاه يعني. ما اعرفش اسمها.
فقال عبد الرحمن ضاحكًَا، وقد فهم الموقف:
- فهمت. كان عايز منك الشال الحرير، وتعمم له عمته. قلت له إنك رهنت الشال.
قلت له:
- لو كان عندي الشال وكان عايزه خالص مني، كنت اديته له هدية.
نظر عبد الرحمن قائلا بلوم لعبد الوهاب:
- شايف الحب والمجدعة.
فقال عبد الوهاب مصممًا:
- لازم ينقل من هنا والليلة.
فنهض عبد الرحمن واقفًا، وقال مغاضبًا:
- ماشي يا ابن الأكرمين ماشي.
مد يده إليّ فنهضت معه. وقال عبد الرحمن لي:
- انت ضيفي الليلة لحد ما نشوف لك سكن بنفسي.
وقبل أن يعبر الباب، قال ضاحكًا لمن أتركهم ورائي تلك الليلة:
- بذمتكم مش انفع عمدة. أنا أصلي بادرّب نفسي معاكم ازاي أبقى عمدة بعد أبويا طال عمره. أنفع؟
ولم ينتظر ردًّا وذهبت معه إلى غرفته. وجاءني عبد الحميد بأشيائي الصغيرة العاجلة. وارتديت عند عبد الرحمن ثياب الخروج، صحبني عبد الرحمن إلى صاحبة بيت وحيدة بكفر الحريري، واتفق معها على السكن عندها من غدي. ودخلت السينما على حسابه حفلة عشرة، وبعد السينما مال بي عبد الرحمن إلى مقهى البوسفور بميدان المحطة. ورحنا نلعب الشطرنج. وقال لي عبد الرحمن بعتاب:
- لما عايز سلف يا سليمان ما سألتنيش ليه؟
قلت له السبب، وكيف أنه كان عاجلا بالنسبة لي ولا وقت معي للتفكير، وهو في كل لحظة يقول لي بدهشة وأنا أحكي: لأ.. لأ..لأ..لأ.. وحين انتهيت فكر لحظة، ثم قال معزيًا نفسه معلقًا على ما قلت:
- بتحصل. بتحصل. وياما بيحصل. كل الروس واحدة. لبست طربوش. لبست لاسة. لبست عمة. مشيت عريانة. ونفس وما سواها.
كان ما حكيته لعبد الرحمن عن مجاور قصير جدًّا، نحيل جدًّا، قبيح جدًّا، يجلس على الدرج المجاور لدرجي بالفصل. جاءني يومًا بالمقهى، وجلس صامتًا، ثم باح لي بأن رفيقه المجاور في السكن، راوده عن نفسه، وهاجمه، فهجر السكنى معه. صدمه أنه مجاور يدرس الدين، وأن زميله في السكن على وشك دخول الكلية في العام التالي. ومن أجله عجلت بالسلف حتى من مجاور مراب. وفي اليوم نفسه أسكنته وحده، في غرفة خالية على سطح بيت بحي الحسينية.
قال لي عبد الرحمن وهو يضع جنبه على سريره:
- لو قلت لعبد الوهاب ما كانش حيصدقك. فيه ناس قلوبها حجر.
وفوجئت بعبد الرحمن يبكي وينتفض. وكأنه كان يبكيه قبل هجره للدنيا، فبعد أسبوع واحد، بعد محادثتي مع عبد الرحمن، جاءني خبر وفاة المجاور الذي راوده مجاور شقي عن نفسه.
***
لم أكن أعرف من الرياضيات منذ دخلت المعهد الديني سوى علم الحساب. ولذلك فوجئت بين الكتب التي سلمت لي بكتاب في علم جديد عليّ هو علم الجبر، قلبت الكتاب. حاولت أن أفهمه وحدي فلم أفهم فيه شيئًا. ولذلك حرصت على حضور دروسه، وتوقعت أن يكون مدرسه لنا أفنديًا مطربشًا، فأنّى لشيخ معمم أن يدرس مثل هذا العلم، أو يفك طلاسم هذه الرموز.
في حصة الجبر دخل علينا الفصل شيخ، بدا لي نصف شيخ ونصف ابن بلد. كان يرتدي عمامة نعم، لكنه كان يرتدي تحتها جلبابًا من الكشمير فوق صدار. وعلى الجانبين كانت فتحتين بالجلباب ليس لهما جيب. وعجبنا له. ورحنا نتهامس لأن شيخًا معممًا، أو حتى نصف شيخ، يعرف علم الجبر، ويدرسه. وجعلني زيه أعتقد أنه مجلوب لتدريس هذه المادة التي تعتمد على رموز، وتحل بها أي عمليات حسابية أو هندسية، وأنه ليس شيخًا حقيقيًّا. وأسميته بيني وبين نفسي الشيخ: عُقد.
كان يظهر مع حصص الحساب والجبر والهندسة، ويختفى إثرها من المعهد كله، فلم نكن نراه بعدها في غرفة المدرسين، ولا طرقات المعهد، ولا حديقة من حديقتيه، ولا ساحة من ساحاته. وكانت له كلمات ملازمة، وعادات ملازمة إثر دخوله الفصل. كان يقول لنا ساخرًا مزدريًا ومحطمًا:
- انتم طلبة علم انتم. انتم ما تنفعوش إلا تسرحوا بعربية جاز، أو تشتغلوا شيالين في السكة الحديد، أو.. أو..
ويظل يقرِّع ويزدري حتى يهمد. وقبل أن يبدأ درسه بالطباشيرة على السبورة العالية الواسعة بعرض الحائط يدس يسراه في جيبه، ثم يخرجها ويشمها، ويبدو على وجهه الاشمئزاز. ويبدأ درسه عن السينات أس واحد والسينات أس اثنين والصادات والعينات، ونحن نحاول أن نفهم عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة الجبرية برموزها، ولم ندرس معها معادلة واحدة قط، حتى معادلات الدرجة الأولى.
وفي نهاية الدرس يغادر الفصل ويختفي، كأنه فص ملح وذاب.
***
بت ضيق الصدر بعمامتي وبعمائم الآخرين. واكتشفت طريقًا سهلا لأثبت نفسي حاضرًا في كل الدروس في كل الأيام على مدار الشهور. كنت أتنازل للملاحظ، حامل كشوف الحضور والغياب عن جرايتي، وكانت خمسة وعشرين قرشًا كل شهر، كي لا يؤشر بعلامة إكس أمام اسمي في كشف أسماء الحضور اليومي. وبذلك تحررت من عمامتي، ورحت أقضي ساعات الصبح والعصر عاري الرأس بمكتبة البلدية على بحر مويس، أو الجلوس على مقهى البوسفور، بميدان المحطة، ومشاهدة السابلة، والسيارات وعربات الكارو، وسماع غناء الباعة المتجولين. ولا أضع العمامة على رأسي إلا حين اضطراري للذهاب إلى المعهد أو القيام بنزهة خاصة.
لم أكن في هذه الحال وحدي، فقد كانت هناك قلة متمردة من طلاب المعهد، ولغير سبب، إلا لما هو في طبائعهم التي خلقهم الله عليها. كانوا متمردين مثلي على العمامة، وكتب الأزهر التراثية الصفراء الأوراق، الملتفة الصياغات التفافات مشوشة.
بدأ تمردي حقًّا على ما أذكر حين تدحرج مني شلن، وجرى أمامي على الأرض المسفلتة بشارع عباس، ودار وانعطف، واهتز أعلى وأسفل حتى استقر ساكنًا. وحين هممت بالتقاطه، رأيت أمامي ثلاث فتيات متفرنجات سافرات. بدا لي أنهن طالبات، في زيهن الأزرق المتشابه. توقفت عن الانحناء للحظة خجلا منهن، فعلى رأسي عمامة. ولم تطل اللحظة، فقد واصلت سيري، مستغنيًا عن الشلن، والتفت نحو الشلن بعد عدة خطوات، لأطمئن على مكانه كي أعود إليه بعد أن يبتعدن. رأيت إحداهن تنهض واقفة من انحنائها على الأرض، وفي يدها الشلن، ورحن يضحكن، وهن ينظرن إليّ، ربما ليعطينه لي. لكنني أسرعت الخطا هاربًا إلى المقهى.
في ذلك اليوم استقر عزمي على خلع الكاكولة والعمامة، ولبس البدلة مثل طلاب المدارس، ووجدت نفسي مشاركًا مع الطلاب الآبقين مثلي، الثائرين على العمامة. كان لبعضنا من أبناء العمد والأعيان والقرى والبنادر بدل، بل وساعات فضية يديرونها بأصابعهم، وحاولوا دخول المعهد ببدلهم، ونجح بعضهم في الوصول إلى الفصول، لكنهم سرعان ما طردوا، بل وعوقبوا بالحرمان من الدراسة أسبوعًا، فأسبوعين، حين تكررت المحاولة، فشهرين. وليس بعدهما إلا الحرمان من الامتحان نفسه عامًا كاملا.
لم يكن هناك لذلك قانون مكتوب، ولا بند في لائحة لدى شيخ المعهد. كان شيخ المعهد نفسه هو الذي يقرر العقاب الذي يراه. وكان شيوخ الضبط والربط والسكن في القسمين الابتدائي والثانوي يطاردون من يرونه مرتديًا البدلة عاري الرأس، في أوقات الدراسة، في ساحة المعهد الكبرى، وساحاته أو مجازاته الثلاث الصغري، بين أجنحة المعهد، حتى في مسجد المعهد نفسه، وساحته الممتدة الأخرى أمام الحمامات والمطعم بعرض المعهد، ويطردونهم طردًا من المعهد كله، أو من السكن الداخلي إذا كانوا من طلابه. ولعلي كنت أقلهم أذى، فلا بدلة لدي ولا طربوش. وكل محاولاتي لإقناع أبي في رسائلي إليه بالحصول على بدلة، حتى بدون طربوش ذهبت سدى.
***
على غير توقع، حدث ما جعلني أذهب إلى المعهد بين يوم وآخر، لحضور دروس بعينها في النحو، لشيخ لنا جديد، قال زملائي لي إنه رجل متنور، وابن العصر حقًّا، ويرى أن العمامة ليست من لوازم الدروس الدينية، ولا الكواكيل، مع أنهم لا يرونه بالمعهد إلا في كاكولته المحبوكة الأنيقة، وعمامته المصفوفة الشراريب.
رأيته أول حصة لي بدرسه، وعلى رأسه عمامته. وحين نظر إلى رءوس مَن في الفصل في أول الدرس، توقفت عيناه عندي. وقال لي:
- قف.
وقفت. قال لي:
- لم أرك في هذا الفصل في حصص سابقة.
لزمت الصمت. فسألني سؤالا عاديًا في النحو لا لغز في جملته، ولا فزورة إعرابية. عجزت عن الجواب. كانت إحدى آفاتي أنني أنسى فجأة، وأتذكر فجأة، فلا ضابط لي ولا رابط. فقال لي بهدوء:
- اجلس.
وبدأ درسه البديع في النحو، عن ركني الجملة العربية بمصطلحات جديدة عليّ، كمسند ومسند إليه، أو محكوم به ومحكوم عليه، أوموضوع ومحمول، هما، كما قال أساس النحو كله. وحين انتهى الدرس، أشار إلي فتبعته. خارج الفصل قال لي:
- لي مجلس يومي في حديقة المعهد. مع عدد من طلابي يعدون على أصابع اليد. تعال معهم بعد انتهاء الدراسة.
وتركني ومضى. ولم أعرف أن تعرفي به سيفتح لي صفحة جديدة في حياتي كلها، مع العمامة على الأقل.
سبقت الكل في الوصول إلى حديقتيْ المعهد الديني. كانت الحديقتان لصيقتين بالسور الحديدي المعشّب بالشجيرات، والبوابات الحديدية الثلاث. لم أر بهما أحدًا من قبل، حتى ولا الجنايني. سألت عم مرسي البواب، عن أي الحديقتين يجلس فيها الشيخ أحمد الشرباصي مع الطلاب. أشار لي بيده إلى الحديقة المقابلة.
اجتزت بابها القصير الدوار، المفرّج العوارض، ورأيت بها أريكتين متقابلتين خضراوين، تعلوه خميلة من الشجيرات المزهرة بشتى الألوان. سرت نحوها وجلست وحيدًا أفكر في هذا الشيخ الشاب. أقبل الشيخ العايق فوقفت له، فأشار إليّ ضاحكًا، وهو يقول لي:
- لا تقوموا لرؤسائكم كما تقوم الأعاجم.
راقتني فكاهته الجادة، وفوجئت به يفرش منديلا كبيرًا على الأرض، ويجلس فوقه قائلا:
- البساط أحمدي.
نزلت عن الأريكة وجلست بمقابله على الحشيش. فتح الشيخ حقيبته، وأخرج منها صحيفة: الإصلاح. كانت إحدى الصحف الإقليمية الحرة التي كانت تصدر بمديريات مصر. قلب الشيخ الصفحات وتوقف بها عند عمود به رسالة حب لي يحمل آخره اسمي الأول ولقبي. قال لي:
- أنت كاتب هذا العمود؟
ترددت للحظة، واعترفت بأني كاتبه. كان العنوان: رسالة حب إلى...
قال لي الشيخ:
- أهذا هو اسمها أم هو اسم مستعار؟
قلت بخجل:
- هو اسمها.
قال لي:
- جارتك هي وحبك الأول؟
أومأت برأسي. فقال لي ضاحكًا:
- لا تشهّر باسم حبيبتك مثلما فعل قيس بليلاه، وكانت النتيجة هي زواجها بورْد، فتركته يقول فيها شعرًا، ولو تزوجته لتوقف شعره فيها، ونُسي اسمها واسمه وقصة حبهما.
وضحك أكثر. وقبل أن أفكر فيما يقوله. قال:
- أنت غير مؤهل للزواج، وإعالة زوجة إلا بعد عشرين سنة. حبها على راحتك، وتعفف عن ذكر اسمها. حسبك منها معنى الحب.
فكرت أنه مثل جراح القلوب في ردوده على رسائل المحبين في المجلات المصورة، مثل مجلتي الاثنين ومسامرات الجيب. عاجلني بقوله، وكأنه يحدث نفسه:
- هكذا الأدباء لا يحسنون النحو في البداية. تشغلهم الكلمات والتراكيب والصور والمعاني عن ضبط أواخر الكلمات. ولو أنصف النحاة مع أنفسهم، لسكنوا أواخرها، ووحدوا حروفها الإعرابية كما يتحدثون، وكتبوا الهمزة كما ينطقونها. ونطقوا القافات مهموزة كما كان ينطقها بنو تميم، ومعظمهم سكن أرض مصر في عهد عمر بن الخطاب. لكن المشكلة ستكون في أنه ستصبح لدينا لغتان: لغة تراثية معرَبة، ولغة عربية مستحدثة مسكنة.
وتنهد ثم التفت لي قائلا:
- ما علينا. الزمن سيحسم ما لا يحسمه الناس. ماذا تنوي أن تكتب في المستقبل؟ مقالا؟ أم قصصًا أم...؟
قلت له:
- حتى الآن لا أعرف. لا أعرف حقًّا إذا كنت سأصير كاتبًا أم مدرسًا أم واعظًا. أنا أقرأ فقط. وأكتب أحيانًا تنفيسًا عن عواطفي لا غير.
مد يده في حقيبته المفتوحة، وأخرج منه صحيفة أخبار دمياط، وأراني ما كتبه بها. كان عنوان مقاله سياسيًّا. وقال لي:
- أتعرف أن صحف الأقاليم أفضل حظًّا من صحف العاصمتين: القاهرة والإسكندرية. أتعرف لم؟
لم ينتظر مني جوابًا أنا عاجز عنه، فلا أعرف أنا الجهول عما ذا يتحدث بالتحديد. قال لي:
- هناك رقابات وأحزاب وملك وإنجليز وصراعات وقضايا. شكل ديمقراطي مليء بالعيوب والثغرات، وإقطاعيون يمولون الصحف لرعاية مصالحهم. هنا، في الأقاليم لا شيء سوى الضبط والربط للأمن. وقراء صحف الأقاليم أكثرهم مشتركون، وكتابها كتاب بلا أجر، يكتبون خواطرهم، ويحلمون بأن يكونوا كتابًا في مصر المحروسة، وينشروا في صحف وكتب القاهرة ومجلاتها، وهنا رؤساء تحرير يخيفون المديرية بالحديث عن مصالح الناس المؤجلة.
وسكت لحظة ثم قال لي:
- ما قراءتك المفضلة؟
قلت:
- في السنبلاوين أقرأ كل يوم ثلاث أو أربع روايات جيب. هنا أقرأ مجلدات طانيوس عبده بمكتبة بحر مويس. وكلها مغامرات بوليسية طويلة، وأحيانا تقع في يدي مجلة مصورة.
ترددت لحظة، ثم اعترفت له بأنني لا أحضر كثيرًا من دروس المعهد، لأنها لا تعجبني، فهي كتب أثرية من عصور مضت. ويكفيني للامتحان فيها شهر واحد قبل يوم الامتحان، وأحصل في شهادتي على درجات عالية، ثم أنسى كل ما درسته مع بداية الصيف. راح الشيخ العايق يتأملني طويلا. ثم قال لي:
- ستكون إذن قاصًا، إذا قرأت أدبًا حقيقيًّا.
ودلني على مجلات الرسالة وملحقها الروائي، والثقافة، ومسامرات الجيب، والهلال والاثنين والمصور وسواها، وأنا أكتب وراءه أسماءها، مع أنني أعرف بعضها، لأشتريها كلما دبرت أثمانها.
توافدت صحبة الشيخ العايق من طلاب المعهد، وأحاطوا به معي، كانوا يسبقونني في عامي الدراسي، بعام أو عامين، واكتشفت أنهم من هواة الأدب. فبينهم من كان هاويًا للخطابة في عصر كان للخطابة فيه شأن، ومن كان هاويًا لكتابة أدب خواطر في العشق والحب مثل المنفلوطي، ومن كان هاويًا للأدب المسجوع مثل بديع الزمان والقاضي الفاضل، وبينهم من كان شاعر المظاهرات الأول في يوم معركة نلتحم فيها مع البوليس، وأذكر من شعر شاعر منهم بيتًا يقول فيه: اليوم لا سمع ولا إذعان/ حتى يحكم بيننا القرآن، ولم تكن لقصيدته أي صلة يومها بهدف المظاهرة السياسي، ولا بسببها الحقيقي، وهو أن نأخذ يومًا إجازة، وأن نسلي أنفسنا، ونريح ضمائرنا، ونذهب في الختام إلى السينما. وقدر لي أن أصبح يومًا صديقًا لاثنين منهم، لبضع سنين تالية، كان أحدهما عاشقًا أبديًّا عشقًا غير عذري، متغنيًا أبدًا والدموع تسح من عينيه، بقصيدة ابن زيدون التي يسترضي فيها حبيبته الأميرة ولادة، ومناكفته له بقبولها لتودد الوزير ابن عبدوس إليه، وكان الآخر مثل سيرانو دي برجراك شهوانيًّا مثل بيرون، لا يفتأ يطوف بالحارات بحثًا عن أرمل تقف على باب في ظلام الليل.
وفي الصيف عبرت عن إعجابي المراهق بالشيخ العايق، بكتابة مقال قصصي عنه، في صحيفة الإصلاح، كان يصدرها عبد الفتاح قنصوه، ويديرها، ويجمع اشتراكاتها من التجار والعمد والأعيان وكبار الموظفين مدير التحرير فرهود وهو نفسه المحرر الوحيد الجوال جالب الأخبار. وكان له الفضل في جعل أبي يشتري لي قلمًا من الأبنوس الملون، حبره به، وبه كتبت مقالي عن الشيخ العايق، وكان بعنوان: لو لم يكن لكان. وهاتك يا خيال.
يبدو لي اليوم هذا المقال مقالا ساذجًا ومراهقًا، لكنني أحسب أنه كان أول إشارة إلى مزاجي القصصي: الكتابة بعد بضعة عقود عن الشخصيات المعروفة والمغمورة، في كتابي: النميمة. ولم أعرف قط إذا ما كان هذا الشيخ قد قرأ ما كتبته عنه أم لم يقرأه، فحين عدت مع بداية عام دراسي جديد، كان قد نقل إلى معهد القاهرة، ولم أجد له بعد رحيله مثيلا يذكر في حياتي بين الشيوخ.
كان شيخي العايق الرايق أول دفعته في كلية اللغة العربية، وكان يحمل دائمًا شهادة تقدير منحها له الملك في عيد العلم كتبت بماء الذهب، وصورة له مع الملك فاروق وهو يصافحه. هكذا كان يقول لي شيخي العايق ابن شرباص، فلم يكن في نظري هو الذي تشرف بمصافحة الملك الصالح فاروق.
***
سألته يومًا في مجلس الحديقة الأسبوعي، عن حيرتي مع العمامة في الحياة العامة، وفي المعهد، ففي مجرد تحرري منها شعور بالحرية. فضحك وفتح كاكولته، فرأيت تحتها بدلة، ولها كرافتة ملونة ومورّقة. وقال لي ولمن معي ضاحكًا:
- حين أبتعد عن المعهد أخلع عمامتي، وأجعلها مثل "شاطر لكنه غير مشطور"، مثل السندوتش الخالي من الفول، وأدسها في جيب المعطف الداخلي، وأخلع كاكولتي، وأقلبها ظهرًا لبطن، وأجعلها معطفًا أحمله على ساعدي، كأني في طريقي إلى حفلة.
وأغرقنا في الضحك.
ولأنه لم تكن لي بدلة إلا بعد سنين عديدة، حين استوطنت مدينة القاهرة، فقد اكتفيت بالجلباب عن البدلة، ومثلي فعل كل الآبقين من طلبة المعهد. وتزايد العدد يومًا بعد يوم، وعصي الشيوخ تطاردنا، وكلمات التوبيخ تقرعنا.
***
بدت نذر الحرب العالمية الثانية في طريقها إلى النهاية. راحت الجيوش الألمانية تأخذ طريق التراجع بعد تدمير الطائرات البريطانية لسدود نهر الراين. وبدأ جيش الاحتلال يتخفف من أعباء العمالة المصرية في صحراء مصر الشرقية، فانساح العمال المسرحون في الأحياء الشعبية بمدينة الزقازيق. وشاعت أخبار سرقاتهم الصغيرة في الأحياء، وقطعهم للطريق في ظلام الليل بالحارات والأزقة. وأصابنا كغيرنا الشعور بخيبة الأمل في فوز الألمان على جيوش الحلفاء في معركة العلمين، واليأس من تحريرنا من جيوش الاحتلال البريطانية. وكان شيخ لمعهدنا الديني قد ذهب، وجاءنا بدلا منه شيخ آخر.
كان الظلام سائدًا فوق كوبري أبو الريش. ولم تكن ثمة إضاءة فوقه، وبات صعود درجه والهبوط منها عسيرًا على المصابين بعشى الرؤية في الليل، فلم يكن ثمة من طريق قصير آخر لعودة الخارجين من الطلاب من الحفلة الأخيرة بسينما "أبو لون"، إلى عنابر سكناهم. كانت ساحة المعهد ساكنة، وأعمدة النور فى ساحة المعهد والطرقات بين مبانيه خافتة الضوء. وعم مرسى بواب المعهد لا يزال يقظًا، ينتظر عودة الطلاب برءوسهم العارية من العمائم إلى عنابر المعهد. وقد نام شيخ المعهد، وشيخ السكن، وطلاب العنابر.
كانت الساعة الواحدة ليلا، حين راح جرس المعهد النحاسي الضخم يدوي في ظلامات الليل. استيقظ فزعًا شيخ المعهد وشيخ السكن وطلاب العنابر. هرعوا إلى الجرس بساحة المعهد، ورأوا زميلا لهم ينزف دمًا من كفه وساعده وخده. وأقبل شيخ المعهد. وتكشف الأمر.
كان الجريح عائدًا من السينما مع زميله. وفوق الكوبرى، فى ظلام الليل، أحاطت بهما الخناجر، وطلبت منهما أصوات لا يعرفان لمن هي أن يخرجا ما في جيوبهما. وحين رفضا وقاوما طعنا بالخناجر. ونجح الجريح فى الهرب. وترك زميله مثخنًا بالجروح على حد قوله فوق الكوبري يلقى حتفه.
هاج طلاب العنابر، واندفعوا فى صمت مطبق خارجين من بوابة المعهد إلى الكوبري، يتقدمهم شيخ المعهد بنفسه. وأحاط به بعض الطلاب لحراسته.
فوق الكوبري كان المجهولون في انتظارهم فلم يفروا. ونشبت المعركة. وراح الطلاب العزل يواجهون الخناجر. وهم لا يكادون يرون مَن أمامهم. واندفع مجهول وجذب شيخ المعهد من حزام قفطانه، ورفع خنجره. فجأة اندفع العتل فتوة المعهد، وحمل من يهاجم شيخه بيديه عاليًا فوق رأسه، وقذف به مع خنجره من فوق سور الكوبري. سقط المسكين فوق قضبان القطار، وصرخته الممتدة تدوي في ظلام الليل. في تلك اللحظة فقط بدأ فرار المجهولين إلى حي "أبو الريش". وسُمعت أجراس عربات الإسعاف لإسعاف الجرحى، وأبواق سيارات الشرطة للقبض على الجناة.
في الصباح، في الثامنة صباحًا، لم يكن أحد من طلاب العنابر قد غفت له عين. اجتمعوا تحت شرفة مبنى الإدارة. وتوالى خطباؤهم يتنادون بالويل والثبور. يدعون إلى الانتقام، فقد مات طالبان وجرح خمسة، ولم يصب أي من المعتدين بجرح واحد. فقط مات أحدهم على قضبان قطار. واتخذ الطلاب قرارًا لا رجعة فيه، أن يحرقوا حي أبو الريش بأسره، فمنه جاء المجهولون قطاع الطريق، وجزاؤهم هو الموت هم ومن يسكنونهم في بيوتهم.
عبثًا راح شيخ المعهد يحاول أن يصدهم حتى يكتشف البوليس من يكونون، ويقدمهم للعقاب. وعبثًا حاول أن يوقف حرق بيوت حي بأسره بمن فيه من أطفال ونساء وشيوخ. ونزع السلاموني عمامته عن رأسه، وراح يجمع فيها قروش التبرعات لشراء صفائح البنزين. وراح شيخ المعهد يضرب كفًّا على كف يائسًا. كيف يوقف محرقة توشك أن تحدث وسط غضب شبابي أعمى.
لم ينقذ الموقف ذلك الصباح سوى مجيء حكمدار المديرية بين عساكره. صعد الدرج إلى الشرفة. وقف بجانب شيخ المعهد، وحين ساد الصمت قال السيد الحكمدار إنه قد ألقى القبض، في حي أبو الريش، على كل العمال المُسرحين من عسكر التل الكبير، وأنه لولا الخوف على حياتهم وبينهم المذنب والبريء، لجاء بهم إليهم ليرونهم بأعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى أن العدل يأخذ مجراه.
وسارع شيخ المعهد يناشد الطلاب لمواصلة جمعهم للتبرعات ليسلمها كجزء من التعويض لعائلات الطالبين الشهيدين، ومواساة جرحاهم فى مستشفى المدينة. كان شيخ المعهد على ما أذكر هو الشيخ الدكتور: محمد عبد اللطيف دراز.
***
طال شعر رأسي، وآن له أن يجزّ. ذهبت إلى حلاقي بكفر النحال. أدركت للتو أنني سأنتظر دوري، فالجالسون عديدون، ولم يكن بدكانته حلاق سواه. تأملت الوجوه والشعور في المرآة المقابلة. توقفت عيني عند وجه متطرف منها. كان ذا وجه أوربي حديث. لون السحنة والدم، وتكوين الوجه، ولون العينين الأزرق جعلني أحدس أنه واحد من اثنين: إنجليزي أو ألماني. كل رءوس الجالسين عارية أو مطمورة بطاقية، عدا رأسه هو. رأسه ملفوفة بشال لفته ضخمة لفت كيفما اتفق، كما رأس صعيدي أو معلّم. تلويح الشمس لوجهه لا يبدو لي متسقًا مع لون بشرته. تلويح ليس له تاريخ قديم. خلا مكان عن يمينه. سارعت بالنهوض من مكاني، والجلوس بجواره. رأيت الحلاق ينظر إليه وإلي قلقًا في المرآة. عين عليه وعليّ. وعين على رأس المحلوق بين يديه. نظر إليّ في المرآة بمجرد تغييري لمجلسي. وقعت عيناي في عينيه في المرآة. هز إليّ الحلاق رأسه هزة كهزة النفي فيها تحذير وقلق وإشفاق. وصلت رسالته إليّ. بدا لي الحلاق خائفًا عليه. توقف الحلاق عن الحلاقة والتفت نحونا. قرر مواجهة الموقف كله. أدار ظهره إلى الباب، وقال لنا:
- حد فيكم يعرف إنجليزي.
أشار طالب جالس بكفه إليه، فالتفت الحلاق نحوي، وقال لي:
- من فضلك بدل المكان معاه.
ولم ترف للغريب عين، ولم يسارع بالهرب من المحل. تحدث بديلي في المكان مع الغريب، حديثًا خافتًا. والتفت بديلي إلينا وقال لنا:
- حضرته ضيف علينا. حضرته مش إنجليزي. الإنجليز في معسكراتهم عندهم حلاقينهم.
سرت بيننا همهمة، وجرى تقارب رءوس وهمسات، وقال الحلاق لنا بفطنة:
- يعني أسير ألماني هربان. والألمان حبايبنا. يا ريتهم كانوا كسيوا الحرب في العلمين. يعني باختصار. حسب ما فهمت، ويمكن فهمنا كلنا، أسير ألماني هارب. نحميه والا نرميه؟
نهض طالب من معهدنا واقفًا. أعرف وجهه قال لنا بهدوء:
- دا ضيفنا وحبيبنا، وانا حاحميه.
واتجه من فوره إلى الغريب، وأعاد له لفة الشال على رأسه، وترك طرفًا منه مدلى على عينيه، وجعل من طرف آخر لثامًا له على وجهه. اختفت الغربة من وجه الغريب، عدا لون عينيه. بدا لي في لثامه كأنه يوناني من الإسكندرية عروس البحر. والتفت بديلي إلى الحلاق، وأعطاه ربع جنيه قائلا له:
- يعمر بيتك. دي حلاقته وحلاقتي وزيادة كأننا حلقنا. ادعي لنا بالستر. انت راجل جدع، وكل القاعدين جدعان.
وسارع بالخروج من دكان الحلاق على عجل، ومعه الغريب الذي لم نعرف له اسمًا ولا قصة هروب في دكان الحلاق.
لكننا لم نلبث أن رحنا نضرب أخماسًا في أسداس، فالولد الذي أخذ الغريب يرتدي بنطلونًا وقميصًا، وقد يكون مرشدًا ويسلمه للبوليس الموالي للإنجليز، والحكومة التي تراعي دائمًا خاطر الإنجليز. وقلق الحلاق برهة، لكنه راح يطمئننا، فهو يعرف الولد المبنطل، ويعرف أنه طالب بالمدرسة الثانوية، وأن هذا الولد زبونه من سنين. وصمت الحلاق لحظة، ثم قال بقلق:
- لكن. تصوروا. لحد دلوقتي ما عرفتش له اسم ولا بلد.
لم أعد لذلك الحلاق مرة أخرى إلا قبيل الامتحانات بعد عامين. اعتدت الحلاقة في السنبلاوين كلما سافرت إلى أهلي مرة كل شهر. وكانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت، وألمانيا التي احتلت أوربا بأسرها قد احتلته أوربا، واحتله معهم الروس أيضًا. وحين رآني الحلاق عرفني للفور. وأجلسني أمامه، وفرد على صدري فوطته، وقال لي بدون مناسبة:
- اسمه ياسيدي فرانز.
قلت له بدهشة فقد نسيت أمر الغريب كله:
- فرانز مين؟
فابتسم وقال لي:
- الأسير الألماني الهربان. فاكره؟
تذكرت. قلت للحلاق بلهفة، وهو يطقطق بمقصه في شعري:
- جرى له إيه؟ رجع بلده. واللا لا سمح الله..
ضحك الحلاق. وراح يروي لي أخبار من قال إن اسمه فرانز.
- رحب عين أعيان القرية بفرانز، وأشاع بين أهل القرية، وفي النواحي من حوله أنه خبير إنجليزي استأجره من بلاده، لإصلاح المواتير. راديو. ماكنة ري. موتور ميه. أي مكنة والسلام، وأنه مهندس بتاع ميكانيكا، ومتخرج من الجامعة في بلاده، ويريد العيش تحت شمس مصر، بعيدًا عن الثلج والضباب في بلاده. ونجح فرانز حين وصل إلى قرية عين الأعيان في إصلاح ماكينة الري الإنجليزية العطلانة. فك صواميل البودي بتاع المكنة. وصلح الموتور. ورمى ببودي الماكنة كله فهو زيادة لا لزوم لها، لرفع سعر البيع لا غير. واشتغلت الماكنة فل الفل، وراحت تملأ حوض المياه العالي من مياه النيل حينًا، ومن مياه بئر جوفي حين تقل مياه النيل في النيل، أو يحجبها الباشوات لأراضيهم، ويحرمون منها سائر أراضي الفلاحي.
وأغرق الحلاق في الضحك، وقال لي:
- تصور. إن فرانز عمل للراجل اللي مضايفه عمْلة في زراعته ما تعملتش قبل كده في بر مصر كله.
وراح الحلاق يروي لي أن فرانز زرع للرجل إياه البطاطس في قلب الأرض، وعمل فوقه أقفاصًا من جريد النخل مرفوعة على مراين من الخشب، وملاها بالطمي، وزرع فيها البطاطس، وظل يرويها رشًّا بيده بخرطوم جناين، قفصًا بعد قفص. والفدان ضرب معه محصول خمس فدادين في المرة الواحدة. كل قفص اتملا بالبطاطس، شبع سمادًا وشمسًا وهواء من كل ناحية.
ظننت أن الحلاق ينخع، وأن الفكرة من بنات أفكاره، ونسبها إلى فرانز. لم أقل له ذلك. وقلت له:
- وفرانز عامل إيه دي دلوقتي. رجع بلده والا مش ناوي يرجع.
فقال لي الحلاق:
- مستني لما تهدا الأحوال في أوربا ويرجع. محوش فلوس ياما للرجوع. وأفتكر إن سفير بلده حيساعده ويدبر له باسبور، وتذكرة طيارة. مين عارف.
ورفض الحلاق أن يبوح لي باسم عين الأعيان، أو باسم بلده، أو حتى باسم الولد الذي حماه، وقال لي:
- يا باشا أنا زي الدكتور والمحامي. أنا حلاق. سر الناس عندي في بير.
***
بدأت تجربتي هذا العام مع الغش في الامتحانات لأول مرة، بطريقة مبتكرة مستبعدًا منها طرائق الأستك والكتابة المدققة بسن قلم كالدبوس على ورق البافرة، واستعراض الإجابات بيننا برفع أوراق الإجابة لبعضنا البعض يمنة ويسرة وخلفًا، والهمس الخافت بالسؤال لأقرب جار دون أن نلتفت، والإنصات المرهف لإجابة جار آخر، وقد تكون خاطئة أو متعمدة التغليط، وأنا في ذلك كله لبخة والحمد لله، سمعًا ورؤية واستعدادًا نفسيًّا. كان غشِّي في علم مقرر علينا لأول مرة، هو علم الصرف، وكان الكتاب هو كتاب: شذا العرف في فن الصرف للحملاوي.
ولخوفي من هذا العلم سعيت لأحصل على نماذج الأسئلة السابقة، فهالتني طريقة وضع الأسئلة، وأرعبتني. كانت أسئلة حفظ كلها للقواعد الصرفية بأمثلتها، مثل: أذكر المواضع التي تقلب فيها الهمزة واوا. أجب مع التفصيل والتعليل عن تصريف جمع كلمتي: قضية وخطيئة إلى قضايا وخطايا. صحت: ويل لي, رسبت والحمد لله. احفظ. احفظ. احفظ القرآن الكريم وحفظناه دون فهم، ونسينا معظمه والأمر لله، فلم يستطع عمر بن الخطاب نفسه أن يحفظ منه فيما حدثنا به الشيخ الشرباصي سوى سورة البقرة. احفظ قواعد النحو. اذكر القواعد في تقديم الحال وتأخيره مع التمثيل. احفظ. احفظ . وفي الامتحان: اذكر. اذكر. قررت الغش في امتحان الصرف، وتعليق أمر النجاة من تهمة الغش والطرد على القدر وحده.
مزقت كتاب الصرف إلى فصول. ووضعت الفصول في جيبين داخليين وجيبين خارجيين بكاكولتي، وأحسنت ترتيبها بالجيوب فصلا بعد فصل، ورتبت الأوراق بكل فصل حسب الموضوعات. كانت أوراق الإجابة مدبسة ومسطرة، خفيفة السمك تشف عما تحتها. وجاءت ورقة الامتحان المرعبة. أول سؤال بها كان: اذكر مواضع قلب الواو ياء. وكذلك كانت بقية الأسئلة. كنت أرجو ألا أكون بحاجة إلى الغش. لكن الآن وقد وقعت الفأس في الرأس، فلابد مما ليس منه بد.
كان المراقب أفنديًا مجلوبًا من خارج المعهد، يروح ويجيء في طرقات الفصل، - وكلما أدار ظهره ناحيتي، أخرجت بمهارة ورقة بعينها من فصل بجيب بعينه، ودسستها تحت صفحة الإجابة، ورحت أنقل بهمة وسرعة، ما يبين من تحت ورقة الإجابة، وحين يدير المراقب وجهه نحوي، أتوقف عن الكتابة، وأضع طرف القلم على شفتي، وكأنني أفكر وأفكر وقد احتار دليلي. وهكذا دامت اللعبة بيني وبين المراقب إلى أن انتهيت من الإجابة، وقد عادت الأوراق كلها إلى جيوبها. ولكي أغطي نفسي من الطلاب المجاورين لي على المقاعد المتباعدة من الجهات الأربع كنت أهمس لأحدهم بالإجابة النصية، وبوزي في ورقة الإجابة. وحين فرغت طويت الورقة وقدمتها للمراقب المجلوب قائلا له بهمّ تمثيلي خادع: ادع لي. وغادرت الفصل مع دقة الجرس معلنًا انتهاء امتحان المادة.
كان الطلاب يملؤون طرقة الردهة الطويلة العريضة الممتدة، وهم في زياط ومياط وعياط وضجة وصخب وجلبة. ولشدة فرحتي بنجاتي من امتحانات العام الدراسي التحريرية، وكان امتحان الصرف آخرها، رحت أخرج دون تفكير، بتهور وحمق، أوراق كتاب شذا العرف في فن الصرف، وأرمي بها من حولي ترحمًا على روح مؤلفه الشيخ الحملاوي الذي لم أره قط، وربما أيضًا معاقبة له، ولواضعي الامتحان، ولعقليات الحفظ والتلقين درسًا بعد درس.
ومن العجيب أن رفاقي المكفوفين كانوا أكثر استجابة ومهارة ودربة مع عقليات الحفظ. كانوا الصدى والرجع لها. في الفصل وخارج الفصل، وكأن رءوسهم قد صارت مخازن مؤرشفة للكتب التي تتلى عليهم، وأصوات المكفوفين تملى على المكلفين الغرباء بكتابة إجاباتهم للأسئلة التحريرية في لجان الامتحانات الخاصة. وبين هؤلاء المكفوفين من كانوا يدرِّسون فيما بعد ما حفظوه، وكأنهم توقفوا عنده ولم ينسوه قط.
كان المراقب العام لامتحانات المعهد في هذا العام موفدًا من قبل إدارة الامتحانات بالجامع الأزهر. كان يحمل اسم أو لقب الشيخ الجبالي. أذكره كما أذكر نفسي الآن، ولا أزال أراه أمامي طويلا عريضًا قمحي اللون معقوف الأنف. وجاءت لحظة العقاب للغش الذي حدث خلسة في اليوم نفسه. دخلت لجنة الامتحان الشفهي، وكان أمرها عندي أهون شأنًا. فلو سئلت في الصرف لقيل لي: صرف كلمة كذا، فسوف أصرفها على الفور خطوة خطوة. ولو سئلت: إعرب هذا البيت لأعربته على الفور، مع بعض الخطأ بين كون الكلمة حالا أو مفعولا مطلقًا مثلا. وكثيرًا ما يحدث اللبس في إعرابهما، أو يجاز الإعرابان أحيانًا من نحويّ آخر، بالتأويل والتقدير لمحذوف.
حين جلست أمام اللجنة جاء في إثرى الشيخ الجبالي، وسحب كرسيًا، وجلس على رأس اللجنة، وأشار بيده إلى أعضاء اللجنة كي يدعوه يتصرف معي وحده. ثم التفت إليّ قائلا: إعرب: كالزيدان. بهتني السؤال. فلم يكلف نفسه حتى بوضع الكلمة في جملة. قلت لفوري أنا الحافظ لعلامات الإعراب بالحروف: خطأ. قال لي: لم؟ قلت: الصواب كالزيدين. فأشار بيده إلى اللجنة. وقال لي: اذهب. لم أفهم إذا كان جوابي من الخطأ أو من الصواب. لم يسألني أي سؤال آخر. وعند باب الفصل التفت فرأيته قد سحب ورقة التقدير من أعضاء اللجنة، وراح يضع الدرجة بنفسه ويفقطها بالحروف.
حين عدت إلى البيت سارعت إلى كتاب: قطر الندى وبل الصدى. كان هو الكتاب المقرر علينا في النحو في هذا العام. قلبت الصفحات. توقفت عند صفحة بعينها. أدركت أنني أخطأت، وأنني رسبت، فهي لهجة قبيلة، ولو أخذ بها وبأمثالها لسقطت أجرومية العربية كلها. لكن كيف أرسب وأنا لم أسأل في صرف ولا نحو أي سؤال آخر.
اكتشفت وأنا بالسينما أشهد فيلمًا من أفلام العنف، أن الشيخ الجبالي قد رآني وأنا أطير أوراق كتاب الصرف فوق رءوس الشيوخ والطلاب، وأنه يعاقبني بالرسوب لأنني غششت أولا، وجاهرت بغشي على الملأ ثانيًا.
***
من أبشع الحكايات التي عشتها بالمعهد الديني، ذلك العام، حكاية طالب مشيوخ بالمعهد هدد شيخه بالقتل. تودد المجاور المشيوخ إلى أستاذ له حتى أدخله بيته، وتودد له حتى صار مثل فرد من أهل بيته، وتودد له حتى طلب القرب يومًا من هذا الشيخ، ليكون زوجًا لابنته. وانتهزت أو تعجلت زوجة الشيخ هذه الفرصة، فخير البر عاجله، ولا بأس من أن ينفق الشيخ على الاثنين في البيت نفسه. عندئذ أحس المجاور المشيوخ بالخطر، فطارت نقسه شعاعًا كما يقول الشاعر، وزاغ عن بيت الشيخ، ومن الشيخ، فلم يعد الشيخ شيخًا من شيوخ فصله في العام الدراسي التالي.
كان يكفي في لجنة الامتحانات الشفوية أن يطلب منك أن تقرأ آيات من القرآن الكريم تختارها، أو يطلب منك البدء بها، ثم تسأل أسئلة خفيفة عابرة، يسيرة الإجابة عن إعراب كلمة أو تصريف كلمة، أو تشبيه وارد، أو التحديد لكلمة: هل هي اسم مرة أو اسم نوع وهيئة. وتخرج سالمًا راضيًا من اللجنة، وأنت رهن في نجاحك بإجاباتك التحريرية من قبل.
لكن أعضاء بعض اللجان، أو واحدًا منهم على الأقل، كان ينتهزها فرصة ليبرهن على مدى علمه وجديته، ويسأل المشيوخ أسئلة صعبة يحار معها الطالب ويتلجلج، وعند وضع درجات الطالب يسجلها هو بنفسه، ولا يراجعه فيها زميل له باللجنة، من أجل طالب لا بأس أن يعيد عامه الدراسي كله برسوبه في درجة الشفهي، ليزداد علمًا باللغة، حتى لو كان ناجحًا وبدرجات عالية في امتحاناته التحريرية، أو هكذا كنا نتحدث فيما بيننا نحن المشايخ، عن اللجان والحظوظ.
وحدث مع الطالب المتودد تعمد الشيخ المغدور به الانتقام منه، عامين متتاليين في الامتحانات الشفوية، لطرده من الدراسة بالمعهد، وحرمانه من الالتحاق بأي معهد آخر إلى أبد عمره كله، شأنه شأن من ارتكب جريمة أخلاقية، وصار من أصحاب السوابق. كان الشيخ يراجع أسماء اللجان في يد المسئول عنها، ويعرف اسم الطالب المخادع، ويرقبه من بعد، حتى يلحق بلجنته، ويتبعه لفوره، ويدخل في إثره، ويسحب كرسيًا، ويجلس متمكنًا ومتربصًا، ويروح يسأل غريمه الصغير أسئلة في فوازير العربية. فعلها معه عامًا فعامًا، والطالب يلزم الصمت فلا يجيب، ليقينه أنه قد تقرر رسوبه، وفي العامين كان يغادر اللجنة، وقد ملأه اليأس.
ونجح هذا الطالب بالمساعي والوساطات في أن يمد له عام ثالث وأخير، ولم يجد مفرًّا للنجاة من شيخه إلا بالتربص له. تفرغ له في ليلة من أماسي الامتحانات التحريرية، ولحق به في طريق عودته إلى بيته. كان الطريق إلى الحسينية شبه خال وشبه مظلم، وكان معه شيخ آخر يسير معه ويحادثه. ولم يتردد الطالب المغدور به. أسرع متقدمًا على الشيخين بضع خطوات، ثم التفت معترضًا طريقهما، شاهرًا خنجرًا ذا حدين من جرابه. وقال آمرًا للشيخ المغدور به أيضًا، وصاحبه يسمع:
- غدًا ستأتي معي إلى اللجنة. ستدخل معي. لن يكون معي هذا الخنجر. سأدخره لوقت آخر لأقتلك به أينما كنت، ولن ينقذك مني أحد.
وفاجأ الشيخ بقوله له أمام صاحبه:
- طلبتُ الزواج من ابنتك بعد تخرجي، وليس حالا بالا، فلا أقبل أن يعولني أحد، ثم يطردني من بيته أنا وزوجتى وولدي.
أدرك الشيخ مرافق الشيخ الأمر كله. وقال للطالب المشيوخ بهدوء:
- أعد خنجرك إلى جرابك يا بني. وغدًا تعال إليّ لأصحبك إلى لجنتك. سأضع لك درجاتك بيدي.
والتفت إلى صاحبه قائلا له:
- العفو عند المقدرة يا مولانا.
عندئذ انفجر الطالب المشيوخ يبكي، وهو يبتعد في ظلام الليل.
في تلك السنة نجح الطالب. وطلب الشيخ المغدور به نقله من هذا المعهد إلى معهد آخر، في أي مدينة أخرى، في زمن كانت فيه شقق الإيجار في مصر كلها لا تزيد عن جنيه واحد أو جنيهين.
***
ذهل أبي وهو يقرأ درجات شهادتي. كانت درجات امتحاناتي التحريرية كلها عالية. وكانت درجة امتحاني الشفوية أو الشفهية أو الشفاهية صفرًا مكتوبًا بحروف داخل دائرة بالقلم الأحمر، وفي خانة الدرجات كُتب صفر واحد. نظر إليّ أبي مستفهمًا عن التناقض الذي يراه. رويت له ما حدث من الشيخ الجبالي، ولم أحدثه عن غشي للصرف، وتطييري الأحمق المجنون للأوراق علانية في ردهة المعهد. وحتى ذلك العام لم يكن هناك دور ثان في امتحاناتنا الأزهرية. وقلت لأبي:
- سامحني في هذه السنة. سأتصرف اليوم مع النحو حتى لا تتكرر هذه المأساة مرة أخرى.
وحين عرف جدي بحكاية رسوبي ضرب كفًّا على كف، وقال ساخرًا:
- يعني يا أبو داود حتمتحن تاني في كل العلوم اللي نجحت فيها؟
***
في الحارة، في السنبلاوين، كان يمر شاب وسيم عصر كل يوم، ويتوقف قليلا أمام بيت إبراهيم ابن عبد الجليل. كانت للبيت شكمة لها سور واطئ، وفي الشكمة كانت زلابية تظهر بفستان مفتوح الصدر، عاري الساعدين، وتتحدث معه بعبارات خاطفة ضاحكة السن. كانت فائقة الفتنة والجاذبية. كنت أراهما من وراء شباك غرفة الصالون الموارب ببيت الأهل، لكنني لم أسمع منهما حرفًا، وكان رائحة العطر الفواحة المتضاربة منهما تهب في أنفي من فراغ الحارة والشكمة والنافذة.
كان الشاب فتيًا، فارع الطول، عريض الكتفين، أبيض الوجه محمره، في عز شبابه، وفي غاية من العياقة. يرتدي جلبابًا كشميريًّا بيجي اللون مخططًا بخطوط لا تكاد ترى، ولم أستطع أن أحدد لها لونًا. على رأسه طربوش فاقع الحمرة بزر فاقع الزرقة، وفي يده عصا من العاج، ووجدتتي أسميه المعجباني.
أحست زوجة إبراهيم بما يجري حولها. كانت لها الغرفتان المواجهتان بنافذتيهما للحارة على جانبي الشكمة وصالة البيت. واربت بدورها نافذة مثلي ورأته، وسمعت منه ومنها عبر الشكمة ما لم أسمعه، وحكت في لحظة أنس لزوجها إبراهيم ما يجري في بيته. وترصد إبراهيم للفتى المعجباني، وهو متوار فوق سطح البيت، ونزل مسرعًا إلى أخته، وجرها من شعرها، وسارع المعجباني بالابتعاد من الحارة.
وسمعت الحارة الصريخ والعويل، يتردد في جوانبها إلى ما بعد صلاة العشاء، مرة بعد مرة، وكلما همدا تجدد صريخها وزعيقه مرة أخرى. وكان إبراهيم قد أغلق باب بيته على نفسه، ومن معه من الداخل، فلم يستطع أحد من أهل الحارة الدخول لنجدة زلابية من بين يديه، وصرنا نحن أهل الحارة نخشى على زلابية من القتل. الزوجة نفسها فيما أحسب باتت تخشى من قتل زلابية، وتخاف معارضته، وتخاف أن يصبح إبراهيم قاتلا. ووجدت نفسي أكره إبراهيم، وأتعاطف مع زلابية.
في ظلام الليل، نجحت زلابية في الهرب من البيت عبر باب الشادر، فلم يعمل له إبراهيم حسابًا، وكان روشة نائمًا. وفي ظلام الليل في منتصف الليل سمعنا في بيتنا، ونحن نيام طرقًا على الباب. كنت نائمًا في سابع نومة حين انتبهت على صوت بكاء قريب مني، وحين استدرت وفتحت عيني، رأيت زلابية باكية مع زوجة جدي, تظاهرت بأنني لا أزال نائمًا، وأحسست بزوجة جدي تنيم زلابية بجانبي دون غيري من إخوتي في البيت، فلا مكان لها لتنام فيه إلا معي، ولم يفكر أحد من أهلي في أنني قد بلغت سرًّا، واحتلمت سرًّا، دون أن يشعر أحد.
ردت زوجة جدي الباب علينا. ورحت أستمع إلى نشيج زلابية المكتوم المستمر بجانبي، وقد أدارت ظهرها إلى ظهري، وصرت أحس بالسرير الحديدي ذي الأعمدة ينتفض مرتعدًا بدوره مع انتفاض جسدها. وعشت ساعة أو تزيد أنتفض في داخلي بدوري، أقاوم رغبتي في الاستدارة نحوها والحنو عليها، بساعدي وكفي وتمتماتي لها لتهدأ، وأقاوم مع رغبتي خوفي من عواقب لا قبل لي ولا لها بها. ساعة أو تزيد من الجحيم بنفسي والجحيم معها، والشعور بهناء عميق وحر لا يطاق، وفرهدة نفس وجسد، إلى أن سكنت وسكنت. وقدرت أنها قد نامت، فاستدرت بوجهي نحوها على حذر، ورحت أشم عطر جسدها وعرقها، وأحاول في الظلمة أن أرى انحناءات جسدها واستداراته، حتى جرني النوم إليه، وأطبق لي جفنيْ عيني، ورحت في مشهد ملون حالم بها ومعها أحتلم، حتى انطفأ مني وهج الجسد.
حين صحوت من النوم، أنا الغر الثقيل النوم، لم تكن زلابية بجانبي. ظننت أنها كانت حلمًا مجرد حلم، مع أن رائحة عطرها وجسدها وشعرها كانت معي في سريري، وحول سريري. وكان باب الغرفة مفتوحًا. غادرت السرير والغرفة إلى الصالة رأيت أهلي جالسين حول الطبلية يتناولون فطورًا، ومعهم كانت زلابية جالسة، لا خجلة ولا وجلة، تضحك وتتحدث، وآثار الضرب لا تزال على ذراعيها وساعديها ووجهها. قبل أن أجلس أخذتني زوجة جدي جانبًا، وسألتني هامسة:
- ابو داود. بلغت والا لسه.
أدركت ما ترمي إليه.
قلت لها كاذبًا:
- لا.
قالت:
- الحمد لله. بت طول الليل صاحية خايفة منك ومنها. والشيطان شاطر.
حين بحثت عن مكان لأجلس فيه إلى الطبلية، سحبتني زلابية من يدي، وقالت لي أمام الكل:
- تعال اقعد جنبي.
قاومت، نظرت إلى أبي، والكل بين صامت وضاحك ومندهش.
فقالت لهم زلابية بهدوء:
- فيها إيه. ما انا نايمه جنبه معاه طول الليل في سرير واحد.
عبس أبي لها. وفقع جدي عبوسه بضحكه قائلا:
- أما مصراوية صحيح بحق وحقيق.
جلست بجانبها برغم نظرات أبي إليّ. وسأل جدي زلابية قائلا لها على مرأى ومسمع مني:
- قولي بقى إيه اللى حصل بينك وبين الواد بتاعك.
فقالت له لفورها:
- يوه يابا الحاج. أكتر حاجة حصلت، وكمان خطف. حتة بوسة.
ساد الصمت، وتوقفت الأيدي بين الأطباق والأفواه، وضحك جدي، وقال لها مستفهمًا ومجيبًا في الوقت نفسه:
- وبعد البوسة إيه يا بنت؟ مش حوسة؟
زغر أبي إلى جدي، ففي المجلس صغار من البنين والبنات، ووصلت الزغرة إلى جدي فنزل عليه الصمت والحرج، ونظر أبي إلى زلابية فأطرقت خجلا. ونهضت قائلة: الحمد لله يدوم العز. ورحت أتأمل سيرها وقوامها وهي في طريقها إلى الكنبة.
***
في ظلام الليل، كما روت لي جدتي، ذهب أبي إلى بيت إبراهيم، وطرق الباب مرارًا حتى أضاء إيراهيم الصالة وفتح لأبي الباب، وحين رآه انحنى بسرعة ليقبل يد أبي، فسحبها منه بسرعة، وقال له أبي باختصار:
- أنا جيت أطمنك. أختك هربت من الشادر وبايته عندنا. ماتقلقش والصباح رباح يا ابني.
التفت إبراهيم خلفه، ثم عاد ينظر إليه فأوقف أبي غضبه قائلا له:
- الصباح رباح يا ابني. نام واطمن. ما فيش مشكلة ما لهاش حل.
ولم يزد أبي. عاد إلى بيتنا، وأغلق إبرهيم على نفسه باب بيته.
***
وجلس جدي وحده بغرفة الصالون مع زلابية، ودار بينه وبينها حديث لم يعرفه أحد قط، وبعد خروجه من الصالون رأيته يضع قدميه في مداسه، ويغادر بيتنا وحده إلى البيت المقابل، وعاد بعد ساعة إلى أبي قائلا له بلهجة آمرة هذه المرة:
- البس وتعال معاي يا عبد المعطي.
وغادرا البيت معًا.
مع العصر جاء أبي وجدي وجاء بعدهما إبراهيم، ومعه مأذون، وفوجئت، وأنا أرقب ما يجري، بباب بيتنا المفتوح، يدخل منه الفتى المعجباني ومعه أبوه وأمه وحدهما، وغمز جدي إلى إبراهيم قائلا:
- صافيه لبن. قوم بوس نسيبك.
نفذ إبراهيم ما طلب منه جدي طائعًا, وانشغلت أمي وزوجة جدي بتذويب أقماع السكر، وعمل الشربات، وغسل الأكواب، ودوت زغاريد زوجة جدي في فضاء الباب المفتوح، وزادت فأطلقتها مدوية في فضاء الحارة.
ودخلت العروس تصحبها أختها صفية وزوجة أخيها وزوجة جدي، وحين سألها المأذون العروس من وكيلك، نظرت إلى أخيها ثم إلى جدي فأبي مرتبكة، فأشار لها جدي من تحت لتحت إلى أخيها، فقالت للمأذون:
- أخي إبراهيم.
منذ ذلك اليوم صار طريقي إلى شادر الأحدب روشة يمر بصالة بيت صاحبي إبراهيم عبر الصالة المبلطة فالصالة المتربة والباب الداخلي للشادر. ومن الغريب أنني لم أر زوجة إبراهيم ذات مرة ضحى يوم أو عصره.
***
كل ضحى كانت صفية تحول الماء في جردل، وتغرف منه مرارًا بكوز كبير من الصاج المبطن بطلاء أبيض، وتملأ به الزير في ركن الصالة، إلى أن يصير حد الماء عند منتصف الجردل، عندئذ تحمل صفية الجردل من حواف طرفيه بيدين قمحيتين عفيتين، وتدلق كل ما بقي به من ماء في الزير، وتغطيه بغطاء خشبي، وتضع تحت الزير إبريقًا كبيرًا، ليمتلئ بنقط الماء التي يرشحها الزير لشرب أهل البيت، وشرب الأحدب روشة مع أهل البيت.
ذات يوم، وكان الوقت ضحى رأيت صفية واقفة تملأ الزير. بدا لي جمالها في سمرتها القمحية مسمسم القسمات، مشربًا بمسحة من العرق. كانت عيناها واسعتين صريحتين كعيني زلابية وإبراهيم، ووجدت نفسي دون تفكير، وبحركة صبيانية متوددة، كما طفل، أقرص بخفة ورقة ساعدها العاري، عند منتصف الكم، قرصة خفيفة. كانت مجرد لمسة. في اللحظة التي التفت إليّ فيها مندهشة، ثم مبتسمة، سمعت صوت زلابية ضاحكًا يقول لي:
- يخيبك يا سليمان. انت بتحبها.
التفت إلى مصدر الصوت وأنا أهم بالجري نحو الشادر، لكنها قالت لي:
- تعال يا سليمان عايزاك.
أطعتها، وذهبت إليها خجلا مما فعلت. كانت جالسة على كنبة في غرفتها المشتركة مع أختها، وكانت الغرفة على يمين الداخل بلا نافذة. لا ينيرها في عز النهار سوى ضوء الباب الداخل من الصالة المكشوفة للسماء. ربتت زلابية بيدها على مكان بجانبها على الكنبة، فجلست مطيعًا. فقالت لي:
- عايز تتجوزها؟
أطرقت برأسي صامتًا، وتمتمت بحرج، ولم أرد بحرف. غيرت الموقف كله. سألتها عن زوجة أخيها، فلم أرها قط في البيت، فانزعجت للحظة، وقالت:
- تصور. اللئيمة. بدل ما تقول لي وتقول لاخويا مبروك قالت لاخويا:"فاضل واحدة حنجوزها هيه كمان."
ولم تنتظر زلابية مني كلامًا، فقد قالت:
- أخويا جد. وما يتوصاش. شال إيده وهفها حتة كف. سمعنا طرقعته على خدها في البيت. ولمت هدومها ومشيت.
وعلقت زلابية وكأنها تحدث نفسها:
- احنا ناقصين. الأول مرات ابويا خدت ابويا ومشيت. ودي كمان جاية تنام على أخويا، واحنا نروح فين؟ نبقى ملطشة يا سليمان.
ولم تكن، ولم أكن بحاجة إلى تعليق. ولم يمض سوى شهر واحد حتي رحلت زلابية من بيت أخيها إلى بيت عريسها الذي أعده لهما وحدهما. ولم أرها بعد ذلك قط. فقد انقطعت رجلي عن بيت إبراهيم، حين صارت صفية وحدها في البيت، وصرت أصل إلى شادر الأحدب مرة أخرى عن طريق الخرابة، لأستعير رواية، أو أرد رواية، وأتحدث مع روشة فقد صار لي صديقًا.
***
وشكا لي روشة يومًا من سوء نومته في خنه الخشبي بالشادر. فتذكرت الطريقة التي كان ينام بها طرزان في أفلامه على سرير معلق بين الأشجار، من الأغصان المتشابكة المشدودة بين شجرتين.
ولم يكذب روشة خبرًا. سرعان ما صنع وحده لنفسه سريرًا معلقًا بين خابورين دقهما قي أرض الخن، وشد إليهما شبكة مجدولة من الحبال مثل شباك الصيد قريبة من الأرض بوسعه الجلوس إليها، والنزول منها، والتمدد عليها. ولا أعرف كيف صنع ذلك وحده، بقامته القصيرة، في ليالي الوحدة، في شهر صيف؟
وحين حان موعد عودتي إلى مدينة الزقازيق صحبته إلى دار السينما الوحيدة التي أنشئت لأول مرة بالسنبلاوين، وأهاجت بوجودها وأفلامها الأجنبية والعربية أهل المدينة بأسرهم من العيال والنساء والأطفال والبنات، وبتذكرة حدها الأدنى والميسور قرشان لا غير. وكنت قد صرت مدمنًا لقراءة روايات الجيب بسبب صديقي روشة. أقرأ في اليوم الواحد جالسًا وواقفًا ومنكفئًا على سريري، وجالسًا على حجرة في حديقة المدينة على شاطئ ترعة البوهية، رواية أو روايتبن أو ثلاث أو أربع روايات، وحفظت اسم ناشرها عمر عبد العزيز أمين، وأسماء معربيها من مترجمي الظل الذين أنساني بعد العهد بهم أسماءهم.
(4)
على غير سعي مني، كان العام الثامن عشر من عمري عام تجربتي الأولى للحشيش في مدينة الزقازيق، مع صحبة صائعة ضائعة. كنت جاهزًا للعيش مع هذه الصحبة منساقًا وراءها، فالفرجة على العالم، والرغبة في تجربة كل شيء جزء من دمي. كنا أربعة. أحدنا كانت جذوره من الصعيد، وكان عاشقًا بطبعه لنجوم الأرض لا لنجوم السماء. والثاني كان وسيمًا وكان بطبعه زير نساء، خلقه الله وسيمًا أكثر وسامة من أي فتاة. لم يكن بحاجة إلى أن يسعى لفسق، فالفسق هو الذي يسعى إليه حاملا معه نهديه، أينما ذهب وسار، أو سكن في دار. وحسبه أن يلفت النظر إلى نفسه، بنظرة، أو بتمليسة على شعر رأسه، أو بغمزة عين. وثالث الصحبة معي كان الجاحظ العينين، لم أعرف له قط بلدًا، ولم أر له صاحبًا سوانا نحن الساكنين معه. كنا نراه فقط في الليل، حين يعود لينام قرب منتصف الليل. قال لنا إنه يعمل، ولم يخبرنا بعمله، وكان معه ما ينفقه دائمًا، وما يفيض عنه يرسله إلى أبيه، ونادرًا ما كان يذهب معنا إلى معهدنا الديني، ونادرًا ما كنا نراه بين طلاب المعهد، لكنه كان حريصًا على حضور الامتحان، واجتياز العام الدراسي، عامًا بعد عام، عدا عامنا الذي عشناه معًا، فقد هاج عليه عقله لسبب لا يعلمه إلا الله.
كان الجاحظ العينين حريصًا على أن يظل معنا يوم الجمعة بطوله، يفطر معنا، ويتغدى معنا، ويتعشى وينام على أريكة تركتها لنا صاحبة البيت، ويتوسد عند نومه صرة بها غيار آخر لا غير من ثيابه، وعلى الجدار بجانبه كانت تتدلى كاكولته وعمامته، وبينها وبين الجدار صحيفة ملصقة الزوايا بالجدار، وتحت الكنبة كانت كتبه مطبقة لا تفتح قط إلى أن يأتي شهر المذاكرة، فيحملها ويذهب بها إلى عنابر السكن الداخلي الشاغرة، وينقطع للمذاكرة، كما فعل في عامنا.
***
عصر يوم شتوي كنت جالسًا على سريري بمقابل سرير الوسيم، نتحدث فيما لا أذكره. كنا ندخن، ولم تكن لدينا في الشقة مطفأة، وكنا نحاول أن نتذكر، ونذكر أنفسنا، كيـلا يلقي مدخن منا عقب سيجارته، ولا حتى رمادها، بأرض الغرفة طلبًا لنظافتها. ولإراحة أنفسنا من الكنس، رحنا نلقي برماد السجائر وأعقابها أولا بأول من النافذة على أرض الطريق. كنا نفعل ذلك دائمًا دون أن ننظر إلى الطريق، ونحن نلقي بأعقاب السجائر من النافذة، عقبًا بعد عقب، ولا تزال بها وقدة من نار.
ذات مرة سقط عقب سيجارة رفيق حجرتي الوسيم على شعر رأس عارية لبنت سمراء حلوة من بنات الحي، تسير مختالة في الطريق بين وصيفتيها وصديقتيها المقربتين، وهما كالعادة أقل حلاوة وحسنًا ومظهرًا. وصرخت البنت حين أحست بشيء يسقط مستقرًا على رأسها، بعد أن تحسست رأسها، فلسع العقب المستقر أصابعها. نفضت رأسها ورأت العقب بناره تحت قدميها على الأرض، فصرخت وصوتت وولولت، وتجمع الناس، وأطللنا من النافذة لنرى ماذا جرى، فرأينا جمعًا مقبلا من أهل الحي دفاعًا عن شرف ابنة الحي، بأيديهم وعصيهم.
كانت ابنة صاحب مستوقد للفول بطرف الحي، وكانت في نزهتها العصرية يوم جمعة. سارعنا بإغلاق النافذة والباب، وكتم الأنفاس، كأن أحدًا ليس بالشقة، وكأن لا صلة لنا بعقب السيجارة. سمعنا تصايحهم في الشارع. وسمعنا تصايحهم وهم يقتحمون البيت. وفوجئنا بهم يضربون الباب بأيديهم وعصيهم، وكنا قد تتربسنا وراءه بأيدينا وأجسادنا. هم يدفعونه ونحن ندفعه وندافعهم. وفجأة رأيناهم يتوققون. ويتشاكون إلى حضرة ما من الحضرات التي لا نعرفها. ساد الصمت لحظة. وسمعنا صوت الحضرة يقول لهم:
- دعوا الأمر لي.
وسمعنا طرقًا خفيفًا هادئًا آمرًا يقول لنا:
- افتحوا الباب. أنا ضابط شرطة جاركم.
امتثلنا. وفتحنا الباب. ودخل هو وحده. وحجزهم عند الباب بإشارة من يده قائلا:
- لو دخل حد حيبقى تعدي، ومتهم، وحاخده تحري.
والتفت نحونا، وسألنا عما حدث، فاعترف له الوسيم بأنه لم يقصد أحدًا، وبأنه لم ينظر إلى الطريق، حين ألقى عقب سيجارته من النافذة المفتوحة. وضحك الضابط وقال للناس:
- غلطة ما تستاهلش الهيصة دي كلها.
والتفت إلى الوسيم، وقال له ضاحكًا:
- حابعت لك طفاية علشان ما ترميش عقب السيجارة تاني في الشارع.
والتفت إلى الناس، وقال لهم:
- خلاص روحوا بيوتكم: صافية لبن وكلنا جيران.
فقالت البنت السمراء محتجة، وهي تنظر إلى وسامة الوسيم:
- ما ينفعش يا حضرة. لازم يعتذر لي. قصدي يعتذر لينا كلنا.
فتقدم الوسيم نحوها ضاحكًا قائلا:
- بس كده.
ومد يده إلى رأسها قائلا:
- وادي راسك أبوسها كمان.
فصاح به من ظنناه أبوها قائلا:
- نزل إيدك أحسن أقطعها لك. واحترم نفسك.
ثم قال للضابط:
- علشان خاطرك بس يا سعادة البيه.
وانصرفوا تباعًا. وكانت الست زينب صاحبة البيت على بسطة السلم تراقب الموقف كله. وحين هم حضرة الضابط بالانصراف، لم ننتبه إلى ما يجب علينا فعله لحضرته. فقالت الست زينب محتجة للضابط:
- ودي تيجي يا حضرة الضابط. دا احنا زارنا النبي. حاعمل لكم شاي بإيدي.
ودعوناه للدخول، ولم يكن لدى أي منا كرسي واحد بالشقة. فجلس معي على سريري. واجتمعنا حوله. وبدأنا التعارف. وكانت أذن الست زينب تتنصت، وهي تصنع الشاي لما نقوله باهتمام. ووعت من بين عناويننا في ذاكرتها اسم السنبلاوين، وعمل والد الوسيم في السنبلاوين، وكان أشهر من نار على علم بها.
***
ظهر يوم جمعة عدت من نزهة خلوية في مدينة الزقازيق. كانت النزهة على طريق المعاهدة، فوجئت حين بلغت باب شقتنا بالست أم زميلي الوسيم جالسة مع الست زينب في الشموسة أمام باب شقتنا المفتوح، بجوار حوض غسيل الحلل والأيدي والوجوه. رأيتها وأنا على الدرجة الأخيرة لسلم البيت، أدركت أنها هي. عرفتها على الفور من وجهها البشوش كوجه ابنها، ودمها الحاضر في بشرة وجهها، وسمرتها القمحية، مثل ابنها، ولم أكن قد رأيتها من قبل. ألقيت بالسلام. فردت السلام بلهجة عاتبة لأمر أجهله، ودهشت لحضورها إلى مدينة الزقازيق، ومعرفتها لعنوان البيت. قالت لي:
- اقعد يا شيخنا معانا. أنا مش غريبة، ولا انت غريب.
جلست معهما على طرف الحصير متحفظًا، وقدماي مثنيتان تحتي خارج الحصير. قلت لها:
- حمد الله على السلامة.
فقالت لي بذات اللهجة العاتبة:
- الله يسلمك. لسه فيك خير. كويس إنك عرفتني.
كانت تعرف مثلي أنني لم أرها من قبل، مع أنني كنت أزور ابنها في بيتها. وفكرت أنها تشبه ابنتها العالية الجاذبية، ولعلها أن تكون هي ابنتها لو صغرت في السن، أو تكون ابنتها هي نفسها لو كبرت في السن. دخلت الست أم زميلي الوسيم في الموضوع رأسًا، وقالت لي:
- بقى احنا آمنا على ابننا معاك، وقلنا ابن ناس طيبين، تقوم تعلمه شرب السجاير، وتعمل له مشكلة مع أهل الحي.
قلت لها باستنكار شديد:
- أنا؟
ولم أضف شيئًا. لم أقل لها أنني حين عرفته كان يشرب السجائر فعلا مثلي ومثل الكثيرين من زملائنا المجاورين، وحين لا يجدون السجائر يشترون الأعقاب من صبية الشوارع، ويفرطونها، ويعيدون لفها في أوراق البافرة.
وعادت تقول لي:
- ونآمنك يا شيخنا على ابننا تعلمه الخبص واللبص. وفين؟ هنا في البيت عيني عينك، ومع واحدة من سكان البيت.
لم تكذب في هذه أيضًا إلا في نسبتها إلىّ التحريض على الخبص واللبص. لم تكذب فقد رأيت ابنها قبل أسبوع بعيني، وهو ممدد فوقها على سريره السفري بالعرض علانية، وفي عز الظهر، وباب الشقة مفتوح، ونافذة الغرفة مفتوحة. رأيتهما بعيني وأنا عائد أحمل إلى صالة الشقة الحلل والأطباق التي غسلتها بيدي. وتعجبت كيف دخلت هذه التي تسكن تحتنا الشقة، وأنا أغسل المواعين بالصابونة والليفة على الحوض دون أن أراها. ولقد عرفتها من وجهها على الفور وهي تحته. كانت زوجة لرجل نجار مقعد، وتسكن معه الغرفة المجاورة لغرفة الست زينب، أراها في دخولي بيت الست زينب وفي خروجي منه، جالسة أمام باب غرفتها المعتمة، وحدها غالبًا، وأحيانًا مع زوجها المقعد. وخطر ببالي في لحظة خاطفة أن زميلي الخباص اللباص الوسيم لو أشار إلى الست زينب نفسها لصعدت إليه. وأدركت على الفور ما فعلته الست زينب. وحين طال صمتي قالت لي أم صاحبي:
- سكت ليه. شاركته؟ كنت عارف طبعًا ومشارك، ويمكن انت كمان اللي دبرت طلوعها، وهيهه غلبانة، ومكسورة الجناح، والفقر هاريها يا عيني، وواخد من جسمها راق.
ولم أبرئ نفسي، ولم أقل لها ما جرى ولا ما رأيت، فلن أكون فتانًا على صاحبي، مع أنني قرفت منه، ومن مشهده معها، ومجاهرته بالفسق في عز الظهر، والباب مفتوح، والنافذة مفتوحة، وأنا في قلب البيت. وعن لي أن أصدمها بقولي أن ابنها بتاع نسوان، قراري إن كان هنا والا في السنبلاوين، وأنه في رأيي لن يتم تعليمه قط بسبب تدليلها له هي وأبوه في سالف السنين، ولا نجاة له من مصيره.
وانتهزت أول فرصة جاءت إليّ، حين أقبل ابنها العزيز المظلوم وأنا ظالمه. فنهضت قائلا دون أن أشهد ما سوف يجري بين الابن وأمه. وقلت:
- حاشتري حاجة من بره وجاي، واسيبكوا تقعدوا سوا شوية.
فقالت لي الست زينب:
- معاك حق. استنه خدني معاك.
فقلت لها بغيظ:
- البيت بيتك يا ست زينب، وكتر خيرك.
وغادرت البيت مسرعًا، ولم أعد إلا في منتصف الليل. وحين عدت وجدت رفيقي في الغرفة ينظر إليّ ضاحكًا، كأن لم يحدث شيء بينه وبين أمه التي سافرت من يومها عائدة إلى السنبلاوين. وقال لي رفيقي:
- حوشنا لك نصيبك من الكباب، تلاقيه في اللفة الورق، وما تنساش تسيب وابور الجاز والع لحد ما انام، وتفضل صاحي لحد ما تطفيه.
كان من عادته ألا ينام إلا على صوت الوابور.
في تلك الليلة بلغ غيظي منه مداه. وقررت الانتقام منه. وضعت سرسوبًا من معجون مزيل للشعر على شنبه الشبيه بشنب جاري كوبر، وأطفأت الوابور، ورحت في عز النوم، وبودي وأنا أدخل في سرداب النوم، أن أكون صاحيًا، وأن أشهده وهو يغسل وجهه في الصباح، ويري شنبه في كفيه.
***
ذات يوم جمعة. صحونا. انتظر الجاحظ العينين أن يفطر معنا فلم يجد فطورًا. سأل فأخبرناه أن الفقر قد زار جيوبنا في الليل، وحين لم يجد شيئًا بها رحل عنا هاربًا. نهض الجاحظ العينين، وصحبنا معه إلى مطعم شعبي بشارع كفر النظام، فأكلت مع الصحبة فولا وطعمية وخبزًا مثل كل المجاورين في معظم وجباتهم. ودفع ثمن إفطارنا من برايز وشلنات بجيبه. ثم صحبنا إلى مقهى بشارع عباس عند ناصية الشارع نفسه، لنشرب معه شايًا بالحليب. فوجئت بعمار المقهى بمن فيه، وظلمته في عز النهار، إلا من ضوء شاحب لمصباح كهربي مدلى من سقف لبد فيه دخان الجوزة والسجائر.
فوجئت بمن في المقهى يتصايحون حين رأوه، وهم يتوعدونه واحدًا بعد الآخر بهزائم منكرة. كانوا في ملابس زرية. فهمت الأمر. واكتشفت مع مرور الوقت بالمقهى أن هذا المقهى هو مقهى النحاسين، وأن كل الجالسين يتجمعون حول مناضد اللاعبين، ويطلبون المشاريب مجانًا على حساب من سيفوز من اللاعبين. فمن يفوز في اللعب يبيع نصف ما يكسبه للمقهى، لحساب من يختارهم من زبائن المقهى, وأشفقت على رفيقنا المجاور الجاحظ العينين من الخسارة في اللعب، فالبرايز في جيبه قليلة، وجيوبنا أفرغ من فؤاد أي عانس. عندها سوف تحدث كارثة له ولنا.
ودار اللعب حاميًا والصيحات بالخسارة والفوز تتعالى حول المناضد، حتى خشيت من تشاجر من بالمقهى. في كل دور كوتشينة على مائدتنا كان الفوز من نصيب الجاحظ العينين. كانت الأدوار كلها ثنائية بين اثنين. وكلما نهض خاسر متوعدًا الجاحظ العينين في المرة القادمة جلس آخر متحديًا له. ولم يخسر الجاحظ العينين دورًا قط، ولم يثبت عليه أنه برغم الاتهامات قد غش مرة. وظننت أن الحظ يلازمه ولا يفارقه. وحين غادرنا المقهى قرب الغروب وزع علينا نصف ما كسبه، واستبقى النصف الآخر لنفسه، وكان نصيبي من نهار يوم قمار واحد جنيهين.
وصار ذهابنا نحن الأربعة كل نهار جمعة واجبًا مرتقبًا ومشروعًا نسعى إليه. ومع الغروب ندخل مطعمًا أرقى لنأكل خضارًا ولحمًا مشويًا وأرزًا وسلطة، ونعود معًا إلى مسكننا لنتحدث ونسمر ونحتفي بالجاحظ العينين. ولم نسأله قط كيف يكسب في اللعب حتى أخبرنا هو بأنه لا يكسب بالحظ ولا بالغش، وأنه يكسب فقط بذهنه الصاحي لما نزل من الورق، وتقديره النبيه لما في يد من يلاعبه من أوراق، ولما لم يسحبه من الورق على الأرض. ولم أفهم شيئًا من كل ما يقوله، ومن العجيب أن عمري كله مضى دون أن أعشق المقامرة، على شدة حبي للطعام الشهي.
***
صديقنا المجاور عاشق النجوم أو النجمات بمعنى أدق لم يعشق منهن على شاشة السينما سوى الفنانة صباح، كان صوت حديثها أو غنائها يسبيه في السينما، وكانت فتنته بجسدها وصوتها ترافقه في أحلام النوم، ولحظات الصمت في اليقظة، وكان طيفها يطارده أينما ذهب، حتى في ساعة المذاكرة أو الامتحان. وصار يكتب لها خطابات معجب ولهان، فترسل له صورها صورة إثر صورة، وفي ظهرها توقيعها، إلى أن جرؤ مرة وكتب لها رسالة غرام ساخنة، وفوجئ بها ترسل له صورة أخرى فاتنة لها، ولكامل جسدها، وتطلب منه صورته، فقد تحبه كما يحبها، ويلتقيان.
عندئذ نزل عليه سهم الله، وظل صامتًا وأعطانا الصورة لنراها، ونقرأ ما كتبته بخطها على ظهرها. ونهض إلى مرآة الحلاقة ليرى بها كيف تكون صورته. وعاد ليقول لنا: هي ال.. ال.. ال.. ولم يقل شيئًا بعد إلّاتِه التي لم يبح بها صوته، سوى: تحبني أنا؟ أنا الصعيدي اليتيم، اللي اللي اللي، ولم يذكر لنا واحدة من إلّاته عن نفسه، فرحنا نضحك ونعبث، فهو خفيف الدم والظل، وضاحك العينين والملامح، تقطر ابتسامته عذوبة. لكنه شوح لنا بيده. وانطرح على سريره، وأغرق في بكاء مكتوم، وجسده ينتفض.
وفي الصيف، رأى عمه شاويش الشرطة صور صباح بين أشيائه، مهداة إليه باسمه، وكان قد رسب في عامه الدراسي، فضربه علقة ساخنة، ولعن "صباح" و"زمن صباح"، وأقسم له أنه سيجعله عسكريًّا في البوليس. لكن عاشق النجوم سارع بالهرب إلى القاهرة، والوقوف على استديوهات الأفلام حتى راحوا يأخذونه ككومبارس معهم بين الحين والحين، لكنه لم يلبث أن اختفى عائدًا إلى الصعيد، فلم يقترب قط فيما يقال من معبودته صباح.
***
فوجئنا بالضابط جارنا بالبيت المقابل، ظهيرة يوم يقف وراء نافذة مفتوحة مقابلة لنافذتنا، وكنا ننظر إليه ممتنين، وفوجئنا به يرفع لنا جوزة ، ويعزم علينا بها، فسارع عاشق النجوم بالإشارة إليه ليأتي، وهز بلدياتي الوسيم له رأسه. وجاء وحده أولا، وجاءت الجوزة والمنقد بعده ثانيًا يحملها شاب بجلباب بدا لي من حذائه أنه مخبر.
أخرج الضابط علبة صفراء مستطيلة مبططة بها نقش بيضاوي أزرق في قلبه كتابة بيضاء بلغة بدت لي لغة إنجليزية. وفتحها. كانت بها عجينة بنية يابسة مستوية تمام مع العلبة كأنها جفت بها. وأخرج من جيب قميصه مطواة قرن غزال وقطع بها قطعة لتعمير الجوزة، وناولها للمخبر. جهز المخبر الجوزة وعمرها بقطعة الحشيش. وأشار الضابط إلى المخبر فانصرف من البيت. وتولى الضابط بنفسه بقية الجلسة. قال الوسيم القسيم للضابط بعد أن شد نفسًا عميقًا:
- صنف معتبر.
فقال له الضابط بزهو:
- هندي معتبر وحياتك.
سأله عاشق النجوم دون تردد:
- بيكلفك كتير كل شهر؟
فقال له الضابط بتأفف:
- يكلفني؟ ولا مليم. دي مقطوعية ع القهاوي والتجار. ويا الدفع يالحبس. احنا بنلعب. احنا الحكومة.
ودارت الجوزة بين الأيدي كل نهار من العصاري إلى المغارب. وبدأت رحلة الفساد مع الحشيش يومًا بعد يوم، ولم تقدر صاحبة البيت أن تقول شيئًا لنا خوفًا من حضرة الضابط. فقط سارعت صاحبة البيت بكتابة رسالة أخرى دون توقيع إلى والدة بلدياتي الوسيم، فسارعت بدورها بالحضور إلينا مرة أخرى، وصبت كل غضبها نحوي، فأنا بلدياته العاقل والشيخ ابن الشيخ. وكنا نستعد لشهر المذاكرة. فتركنا متاعنا أمانة عند صاحبة البيت, وعدنا معها.
رفيقي الوسيم في السكن. فشل في إكمال دراسته بعد الابتدائية لكنه صار بها وقورًا معممًا، وحل محل أبيه بعد أن ودع أبوه الدنيا. لم أتعلق بالحشيش لحسن حظي. ولا أعرف حتى اليوم كيف نجوت منه، لأكمل تعليمي بالأزهر حتى النهاية، مع قلة تظن نفسها ناجية.
***
لم ألبث وقد عشت صيف العام الماضي محرومًا مع إخوتي من زيارة قريتنا أن وجدت نفسي أعيش محنة أشد، وأنا بمدينة الزقازيق في شقة الست زينب. فقد جاء إليّ خطاب من أبي أعطته لي الست زينب، وحين قرأته أرعبني ما ورد به، فسارعت بإخفائه مرارًا، مرة في كتاب، ومرة في طية لباسي، ومرة تحت المرتبة، حتى لا يقرأه أحد من رفاق الشقة المجاورين. وفي كل مرة أتذكر أصوات صبية يتغنون: عواد باع أرضه يا اولاد. شوفوا طوله وعرضه يا اولاد. وفي كل مرة أعود إلى خطاب أبي لأقرأه من جديد، حتى أصدق ما ورد فيه. وخشيت أن أنسى ذات مرة أين خبأت خطاب أبي، ويقع في يد أحد من رفاقي في السكن.
شعرت بالفجيعة الكبرى التي ستصيب كل أقاربي في القرية حين يرأوا أبي يبيع بيت جدي، وأي بيت؟ بيت الأسرة الكبير، جدًّا بعد جد، والذي ميزه جد أبي بأن يكون البيت من نصيبه وحده، ليس فقط لأنه أكبر إخوته سنًّا، ولكن لأن جدي هو أيضًا أعقل إخوته الذكور الخمسة، وأكثرهم أناة وحصافة ووقارًا وحكمة.
وزاد شعوري بالفجيعة حين فكرت في فجيعة جدي الهرم الذي صار يقترب من التسعين من عمره، أو لعله جاوزها. ها هو بيته يباع. وغدا ستباع أرضه قطعة بعد قطعة، ويخيب أمل أبيه الراحل وإخوته الأحياء فيه. أعرف جدي. أعرف كيف سيفكر. فقد طالما فاجأ أحدنا الآخر بأن الآخر يفكر فيما يفكر هو فيه. أقول له: باقول إيه يا جدي، ويقول لي: باقول لك إيه يا ابو داود. وأصيح به: انت بتقرا اللي في راسي. ويضحك جدي ويقول لي: عرفت ازاي اللي انا بافكر فيه.
وأحسست في هذه اللحظة أن جدي سيودع الدنيا في صيف هذا العام.
لم أرد على رسالة أبي غضبًا منه، ولم أسافر إلى السنبلاوين لزيارة الأهل كعادتي كل شهر. وكان أبي يرسل إليّ مصاريف الشهر مع المسافرين العائدين من المجاورين، وترسل أمي معها زوادتها المعتادة التي صارت في فمي بلا طعم. فقد ضاع بيت طفولتي ومرتع صباي، ولم يعد لنا من مكان في القرية سوى مكان الغريب والضيف. ورحت أحاول تلمس المعاذير لأبي في بيع البيت الكبير، ولا أظن أنه جرؤ على بيعه إلا بموافقة جدي وإقناع ابنه الوحيد له.
صحوت من نومي مكتئبًا. كنت لا أزال أعيش تحت وطأة شعوري ببيع البيت. هممت بالبحث عن رسالة أبي إليّ. تذكرت أنني قد أتلفتها. حدثت نفسي أنني صاح لتوي من نوم، وأن حكاية البيت كانت حلمًا بل كابوسًا، وأن لا شيء من ذلك قد حدث. فحسب جدي ما يعانيه من شعور بالوحدة والضياع حتى وهو معنا. صار بيننا مجرد رجل عجوز، ينتظر النهاية. نزع من أرضه، ومن شعوره بوجوده القوي بين بيوت ألفها، وناس يعرفهم ويعرفونه، ويعرف الكل فيه تاريخ الكل، وبالقرب من أرضه التي يملكه وحده ولا يملكها أحد آخر. وحمله أبي على الرحيل عن القرية بحجة الحج إلى بيت الله الحرام، وغايته هي رعايته وسط أحفاده، ومن يومها اغترب جدي عن سماء اعتاد على تقلباتها، وأرض يعرف حشراتها وتعرفه، وناس يحتاجون إلى مشورته. الآن من يطلب مشورة جدي؟!
وأنا أغادر باب بيت الست زينب، وكان الوقت ضحى في طريقي إلى مقهى البوسفور، نادت الست زينب عليّ من خلفي. ارتددت إليها خطوة، فناولتني رسالة لي من أبي، ذكرت لي أنها وصلت اليوم فقط من ساعي البوستة. هممت بالتوقف. سيطر عليّ للحظة أن ما رأيته في نومي أو كابوسي يتحقق. حدث ذلك معي من قبل مرات قليلة. لكنه حدث، وكان يحدث ويتكرر كل حين ومين. هممت بفتح خطاب أبي. أعرف خطه الحاد، الخط المتثبِّت المحاذر المرتعش على مظروفه، كأنه سيقع في حفرة، أو يغرق في بحر. سمعت الست زينب تقول لي وأنا ما زلت أتوجس خيفة من فتح الخطاب، وأنظر إلى خط أبي لأتيقن أنه منه، مع أنه يقول على الظرف ولدنا العزيز الشيخ... بارك الله فيه. تقول لي:
- خير إن شاء الله. افتحه وطمني.
ركبني الخوف بشدة في تلك اللحظة من فتح المظروف. وقلت لها:
- كل خير إن شاء الله.
وابتعدت مسرعًا، وجواب أبي في يدي. لكنني لشدة قلقي وخوفي من تحقق حلمي. توقفت في عز الضحى، ووقدة الضوء النهاري، مسندًا ظهري إلى عمود نور على رأس الحارة التالية. وفتحت رسالة أبي. لم يقل لي سوى أنه باع بيتنا الكبير بالقرية بموافقة جدي، وبشرطه في أن يظل البيت تحت يد أبي، ولا يسلم إلى من اشتراه إلا بعد عمر طويل له، فهو يريد أن يحمل من البيت الكبير إلى حيث يرقد كل الراحلين من عائلتنا.
أراحني ذلك للحظة خاطفة، واطمأنت على جدي لأمر لا أعرفه، لكنني أدرك وجوده. وقال لي أبي في نهاية خطابه، إنه قد قبض الثمن تسعمائة جنيه، واشتري به بيتا يكون ملكًا لنا في السنبلاوين، ونسكن فيه دون أن ندفع أجرًا يأكل ثلاثة أرباع راتبه الشهريّ، ثلاثة جنيهات كاملة.
***
حين جلست على مقهى البوسفور رثيت لحال أبي معنا نحن بنوه وبناته. شعرت بالذنب لأنني آخذ منه لتعليمي في هذه المدينة البعيدة الربع الباقي من راتبه كل شهر. كدت أبكي. أدركت أيضًا أنه يواجه متاعب مع أعمامه الذين يستأجرون أرض جدي، منذ أن رحل جدي عن القرية، وربما يتلكأون ويسوفون في دفع إيجارات لا تزيد عن أربعة عشر جنيهًا للفدان الواحد. وعرفت في تلك اللحظة السبب في كثرة تردد أبي على القرية بين شهر وآخر. وأيقنت أن سبب هذه السفرات، هو بحث أبي الدائم عن المال لإعالتنا وتعليمنا، ولدًا مع ولد وبنتًا مع بنت.
وانتبهت فجأة إلى أن أبي هو أول رجل في القرية يعلم بناته بعد التعليم الأوليّ، وقدرت له في تلك اللحظة على قسوة ما يعانيه يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، أنه يصر، وسوف يصر، على مواصلة تعليمه لإخوتي البنات، مثل الصبيان سواء بسواء إلى النهاية، وسوف يرفض زواج أي منهن قبل تخرجهن واحدة بعد واحدة. كيف؟ والأعمار بيد الله؟ والمصائر، مصائرنا، نحن أبناؤه وبناته، بيده أيضًا في علم الغيب؟ وزاد من حزني أنني وعيت في لحظة خاطفة، أن جدي حين يودع الدنيا، وقد بات ذلك قريبًا ومنتظرًا ومخيفًا، سوف تسارع بناته الثلاث، أخوات أبي المتزوجات، إلى طلب ميراثهن عن أبيهن من أبي، ثلاثة أخماس أرض جدي.
وتوقفت مع نفسي حائرًا بالمقهى، أفكر في أن راتب أبي، هو حامل ثانوية الأزهر، لم يزد عن أربعة جنيهات وستة عشر قرشًا، وأن أبي يثق في قرارة نفسه بعون الله، وليس عليه سوى أن يصبر. وتذكرت أن أبي متصوف من مريدي الطريقة التيجانية المغربية، وحدثت نفسي أن المتصوفين هم أكثر الناس حبًّا للبنات، ورعاية للنساء زوجات كن أو بنات أو أخوات أو جاريات. وتذكرت حديثًا للرسول لا أذكر أين قرأته عن الوعود بالثواب العظيم لمن يرفق بالقوارير، ويعلم القوارير، ويرعى القوارير، وهن هشات سريعات الكسر.
وعزيت نفسي في جلستي بأنه سيعين أبي على العيش بعد رحيل جدي، أجره كناظر وقف على أربعة أفدنة أوقفها عم لجدي، أحب أبي، ووثق بأبي، لأنه طالب علم بالجامع الأحمدي، وكان بلا ولد. ويقولون إنه مات وله من العمر مائة وست عشرة سنة، وقد عين أبي ناظرًا لوقفه. وخصص إيراد وقفه لرعاية قبره بين القبور، وعمل عتاقة سنوية لقاء تلاوة القرآن على روحه، طلبًا لرحمة الله، من أربعة مقرئين يقرؤونه طوال أربعة أيام، ويختمونها في كل يوم مرة.
وتذكرت في دهشة ما لم أتوقف عنده قط من قبل. المقرئون الأربعة كانوا يأكلون اللحمة مع الفتة هبرًا هبرًا في الغداء والعشاء والفطير المشلتت والعسل الأبيض والجبن الحادق واللبن الفائر بزبده، المحلوب لتوه في الصباح والعشاء. ولم أعرف مصير هذه العتاقة السنوية التي شرطها عم جدي، بعد رحيلنا عن القرية، فأعمام أبي لن يفوا بها على الوجه المطلوب، خصمًا من إيجارهم للأفدنة الأربعة. وكان أبي منذ رحيلنا عن القرية يواصل كتابة جداوله لإيرادات أرض الوقف، ونفقاتها، وأوجه صرف ريعها، وحقه في نظارته لها، ويرسلها كل عام إلى إدارة الوقف الأهلي بوارة الأوقاف.
وعدت إلى رسالة أبي لأعرف من ختامها عنوان بيتنا الملك الجديد بشارع عبد المنعم بالسنبلاوين. وخوفًا من وقوع الخطاب في يد أحد من رفاق السكن، أخرجت سيجارة وأشعلتها بعود ثقاب، وأشعلت النار في الرسالة بما بقي من نار عود الثقاب. وتغنيت بصوت مكتوم من أنفي بقول الشاعر: دع المقادير تجري في أعنتها. لكنني رحت أتصور البيت الكبير داخل خيالي ركنًا ركنًا وجدارًا جدارًا. وأستعيد ما عشته بينها من ذكريات صباي وصحتي ومرضي ويقظتي ونومي دون أن تدمع عيناي تحت وطأة حزن، سيقيم في نفسي عقودًا من الزمان.
عز عليّ كل ما حدث ويحدث، وما سوف يحدث لنا، فدفنت نفسي في القراءات الحرة، وحضور دروسي والمذاكرة، ومع ذلك لم أحرم نفسي من متع الخطابة في الخلاء ودور السينما في الليل، ونفذت ما عشته في حلمي الطائش، ألا أسافر إلى أهلي إلا مع شهر المذاكرة. وكنت أعيد صفي الابتدائي الثالث بالمعهد الديني.
***
حدث ذلك في العام الشهير بعام صدقي بيفن. انتشرت الكوليرا في أرجاء مصر، إثر عودة الحجيج إلى مصر قادمين من مكة عبر البحر في العبارات، وقوافل الصحراء التي اجتازت بالحجاج المصريين والمغاربة والسودانيين طريق الساحل الشرقي للبحر الأحمر، والعقبة، وسيناء. وربما مع راكبي الطائرات من محدثي النعمة في سنوات الحرب. وصدرت أوامر الحكومة ووزارة الصحة بإغلاق كل محافظة على أهلها، وتوقف المواصلات بينها إلا لعربات الحكومة.
وجدت نفسي وقد صرت وحيدًا في مدينة الزقازيق. مئات المجاورين من رفاقي، وربما كلهم، عداي، وجدوا وسيلة أو أخرى للعودة إلى مدنهم وقراهم في مديريات الشرقية والدقهلية ودمياط. توقفت قطارات السكك الحديثة السريعة، وقطارات الدلتا، وحتى السيارات الخاصة والأجرة، والحمير، والجمال، والبغال، وعربات الكارو. وصار البلح الأحمر والرطب في موسم البلح لا يجد من يشتريه. وعز على الكل العثور على حبات الليمون لتطهير الخضروات والبلح للصمود في وجه الوباء القادم من الأراضي المقدسة، والزاحف مع الموت على الناس بانتظام في البيوت والمستشفيات، لا يجدي معه شيء لإيقافه سوى الأمصال على قلة الأمصال، ولا توقفه حبوب السلفا، ولا المياه المغلية، ولا تكفي لصده صلوات المصلين في المساجد، ولا جلسات الدعاء بكلمة: يا لطيف بين صلوات الغروب والعشاء كل مساء. صارت مصر كلها أرضًا موبوءة، تتحدث عنها الإذاعات وصحف العالم وصحف القاهرة والجيزة والصحف الإقليمية في المدائن الصغيرة.
وجدت نفسي وقد صرت وحيدًا في مدينة الزقازيق، ورفاقي المجاورين قد سارعوا بالفرار من مدينة الزقازيق، كل على طريقته، والكل يقول: ياللا نفسي يا روح ما بعدك روح، وأنا ومن بعدي الطوفان. أنكر الكل وجود الكل، وصار الكل ينظر بخوف إلى الكل، فالكل حامل في نظر الكل للوباء، وللموت السريع الذي لا فرار منه لو ذهب من الغير إلى الغير، مع الهواء، والخضروات والفواكه، والأواني والفناجين والأكواب، وحتى عطاس العاطسين.
وعجبت لأن الحركة بمدينة الزقازيق لا تزال مستمرة. من حولي. المحلات مفتوحة تبيع وتشتري، والناس يروحون ويجيئون، والسيارت تجري في كل اتجاه، والناس الناجون جلوس على المقاهي، كأن الموت الأصفر لا يزور لهم بيتًا، ومع ذلك كان ثمة خلاء يحس ويرى، ويلمس ويشم، ويسمع صوته في كل طريق. فالجنازات تمر بين حين وآخر على ألواح الخشب، مربوط عليها الموتى بالحبال كي لا تنزلق في الطريق، ووراءها تسير قلة محدودة العدد من الأهل، وأمامها الناعون يرددون صوت الأبدية: هوه الواحد هوه الباقي هوه الدايم ، ولا أحد ينهض من مقهى للمشاركة في جنازة طلبًا لكسب الثواب، وصارت المقابر كلها مقابر للصدقات، لا مقبرة منها بعينها لأحد دون أحد.
ولم أجد بجيبي بعد يومين سوى قرشين ونصف قرش، كانت هي أجرة العودة بقطار الدلتا لو كان هناك قطار. لا شيء لي في مدينة الزقزفة من طعام أو شراب. لم يكن أمامي سوى الرحيل، اليوم قبل الغد، والساعة قبل الساعة التالية.
لعبطي أثقلت على نفسي. جمعت كل ثيابي وكاكولتي وعمامتي في حقيبتي الجلدية، وصنعت لها حبلين على الجانبين أوثقتها بهما. وأدخلت ذراعيّ في الحبلين، وحملتها على ظهري، وسرت بها مثقلا مجتازًا طول المدينة كلها، حتى وصلت نهاية كفر يوسف، وعنده كانت تنتهي حدود المدينة. أنزلت الحقيبة عن ظهري، وجلست فوقها لأستريح فانبطّت تحتي. وفكرت في تركها، ولكن من أين لي بثياب غيرها لو فقدتها، رحت أحاول ترميم فتوقها، وعدت أحملها على ظهري، وأزعجني الحذاء في قدمي، وخشيت بلاه، فخلعته من قدمي، وعلقته بحبل على ظهري.
حين وصلت حدود مديرية الشرقية الشمالية كنت في غاية التعب. وانفرش تحتي قدماي، وبات كل شيء فيّ يوجعني من القدمين إلى الكتفين. توقفت عند قناة يجري بها ماء في أرض تسقى، ورحت أغسل من جسدي كل ما أتيح لي منه، لأزيل العرق والأتربة، وأبرد سخونة الجسد، وتركت قدمي منقوعتين في الماء زمنًا. تجولت بعيني فيما حولي، ورحت أتعجب لما أراه من صراع الحياة مع الموت. كان الفلاحون في الأراضي يعزقون، ويروون، وينزعون الأعشاب الضارة، ويشربون من مياه القلل، وكانت الطيور تحط وتطير وكأن لا موت في الدنيا. وعلى البعد رأيت كمين رجال الشرطة متناثرًا على الطريق، وشريط القطارات التي لا وجود لها لمنع الانتقال بين مديريتين.
جبت بعيني المكان للهرب من الكمين وأنظار مَن فيه. وكي أخفف عن نفسي حمل الحقيبة، أخرجت أهم ما بها عند أبي: الكاكولة والعمامة والكتب، وأضفت لهما الحذاء ولففتهما في جلباب، وربطته بحبل علقته في رقبتي وذراعي على ظهري، وسرت خفيفًا على جسر بين الغيطان الممتدة، وكأنني من أهل الناحية، ثم انعطفت إلى أرض المديرية الأخرى، مديريتي، حتى ابتعدت كثيرًا، وعندئذ انعطفت ناحية قضبان القطار من جديد، آملا أن أجد قطارًا آخر يتحرك بين قرى المديرية ومدنها في اتجاه السنبلاوين. وعجبت لحدود موهومة بين مديريتين، فالأرض الزراعية كلها واحدة ومتصلة، وحتى المياه التي تجري فيها متصلة، والأشجار بها صفوف متصلة، والطيور فوقها تروح وتغدو.
سرت طويلا بحذاء رصيف القطار على طريق مترب دمكته الأقدام والحوافر والعجلات. مررت بالقرى قرية قرية. كانت محطات القرى كلها مغلقة، ولا قطار واحد واقف بها، ولا قطار واحد سيأتي ليحمل راكبًا. مل بصري من وهح الضوء. وزعق وجع قدمي في رأسي، وأنا أسير سير زاحف القدمين. الخطا متباطئة وقصيرة. أخطو وكأنني أزحف. أتكفأ مترنحًا في خطوي ولكنني لا أتوقف، والشمس تنحدر صوب الغرب فوق رأسي، والطاقية فوقها يجف عرقها أول بأول. حتي الناس اختفوا من الغيطان، ولجأوا إلى ظل الحظائر والأشجار، ولا طير واحدًا يُرى في الفضاء الطباشيري من فوقي. لا شيء من حولي سوى وهج ضوء يرتعش على الأرض، وفي رأسي يدوي طنين أذني، منذرًا لا محالة بصداع قاتل، لا قبل لي به من ضربات الشمس.
بلغت مشارف مدينة ديرب نجم في منتصف الطريق. رأيت في المدى القريب ميدان محطتها والقطارات واقفة مخزنة بها. اقتربت منها. كانت كلها مغلقة النوافذ والأبواب عبر القضبان الأربعة الوحيدة بها. بحثت في ميدان المحطة عن محل للبقالة. توقفت أمام محل. اشتريت بتعريفة زجاجة كوكاكولا، نصحني البقال حين عرف خبر صداعي بلحس ملح حتى لا تقتلني ضربة الشمس. اشتريت من البقال بمليم واحد حفنة ملح أبيض ناعم في قرطاس من الورق. سففت منه على ملوحته الزاعقة سفَّتين، وأتبعتهما بجرعة كوكاكولا كبيرة. وحل بي التعب والرغبة في النوم, انهرت جالسًا في ظل تندة محل البقال، وفي حجري كانت صرتي، ودخلت لفوري في إغماء كالنوم. لم أشعر بشيء مما حولي. ولم أذكر حين صحوت أي كابوس أو حلم. كنت ميتًا حقًّا موتًا لا أدري معه أكنت أتنفس حقًّا، أو يجري في عروقي دم، أو ينبض بي قلب.
عدت إلى الحياة حين هزني البقال هزات متلاحقة لأبحث عن مكان آخر أنام فيه. حذرني من شرطة ديرب نجم فقد يظنوني من ضحايا الكوليرا، ويحملونني إلى مستشفى، أو مقبرة، وقد يشتبهون بي ويلقون بي في تخشيبة القسم. وراح يسألني وهو جالس بجانبي: من أين أنا ومن أين أتيت وإلى أين أذهب. ظننت أنه سيصحبني لأبيت عنده إلى أن يطلع نهار يوم جديد، لكنه أشار بيده إلى القطر الواقفة، ونصحني أن أذهب بسرعة إلى عربة قطار وأنام بها، قبل أن يأتي منتصف الليل، وتحملني عربة شرطة، أو تجرني يد شرطي إلى القسم.
أنزل البقال باب الصاج على محله، ومضى مبتعدًا عني في حارات ديرب نجم. نهضت واقفًا بصعوبة، وظهري ينقح بطوله عليّ. اتجهت متحاملا على نفسي إلى قطار يختفي وراء قطار حتى لا يراني أحد وأنا أختفي بداخله. كنت خبيرًا بالقطارات أنا الذي طالما سطحت على القطارات الذاهبة إلى الإسماعيلية، أو الذاهبة إلى السنبلاوين، أو العائدة منهما، مع أنني في كل مرة أحمل تذكرة سفر، أسطح لمجرد التسطيح لا غير، ورؤية الصحراء والأشجار والترع والقنوات.
باب العربة التي اخترتها لنومي بوسط القطار مغلق، ونوافذ العربة مغلقة. ولخبرتي بركوب القطارات، وطريقة فتح نوافذه من الخراج باليدين من الجانبين، ضغطت بأصابعي أسفل نافذة من ناحيتيها معًا، ورفعتها بكل عزمي إلى أعلى, وتشبثت بكفي بحافة النافذة، ورفعت جسمي، ودلقت نفسي داخل العربة, سقطت بين مقعدين، وارتطمت رأسي بحافة مقعد خشبي. جلست لاهثًا على مقعد. بادرت بإغلاق النافذة كما كانت. انتظرت محدقًا في الظلمة.
اعتادت عيني ظلمة العربة، ساعدتني ضياء الأعمدة الشاحبة بالمحطة المتسلل عبر شيش النوافذ على رؤية الرفوف العليا للعربة التي يضع عليها المسافرون مقاطفهم وقففهم. تعلقت ومعي صرتي برف منها حتى إذا دخل أحد العربة لم يشعر بوجودي بها، وضعت صرتي تحت رأسي، ونمت على جنبي، وثنيت ساعدي، ورحت في النوم، راجيًا ألا أشخر في نومي فيسمعني أحد، ويظنني لصًّا من لصوص القطارات، أو مصابا هاربًا بالكوليرا.
***
حين صحوت، نهار يوم جديد، كان الضوء يرى عبر شيش النوافذ ساطعًا، وشعرت بالجوع لأول مرة. سارعت بمغادرة العربة من النافذة مرة أخرى، سرت بين العربات والقضبان أتلفت حولي. توقفت لحظة. جلت بعيني في واجهة البيوت والمحلات بديرب نجم، باحثًا عن مطعم حتى رأيته أمامي متألقًا، يشع بالشبع والري. كان معي قرش صاغ وأربعة مليمات. اشتريت نصفي رغيف أحدهما عامر بالفول والزيت والدقة، والآخر عامر بالطعمية. وطلبت من الفوال لفهما في ورقتين. وطلبت منه ماء شربته إلى آخره، وزجاجة ماء ملأها الفوال لي بالماء لأستعين به على السفر. أخذت درسًا من عطش البارحة. عدت أطلب من الفوال حفنة شطة. ، ظننت للحظة أنا الذي أكره الشطة، بل أفزع منها، أن الشطة تقتل أي مكروب بالجسد. دهش الفوال لطلبي، فالفول عليه دقة بالشطة، لكنه أعطاني ما طلبت في ورقة مطوية. سكبت الشطة على الملح في قرطاسه، ودسسته في الصرة. جلست على الرصيف المترب بادئًا بأكل سندويتش الفول قبل أن يسيل زيته. أتيت عليه سريعًا. هفّتني نفسي لأكل ساندويتش الطعمية، لكنني آثرت الاحتفاظ به لجوع آخر، بطريق لا أعرف متى ينتهي.
واصلت السير مرة أخرى بحذاء شريط القطار، تحت شمس ساطعة، غارقًا في عرق لا يتوقف، ولم أعد أبالي بتجفيفه، ولا بما يلتصق به من غبار الطريق وأتربته. بين لحظة وأخرى أجرع جرعة ماء، وألحس لحسة ملح بالشطة، وأعيد القرطاس مع الزجاجة إلى جانب الصرة في يدي. ومرة أخرى رأيت كمينًا درت حوله في المزارع، ثم عدت مرة أخرى إلى جادة الطريق، ورحت أواصل السير لأصل إلى نهاية الأرض.
لاحت لي أخيرًا نهاية الأرض وبدايتها، فبها بيت الأهل والأب والأم والإخوة والأخوات، والبيوت التي أعرفها، والشوارع والحارات التي آلفها، والصحب الذين أحبهم والذين أتشاجر معهم. لا يعرف أحد من البشر فضل ذلك وقيمته إلا من جرب الوحدة، وعاش الاغتراب والشعور بالضياع، وبأنه صار كمًّا مهملا، وكائنًا وحيدًا. رأيت مشارف السنبلاوين تتألق وتترجرج في عيني كسرابات الصحراء.
عبرت محاذرًا جسر القطار، فوق ترعة البوهية إلى الضفة الأخرى. لم يكن يحمل قضيبي القطارات سوى كمرات ممدة من الحديد، تحملها بغال الجسور المعتادة، تمتد فوقها عوارض خشبية متفرقة بين العارضة والعارضة مقدار خطوة. أحاذر الانزلاق، وأحاذر فقد التقدير لنقل خطواتي من عارضة إلى عارضة، أنا الذي كنت أنافس غيري من صبية السنبلاوين في القفز فوقها، رواحًا وجيئة، مع أنني جاهل بالعوم، وأكثر جهلا بمهاراته وفنونه. وحين وصلت إلى الضفة الأخرى للترعة، شعرت بأن روحي قد ردت إليّ، وأنه كتب لي عمر جديد.
سرت مسافة قليلة على جسر الترعة المترب، وعلى يميني تمتد الغيطان المروية والمزروعة والجافة وصفوف الأشجار. صار سيري على مهل، ولم أعد خائفًا ولا ضائعًا. اقتربت من تحقيق حلم الوصول والعودة. فجأة توقفت عن السير بجانب ترعة البوهية، نظرت إلى ساعدي المتربين، وقدمي المتورمتين، ولاحت لي مياه الترعة تتألق وتومض تموجاتها الفضية الصغيرة المتلاحقة في أشعة الشمس. انحدرت من الجسر مقتربًا من مياه الشط. نظرت حوالي ورائي وأمامي وعلى يميني وعلى يساري. لم يكن أحد بالغيطان، أي أحد. لا طير أيضًا ولا فأر، ولا حشرة تراها العين.
وضعت صرتي جانبًا، ونزعت جلبابي ولباسي وفانلتي، وانحدرت بجسمي محاذرًا الانزلاق كلية في مياه الترعة. وقفت على الطين، ثم جلست فوقه في حذر. رحت أنظف وأدلك جسمي بمياه الترعة الجارية الصافية، وأغسل وجهي ورأسي بحفنات الماء المتلاحقة حفنة بعد حفنة. شعرت فجأة بمدى جبني. حدثت نفسي، بل صحت في نفسي إلى متى ستظل جبانًا. لم أكذب خبرًا تحدثني به نفسي. ابتعدت بقدمي قليلا قليلا فوق الطين عن شاطئ الترعة، حتى بلغ الماء أسفل رقبتي، غطست بكلي في مياه الترعة، وشهقت صاعدًا برأسي بسرعة فوق ماء الترعة. يرعبني دائمًا رهاب المياه. كررت ذلك مرارًا.
وقعت عيناي على الشاطئ. كنت قد ابتعدت عنه أكثر مما قدرت. ركبني الخوف. بحثت عن الطين تحت قدمي. اختفى الطين فجأة كأنما انزلقت فوقه، أدركت أن الماء الجاري يجرفني إلى وسط الترعة. فجأة اتخذت قرار الرعب الذي لا مفر منه للنجاة بروحي وجسدي وسط كل هذا الفضاء الرجراج. غصت بكلي، كاتمًا نفسي، إلى قاع الماء. بلغت الطين. سرت زاحفًا تحت الماء على قدمي وكفي باتجاه الشاطئ. وكلما أحسست بالحاجة إلى التنفس، هربت من دوار الغوص ومتاهته وضيق النفس إلى سطح الماء, أضرب طين القاع بقدمي فيطفو جسمي مترنحًا واقفًا، وأنظر إلى صحة توجهي إلى الشاطئ ومدى قربي منه، وآخذ نفسًا عميقًا، وأعود إلى الهبوط في قاع الترعة، والسير فوق الطين على قدمي وكفي.
بلغت شاطئ الترعة زحفًا في القاع. سارعت بالصعود. وجلست بجانب ثيابي ألهث وأرتعد. جف ما بي من ماء في عز الحر. نفضت ثيابي وارتديتها. شعرت بالجوع. فكرت في ساندويتش الطعمية لكن نفسي قد سدت، وكانت الطعمية قد أنتنت. تمضمضت مرارًا بالماء. ونهضت عائدًا نظيفًا كامل النظافة إلى مدينتي.
***
يومان لا غير مرّا على عودتي إلى أهلي. شفيت قدماي المتورمتان من رحلة الهرب، واستطعت لبس حذائي الذي نجا معي من رحلة السفر. وسارعت بالخروج إلى الشارع من بيتنا بعزبة حبيب. وأمي توصيني بعدم أكل أي شيء في الشارع من أي أحد، فالكوليرا لا تزال تفتك بأهل السنبلاوين فتكًا. والمصل لا يكفي لنجاة أحد من خطر الكوليرا.
على مقهى العدل التقيت بشباب لا أعرفهم صحبوني معهم لحماية مداخل السنبلاوين من أهل القرى الوافدين عليها. كان رجال الشرطة ورجال الصحة يسارعون بالهجوم على أي بيت بالسنبلاوين، وأخذ من به من المرضى أيًّا كان مرضهم، ورميهم بمستشفى المدينة، وكان الناس يسارعون بتهريب مرضاهم في أكوام القش على السطوح، أو عبر الحارات من بيت إلى بيت، في ظلام الليل، أو في ضوء النهار، فالموت عندهم بيد عزرائيل أرحم من الموت بيد حكيم. كان قد شاع بين أهل السنبلاوين أن من يدخل المستشفى لا يخرج منها حيًّا، ولا يعرف أحد من أهله عنه خبرًا، ولا له مثوى.
عند مدخل القرية المؤدي إلى قرى نوب طريف وطوخ وقفنا، جاءت وقفتنا في وقدة الشمس لحماية مدينتا من سكان القرى. رحنا نصد كل قادم على قدميه، أو راكب لحمار، ونرفض كل رشوة. ومن بعيد جاءت تخطر بحصانها الأبيض حسناء مكشوفة الذراعين إلى الكتفين. لم تر عيوننا فتاة في مثل جمالها. تركناها حتى اقتربت، وأحطنا بها في لهفة، ولم يجرؤ أحد منا حتى على لمس حصانها بإصبعه. طلبت المرور بحصانها لتدخل السنبلاوين فرفضنا بشدة، ولم نلبث أن اختلفنا حولها فيما بيننا. فمثلها جمالا ونظافة وعافية لا يمكن أن تكون مصابة بالكوليرا. وحين يئست منا أدارت حصانها، وعادت به راكضة عائدة إلى بلدها، ورحنا نلوم أنفسنا حينًا، ونحاول التخمين حينًا، ابنة مَن تكون من أهل القرى والعزب، ولا عهد لأحدنا بمثلها.
في اليوم الثاني وقع الاختيار علينا من المشرفين على المتطوعين بالسنبلاوين، لنكون في خدمة المرضى بالمستشفى المركزي وسط المزارع خارج السنبلاوين، فالمستشفى بحاجة إلينا، والممرضات والمرضى والتمورجية بحاجة إلى مساعدتنا.
لم يكن عنبر بالمستشفى ولا سرير به شاغرًا من مريض. وكانت العنابر تضج بصيحات المرضى في الطابقين، وكان التمرجية لا يكفون عن التنظيف لممرات العنابر من القيء والإسهال المراق به، ورفع الملاءات الملوثة وتغييرها بغيرها، وبين حين وآخر نرى ممرضة تمر على العنابر، وتأمر وتنهى. واكتشفنا أن كل المطلوب منا أن نريح الممرضات من هذه المهمة أيضًا، ونأمر التمرجية مثلهن وننهى. ونادرًا ما رأينا طبيبًا يمر على عنبر، أو يرى أي مريض، في ورديتي الليل أو النهار.
ومع الصباح نجد معظم الأسرة خالية، ولا مريض بها، ومع الظهيرة تمتلئ الأسرة والعنابر بمرضى آخرين من جديد، فقد ودع المرضى السابقون الدنيا، وحملتهم سيارات النقل فوق بعضهم البعض، رجالا ونساء وأطفالا إلى مقبرة ما جماعية. وقيل لنا إنهم يلقون بها فوق بعضهم البعض، فوق جير حي، ويغطونهم بجير حي، ويسكبون فوقهم الماء فيحترقون دون نار بالجير الحي، ويبقى رفاتهم مكشوفًا ينتظر مَن يأتي بعدهم. الموت إذن في كل مكان لا يراه كل مَن لم يصبه بعد، أو يدخل له بيتًا. وكانت الحكيمات جالسات أمام عيني، عند مطلع السلم، بممر الصالة يشربن الشاي، ويأكلن، ويشتغلن بنسج التريكو، ويتحدثن عن أي شيء إلا عن المرض، والمرضى، والموت.
في كل صباح كان يخرج من المستشفى ثلاثمائة أو يزيدون من الموتى، ويدخل إليه ثلائمائة أو يزيدون من المرضى، وكأن المستشفى مجرد موقف للحشر، وللسفر إلى عدم بلا عودة. دخلت عنبرًا يتصايح به مريض مشاكس، كان خبيرًا بهذا المستشفى بالذات، ولا يكف عن الزعيق: عايز الست سعاد. عايز الست سعاد. وسرعان ما يقلده المرضى بالعنبر، ويتبعهم مرضى العنابر الأخرى مرددين: عايزين الست سعاد. عايزين الست سعاد. وسألت عن الست سعاد، فقيل لي إنها حكيمة سافرت إلى بلدها لتتزوج، وهي الآن في شهر العسل. وكأن المرضي كانوا على موعد مع الست سعاد، فقد طبت على المستشفى في ذلك النهار قادمة من بلدتها بالفيوم، منهية شهر عسلها. في الحال، حين رآها المريض المشاكس عرفها، وصاح بها: الحقينا يا ست سعاد. يعمر بيتك يا ست سعاد.
كانت سعاد مجرد حكيمة من الحكيمات. وأدهشني أن روح الأمل في النجاة قد دبت بين المرضى، وأن كهرباء العمل الخفية قد سرت في دماء التمرجية والممرضات والحكيمات، وأن غرفة مدير المستشفى المغلفة قد فتح بابها. وقيل لنا إن الست سعاد مرت بالعنابر كلها على عجل، وأفزعها ما رأت، فلم تزعق، ولم تثر. فقط شدت التليفونات في مكالمات هنا وهناك، وكان صوتها الهامس يشي بتهديد خفي متوتر، بتبليغ مدير المديرية الذي لا تعرفه بحال المستشفى، وتفشى الموت والإهمال.
وجدنا نحن المتطوعين عملا حقيقيًّا لنا بالمستشفى لأول مرة، وقد مر علينا بالمستشفي يومان. لم تكن ثمة حوامل كافية لحمل زجاجات الجوليكوز، فحملناها بأيد مرفوعة بجوار الأسرة، إلى أن تفرغ كل ما فيها في عروق المريض قطرة قطرة إثر قطرة، ورحنا نتنقل بمثلها من مريض إلى مريض. وانشغلت كل الممرضات والحكيمات بالمستشفى في تفريغ أمبولات بسرنجات، قيل لنا إنها تحمل رقم 606 في شرايين المرضى مريضًا بعد مريض، وقيل لنا إن الصيدلية كانت مغلقة على صناديق هذه الأمبولات، إلى أن قامت الست سعاد بكسر الباب بجرأة وإخراجها وإعطائها للمرضى دون أمر من طبيب. وفي الليل هدأت أصوات المرضى وفتر القيء وقل الإسهال، ومع مطلع النهار، كانت نسبة الموت قد خفت بين المرضى من ثلاثمائة مريض في اليوم إلى تسعة عشر في اليوم، في ثلاثة أيام فقط، وكان الناجون يعودون إلى بيوتهم سالمين. ولم أنس هذه التجربة قط، فقد كتبتها يومًا قصة بعنوان الملاك الأبيض ونشرتها بمجلة العربي، وأذعتها ببرنامج الأسرة البيضاء، بصوت سامية صادق الدافئ الحنون. وجاءتنا رسالة عرفان من الست سعاد، وقد صارت أمًّا لعدد من البنين والبنات.
***
جاءت إعادتي للصف الثالث الثانوي نعمة عليّ من حيث لا أدري. بلا صديق كنت في سنوات المعهد الديني، وأحيا بلا بوصلة لي موجهة في حياتي. لا شيء مطلقًا في حياتي سوى أنني موجود، وضائع. أقرأ روايات الجيب في الصيف، وأصيع وأضيع في شهور الخريف والربيع والشتاء، بين المعهد والمقاهي ودور السينما والشوارع وزيارات الرفاق في الغرف المقبضة، وحلقات الذكر الطلابية في الحارات بالأمسيات الحارة، وفي أسواق الثلاثاء الأسبوعية، ومكتبة بحر مويس مع الروايات البوليسية أيضًا. كان الكل من حولي مجرد رفاق مجاورة كرفاق السفر في القطارات.
أتاح لي رسوبي لحاق "أبو المعاطي" بي قادمًا من الصف الثاني، وجلوسي بجانبه على درج واحد. كان أنيق الملبس كاكولة وعمامة وحذاء ملمعًا أبدًا، وكان يقرأ كتبًا لم أكن قد عرفت طريقها بعد، بينها كتب نقد، وقصص أجنبية وعربية، وكان يشتري مجلات ثقافية في اليوم الذي تصدر فيه من ميدان المحطة، بينها مجلتي الرسالة والثقافة. وكان فوق ذلك كله نقيضي المثير. وجذبني إليه، بعقله الرزين، وتحكيمه للمنطق، وفي الوقت نفسه برومانسيته الحالمة. وميله للحزب السعدي الذي لم أحبه قط، وبذلت طوال ذلك العام والأعوام الذي تلته جهدًا هائلا لأنال صداقته، هو وشاعر صديق حميم له اسمه محمد إسماعيل هاني، وهو برغم جهدي للتقرب منه، عازف ومتخوف من تمردي وجناني وحدّتي ونزواتي وحماقاتي. كان أبو المعاطي منتظمًا في حياته، ولا يزال، من البيت للمعهد لدار السينما، حين يكون بها فيلم طيب، أو لكافتيريا أنيقة وهادئة. لا يعرف الضياع له طريقًا، وأحسبني نلت قدرًا من بداية رضاه عني، وقبوله المتحفظ لصحبتي، بسبب موضوع إنشاء كتبته.
***
كان الشيخ القناوي يدرس لنا مادة الفقه، ويدرس لنا في الوقت نفسه مادة التعبير، وعلى تهربي الدائم من كتابة مواضيع الإنشاء عما نعرف وما لا نعرف، فقد كتبت ذلك العام موضوع الإنشاء الوحيد لي في ذلك العام. كتب الشيخ عنوان الموضوع على السبورة، وكان عن الحرب والسلام، وكنا في أعقاب سنوات حرب عالمية لا سلام بها في أي مكان من العالم، وراح يناقش الطلاب في عناصره، قبل أن نكتبه في بيوتنا. وفي اليوم التالي جمع الشيخ كراسات التعبير، وحملها معه إلى بيته.
وفي درس التعبير التالي، وضع صف الكراسات أمامه، وسحب من أعلاه كراسة، ونادى على اسمي، وقال للفصل:
- خير موضوع كتب لي.
ثم قال لي بحنو:
- تعال يا بني.
كنت قد كتبت في الموضوع كراسة كاملة، عن الحرب والسلام، ومنافع كل منهما للبشر ومضاره، ودورة الدفع للخير بالشر، وللشر بالخير، وتقدم العلم وتأخره، وما لا نهاية له من نقاط الموضوع، وكأني أناظر نفسي، وبحياد بين الأمرين دون أي معتقد، أو حكم مسبق. وحين قال لي: اقرأ درجتك على الموضوع، وتعليقي. كانت الدرجة عشرة على عشرة. وكان تعليقه:
- أرجو أن تتذكرني بالخير عندما تصبح كاتبًا.
وخجلت أن أقرأ ما كتبه. أطبقت كراستي، وعدت إلى درجي، وأخذها أبو المعاطي وقرأ التعليق، وأظنه ضغط على كفي سعيدًا بي، وأظنني بذلت جهدًا فائقًا في كتابة الموضوع لأنال فقط صداقته.
***
في ساحة المعهد تحت شرفة الإدارة صعد طلاب إلى الشرفة. وارتفع من بينها صوت بالغضب، وراح يصيح معلنًا أن اليوم إضراب ومظاهرة، فلا يتجه أحد إلى فصل ولا إلى حصة. وتوالى الخطباء والشعراء المرتجلون أيضًا، فالإضراب والتظاهر كانت له طقوس في معهدنا، وكان سلاحها الكلمات فحسب، والأفواه الجاهزة لشعارات الهتافات، وترديدها الجماعي الهادر.
لم تنس ذاكرتي هذا اليوم بعد ستة عقود. اندفع الطلاب نحو بوابة المعهد. كانت تعليمات إدارة المعهد إلى عم مرسي تقضي بغلق البوابة الخارجية وبابيها الصغيرين المجاورين بالسلاسل والأقفال، لمنع المظاهرة من الخروج. ضغطت جموع طلاب المعهد بأجسادهم على البوابة المسلسلة والبابين الصغيرين، هزوها هزًّا، ورجوها رجًّا، ودفعوها دفعًا، فتفتقت عرى السلاسل، وتفسخت الأقفال، وانخلعت مصاريع الأبواب من الجدران، وسقطت الأبواب الحديدية الضخمة تحت أقدام الطلاب جارّة أحجارًا معها.
كانت غاية المظاهرة وسط المدينة في شارع عباس الطويل الفسيح الممتد، وكان يشكل وحده، بعد مسيرة قليلة به بدءًا من ميدان المحطة ميدانًا رحبًا ممتدًا يتسع لمظاهرة كبيرة عدتها بالآلاف، والهتافات على طول الطريق إليها تدوي دون انقطاع. وراحت الهتافات تتوالى، نثرًا مرسلا، ونثرًا مسجوعًا، وشعرًا مرجوزًا، وكان الطلاب القادة المحمولون على الأكتاف أهل خبرة في صوغها.
قطعنا مسافة طويلة مع سور القطارات، قبل أن نصل إلى ميدان المحطة، فشارع عباس. كان على المظاهرة قطع المسافة لصق السور، وعبور مزلقان بلا بوابة إلى الناحية الأخرى من السور، حيث المقابر، فحي كفر النحال، وفي النهاية شارع عباس. وحين وصلنا إلى ميدان المحطة كان نصف الطلاب قد تركوا المظاهرة، لأسباب شتى.
كانت الهتافات كلما همدت تعود إلى الارتفاع, وكان الطلاب يجمعون تباعد جماعاتهم ويكثفونها، لتصبح قوة متماسكة وهادرة عند بلوغنا قلب المدينة، قوتها الاقتصادية وثراؤها ومتاجرها وزحامها، وحول المظاهرة كان طلاب أشداء يلمون شملها حتى لا يقذف أحد منها حجرًا على واجهة متجر، أو واجهة نافذة زجاجية مغلقة، أو يسقط لافتة إعلانية، حتى لا نفسد سلمية المظاهرة، ولا نتيح للبوليس فرصة للتدخل، بعصي أو سلاح أو دروع.
أغلقت المتاجر أبوابها، وتسترت فتارينها بشبكات الحديد. وكان البوليس يسارع بدس عملائه من المخبرين بيننا لقذف الواجهات الزجاجية على جانبي الشارع بالأحجار، ليجد البوليس فرصته للتدخل لفض المظاهرة بقوة العصي، والقبض على البعض بتهمة العدوان على الممتلكات، وفي يده سلاح قانون الأحكام العسكرية، مع أن الحرب العالمية الثانية قد انتهت قبل شهور، وقانون منع التظاهر، وقانون منع الطلاب والموظفين من الاشتغال بالسياسة.
بدأ الصدام بالبوليس مع تدفق عساكره نازلين من عرباتهم السوداء، عند دخولنا فوهة شارع عباس الميدانية. وراحت هتافاتنا تعلو ويتردد صداها: تسقط إنجلترا العجوز الشمطاء. يسقط صدقي بيفن.
وفي ذلك اليوم بدأ يوم الأخوين، يوم كيوم قابيل وهابيل.
***
هبط العساكر من عرباتهم السوداء، قافزين منها الواحد بعد الآخر، في قلب شارع عباس بمدينة الزقازيق، شاهرين عصي الخيزران الطويلة الثقيلة في أيديهم. هرولوا نحونا قادمين من خلفنا صفًّا واحدًا بعرض الشارع. استدار المتظاهرون نحو العساكر، وقد زادت هتافاتهم واحتدت متحدية، فهم يدافعون عن الوطن، والشرطة تدافع في نظرنا عن السيدين صدقي وبيفن لا غير.
ورأيت طالبًا لم أره من قبل، يحمله متظاهرون، وهو يهتف من قلبه مستنهضًا الهمم: اليوم يوم الملحمة. كان طالبًا وسيمًا للغاية، أنيق العمامة، تبدو عليه نعمة أبناء أغنياء من الريف. والتحم الطلاب بالجند.
كان الطلاب على فقرهم أقوى عافية، وأصح بدنًا، يعرفون ما يدافعون عنه. وكانوا عزّلا إلا من عمائمهم. نزعوها عن رءوسهم، وجعلوا من شيلانها مقاليع كمقاليع داود، وراحوا يطوحون بها أحجار الطريق على العساكر، فيتَّقونها غالبًا بالتروس، وواصلوا هجومهم.
سرعان ما انتقلت العصي من أيدي العساكر إلى أيدي الطلاب الفتوات المراهقين. وراحوا يضربون بها العساكر، ويطاردونهم فيفرون عائدين، وهم يحمون رءوسهم بتروسهم.
لم يجد ضابطهم مفرًّا من سحب عساكره إلى سياراتهم، ليجلبوا منها بنادق الميزر الإيطالية والأنفيلد الإنجليزية، وشهروها نحو الطلاب، وهجموا بها صفًّا واحدًا بلا تروس, وراحوا يطلقون الرصاص فوق الرءوس وفي المليان. بدوا مدربين على فن القتل الرحيم المحدود.
تفرق الطلاب مسرعين كما الدجاج الفزع في أرجاء الشارع على طوله. اختفوا مسرعين في الحارات والطرقات يمنة إلى قلب حي كفر النظام، ويسرة إلى حارات كورنيش بحر مويس. لم تسعف السرعة البعض فألقى القبض عليهم، ولم ينج البعض، فسقطوا مضرجين في دمائهم بين قتيل وجريح.
انسحبت لداخلي في ساعة الهول الأعظم. فاجأني الجند مقبلين جهتي، وأسلحتهم مشرعة تبحث عن فرائس. أدركت في لحظة أنهم سيطلقون النار على أي شخص يجري، أو حتى لا يزال واقفًا. لم يكن أحدهم ينظر حواليه إلى الأرض والأرصفة. بادرت بالجلوس على الرصيف. كأن الأمر لا يعنيني، وكأنني لم أر شيئًا. تناولت ورقة ملقاة، ورحت أمزقها على مهل. ومر الجند بجانبي. لا أظن أن نظر أحدهم قد وقع عليّ، وكأنني جزء من رصيف الطريق.
حين ابتعدوا عني نهضت، وانعطفت في شارع سينما أبو لون. هالني ما أراه. كان شرطي على ساعده أربعة شرائط قد لحق بالطالب الوسيم، صاحب العمامة الأنيقة ويوم الملحمة. حاصره وحيدًا في مدخل السينما المغلق الأبواب، كأنه مكلف به وحده. وكان الوسيم رافعًا يديه مستسلمًا، لكن الشرطي راح يطلق عليه النار طلقة إثر طلقة. رأيت إحداها تفجر الدم من جبهته. سقط الوسيم يتخبط في دمه.
في الليل، ذهبت إلى مقهى البوسفور. كانت المقاهي، ولا تزال، نبض الشارع لمن لا يزال في جيبه مال. على المقهى عرفت أن الضحايا زادوا على عشرة من القتلى، والجرحى لا يعلم أحد عددهم بعد، ولا يجرؤ أحد على زيارتهم في المستشفيات. دخل المقهى طالب بجلباب. فاجأنا بقوله:
- أحمد عمر قتل. قتل في سينما أبو لون، بخمس رصاصات.
هو إذن الطالب الوسيم، صاحب اليوم: يوم الملحمة. فاجأنا الوافد بقوله:
- أتعرفون من كان الضابط الذي يقود العسكر، والذي أمر بضرب النار في الهواء وفي المليان.
ران الصمت علينا، والتفت إلينا من حولنا. قال الوافد:
- كان هو أخوه الشقيق.
ران الصمت وساد. تمتمتم أحدنا:
- هابيل وقابيل.
***
في الصباح، تسللت حافيًا إلى طريق المعهد بحي الحسينية. حجزني صف من الجند عند بائع الفول، قبل دكان البقال الشاعر "أبو عفارة"، ذو العينين الزجاجيتين. ارتددت إلى الخلف، ورحت أرقب المشهد. كانت الشرطة في كل مكان من حول المعهد، ومن حول ما حوله، إلى ترعة "أبو حسين"، كأن القيامة، وقد هدأت العاصفة، على وشك أن تقوم. قيل لنا ممن حولنا: إن شقيق أحمد عمر قد جن. فقد عقله وحمل إلى مستشفى الخانكة بالقاهرة. وقيل لنا ممن حولنا، إن طلابًا هاجموا في ظلام في الليل عددًا من الضباط كانوا جالسين أمام مطعم الفول يأكلون الساندويشات. كان الطلاب المهاجمون يحملون هراوات الطعمية. فاجأوهم وسط عساكرهم القليلي العدد، وشدخوا رءوسًا، وحطموا أكتافًا، وفروا هاربين، وكان بينهم ضابط كبير المقام فلقت رأسه نصفين، قيل لنا إنه كان حكمدار المديرية.
في الصباح التالي، حملت حقيبتي، وعدت بقطار الدلتا إلى أهلي بالسنبلاوين، فالدراسة قد تأجلت بالمعهد إلى أجل غير مسمى.
***
بعد شهرين عدنا إلى الدراسة. تمت مصالحة لا مفر منها. لم تكن المصالحة بين شيوخ المعهد الكبار ورجال المديرية الكبار في مدينة الزقازيق. كانت المصالحة بين طلاب المعهد ورجال المديرية الكبار. ونسى الكل دمه أو تناساه، فالأحياء دائمًا أبقى من الموتى. ورُوي لي أن من بادر بهذه المصالحة كانوا جماعة من طلاب المعهد المتبرعين بزعامته. بإيعاز من شيوخ المعهد الكبار. فالحكومة جريحة، والحكومة في النهاية والبداية هي الأقوى. لا بد من تراجع ما بالاعتذار مثلا من طلاب المعهد، وحين ذهب وفد من طلاب السنوات المتقدمة لمقابلة مدير المديرية وحكمدارها، رفض المدير والحكمدار مقابلة أعضاء الوفد، فرفاق لهما من الضباط والعساكر قد ماتوا. والطلاب زادوا فأخلوا بالأمن، وراحوا يغتالون رجال الدرك في ظلام الليل. ولم يجد طلاب الوفد وسيلة إلا بمظاهرة أخرى صامتة، تمارس ضغطًا خفيًا تتحدث به الصحف، تطالب بفتح المعهد لأبوابه، كي تعود الدراسة إلى المعهد، ولا تضيع سنة على طلاب المعهد.
ورُوِي لي أن طلاب المعهد تنادوا مصبحين وممسين، وتجمعوا في ساحة المديرية. لم يقفوا في هذه المرة أو يهتفوا. تجمعوا متفرقين في الساحة قادمين من طرق شتى. وجلسوا في الساحة. كما لو كانوا في حلقة من حلقات الاستعداد للذكر. وسارع الجنود بالإحاطة بالطلاب في الساحة, وبدأ تصفيق جماعي مهيب، متوسل ومهدد في آن واحد. تصفيق موحد ثلاثي الضربات، ومتتابع. أطل له مدير المديرية والحكمدار والضباط من النوافذ برهة. لم يكن ثمة هتاف. كان التصفيق يعبر بلغة الإيقاع عن الاعتذار والمناشدة والتحذير من الانفجار.
وراق المشهد والإيقاع لرجال المديرية الكبار، فتركوا الطلاب ساعة أو نحوها. ثم أطل مدير المديرية من الشرفة، وأشار بيده بحركة مسرحية مائلة توقف إثرها الإيقاع. وقال مدير المديرية للطلاب:
- عفا الله عما سلف. الأحياء أبقى من الراحلين. من غد عودوا إلى الدراسة بالمعهد.
***
في منتصف شهور الربيع من كل عام، كنا نحن المجاورين نعيش أيام الامتحانات الرهيبة. يركبنا الهم والقلق، ويملؤنا الخوف من نسيان ما ذاكرناه في اللحظة الحاسمة، لحظة الإجابة، والخوف من الفشل والرسوب، وملامات الأهل، ونظرات الصحب الشامتة أو الراثية أو الساخرة. نكون عائدين من قرانا ومدننا الصغيرة إلى المعهد لأداء الامتحان بعد شهر من المذاكرة، يبدأ مع أواخر شهر مارس من كل عام، وقد يمتد إلى شهر ونصف، ونكون قد تركنا المساكن التي كنا بها في الزقازيق، وفارقنا الرفقة الذين كنا نشاركهم السكن، توفيرًا لأجور السكنى عن أهلنا المساكين من الفقراء، ومن شرائح البرجوازيات الصغيرة. ويروح كل منا يبحث عن مثوى مؤقت لنفسه، أو مع غيره، لمدة أسبوع أو أسبوعين، في حي ما من أحياء الزقازيق القريبة من المعهد الديني بكفر "أبو حسين"، أو "الحسينية"، أو "أبو الريش"، أو "النحال". وكان أكثرنا يلجئه ضيق ذات اليد، وتجنب إرهاق الأهل، إلى الانضمام إلى طلاب عنابر السكن الداخلية بالمعهد، توفيرًا للمال، وحفاظًا على الوقت الذي نحتاج كل دقيقة منه، لخطف ساعة نوم، أو تدبير ساعة مذاكرة، دون حاجة إلى المشْوَرة، سعيًا إلى المعهد وعودة منه، وطلبًا للخبز والغموس من عند الباعة، وسط الزحام والذباب، والزعيق والصراخ.
في سكنى أيام الامتحانات بعنبر بالمعهد تحت جناح الإدارة، كانت ثمة حُصر مبسوطة بلا وسائد ولا مراتب على بلاط العنابر من الجدار إلى الجدار، وكان الفالح منا مَن يجد لنفسه مكانًا محفوظًا، يراعيه الكل تجنبًا للمشاكل، تحت نافذة بالقرب من ضوء النهار، وهواء الليل الرطيب. وفي سكناي المعهد شعرت بالراحة. كانت الحمامات قريبة، وكان المطعم مفتوحًا لمَن يطلب طعامًا أو شايًا أو سجائر تباع خفية للمحاسيب لندرة الصنف، أو قلة الموجود، في أي وقت من الليل أو النهار.
وفي المعهد كانت الفرص متاحة لسؤال الأكبر سنًًّا، والأرقى في سنوات الدراسة عن مواضع الأسئلة المرتقبة أو المتوقعة، وعن مَن وضعها هذا العام، ومدى رحمته أو قسوته في أسئلته، أو لسؤال أحد من اللاحقين لأحد من السابقين عما لا يفهمه في أي علم من العلوم. وفي المعهد كانت أربع باحات ممتدة لمشي المذاكرين رواحًا وجيئة في ساعات العصاري، تحريكًا للأرجل، وطلبًا للراحة من كثرة الجلوس على الحصر الجافة وسط العنابر.
وحين يأتي الغروب ترتفع حمى المذاكرة بين الطلاب الجالسين تحت أضواء المصابيح القوية المدلاة بالعنابر، ووسط زحام رهيب من قاطني العنابر، زحام لا تكون معه فرصة لأحد إلا لكي يجلس متربعًا، أو واضعًا ساقًا على فخذ، كما في تمارين اليوجا، والكتاب مفتوح في يده، والصوت عالٍ أو هامس في فمه، وهو يقرأ أو يكرر ويردد لنفسه ما قرأه: الخنازير تربى في الجنوب. الخنازير تربى في الجنوب. الخنازير تربى في الجنوب، وهو يهتز أمامًا وخلفًا ويمنة ويسرة، كأنه بذلك يثبت كل حرف وكل كلمة في كل خلية من خلايا جسده، وأحيانًا تأخذه الجلالة، تنبيهًا لنفسه، فيروح يضرب بكفه بطن قدم الساق العارية المرتفقة لفخذه، برتابة وانتظام وحماس وهمة: أيوه يا سيدي. بيقول لك إيه يا سيدي. الكل بلا استثناء يفعل ذلك صوتًا وأوضاعًا وحركة، والكل يقرأ في غير ما يقرؤه الآخر، ويزعق بغير ما يزعق به الآخر. خلية نحل لا تكف عن الزن، بل ورشة تتابع فيها ضربات مطارق الأكف على بطون الأقدام، وتتلاحق بأصواتها في نشازات لا حصر لها. والقادم على العنبر يشعر لأول وهلة كأنه قادم إلى يوم من أيام الحشر، ويحس بل يشم للأصوات رائحة كرائحة هبو النار ولفحها. وحين يتعب أحد المجتهدين المذاكرين، يتوسل إلى جار له ليمسك بكتابه، كي يسمِّع له ما حفظه من درس ما، وقد يتعبه الأمر كله، فيتوسل إلى من حوله ليوقظوه بعد ساعة أو ساعتين، وليفسحوا له مكانًا يمدد فيه بدنه، متوسدًا ساعده وعضده، أو واضعًا رأسه على صف متراصٍ من كتبه، وينام سريعًا في وهج الضوء، وضجة الأصوات. كف فجأة عن السمع والرؤية والكلام أيضًا، كما الرفات في القبور.
***
في هذا الجو الخرافي عشت أسبوع امتحانات لا ينسى. حسبي فيه ومنه ذكرى نهار لا يُنسى، وليلة لا تُمحى. على غير توقع، في ساعة عصاري هاج عبد المحسن. الشاب القصير القامة، الأعجف العود، الجاف العظام والجلد. الجاحظ العينين أبدًا، كان حين ينام في العنبر يغمض عينيه، لكنه بعد أن يستغرق في النوم، تنفتح عينه اليسرى محدقة كأنها ترى، ويظل سوادها وبياضها ثابتًا في محجر العين، حتى تظن أنه يراك، وتحرك يدك أمام عينه المفتوحة، فلا تتحرك له حدقة، ولا يهتز له رمش، ولا يرتعش بالضوء إنسان العين.
هاج عبد المحسن، ولا ندري من أين جلب نبوتًا يزيد طوله على طوله هو، وراح يضرب به كل ما تطوله يداه، كتابًا أو جدارًا، أو طالبًا طاله نبوته، وفر الكل من العنبر أمامه، يجرون يمنة ويسرة، وهو لا يطارد أحدًا، فهو يضرب فقط كل ما تطوله يداه وتراه عيناه الجاحظتان. وغادر في هياجه العنبر، وراح يجري في الباحات وساحة المعهد، والكل يبتعد عنه، وينظر إليه في دهشة محملقًا، ويسمع تضارب شتائمه الغامضة المزدحمة في فمه، إلى أن تسلل إليه فتوة من فتوات المعهد، وعبطه من الخلف ونزع عصاه، وجرى الفراشون والسعاة، وجاءوا بحبل وشدوا وثاقه، وعندئذ همد وبلّم، كأنه صار جثة وغادر الحياة بأسرها. وجاءت عربة، وأوثق عبد المحسن بكتاف المجانين، وابتعدت العربة خارجة به من المعهد. كان رفيقي في شقة بحي كفر النحال. كان فائق الذكاء سريع البديهة والفهم، وحتى اليوم لا أفهم سببًا واحدًا دفعه إلى الجنون. كل ما عرفته أن هذا الجنون كانت له مقدمة كانت في نهايتها جنونه.
صحا عبد المحسن صباح نهار جنونه من نومه بالعنبر هادئًا. وجلس على درج الامتحان هادئًا، وأخذ ورقة الأسئلة هادئًا. وأخرج قلمه هادئًا. وقرأ ورقة الأسئلة، أو هكذا بدا، هادئًا. وفي ظني أنه في تلك اللحظة، لم يفهم شيئًا مما يقرؤه، وراح يجيب على الأسئلة كلها، بكلمة واحدة: تعبان. تعبان. تعبان. ويظل يكررها إلى آخر الصفحة، فيقلبها إلى الصفحة التالية، ويكتب: ج2- ويعود يكتب: تعبان. تعبان. تعبان إلى آخر الصفحة. وحين انتهى من ملء الورقة كلها بهذه الكلمة نهض هادئًا، وسلم الورقة للمراقب هادئًا، وغادر قاعة الامتحان هادئًا، وعبر الردهة هادئًا، ونزل الدرج وسار في الباحة إلى العنبر هادئًا، وطوى ساعده تحت رأسه، ونام في موضعه بالركن المظلم من العنبر هادئًا. وعند العصر صحا هائجًا وكان ما كان. واختفى عبد المحسن، وبقيت ذكراه معي زمانًا بعد زمان.
في الليل، حاول الكل في عنبرنا أن ينسى، بل أن يتجاهل مأساة عبد المحسن، فغدًا امتحان آخر، ووقت البكاء عليه، والرثاء له، لم يحن بعد. فسوف ننتهي من الامتحانات، ونأكل وننام جيدًا في بيوت أهالينا في القرى والمدن على طول الساحل الشرقي لفرع دمياط، وحين نصحو نبحث عن ركن وحيد وخفي لنبكي عبد المحسن، أو لنتذكره بعيون جامدة، ونقرأ على روحه الفاتحة، فمن يذهب إلى مستشفى المجانين لا يعود منها فيما نعتقد ونعرف. مات عبد المحسن في اللحظة التي طوق جسده وساعداه فيه بكفن الكتاف. ومن العجيب أنه كان مستسلمًا وهادئًا. واتخذت لنفسي قرارًا ألا أسمح لنفسي بالجنون قط، في عالم مثير للجنون.
***
في تلك الليلة ظللت أذاكر النحو مرة أخرى لسنة تالية في كتاب "قطر الندى وبل الصدى" حتى الرابعة صباحًا، في ذات العنبر الذي كان به عبد المحسن، ولشدة حاجتي إلى النوم، ورغبتي في الهرب من رؤية مكان عبد المحسن في ركنه الخاص بالعنبر شاغرًا، يأبى أي أحد أن يجلس فيه، أو يرقد به، وكأنه سيعود إليه في أي لحظة، أو كأنه قد مات وما زال راقدًا فيه يشغله، أو كأن مَن يجلس فيه أو يرقد سيلقى مصيره. كانت كل العنابر ملأى، وكل العنابر مزدحمة. وألححت على مَن حولي ليوقظوني في السادسة صباحًا قبل موعد امتحان النحو بساعتين. وقاربت الساعتان نهايتهما، وأنا لا أزال غارقًا في النوم، وعبثًا حاول كل من بالعنبر إيقاظي من نومي بكل الحيل. كنت كما الجثة الهامدة، أو الحي الذي دخل في سبات لا صحو منه، ولا حياة ولا موت. في النهاية. أغرقوني بجردل مليء بالماء، وأجلسوني، وغيروا لي ثيابي.
على درج الامتحان كنت لا أزال بين النوم والصحو مترقبًا ورقة الأسئلة. قرأت الأسئلة، فعرفت معظم إجابتها على الفور، لكن لم تكن بي طاقة ما للكتابة، ولا حتى للإمساك بالقلم. قلت للمراقب:
- سأنام نصف ساعة. صحيني من فضلك لأجيب هذه الأسئلة السهلة بمشيئة الله.
ابتسم المراقب وأكد لي أنه سيوقظني. وعبثًا حاول، فكلما صحوت عدت للنوم، حتى دق الجرس، وسحب المراقب ورقة الإجابة خالية من تحت يدي النائمة معي، وليس بها سوى اسمي ورقم جلوسي، وسطورها الزرقاء الخالية. وعدت إلى العنبر لأكمل نومي محبطًا إلى ساعة الغروب. ولم أحمل همًّا حين صحوت. ففي تلك السنة كان قد تقرر السماح بدور ثان لمن رسب في مادة أو أكثر بالامتحان الأول. ورحت أستعد هادئًا لأنجو من الرسوب في الامتحانات التالية.
لم تكن خيبة الأمل في امتحان النحو خيبة لي وحدي. كانت معها خيبة أخرى بل كارثة كبرى في حياة مجاور شاب، كان درجه على يمين درجي في قاعة الامتحان هذا العام. انفرد بي ساعة الغروب، تحت مصباح شديد الضوء بساحة المعهد يوم جنون عبد المحسن، وباح لي بأنه خائف أشد الخوف من امتحان النحو هذا العام، لأنه لم يذاكره في شهر المذاكرة سوى مرة واحدة، ولأن أباه صاحب الفدانين من الأرض، كان يفرض عليه العمل معه في ري الأرض، وزرعها، وتخضيرها، وقلع حشائشها، في نهارات ذلك الشهر، قائلا له:"وكنت بتعمل إيه يا فالح طول السنة في المعهد، لما جاي تذاكر لي هنا"، وأقسم له بأنه سيطلق أمه، ويطرده من البيت هو وهي لو رسب في الامتحان هذا العام، وراح المجاور الشاب يرجوني كي أغششه أجوبة الأسئلة الصعبة، فوعدته ليس بتغشيشه فقط، وإنما أيضًا بإجابة ورقة امتحانه بخطي مع ورقتي، عندما أنتهي من إجابة ورقتي، أعطيه ورقتي وآخذ ورقته. وكان هو الذي أيقظني من سابع نومة بجردل الماء، وغير لي ثيابي. لكنني غدرت به، وبنفسي، وواصلت النوم طوال ساعتيْ امتحان النحو.
في ذلك العام بر أبوه بوعده، وطلق أمه، وطرده هو وهي من البيت، فقد اختفى المجاور الشاب من المعهد في العام التالي، وأخبرني بلدياته بأن أخواله فتحوا له دكانة لبيع الكراملة والإبر والخيوط وسواها بحارة من حارات القرية.
***
عند وصولي إلى بيتنا الجديد بشارع عبد المنعم تركت حقيبة سفري لأمي، وبحثت عن جدي في غرف البيت. كنت حقيقة مشتاقًا إليه، وشديد الخوف عليه، سألت جدي:
- ما رأيك في هذا البيت؟
فقال لي:
- كويس. شمس وهوا، وكنيف إفرنجي. بدل كنيف الأرض اللي بيوجع الضهر.
قلت له ضاحكًا:
- جيت لك يا جدي. حنخرج سوا، ونروح عند العرضحالجي. والمرة دي حندخل جنينة المركز، ونقعد تحت الشجر اللي طول عمرك بتحبه.
ابتسم جدي بمرارة، وقال:
- فات الوقت يا ابو داود. قول يا صحة. مين يقدر يطلع السلم، وينزل السلم. بيت عزبة حبيب كان درجة واحدة، والا درجتين، على وش الأرض.
قلت له على الفور:
- تحت الشقة دي أوضتين. تعيش فيها انت وزكية وانا كمان معاكم.
فقال لي:
- اعمل معروف. ما تعملش مشاكل يا ابو داود وتزعل ابوك. وإن كان فوق والا تحت، المشي بقى صعب عليه يا ابو داود. اعمل معروف.
ولم أفهم إلا فيما بعد كيف أن أبي كان سيزعل لهذا السبب.
***
حين جاءت إلى بيت الأهل بالبريد نتيجة امتحاني في الدور الأول من المعهد، سألتني أمي مبتهجة ومتفائلة:
- هيه نجحت؟
ضحكت وقلت لها بيقين:
- صاحبي أبو المعاطي نجح.
كنت على يقين من نجاحه، مع أنه لم يخبرني، فهو في قريته مع أهله. فقالت لي أمي منزعجة:
- يا خيبتي. صاحبك نجح. طب وانت؟
قلت لها:
-عندي مادة واحدة. سأنجح فيها إن شاء الله في امتحان الدور الثاني بعد شهرين. السنه دي سمحوا لنا بدور تاني.
فقالت لي:
- يا خيبتك. وفرحان اللي صاحبك نجح. يا فرحتي.
كانت أمام كلمة النحو في النهر المجاور دائرة حمراء. وفي وسطها صفر بالحبر الأحمر، ولم يتردد محرر الشهادة في تفقيط الصفر، فقد كتب في النهر التالي: صفر واحد. وأغرقت في الضحك عليه وعلى نفسي.
***
كان بيتنا الجديد بشارع عبد المنعم بيتًا جديرًا حقًّا بشرائه. كان من طابقين، وعلى سطحه غير المسور كانت غرفة للغسيل، وأمامه كانت فسحة للشموسة الشتوية، ولسهر الليل الصيفي لمن يريد مع القمر والنجوم، وكان البيت على ناصية بشارع عبد المنعم عند انعطافة الشارع. وكأن البيت كان معدًّا على مقاس أبي المتصوف بلا لحية في ذقنه، ولا عدبة في عمامته.
على يسار الداخل من البيت وراء دكان النجار، وتحت حضن السلم، كانت ميضأة بها حوض أسمنتي مستطيل له بلاعته الخاصة، وفوق الحوض على امتداده صف من الحنفيات لوضوء المريدين والضيوف حين يأتون تمامًا كما في المساجد. وفوق الغرفتين والميضاة، وفوق بيت آخر مسكون وراء بيتنا، وراء الغرفتين والميضأة، كانت شقتنا السكنية، وبها سلم يؤدي إلى السطح.
كانت شقتنا السكنية بالطابق الثاني: غرفتان على اليمين والسلم والحمام وغرفة بعده، وغرفة مشمسة في مواجهة الداخل إلى البيت. وبين الغرف كانت صالتان مفتوحتين. وكانت شقتنا السكنية هذه بالأعلى أكثر عمقًا، وأرحب مساحة مما تحتها. وفي الغرفة المجاورة للحمام، كان يقيم جدي وزوجة جدي، اختارها جدي لتكون قريبة من الحمام، لكثرة حاجته إليه، مثله مثل كل المسنين، في الليل والنهار.
في الطابق الأول بجوار باب البيت كانت دكانة يصعد إليها بدرجة من الحجر أجرها أبي لنجار. وعلى يمين الباب كان باب بالمدخل يؤدي إلى غرفتين، إحداهما داخل الأخرى مفروشتين بالحصر، ولصق باب المدخل وجداره فيهما كانت كنبة. وكان أبي يفتح الغرفتين عصر كل يوم جمعة لأتباع الطريقة التيجانية بالسنبلاوين، والذين يتبعونه بدوره، فهو أعلى منهم في سلم الترقي بالطريقة. يصلي بهم العصر، ثم يجلسون في حلقة مستطيلة على داير الجدران بالغرفتين، يقرؤون معًا، وبصوت واحد، مرتلين ومتغنين، وهم يهتزون كيفما شاء كل منهم أمامًا وخلف ويمنة ويسرة، وِرد: "جوهرة اليقين" وهو ورد الطريقة الأسبوعي للمريدين، ويكررونه حتى الغروب.
وحاول أبي أن يشركني في حلقة أوراده. ولم لا وأنا طالب بالأزهر؟ وأن يدفعني إلى حفظ الورد أنا الذي أنساني الشيطان حفظي للقرآن نفسه، وأجتهد عند كل امتحان شفهي في أعوامي الدراسية كلها، لإعادة حفظ ما تيسر لي من أوائل السور المائة والأربعة عشر، ومن أوائل أرباعه المائتين والأربعين، في كل القرآن الكريم.
كانت ألفاظ الورد مغربية متفلسفة الكلمات، تكاد تكون مغلقة المعاني، كما وضعها مؤسس الطريقة المغربي الأول. فشلت في حفظها كراهية لكلماتها المصدرية الألفاظ، وإضافاتها وصفاتها، فاكتفى مني أبي بأن يعطيني كتاب الأوراد، ويسمح لي بقراءة ورد جوهرة اليقين مع رفاقه التيجانيين من الكتاب، لعل كثرة التكرار أن تأتي بنتيجة وتعلم.. ابن الدار. وكنت أعجب لأن بين هؤلاء المريدين أميين، ومع ذلك فهم يحفظون الورد كما هو دون خطأ في الإعراب، ودون فهم لأي معنى أيضًا، تمامًا كما كنا نحن الصبية نحفظ آيات القرآن، وكما يحفظ عميان القرى والمقابر الأميون آي القرأن، ودروس الأزهر، ويعيدونها غيبًا عن ظهر قلب. ومن قبل كان أبي يقرأ هذا الورد وحده عصر كل جمعة منفردًا بصوت هامس حينًا، وفي سره حينًا. وفي غير هذا اليوم كانت الغرفتان تظلان خاليتين إلا إذا جاءهما ضيف تيجاني مغترب وافد، يمر بالسنبلاوين مرورًا عابرًا. عندئذ تصبح الغرفتان مقرًّا لضيافته، طوال إقامته، لا يغرم فيها مليمًا واحدًا.
***
استجبت لما يريده أبي مرة، وربما أكثر من مرة، ثم صرت أهجّ في أنحاء السنبلاوين، قبل عصاري أيام الجمع إلى ما بعد عشاءاتها، حتى يئس مني أبي. وحين ذكرني أبي ذات مرة وأنا جالس وحيدًا بهاتين الغرفتين بورد جوهرة اليقين، وكأنني قد أخذت العهد مثله بالفعل للسير في هذه الطريقة، لمجرد أنني ابنه. قلت له وبلغة فصحى متعالمة لأبهره، ولأوقفه عند حده:
- صارت الأوراد قرآنات أخرى. لم لا تقرؤون القرآن نفسه؟
وجم أبي. ساده الحزن برهة خاطفة. نظر إليّ. أدرك أنه سيخسر النقاش لو دخل معي في جدل. فلا جواب لديه. ولم يكن على استعداد بأن يهتز له إيمان بطريقته وأوراده وشيخه.
تركني أبي. وصعد السلم إلى أعلى غير راضٍ عني، وواصلت الاستفادة الشخصية من الغرفتين لنفسي، ولم تكن بأولاهما سوى نافذة واحدة. أجلس فيهما أينما شئت، على الحصير، أو أستلقي على الكنبة، ظهرًا أو بطنًا، أو مسندًا ظهري إلى جدار أو وسادة. وأقرأ في مرايا عصري: روايات الجيب، وأنام على الكنبة في الليل. وكانت أمي تضحك عليّ لملازمتي الغرفتين، وتقول لي:
- بقيت بواب.
فأقول لها:
- يا ريت. أحسن شغلة في الدنيا من غير شغل ولا مشغلة. ولا جري ورا اللقمة والقرش.
وتضحك زوجة جدي، وتقول لأمي مداعبة وضاحكة:
- ما تيجي نجوزه فيها.
فيعبس وجه أمي، وتقول لها مغاضبة:
- تفي من بقك تفي. ما تفتحيش لنا فاتوحة.
***
مع انتقال الأسرة لهذا البيت بدأ جدي ينسحب في نفسه ممن حوله، وبدأ عقله ينسحب من اليقظة إلى النوم، ومن التذكر إلى النسيان، يتذكر كل ما هو قديم في ذاكرته، طفولته وشبابه والخديوي عباس حلمي والسلطان حسين والخديوي توفيق وآباءه وأجداده، وحكايات شبابه وصباه. يسألك فجأة فيها وعنها كأنك تعرفها معه ومثله. وحين تسأله أو تذكره بشيء قريب العهد، يقول لك بعد لحظة صمت وجهد للتذكر:
- مش فاكر.
وأحيانًا يصحو من النوم، ويرى ابنه مقبلا نحوه، فيرفع رأسه إليه، ويقول له:
- انت مين؟
ويذكره أبي بنفسه، واسمه، فيبذل جهدًا ليتذكر، فيتظاهر بأنه قد تذكر. وفجأة يسأله وكأنه يسألني أنا:
- انت خدت الابتدائية والا لسه.
تعلم أبي بالجامع الأحمدي بطنطا في حلقات درس، ولم يكن على عهده مرحلة ابتدائية. كان طلاب الأزهر في جامعه الأكبر، وجوامعه الفرعية يدرسون في حلقات تحيط بشيخ عمود لمادة دراسية. ويسأل جدي أبي فجأة، كأنه لا يصدق بعد أنه ابنه:
- أمك اسمها ايه. هيه فين؟ ما باشوفهاش ليه. كده؟ امته حصل ده؟ الله يرحمها.
ويسكت فجأة ويشرد. ثم يقول:
- أنا مش عارف هوه ما بيجيش ليه.
عندئذ يخرج أبي حتى لا يبكي، هو الذي لم أره باكيًا قط. وأسأل جدي:
- هوه مين؟
فيقول لي مؤكدًا:
- هوه. هوه طبعًا. فيه غيره.
وأفهم أنه يسأل عن الموت، ويبحث في نفسه عن اسمه. وأخشى أن أنطق به له. وأشعر أنه يحس به في داخله، وربما يراه بعينيه رابضًا في ركن بالغرفة، فألزم الصمت لكي ينساه. يقول لي:
- مددني. أنا عايز أنام.
ويكون قد صحا من النوم قبل ساعة أو أقل. أمدده. أشعر أنه يدخل في غيبوبة توشك أن تكون سباتًا، ويظنها هو، ونظنها نحن، نومًا. فجأة يفتح عينيه وأنا أرقبه، ويروح يحدثني عن أبيه الدريني الذي كان جنديًّا بالجيش في السودان، ونجح في الفرار من حرب الحبشة مع ضابطه. كان ضابطه يركب حصانه ويجري به نحو السودان، وكان هو جد أبي يجري وراءه ممسكًا بذيل الحصان، فلم يقع أسيرًا في يد الأحباش، فلو نجا من الموت ووقع أسيرًا في أيدهم كانوا سيخصونه أولا، ثم يعيدونه إلى مصر. وابتسم جدي، وقال لي:
- ساعتها يا ابو داود لا كنت أنا، ولا ابوك، ولا انت.
ويروح في سباته الخاص. وقيل لي من زوجة جدي إن جدي على هذه الحال منذ شهور، وقال لي أبي إن خلايا مخه تضمر، وأنسجته الضامة تذوي.
ولا يلبث جدي أن يدخل بالفعل في حالة سبات متصلة. يعملها على نفسه. ويذكر الطبيب لنا ما يمكن أن نفهمه: معدته نعمت، وهضمه توقف. وتروح زوجة جدي تغذيه بالملعقة. وتحمل ثيايه كل يوم لتغسلها في الترعة بعيدًا عن البيت. شقيت تحت رجليه كما لم تشق امرأة أيوب الصابر، ولا يشفي أيوب، ولا تعود هي إلي حيويتها ودمها الخفيف.
فجأة تأتي زكية زوجة جدي، وتقول لأبي:
- أبوك صحي وعايزك.
قال له جدي وقد عاد إليه وعيه، فيما ظنناه صحوة الموت:
- روحني البلد يا ابني. أنا خلاص. حاقابل وجه كريم.
وكان سعيدًا يبتسم. أتى أخيرًا ما كان ينتظر أن يأتي. وحين خرج أبي من عنده، دعتني زوجة جدي لأذهب إلى جدي. قال لي جدي:
- تعرف يا ابو داود أنا كنت فين؟
ولم ينتظر مني كلمة. قال لفوره حالمًا ومبتسمًا:
- كنت في الجنة. باكل عنب من الجنة.
ومد يده في الهواء، وأمسك بقُطف عنب لا أراه. وجذب منه حبة لا أراها، ووضعها في فمه. وراح يمضغها متلذذًا. راقبته. فتوقف، وقال لي كأنه قد ابتلع ما أكله:
- ابو داود. خليك مع ابوك. ما تسيبش أبوك أبدًا يا ابو داود.
كنت حفيده الأكبر ورب الأسرة من بعد أبي.
***
في اليوم نفسه عصرًا، عجل أبي فاستأجر عربة خاصة صحب فيها جدي وأمي وزوجة جدي, وسافروا إلى بيتنا الكبير المهجور والمباع، والذي ينتظر من اشتراه تسلمه في أقرب فرصة. وفرض أبي عليّ البقاء مع إخوتي في البيت إلى حين عودتهم. فرحنا نتحدث معًا بلا نفس، ولكننا ظللنا نتحدث ونحيا، كأن لا شيء يحدث، ولا موت يقترب.
مات جدي، ودفن جدي، وعاد أبي وأمي وزوجة جدي، وليس معهم مفتاح البيت الكبير. مات البيت الكبير مع موت جدي. ولم تسقط من عيني دمعة، ولا أذكر أن أحدًا من حولي قد رأيته يبكي. كنا فقط نتحرك ونسعى ونتكلم واجمين، وكأننا نخاف أن نبكي وننسى، وفي القلوب ظل الحزن قابعًا متجمدًا مفتوح العينين.
(5)
إلى مقهى البوسفور دخلت منهكًا، متعب القدمين وعضلات الساقين. جلست على مقعد شاغر. لمحني الجرسون، ووعى حالتي، فجاءني بزجاجة كوكاكولا. قال لي:
- بل ريقك. أكيد تعبت.
سمع تصفيق زبون، فقال لي على عجل:
- على الله تكون لقيت سكن. السكن كتير زي الهم ع القلب.
وقبل أن يقول شيئًا آخر، تركني وسارع إلى الزبون الذي يعاود تصفيقه. ولم يلبث أن عاد إلى حاملا حقيبتي من مقبضها، ووضعها بجانبي. قلت له:
- يا ريت. خليها عندك لسه ما لقيتش سكن.
فقال لي متأففًا:
- لسه؟ خليها جنبك. وانت جاي ماشي آخدها منك.
وهم بالذهاب عني لعمله في وقت الزحمة، وكانت الشمس تنحدر غربًا، والظلال تتمدد وتتسارع في التزايد بالميدان، وسمعته يقول لي:
- حتبات فين؟ بيتي تحت أمرك.
وتركني مسرعًا.
بالقرب مني رأيته يحدق بي. فكرت أنني أعرفه. رأيته في السنبلاوين مرارًا، يخطر ببدلته البنية المقلمة الجاكت في مربعات. رأيته مرة أو مرتين في حوش المعهد. كان يلفت نظري إليه بوجهه البيضاوي، وكأنه رسم بمسمار وخيط، ثم شكل فيه الوجه اللحيم، وزرعت العينان الملونتان الضيقتان. هو إذن بلدياتي ومجاور مثلي. يجلس معه من أعرفه أيضًا من ساحة المعهد وشارع القنطرة بالسنبلاوين. شاب لوحي القوام، محدد ملامح الوجه والكفين، لا تفارق الابتسامة وجهه، حتى وهو صامت وشارد, لكنه فيما قدرت دائمًا تحذر رائيه وتنذره، فهو شديد الاعتداد فيما أقدر بنفسه.
ابتسم لي من يحدق بي، ونهض نحوي. قال لي بأدب:
- تسمح أقعد معاك؟
أومأت له برأسي فجلس. نظر إلى حقيبتي، وقال لي:
- لقيت سكن؟
هززت له رأسي نفيًا. قلت:
- حفيت من حي لحي. يا قلب لا تحزن. سكن كتير. وكله يطفش أو يخوف. سكن هنا جحر. وسكن هناك صاحبته تقول لك دايما: وادي الحمام والطشت. في أي وقت أنا تحت أمرك. اسخن لك ميه. وادلك لك ضهرك.
ضحك من قلبه. قال:
- دا انت هايل ولقطه. حد يسيب السكن مع ست بتقول له: أنا تحت أمرك.
غاظني ضحكه. قال لي:
- بتدور على السكن بنفسك؟
نظرت إليه مستفهمًا عما يقصده. قال لي:
- اسأل مكوجي. بقال. حتى عربجي. قول له على طلبك وأجرتك وشروطك حيفهم في الحال نوعك، ويجيب لك في الحال طلبك. حيستفيد منك ع الجانبين. منك حته بعشرة، ومن صاحب السكن أو صاحبته حته بعشرة.
تأملته بدهشة. خطر لي خاطر للتأكد سألته:
- انت من السنبلاوين نفسها؟
فقال:
- أيوه.
وأضاف وقد فهم ما أفكر فيه:
- وانت منين في الأرياف؟
فلت له:
- من بلد اسمها كده يا فرعوني يا تركي. الله أعلم: برهمتوش.
فقال لي وكأنه يشتغل في الري أو المساحة:
- كل البلاد حواليها من بحيرة المنزلة لفرع دمياط اسمها غريب. أكيد فرعونية كلها، وعلى أراضي عاليه زي التلال. مش كده.
تأملته بدهشة فقال لي:
- أبويا مهندس ري، وياما سافرت معاه في البلاد.
لزمت الصمت لحظة، فقريتي كانت فعلا فوق تل.
قال لي:
- أنا اسمي متولي.
التفت نحو صاحبه الذي يجلس هناك وحيدًا يراقبني ويراقبه بنظرة ذكية، بدا لي أنه يفهم كل كلمة، وهو على مسافة لا يمكن معها أن يسمعنا. ربما من حركات الرأس والأيدي، وربما من حركة الشفاه وإيماءات الرأس. أشار متولي نحوه قائلا لي:
- صاحبي اسمه حموده.
وضحك. وتغنى: حموده جاي يا بنت الجيران. ثم قال لي:
- اوعى يسمعك بتغني كده. بيغضب منك ويخاصمك خصومة ما ينساهاش. زي ما تغني لواحد طويل وتقول له: يا نخلتين في العلالي. يا بلحهم دوا.
ضحكت من قلبي لظرفه ودعابته. قلت له وقد أحببته:
- اسمي يا سيدي.
فقال لي في الحال:
- سليمان وابوك الشيخ عبد المعطي. وبالأمارة ساكنين بشارع عبد المنعم.
دهشت. فقال لي ضاحكًا:
- أنا ابن السنبلاوين جدا عن جد. وباحب علم الأنساب.
تمنيت في تلك اللحظة أن أسكن معه ومع صاحبه، أيا كان الحي الذي يسكنان فيه. أشار متولي إلى حمودة ليأتي ويجلس معنا، فأشار بيده بما معناه: تعالوا انتم. قلت لمتولي وقد أدركت إشارة حمودة:
- دا إنف قوي. تعال يا سيدي نقعد معاه.
قال لي متولي قبل أن ننهض:
- الأول. قل لي إنك موافق تسكن معانا. تلاته يعيشوا مع بعض أحسن من اتنين. زيادة لأ. خناقات ومشاكل. واتنين ممل. والوحدة عذاب.
قلت له في الحال:
- موافق.
وأضفت:
- إذا وافق صاحبك حمودة. العشرة بالتراضي يا صاحبي.
نظر إليّ بدهشة. قال:
- دا انت أروبة. تعجبني حكمتك.
قلت له:
- زي حكمتك بالضبط. أنا زي الميه. باتشكل بلون الكوباية.
فقال لي وهو ينهض:
- يعني باختصار: بتاخد الكل على قد عقله، وتريح دماغك، ودماغ اللي تعرفه.
دهشت من نفسي لأنني بحت بما في نفسي عن نفسي وفهمي لطبعي. وانصرفت دهشتي إلى متولي، وهو ينحني، ويحمل عني حقيبتي، ويسير بها إلى حيث يجلس حمودة.
فور جلوسنا مع حمودة، قال حمودة لمتولي بتأفف:
- دا زميلنا الجديد في السكن.
فلم يرد عليه متولي. فقط التفت إليّ، ربما ليرد على حمودة بمبرر لاختياري للسكنى معهما. سألني:
- بتلعب شطرنج؟
قلت:
- ودمنه وطاوله وكوتشينة.
وأضفت:
- بس على قدي. مش حريف يعني.
فقال لي ضاحكًا:
- كويس جدا. يعني حاغلبك على طول. حاكم انا بقى باحب أقوم غالب.
والتفت إلى حمودة قائلا:
- شفت بقى. مش زيك ما بتحبش اللعب. يا كله مذاكره. يا كله نوم.
فقال له حموده دون أن ينظر إليّ:
- هنيئًا لك. بس يسكن معاك في أوضتك. أنا باحب أسكن لوحدي، وانام لوحدي، حتى مع أهلي.
فقال له متولي بغيظ:
- باين عليك مش موافق على سكن حد تاني معانا السنة دي.
فقال له حمودة:
- أنا ما قلتش لك لأ. أنا قلت لك شرطي. يا اسيب السكن واسكن لوحدي.
والتفت إليّ قائلا:
- اللي يحب واحدة يفضحها باسمها، وعلى صفحات الجرايد. طب قول فيها شعر زي علي الصياد، زي قيس.
فضحك متولي، وقال لي معلقًا:
- أصله ياسيدي بيقرا الإصلاح كل أسبوع كلمة كلمة. الجريدة الوحيدة اللي بيقراها قبل ما ينام. أبوه بيشتريها ويدفع تمنها.
في تلك الليلة فاجأني متولي بشخصيته. تصرف كأخ أكبر وأب ومسئول. استأجر عربة كارو، وسار معي بجانبها إلى المعهد الديني، وجلب معي سريري من عند عم مرسي بواب المعهد، وصندوقًا كارتونيًّا به رفايع السكن الأخرى: الوابور، والأطباق، والسكين، والبراد، والملعقتان، والحلتان، وإبرة الوابور، وفوطة التنشيف للمواعين. والكتب والمجلات التي أحتفظ ببعضها. وعدنا معًا سائرين بجوار العربة الكارو.
كان البيت في الطابق الثاني بحي الحسينية، وكانت غرفتي أنا ومتولي الأكثر نورًا وإضاءة، وكأنها معدة لتكون غرفة استقبال، وبدت لي غرفة حمودة معدة لتكون غرفة نوم مثل كهوف البيات الشتوي. وبين الغرفتين كانت طرقة يسميها أهل البيت صالة. وأمام الغرفتين كان سطح قد تلبد فيه الطين بالقش، وفي ركن منه كوم من القش لإشعال فرن البيت به، عند الخبيز على السريع لصنع فطيرة أو طهي شيء بالفرن، وفي الطرف المقابل للغرفتين، كان منور يسقط بعض الضوء على حوش البيت تحته، ويرفع أدخنة البيت والوابور إلى سماء الحي الفسيحة. وعجبت حين عرفت من متولي أن هذا البيت له صاحب رجل لا صاحبة، يدير أموره كلها. على العكس تمامًا من سواد البيوت التي سكنتها في مدينة الزقازيق.
وتابعني حمودة أنا ومتولي ونحن نضع متاعي بالغرفة، وعجب حمودة لشكل سريري الذي يطبق كأنه حقيبة من شرائط الحديد. وعجب لأن لدي بعض الكتب، وقال لي:
- دانا حاقرا على حسك قراية.
وأضاف ضاحكًا:
- أنا باحب القراية بس ببلاش. عندك مانع؟
ولم أقل له سوى:
- نقريك لوجه الله، ونكسب فيك ثواب.
عندئذ عبس حمودة. وانصرف من غرفتنا إلى غرفته. فقال لي متولي:
- خد بالك: حمودة يحب إنه هوه بس اللي يهزر. وما بيحبش حد يهزر معاه.
فهمت حدود حمودة. والتزمت الحذر معه طوال شهور الدراسة.
***
لصاحب البيت كانت زوجة وابنة صغيرة من زوجة ماتت أمها. ومثل الحمام لافت الابنة الصغيرة وهي ابنة صاحب البيت على متولي، وتعلقت به. أسميتها سندريلا. وجدت عند متولي أبًا لم تجده في أبيها، وحنان أمومة لم تجده عند زوجة أبيها. وأخًا تلعب معه على السطح كرة يد ككرة التنس. ومتولي دائم التحذير لها وهي تجري على السطح الصغير المساحة، خوفًا عليها من السقوط من المنور. وكانت زوجة الأب لا تكف عن مناداتها، فتثير الرعب والخوف في قلب اليتيمة الأم، وتسارع بنزول درج السلم، خوفًا من عقاب الشكوى لأبيها. ووعى حمودة وحده ما سوف يحدث. راح ذات ليلة يحذر متولي من نتائج لعبه مع البنت. سيغضب الأب يومًا. قد تقع البنت من المنور. قد تغرم البنت بمتولي.
***
ذات نهار، قرب الغروب، وقع المحظور. سقطت البنت في المنور. وشرخ ساعدها على أرض يابسة لا حنان فيها، وكان اسمها هو: حنان. واصفر وجه متولي. وعاد الأب مسرعًا إلى البيت، وحمل ابنته إلى المستشفى، فجبسها له وراحت البنت، ابنة السنوات التسع، تصرخ في قلب الليلة من الألم، وهي تبكي مرددة: أنا عايزة متولي. هاتوا لي متولي.
وفي ظلام الليل صعد إلينا أبو حنان، وطلب منا الرحيل في الصباح عن بيته. لم يقل شيئًا آخر، وتركنا ونزل إلى زوجته وابنته. وراح حمودة ينظر إلى متولي متجهمًا. لم يقل أحدنا للآخر شيئًا، أي شيء، عما حدث.
عند الضحى عاد إلينا متولي ومعه كانت عربة كارو، وانتقلنا إلى بيت آخر بطرف حي كفر النحال، تطل واجهته على ساحة مسجد "أبو خليل" المكشوفة، وعلى طريق معبد مفتوح للشمس والهواء والحر والبرد وظلام الليل وضوء النهار. كان الإنجليز قد رحلوا عن هذه الساحة، وتمنيت كلما أطللت من نافذة غرفتي، أن تصبح الساحة حديقة، وأن تتناثر في الحديقة أشجار وشجيرات وتكسو أرضها حشائش خضراء.
أحيانًا كنا نتسرب من البيت معًا أو فرادي. نذهب إلى المسجد لنصلي كي نؤدي حق المسجد في دخوله. ثم نبحث عن عمود به، بقرب نافذة مشعة بضوء النهار، أو تتدلى من سقفه مصابيح نجفة. واعتدنا نحن المجاورين أن نتحف مؤذن المسجد وسعاته بالشلنات والقروش، ليتركوا لنا المسجد مفتوحًا ومضاء طوال الليل، وكنا نقول لهم طلب العلم أيضًا عبادة وفريضة. ولم يكن ثمة عمود واحد بمسجد "أبو خليل" لا يجلس تحته مجاور أو أكثر من مجاور، هربًا من ذبالات مصابيحنا الضعيفة الضوء، وغرفنا المقبضة الهواء والجدران.
***
في بيتنا عند مسجد "أبو خليل". كانت تعيش امرأة وحيدة في غرفة كما الزنزانة. عرضها متر لا غير وطولها متر ونصف لا غير، ولا نافذة بها لهواء أو ضوء. كانت الغرفة عند بسطة درجة السلم، وبجانبها مرحاض البيت العام لكل أهل البيت، وكنا نحن سكان البيت في أعلاه وأسفله نرقب باب المرحاض ننتظر خلوه، والإسراع إليه قبل غيرنا. ولم أر ساكنة هذه الغرفة سوى مرة واحدة أو مرتين. وهي عائدة من الخارج تصحب معها طفلا صغيرًا ابن ثلاثة أعوام، وتدخل غرفتها مع ابنها على عجل، وتغلقها بالمفتاح، وتضيء مصباحًا نمرة خمسة في عز النهار، نرى نوره من خصاص ألواح الباب وفرجه القليلة. ثم لا نراها نحن سكان الغرفتين داخلة أو خارجة.
سأل متولي عنها صاحبة الببت، فأخبرته بحالها. كانت مطلقة، وتعيش على نفقة جنيه واحد مع ابنها منذ عامين. في المرة أو المرتين اللتين رأيت فيها تلك التي لم أعرف لها اسمًا، بهرني وجهها وعودها. قوام لا أبدع. ووجه لا مثيل لجماله وجاذبيته وخفة ظله ودمه. وبت كل ليلة أسأل نفسي من هو ذلك المجنون الذي يطلق ذلك الوجه، وهذا القوام المغطى حتى الأكمام، المسدل الذيل حتى الحذاء. ساقني الفضول والاستهبال لسؤال صاحبة البيت عنها. مع أنها وأنها، فقالت لي: اللهم احفظنا. وأخبرتني أن لها ساقين ضامرتين كسيقان المعيز ولا علاج لهما. تذكرت ما روته قصص الأنبياء عن ساقي بلقيس ملكة سبأ.
***
طارت بيننا نحن طلاب المعهد الأشقياء أخبار أكثرنا شقاوة. كنا نسميه بالعتل، فقد كان ضخم البنية طولا وعرضًا، وعظامًا وعضلات، ولم يفلح وجهه حتى حين يضحك في إخفاء قسوة ملامحه، حتى ضحكته كانت تخيف سامعها، فقد كان ضحكه يخرج برغمه من بين أسنانه وسقف حلقه وأنفه معًا، ولذلك لم يفلح قط في كسب صديق، أو السكنى مع مجاور. كان يظهر فقط في أيام النكبات حين يختلف المجاورون مع المجاورين، أو مع الأهالي، أو مع البوليس. أو حين يكون بحاجة إلى نقود. كان يأتي بحجر من الطوب الأحمر، ويتحدى الطلاب أن يضربوه به في بطنه، فإذا توجع وقال: آه، خسر الرهان، وإذا لم تُسمع منه كسب من ضاربه قرشًا واحدًا لا غير. كان يقف في ساحة المعهد متحديًا طلاب السكن الداخلي. فيتناوبون على ضربه بكل العزم في بطنه العاري، مقبلين نحوه من بعيد بحجر الطوب الأحمر، فلا يزيد عن أن يضحك ساخرًا، وتستقبل يده القروش بعد القروش فيسقطها في سيالة جيبه، إلى أن تحطم الحجر وتفتت وحده على بطنه العريان دون أن يتوقف عن الضحك أو يقول: آه.
لم يكرر الطلاب معه تلك المغامرة، ولا ذلك الرهان، حتى حين تحداهم ليأكل خمسة كيلو جرامات من العسل الأبيض، دون أن يشرب جرعة ماء أثناء جرعه له، أو حتى حين تحداهم أن يشرب خمسة وعشرين زجاجة كبيرة من الكوكاكولا، زجاجة وراء زجاجة دون أن ينزلها عن فمه حتى تفرغ. كانوا يضحكون منه وعليه، ويدركون أنهم هم الخاسرون لو دخلوا معه في أي رهان. فراح يجوب مدينة الزقازيق يوم إثر يوم، بحثًا عن مصدر لكسب النقود.
***
توقف العتل ذات نهار من نهارات تجواله، بشارع جانبي تقف به سيارة وحيدة فاخرة، أمام عمارة مهيبة. رأى شابًّا أنيقًا يخرج من باب العمارة، ومعه فتاة بدت له كعروس، وسارع هو العتل نحو الشاب قائلا له:
- اديني المفتاح أنا حافتح لك العربية يا سعادة البيه.
كان يأمل أن ينال منه نظير فتح الباب خمسة قروش لا غير. فنظر إليه الشاب باستعلاء قائلا:
- امشي من هنا يا جربوع.
فلم يزد العتل عن أن يقول له:
- أمرك. أمرك يا سعادة البيه.
وتنحى جانبًا تحت شجرة حمراء الزهور. وفتح الشاب باب السيارة لفتاته، واستدار وفتح الباب الآخر لنفسه، ودخل عربته وجذب بابها، وأدار المفتاح في ثقبه ليدير موتور العربة، فدار، وهم الشاب بالتحرك بعربته، لكن عجلاتها راحت تدور حول نفسها، وتنحت الأرض في دورانها، ولم تتحرك خطوة، ورأى الشاب في المرآة وجه العتل يضحك بسخرية، وهو منحن على مؤخرة عربته. أدرك لفوره أن العتل يجذب العربة من تصادمها الخلفي. نفخ الشاب وزفر وأوقف الموتور، وفتح باب العربة، ونزل، واتجه إلى العتل.
كان العتل واقفًا ينظر إليه بهدوء مبتسمًا. خشيه الشاب حين تأمل طوله وعرضه، وسمع فتاته تزعق فيه قائلة له من داخل العربة:
- اديله اللي هوه عايزه وخلصنا.
قال الشاب للعتل:
- طلباتك؟
فقال له العتل بسخرية:
- الجربوع عايز واحد جيني. جيني واحد بس. كان حيكفيني منك شلن. لكن ما دام بقيت جربوع يبقى الجربوع عايز واحد جني. جني واحد بس.
وسارع الشاب إلى الفتاة فناولته الجنيه، فعاد وناوله له قائلا بأدب:
- اتفضل يا.. حضرة.
فصاح العتل بالفتاة:
- يعمر بيتك يا ست.
وابتعد عن العربة في الطريق المعاكس.
***
وقادته تجوالاته في مدينة الزقازيق، نحو ناس متجمعين في عز النهار، حول قرداتي وقرد وحاو وصعلوك ضامر البدن، يقيده الناس بسلسلة من الحديد، ومعهم راقصة من بنات البلد، تضرب الدف وترقص في آن معًا، وتجمع في النهاية في دفها ما يدفعه الناس نظير الفرجة. ولم يتوقف نظر العتل إلا عند سلسلة الحديد.
تقدم العتل من الصعلوك الضامر البدن وتحداه أن يقيده بسلسلة الحديد، وسخر منه صاحب السلسلة، وهاب الصعلوك ضخامته، فترك سلسلته هو، وأخرج من خرجه سلسلة أخرى متينة الحلقات، محكمة اللحام، وراح يقيده بها أمام الناس. لفها حول صدره العاري وذراعيه من العضدين، وأغلق الحلقتين بقفل حديدي ضخم، ووعده بجنيه كامل، إذا نجح في فك السلسلة.
ولم يكذب العتل خبرًا. صاح بالناس:
- سقفه لاجل النبي.
فصفقوا له. وعندئذ نفخ صدره وشد عضلات عضديه، وهو لا يزال يضحك، ودهش القرادتي والحاوي وصاحب السلسلة والراقصة، ومن حولهم من المتفرجين، وهم يرون السلسلة تنفك حلقاتها، والقفل ينفسخ. ويسمعون تصفيق الناس له، وتدفقت هباتهم في دف الراقصة، ووثب العتل على الدف، وأفرغ كل ما فيه في سيالة جلبابه قائلا للراقصة:
- دي كلها ليه.
وزاد فاستدار إلى صاحب السلسلة قائلا :
- اديني بقى الجنيه. انت راهنت. وأنا كسبت الرهان.
ولم ينقذ الصعلوك منه سوى الراقصة. انحنت على أذن العتل، وقالت له كلمات لم يسمعها أحد سواه، وغادرت الحلقة فتبعها لفوره، واختفيا.
منذ ذلك الحين كما يقول الرواة، لم يعد العتل إلى المعهد، ولم يعد إلى القرية التي جاء منها. انقطعت أخباره عنا وعن أهله، وتردد عند بعض العالمين، أنه أقام مع الراقصة، وأنها عينته لها حارسًا، يحميها في لياليها الملاح.
***
كانت شهور الدراسة في تلك السنة أجمل شهور عشتها في أكثر سنواتي الدراسية حرجًا. فهي شهور عام الشهادة الابتدائية التي تأتي أسئلتها من الأزهر نفسه، وتصحح أجوبتها في الأزهر نفسه، وكانت في الوقت نفسه هي شهور خير سنة دراسية لي راحة واستقرارًا ، ففيها ذاكرت بانتظام أولا بأول، وقرأت قراءة حرة لا بأس بها، وفيها استمتعت أيضًا في جلسات المقاهي ودور السينما ببعض اللهو المنظم، دون لوم من رفيقيّ، وهو لهو لم يحب رفيقي المشاركة فيه بقليل أو كثير. كانت للنقود عندهما قيمة لتدخر، وللمعيشة عندهما نظام ثابت ليتبع. ومن المعهد إلى البيت إلى المسجد في ظهائر أيام الجمع.
والمرة الأولى، والوحيدة من نوعها، التي فرحت بها، في سنوات المجاورة، في كل امتحاناتي بعلوم الأزهر، كانت في امتحان الشهادة الابتدائية في مادتي النحو والصرف. كانت طريقة الأسئلة في العلمين تستهدف اختبار القدرة على الفهم، ومعرفة مدى التحصيل من خلال الفهم لا الحفظ، واختبار الذكاء في الوقت نفسه على طريقة الاستبيانات والامتحانات الأمريكية، بين طلب لملء الفراغات، وطلب لتحويل جمل مع تغيير الضمائر للعاقل وغير العاقل وللمذكر وللمؤنث وللتعريف وللتنكير، وللمفرد وللمثنى وللجمع، أو لجمل بها صفة يتغير إعراب كلماتها بتغير منازلها، فتكون آنًا خبر لمبتدأ، وآنًا صفة، وأنًا حالا، وهو أمر يحكمه كون الموصوف نكرة أو معرفة.
كانا امتحانين عجيبين عامَّين في الشهادة الابتدائية لكل المعاهد، جاءا إلى معهدنا من القاهرة. وفاز في النجاح فيهما بدرجات متفاوتة من دفعتي الأذكي فالأذكي، ولم يرسب فيهما أحد. وكدت بعد أن غادرت الامتحانين، راضيًا عن نفسي، أن أصرخ في كل شيخ أقابله من شيوخنا، وورقة الأسئلة في يدي: تعلموا كيف تسألون ليتعلم الطلاب كيف يفكرون ويفهمون ويجيبون، ويصيرون خبراء فيما يدرسونه من علوم.
(6)
لأول مرة في حياتي الدراسية كمجاور أشعر بأنني قد صرت حقًّا مجاورًا أو أزهريًّا، حين تسلمت كتبي التي سأدرسها، وأمتحن فيها بالصف الأول الثانوي. لم أكد أصل إلى بيتي بشقة كفر "أبو حسين"، حتى عكفت على الجديد عليّ من علوم هذه الكتب. كان بينها كتاب الأحاديث النووية. كان به أربعون حديثًا بديعًا، لا أظن حتى اليوم أن هناك أحاديث تضاهي معظمها جمالا، وحكمة، وقصصًا، ومحبة للعلم، وبناء للضمير الخلقي الفردي البشري، بين أحاديث تروي بالألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف. وكان بينها كتاب مؤلف حديثًا في علم التوحيد أو علم الكلام يثير الفضول، عن عالم الغيب الميتافيزيقي كما يقولون. وكان بينها كتاب مترجم منذ زمن بعيد في علم المنطق لإيساغوجي سيئ الطبع والترتيب، وكان في منطق الفيلسوف أرسطو وأشكال قضاياه، وبه مصطلحات غريبة عليّ من مثل: الجنس، والنوع، والعرض، والجوهر، والمحمول، والموضوع، وكان بينها كتاب مهول من مجلدين في علم النحو لابن عقيل في شرح ألفية ابن مالك التي فشلت في حفظ أكثر من مائتي وخمسبن بيتًا منها لم ألبث أن نسيتها، كان كتابًا حدَّثه وشرحه وذيله وعلق عليه عالم النحو المجاور الفحل محيي الدين عبد الحميد. وكانت معها رسالة صغيرة في كتيب متواضع صغير، في علم الطبيعة، عن الضوء والصوت والمغناطيسية والكهرباء.
أحسست مع هذه الكتب، وجدة العلوم عليّ، أنني قد صرت حقًّا طالب معرفة، وأنني أحيا في أزهر حديث بعد خمس سنوات عجاف من المجاورة والدراسة، لم أر فيها جديدًا سوى مبادئ في النحو، والفقه، وعلوم الحساب، والهندسة، والجبر الذي لا قبل لي به الآن. الآن صرت على أبواب الفلسفة والمنطق وعلوم العصر التي حدثتني عنها مجلات ذلك الزمن، وكتب المؤلفين من ناشري الثقافة العامة بين المتعلمين في مصرنا المحروسة.
اعتكفت على قراءة هذه الكتب المتتابعة. وأحسبني قد وعيت منها كتاب علم الطبيعة في نهار واحد وليلته. وقلت لنفسي، أو هكذا ظننت، أنه لم يصر بيني وبين طلاب المدارس الثانوية فرق. وقرأت كتاب الأحاديث النبوية النووية، ووعيت من مضامينها وكلماتها البسيطة، ما لم تقله لي الشروح المذيلة تحت الأحاديث للمعاني والمفردات. وأحسب أن هذه المضامين قد زرعت فيّ إلى نهاية عمري، ومن حيث لا أدري، إحساسًا وشعورًا دائمين بطلب المعرفة والصدق معها والقيم الإنسانية.
وتوقفت عند علم التوحيد. لم أتوقف في كتابه بشك وريبة إلا عند مقولات المتكلمين، وفرقهم المذهبية، عن الذات الإلهية وصفاتها، وهل هي قديمة أم حديثة؟ وهل هي عين الذات الإلهية أو مستقلة عنها؟ بدا لي ذلك الأمر خوضًا فيما لا يعلمه أحد من البشر، فلا يعلم الغيب سوى رب الغيب.
كتاب شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك الذي هالني وظننت فيه علمًا بنحو ميسر ومعمق، سرعان ما صدتني صفحاته عنه، لغرقه في الجزئيات والشواهد الشاذة عن القواعد الأساسية في اللغة في نثرها وشعرها ورسائلها وخطبها وحكمها وأمثالها.
وعدت إلى المعهد الديني بعد أسبوعين، وقد صرت أكثر صلابة ونضجًا وقدرة على مواجهة شيوخي. ومن العجيب أنني صرت أكثر مواظبة على حضور دروس المعهد الديني. ورحت أثير إعجاب شيوخي بي حينًا، وثورتهم ضدي حينًا، حين أبوح في قلب الفصل بخواطري وهواجسي. واتهمني شيخ التوحيد بالكفر لمجرد أنني فجرت في الفصل قضية عن عبث الخوض في الذات الإلهية، وجودها وصفاتها، بما لا علم لنا به من قرآن ولا حديث صحيح، ولا قدرة لعقل بشري على إدراكه، بتصورات فلسفية موهومة. طردني الشيخ من الفصل، ولم يلبث ذلك الشيخ الطيب الودود أن أخذني جانبًا، واعتذر لي عن اتهامه لي بالكفر، وأعادني إلى حضور دروسه، طالبًا مني فقط ألا أفجر أمورًا تفسد عليه تدريس المنهج المقرر. وقبلت عرضه، واحتفظت بأفكاري لنفسي، فأنا في وسط طوفان من الموروثات، والكتب القديمة، والشيوخ الصالحين لكل عصر وبلد، والخائفين في كل عصر وبلد، لكنني في الوقت نفسه قررت في نفسي لنفسي ألا أكون شيخًا من شيوخ الأزهر فوق منبر، أو في معهد من معاهده.
***
من حكايات مساكن المجاورين حكايتي مع السيد بعكوكة. كنت بالصف الأول الثانوي، أسكن مع ثلاثة شبان بمسكن بالطابق الأول بعطفة مسدودة بكفر "أبو حسين"، بينهم كان اثنان من المجاورين، وكانا بصف دراسي يسبقني بعامين. أحدهما كان من أسميته "ابن زيدون"، والآخر كان من أسميته حينًا "أبو نواس" وحينًا "دون جوان" وحينًًا "فالنتين" وحينا "المنفلوطي"، ولهما حكايات معي وعندي سيأتي حينها.
وثالثهم كان عامل بيع بصيدلية على ناصية شارع عباس، وكان صاحبها يهوديًّا صار من بين الراحلين من يهود مصر إلى إسرائيل. أسميت ذلك الشاب "السيد "بعكوكة" فقد كان يكتب بانتظام شهري أو أسبوعي أزجالا شعرية حلمنتيشية غير مأجورة كسائر الزجالين والقراء لصحيفة البعكوكة التي كان يحررها قراؤها. كانت صحيفة تصدر فيما يقول صاحبها حسب التساهيل، مع أنها كانت أروج صحيفة في مصر ما قبل الثورة ضد الثروة. واكتشفت فيما بعد بالقاهرة في زمن فساد الأمكنة صديقين كانا يعملان بها، هما الصديق القاص المبهر صبري موسى منحه الله الصحة ورعاه، والصديق الصحفي الفكه القدير حمدي لطفي رحمه الله، وكانا فيما روياه لي يحملان رزم الصحيفة على أكتافهما إلى مقر البعكوكة، وليتها تعود إلى الصدور مرة أخرى ليحررها القراء لا الكتاب ولا الصحفيين، فهم الأصدق قولا ولسانًا وشهادة. كانت حقًَّا لسان حال الشعب المصري وأغانيه وأزجاله ومواويله وقفشاته الضاحكة الاجتماعية والسياسية الساخرة والجارحة، وقد تربى عليها فيما أعتقد عدد من الحرافيش.
كان الشاب البعكوكة متأنقا صيفًا وشتاء يحمل أبدًا على ساعده معطفًا فاخرًا أسود مع منتصف الخريف. كان عريض الصوت أجشه، مثلث الوجه، عريض الجبهة، ضاحك السن مرحًا، يتوقد ذكاء وفطنة. وكان معقوف الأنف، وأحسبه كان يهوديًّا متنصرًا من باب التقية كصاحب الصيدلية التي يعمل بها، وكان جيب بنطلونه أو معطفه عامريْن أبدًا بالريالات الفضية دون غيرها. وكان الريال الفضي في تلك الأيام فضيًّا حقًّا، ويعادل في زمانه خُمْس جنيه من الذهب.
سألته مرة متعجبًا من كل هذه الريالات التي تربو معه كل يوم على جنيهين، فضحك وقال لي:
- من الصيدلية التي أعمل بها. أنا الذي أبيع، وأنا الذي أحاسب. وجزء منها أجري، وجزء منها زيادة سعر على الزبون من وراء ظهر صاحب الصيدلية الواسع الغنى والكثير العقارات، وجزء آخر نفحة من عمي صاحب الصيدلية لقيامي عنه بالواجب نحو بيته، ليستريح هو من أداء الواجب الذي لا ينتهي.
ولم يكن السيد بعكوكة يتردد مطلقًا في منحي أنا أو المنفلوطي أو ابن زيدون ريالا أو ريالين قرضًا لا يسترده قط، ولا يقبله حين رده، ويعتبر ذلك إهانة له، حتى بت أتعجب من أنه ليس مرابيًا. وكان له حساب جارٍ في بنك ما بالمدينة، وآخر مغلق. وصار فيما بعد صاحب الصيدلية، فقد اشتراها في أواخر سنوات الخمسينيات ممن يسميه عمه، حين هاجر هذا العم من مصر إلى إيطاليا ثم إلى إسرائيل. ويبدو لي الآن أنه لم يلبث أن باعها بيعًا مربحًا، فلم يكن مؤهلا في صيدلة أو غيرها، ولم أعرف قط مستواه من التعليم.
بعد أعوام عديدة فاجأني السيد بعكوكة بوجوده بجانبي شاخصًا، وحيًا أمام مصعد من مصاعد التليفزيون، بمبنى التليفزيون الحالي، وصافحني وذكرني بنفسه، وبعشرة كفر "أبو حسين" التي لا تهون إلا على أولاد الحرام. وذكر لي على عجل أنه صاحب مشغل كبير للملابس الصوفية الجاهزة، يبيعها لمحلات القاهرة الكبرى، وأنه جاء ليشارك بأزجاله في برنامج إذاعي، وترحم على أيام البعكوكة. ودعاني لزيارته، وأعطاني تليفونه وعنوانه في البيت والمصنع، وأضعت العنوان والتليفون، ولم أزره أو أحادثه أو أره بعد ذلك.
وللسيد بعكوكة معي موقف جميل لا أنساه قط.
***
معرفتي بالمجاور رفيق وصديق العمر "أبو المعاطي أبو النجا". فتحت لي منافذ جديدة للقراءة، لكتب ثقافية حقيقية، وبين هذه المنافذ كانت مكتبة بيع للكتب وتأجير لها أيضًا هي مكتبة الشيخ جودة. كان الشيخ جودة شابًّا أنيقًا على رأسه عمامة أنيقة، وتحيط ببدنه الطويل كاكولة محبوكة، وكانوا يقولون إنه كان مجاورًا بالمعهد، وفشل في مواصلة الدراسة بالمعهد، ولم يشأ العودة إلى قريته لأمر لا يعلمه أحد، فبقي بالزقازيق، واحترف بيع الكتب والمجلات الثقافية دون غيرها للقارئين من المجاورين وغير المجاورين. ولم تكن مكتبته سوى فاترينة قليلة السُّمك، مثل فتارين بيع السجائر، لصق جدار بجانب باب عمارة حجرية قديمة، شيدت في عهد الخديوي إسماعيل. كانت كتب الفاترينة معروضة بالعرض وراء زجاجها، تواجه الناظر بعناوينها وألوانها وأسماء مؤلفيها. وأسفل الفاترينة كانت خزانات لنسخ أخرى منها.
انتقيت يومًا كتابًا مترجمًا عنوانه: آلام فرتر، من مكتبة الشيخ جودة، التي دلني عليها "أبو المعاطي"، ودفعت تأمينًا له عشرة قروش، بالإضافة إلى قرشين نظير استئجاره لقراءته وحددت لنفسي موعدًا لقراءته في اليوم التالي على انفراد ساعة صلاة الجمعة، في: "تل بسطة".
***
تل بسطة هضبة غريبة ناتئة كانت خارج مدينة الزقازيق. وفوقها كانت آثار حضارة فرعونية من أوائل العصور الحضارية القديمة في مصر الفرعونية قبل عهد الأسرات، وربما كان فرع من نهر النيل يمر أمام هذا المكان أو قريبًا منه. في التل المهجور في سنوات الأربعينيات كانت آثار شتى من الأحجار المتعددة الأنواع والألوان منحوتة لتكون مقاعد ومصاطب وطبالي وأسرة وجدرانًا وأعمدة وتماثيل. ولم يكن ما بقي منها سوى بقايا، عدا تمثال واحد من البازلت الأسود فارع القامة، ألواح أعضائه مثل العمالقة الأسطوريين العظام. كان عاريًا من كل ما يشير إلى أنه يلبس ثوبًا ما على بدنه، أو يضع غطاء أو تاجًا على رأسه، أو ما يستر به عورة ذكر. ويبدو أنه كان في زمانه رمزًا للخصوبة الرجولية، فقد كانت أعضاؤه التناسلية واضحة ومحددة وعارية وفتية. وكانت نسوة كفر "أبو حسين" تتحدثن عنه كقوة سحرية تمنح من تعانقه من النساء العقيمات العواقر، وتحتك به حتى يسيل من مواضع العفة بها، القدرة على الإنجاب، وكأنها قد حملت منه هو. حدثتني بذلك عنه أم فلان صاحبة البيت، فقد كان أكثر بيوت هذه الناحية أيضًا من مدينة الزقازيق ينسب إلى أم ما من أمهات الحي، وكلها بيوت يسكن بها كثير من المجاورين والطلاب المغتربين الآخرين بمدارس المدينة.
لم أكذب خبرًا. وسعيت إلى تل بسطة عصرًا، وتجولت به. شاهدت آثاره المحطمة، وآثاره التي أكلتها عوامل التعرية، وبقايا أمتعته الحجرية. ويبدو أن المكان كله كان في قديم الزمان معبدًا، حدسي بذلك يؤكده وجود هذا التمثال الرجولي في مطلع التل.
وتسللت مرة ثانية إلى تل بسطة فجرًا، وكمنت بين أحجار التل، وسط الأعشاب النامية، في موقع مستور، بحيث أرى ولا أرى. وعند شقشقة ضوء الشمس التي لم تشرق بعد، رأيت بضع نسوة يتقدمن من تمثال إله الخصب، تتوسطهن شابة. كن جميعًا ملثمات بطرح سوداء كثيابهن عدا تلك الشابة، فقد كانت تبدو كعروس تساق إلى عريسها. وبدأت أرى وأرقب طقوس الزفاف والعناق أو الدخلة مع ضياء الفجر.
شبت الشابة على حجر. والتفت الملاءات والأيدي بها تخفيها عن عيون الأرض والسماء، وبدا لي أنها تعتنق سيدها الفرعون، ومضت برهة تضاحكت بعدها النسوة. وخيل إليّ أنني سأسمع منهن الزغاريد، لكن زغرودة واحدة منهن لم تسمع, رأيت إحداهن تتقدم نحو عروس الفرعون، وتعطيها ما تدسه في جسدها، والأخرى تلفها من الرأس إلى القدم بملاءة سوداء، والثالثة تقدم لها إبريقًا فخاريًّا أسود من الفخار. أخذته الشابة وقذفت به أعضاء الفرعون الحجري، كأنما لتغسلها مما أصابها منها، وانصرفت بها النسوة مبتعدات عن التمثال السحري، وأخذن في هبوط التل، والشابة تتساند على أيديهن، متقاصرة الخطو، متعثرة السير، وكأنها قد ختنت لتوها.
حين اختفين عن البصر، خرجت من مكمني. أسرعت إلى التمثال البازلتي. رأيت آثار ماء الإبريق لا تزال تتحدر قطراته منه مع آثار دم، وكِسَر الإبريق تحته محطمة لا تزال مبتلة, وتحت أقدام إله الخصب كانت بقايا أباريق قديمة مكسرة سوداء، كلها سوداء، متناثرة متقاربة ومتباعدة. ووقعت عيني على آثار بلل على موضع العفة من التمثال. لمستها بإصبعي تأكدت أنها كانت دمًا من دم الشابة، فقد كانت لزجة شديدة اللزوجة متخثرة.
***
إلى هضبة تل بسطة عدت مرة أخرى حاملا بيدي كتاب آلام فرتر. الوقت ظهر يوم جمعة. وآثار التل الحجرية تكاد تكون مطمورة الأصول في تربة التل، تحتضنها أعشاب برية نامية مخضرة، لا أدري من أين تُسقى وتستمد نداوتها، وربما كانت تسعى بينها هوام وزواحف وأفاع وحشرات وأنا لا أدري.
جلست على طبلية حجرية وبدأت في قراءة قصة السيد فرتر الرومانسية. تتوالى الصفحات، وأنا أسمع وحدي بداخلي كلمات ما أقرؤه بصوتي، وأكاد أؤدي لنفسي بصوت السيد فرتر كلمات رسائله المستجدية والمتوسلة للحبيبة الهاجرة، ودموعي لرهافة قلبي تسح على خدي، وبين لحظة وأخرى، أمسح بكم جلبابي الإفرنجي الأبيض دموعي وزكامي، وعيناي لا تفارقان سطور الكتاب سطرًا بعد سطر، والشمس ساطعة فوق رأسي لا أبالي بحرها ولفحها. وفي لحظة خاطفة سمعت ضحكًا من حولي، ورأيت ظلالا تحيط بي. رفعت رأسي مرعوبًا ومفاجئًا.
كان حولي صبية دون العشرة عدًّا، في جلاليب مثلي، لكنها أكثر قدمًا. وفي أيديهم مطاو مشهرة. مد كبيرهم يده إلى الكتاب. ظن به شيئًا فريدًا. قلب صفحاته على عجل. رأى أوراق وخربشات حبر أسود. لعله عجب لبكائي من خربشات الكتاب وانشغالي به، فقد نظر إلى الصبية من حوله، وأشار لهم بحركة صامتة من أصابعه تدل على أنني أهبل ومجنون. وطوح بالكتاب بطول يده بعيدًا بين الأحجار، والتفت إليّ، وقال لي:
- هات الساعة.
خلعت له ساعة يدي من معصمي. عاد يقول لي:
- اخلع الطاقية.
خلعت الطاقية.
- اقلع الجلابية.
قلعت الجلابية.
- اخلع الفانلة.
خلعت الفانلة.
- اقلع الجزمة.
قلعت الجزمة. سكت لحظة ثم قال:
- اقلع اللباس.
نظرت حولي. حدثتني نفسي أن تلك اللحظة هي لحظة الموت بالمطاوي. جلت بعيني حولي. واتخذت قراري. انحنيت وخلعت اللباس، لكني في اللحظة التالية، رحت أعدو بكل عزمي، بين الأحجار البازلتية، وقافزًا فوقها من حجر إلى حجر. هبطت من التل، ودخلت في حقل الفول بزهوره البيضاء. انحنيت في عدوي به رافعًا رأسي بين لحظة وأخرى، لأرى من فوق الأغصان العطفة التي بها مسكني.
حبن رأيتها انعطفت نحوها قفزًا. خرجت من حقل الفول إليها، إلى مدخل بيتي. صعدت السلم وثبًا. دفعت باب بيتي. أغلقت الباب ورائي، وأسندت ظهري إليه لاهثًا ومرتعدًا.
كان الوقت ظهرًا، وكان الناس لا يزالون في صلاة الجمعة، ولعلهم كانوا في طريق العودة منها. لم يرني أحد كما خلقني ربي. تنفست براحة, ارتديت غيارًا آخر، فانلة ولباسًا وجلبابًا. الغيار الوحيد لدي. صرت الآن بلا ساعة، وبلا حذاء، وبلا غيار آخر. حدثت نفسي أن ما حدث لي كان من بركات السيد فرتر، وعقابًا لي لأني تركت صلاة الجمعة. ونمت نومًا عميقًا، ظننته حين صحوت دهرًا. أيقظني رفيقاي: المنفلوطي وابن زيدون كي نأكل ساندويتشات الفول والطعمية. أكلت بشهية. ورفضت مشاركتهما في ثرثرة الغداء، أو إجابتهم حين سألاني عن حالي، وماذا بي.
وحبن انتهى الغداء أدرت لهما ظهري على سريري، واستغرقت في النوم مرة أخرى. أفكر في أنني صرت بلا حذاء، وأنني فقدت الساعة التي حفيت حتى اشتراها لي أبي، بعد أن أقتعته أنني أريدها لأعرف بها مواعيد الصلوات، ولكي أصحو مبكرًا، وأذهب إلى معهدي.
مع الغروب صحوت. كان ابن زيدون والمنفلوطي قد غادرا البيت، وراحا يعسّان في المدينة. وبقيت وحدي حبيس حجرتي فلا حذاء لدي.
انتبهت، كأنما أرى ذلك لأول مرة، إلى أن المسكن الذي نسكن به مجرد غرفة واحدة واسعة. كأنه صالة فسيحة، بدت فيها أسرتنا نحن الأربعة تائهة في الأركان، تتوسطها حصيرة، تحيط بها جدران مدهوكة بالطين. فكرت أنها كان سطحًا للغرف التي تحتها، وأقيمت فوقه جدران أربعة، ووضع لها باب، وجعل لها سقف يمكن لسعته أن يسقط فوقنا في أي لحظة.
عاد صاحبي البعكوكة إلى البيت قبل رفيقيّ كما رجوت. تنفست براحة. وحين مدد جسمه على سريره. التفت إليّ في ضوء المصباح الشاحب، وقال لي:
- مالك؟ وشك أصفر. فيه إيه؟
رويت له بهدوء ما حدث. فلم يضحك. توقعت ضحكه، لكنه لم يضحك كما كان يمكن أن يفعل المنفلوطي وابن زيدون. جلس البعكوكة على سريره. أطرق برأسه. فكر لحظة، ثم قال لي وهو يغادر سريره:
- بس كده. ولا يهمك.
وانحنى تحت سريره، وقدم لي واحدًا من أحذيته، وضعه أسفل سريري، وفتح حقيبته، وأخرج لي واحدة من جلاليبه، طوح بها على سريري. وقال لي:
- مقاسي زي مقاسك. أنا متأكد.
ثم مد يمناه إلى يسراه، وخلع ساعته من معصمها، وتقدم نحوي، وألبسها لمعصم يسراي، قائلا لي:
- سأشتري لي ساعة أخرى غدًا. المليان يصب في الفاضي. فلا تحمل همًَّا.
وعاد إلى سريره، واستلقى مديرًا ظهره نحوي. وسمعته يقول لي:
- روح احضر حفلة عشرة على حسابي. سينما أبو لون فيها فيلم كويس. وصحيني بدري.
ولم يلبث أن دخل في النوم، وأنا في غاية من العجب من أمره معي. وإذ كنت أغادر البيت، سمعته يقول لنفسه:
- كل ده علشان السيد فرتر.
وضحك ضحكة صغيرة. أردفها بقوله:
- ابقى اشتري لي نسخة من آلام فرتر نقراها سوا.
ولا أعرف لم خطر لي وأنا بالسينما، في عز الفرجة والإثارة، اسمي حاتم الطائي والسموأل. وتذكرت بيت الشعر الحلمنتيشي لصاحبي البعكوكة:
- لا تزعلن فإن الزعل منزعل.. وكل زعل على الأزعال مزعول.
***
في حي الحسينية قبل المزارع، كان بيت ناءٍ عن الحي بجوار أرض الفول، كان بيتًا بارتفاع دورين. كان لونه بين اللونين البني والأصفر، ولم يكن به ما يشير إلى أنه مبنى للسكنى. ولا ما يشير من النوافذ وتحديدات الجدر الخارجية إلى أنه بيت من طابقين. كان به فقط باب مغلق أبدًا لا يفتح على الحي وإنما على مزارع الفول، تنبسط تحته درجة من الحجر المسفلت المنعم بالتمليس بزلطة كبيرة. كان بابًا مستطيلا قصيرًا، يفرض على عابره أو الخارج منه أن يحني رأسه قدرًا ما، فلا يزيد ارتفاعه عن متر ونصف المتر، وكان الباب بمصراع واحد من الخشب السميك، وبه حلقة حديدية مدلاة، وفي أعلاه كانت نافذة مغلقة الشيش والزجاج لا تنفرج بانفتاحة ما إلا حين يتدلى منها رأس به عينان، ليرى صاحبها مَن الطارق للباب، وسرعان ما تنغلق، انفتح الباب للقادم أو لم ينفتح.
كانت جدران البيت الأربعة تواجه الجهات الأربع الأصلية. وكانت ثمة أربع نوافذ أعلى البيت، فيما نظن نحن المجاورين من سكان الحي، أنه الطابق الثاني للبيت، فالطابق الأول من البيت لا نافذة واحدة به. ويعني ذلك لنا أن غرفه شديدة العتمة والظلام، إلى أن قدّم أحدنا لنا حلا لهذه المشكلة الغامضة، فأعلى البيت به سور قصير، وإن لم تدركه العين، وفي وسط السطح، لا محالة منور تحته حوش، وربما تحيط بالحوش شرفة دائرية، لتنير غرف الطابق الأول. كان والد من قدم الحل عامل بناء في قريته. لكن المشكلة ظلت قائمة، فمساحة البيت المربعة محدودة للغاية، عشرة أمتار لكل جدار. وكنا في عصاري أيام الفراغ الدراسية ندور حول هذا البيت، علّنا نرى به نافذة مفتوحة، أو وجهًا يطل، إلى أن أقسم أحدنا، أنه رأى كل نوافذ البيت مفتوحة في أعلى البيت، بعد منتصف الليل، ولكن لم يكن ثمة ضوء لمصباح وراءها.
وتحت نافذة البيت المواجهة للسكة الحديد كانت ترى كتابة بيضاء معوجة مكتوبة بطلاء أبيض بخط يد رديء، تختلط فيها حروف خط الرقعة بحروف خط النسخ: بنسيون الست قشطة. وكانت كلمة بنسيون في قاموسنا وفي المدينة بأسرها غريبة، وقدرنا أنه لا معنى لها سوى أنها بيت في لغة إفرنجية أو أعجمية. وظللنا حيارى حيال هذا البيت، ندور حوله حيارى في أمره كلما احتجنا إلى لحظات من الإثارة والدهشة والتعجب، إلى أن تربص أحد المجاورين الفضوليين لباب البيت.
***
كمن الفضولي المجاور في الأرض المزروعة أمام الباب، في موسم ارتفاع شجيرات الفول الحراتي، وإزهارها بزهور بيضاء، ورأى في الساعة الثالثة ظهرًا، أربعة مجاورين متأنقين للغاية، بالعمائم والكواكيل يقفون أمام الباب، ولا يطرقونه بالمطرقة، ولا تفتح فوقه النافذة، فقط انفتح الباب، ولم يَرَ من فتحه، وفقط عبر المجاورون المتأنقون الباب، وفقط انغلق الباب وراءهم، ولم يرَ من أغلقه.
وفضول المجاور الفضولي جره إلى فضولات أخرى في الصباحات المبكرة، والأمسيات الليلية، والتتبع للمجاورين الداخلين العائدين من المعهد الديني والخارجين إليه، أو إلى دور السينما مرتدين بدلا عراة الرءوس.
واكتشف الفضولي المجاور، أن الأربعة أبناء عمد لقرى، وأن الأربعة يسكنون مع الست قشطة، وأن لها أربعًا من البنات، وأن الأربعة يعطونها كل مصاريفهم الشخصية، وزواداتهم الشهرية من مطايب الأمهات في القرى أرزًا وسكرًا وسمنًا وعسلا وخبزًا، وأن الأربعة والعياذ بالله، وصدقًا كان ذلك أو افتراء، يعاشرون البنات طوال شهور العام الدراسي، وأن الأربعة يتغيرون بغيرهم وبواسطتهم ومعرفتهم هم، وضمانهم هم، من أبناء العمد، عندما يغادرون المعهد الديني إلى القاهرة ليلتحقوا بالكليات الأزهرية، أو بدار العلوم.
ومن مسكن للمجاورين إلى مسكن للمجاورين، راح المجاور الفضولي يتنقل ويحكي، ويؤلف عن تاريخ الست ما شاء كما شاء، فهي حينًا غانية تابت وتركت ملاهي القاهرة، ولجأت ببناتها إلى الزقازيق، وهي حينًا معلمة ابتعدت ببناتها عن حي كفر عبد العزيز، وكان حيًّا للمومسات في الأربعينيات على الطرف الآخر من المدينة، قبل أن يلغي رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي البغاء في مصر، ويلغي معه مستشفياته السرية، إثر مصرع النقراشي فحسن البنا، لكي يظهر للإخوان أنه حريص على الإسلام أكثر منهم.
ووصل الخبر إلى شيخ من شيوخنا سأسميه الشيخ بهلول، وكان شيخًا فكهًا ظريفًا وسمحًا، وميسور الحال في قريته، وبين الشيوخ. وكان يقرض قاصديه من الشيوخ ما يشاءون، ويترك لهم الفرصة لرد الدين عندما يشاءون ويقدرون، ويتنازل عن حقه أو بعض حقه، عندما تعسر أحوال الشيخ المدين. وكانت له بقريته زوجة وأولاد من البنين والبنات، ويتردد لزيارتهم بين الحين والحين، ولا تفوته مواساة في عزاء، ولا مشاركة في فرح. عندئذ نهض الشيخ بهلول، كي يتحقق بنفسه من أخبار بنسيون الست قشطة.
جمع الشيخ بهلول أبناء العمد الأربعة. دعاهم إلى بيته المطل بالمدينة على بحر مويس، وقبلوا دعوته. وجاءوا في الموعد بعد صلاة العشاء، وأكرمهم الشيخ، وحادثهم في كل أمر، وعرف عنهم ومنهم كل شيء، حتى أمنوا له، وظنوا أن الدعوة لوجه الله، وأن الشيخ لا يريبه من أمرهم شيء، هكذا روي المجاور الفضولي. وفجأة، وعلى غير توقع من المجاورين أبناء العمد. قال لهم الشيخ بهلول:
- حان وقت الصدق والجد معي. أنتم شباب، والمال في أيديكم ميسور، فقط أريد أن أطمئن عليكم. لا. لا. لا تحرجوا. لا يقل أحد شيئًا الآن. أريد فقط زيارتكم في البيت الذي تعيشون فيه مع الست قشطة.
وجم الأربعة في حضرته، وصمتوا، وأطرقوا, قال لهم الشيخ بهلول، فيما رواه الفضولي المجاور:
- غدًا الجمعة. أريد أن أزوركم بعد صلاة العشاء. اطمئنوا. لن يراني أحد وأنا قادم إليكم. فقط افتحوا لي الباب، لأرى بعيني، وأسمع بأذني. ويفعل الله بنا وبكم خيرًا إن شاء الله.
وعلانية، في الظلام القمري، ذهب الشيخ بهلول من بيته إلى بيت الست قشطة، يحف به من جانبيه أبناء العمد الأربعة. وكان المجاور الفضولي لهم بالمرصاد، فتبعهم من بعد إلى باب بنسيون الست قشطة. وعلى ما رواه الفضولي المجاور فتحت الست قشطة لهم الباب بنفسها وفي يدها مسبحة. كانت محجبة من الرأس إلى القدمين. وصافحت الشيخ بكف مستور بطرف طرحتها الوردية. ودخل الشيخ ومن معه وانغلق الباب. حدث الفضولي المجاور أنها فعلا كاسمها. بل وصفها بأنه مثل قطعة المارون جلاسيه التي لم يذقها في حياته. وسهر الشيخ مع الست قشطة وبناتها وأبناء العمد الأربعة.
كان الفضولي المجاور لا يزال كامنًا في عز البر، بغيط الفول. ورأى الشيخ وهو يخرج. ويغادر الحي مع أبناء العمد الأربعة إلى بيته بشارع عباس. وبعد أيام بحث الشيخ عن الفضولي المجاور وقال له:
- ولا تجسسوا.
ثم قال له:
- بنات الست قشطة متزوجات من زملائك المشايخ الأربعة، ويقيمون معًا في بيت واحد. ولكي تجد ما تتحدث به في المجالس، ينبغي أن تعلم أنني تزوجت من الست قشطة، وسأقيم معها في بيتها، وأفرد بيتي بشارع عباس للبنات الأربعة وأزواجهن.
ونفذ الشيخ كل ما قاله، وحصل للمشايخ الأربعة على موافقة آبائهم وأمهاتهم على زيجاتهم، ولم يكن ثمة فرح ولا مهنئين للشيخ، ولا لأزواج بنات الست قشطة.
***
في مسكن كفر "أبو حسين" نشب صراع بين المجاور ابن زيدون، ذي الأنف الغليظ الواسع المنخارين والمجاور المنفلوطي، ذي الأنف الروماني. كان الصراع بينهما صامتًا مكتومًا ودفينًا يسري في نفسيْ صاحبيْ الأنفين، كما يسري الماء تحت التبن. وكان السبب امرأة أرمل سميتها: ليلى. ولم أعلم شيئًا من الصراع الخفي بين رفيقي السكن إلا ذات نهار عصر يوم جمعة.
كنت نائمًا وقت القيلولة. وانتبهت من نومي على تشاجر رفيقي السكن فلم أفتح عيني حتى لا يتوقف الشجار، وكي أعرف ماذا يجري من حولي.
تعرف ابن زيدون في سوق الثلاثاء المجاور لحي الحسينية على ليلى، أثناء تشممه لفتاة من بائعات الهوى. كن كثيرات في مدينة الزقازيق بسبب معسكر المحتلين الإنجليز الذين كانوا يعسكرون في فضاء الساحة أمام مسجد "أبو خليل"، وكثرة العمال الوافدين على المدينة للعمل التراحيلي بالمياومة والمسابعة والمشاهرة. كانت ليلى ملتفة بملاءة، وعلى وجهها وشاح مقصب، وعلى أنفها قصبة من الذهب هي جزء من وشاحها، يتبعها حمال فتي يحمل سلة وجوالا. كان أيضًا تابعًا يحسن إغماض عينيه عندما تغمز إليه، ويحسن التحول إلى وحش دفاعًا عن ذهبها على الأنف والأساور والعنق المشرع. وكانت في ملاءتها الحريرية السوداء ممشوقة القوام، واسعة العينين معبرتهما وضاحكتهما.
تبعها ذو الأنف الغليظ، حتى خرجت من السوق إلى طريق العودة، وكانت تلحظه وتراقبه مع تابعها. همست لتابعها كي يسبقها إلى البيت. وفهم ابن زيدون رسالتها. واقترب منها ابن زيدون، وقال لها هامسًا بصوته المعبر:
- صباح الخير يا قمر.
والبقية مكرورة. تهاديا في السير حتى بلغت به باب بيتها بكفر النحال. وعند باب البيت قالت له:
- عرفت البيت. تعالى بكره بعد العشا.
وصعدت درجة واحدة، واجتازت بخفة عتبة البيت دون أن تلتفت إليه، وردت وراءها الباب. ولم يبد من واجهة البيت سوى نافذة على يسار الباب الأخضر، مكرنشة الحواف حول شيشها النقي الخضرة. ظل ابن زيدون يرقب باب الهنا الموعود برهة، وملأ عينيه منه، وتملى ما حوله من بيوت ودروب ليعرف طريق الوصول إليه في ظلمة الليل، وعلّم المكان والبيت بشجرة على مدخل الحارة وبيوتها ذوات العتب. واستدار عائدًا فسمع صوتًا يقول له:
- هنيا لك. مش محتاج مهر يا صاحبي.
تلفت باحثًا عن مصدر الصوت فلم ير أحدًا، وعجب لأن الناس في هذه المدينة، لا يغارون على جيرتهم مثلما يفعل الجيران في مدينته هو.
وفي ليلة ذلك النهار سحب ابن زيدون من إفريز جدار نافذة غرفته ديوان ابن زيدون، وراح يقرأ فيه لنفسه، ولنا بصوت عريض وعميق، مرتجف الطبقة والدرجة أشعار ابن زيدون في ولادة ابنة المستكفي، قصيدة بعد قصيدة، مع أنه كان يحفظها عن ظهر قلب، حتى بلغ القصيدة التي يعتذر فيها ابن زيدون إلى ولادة ويتوسل إليها، فراح يرتل أبياته ترتيلا باكيًا، ودموعه تسح من عينيه، ومخاطه يسيل من أنفه.
وحين بلغ من القصيدة الأبيات التي يهجو فيها ابن زيدون غريمه ابن عبدوس، فاجأه المنفلوطي بصوته المنفلوطي الخطابي والغنائي، مع لمسة سخرية معذبة بإنشاده غيبًا لأبيات الهجاء التي توقف عندها ابن زيدون. فصاح به ذو الأنف الغليظ:
- اسكت. اسكت. فال الله ولا فالك.
عندئذ ضحك المنفلوطي. وقال له معذبًا:
- وقعت في الحب يا صاحبي. بكرة تلاقي وراك ابن عبدوس. انت تحب على راحتك وابن عبدوس ياخدها منك.
عندئذ أدرك ابن زيدون خطره عليه، وهو الذي لا يعرف من تكون، فغضب وزعق فيه:
- لو قربت منها حاقتلك.
سكت المنفلوطي، ونهض يرتدي ثياب خروجه لمغامرته الليلية، وتعطر بالكولونيا، وقطرات الياسمين، وقال مخاطبًا ابن زيدون، وهو يعقد كرافتته ذات النقوش:
- كلهن يا صاحبي في الليل والنهار زي بعض. والحب عندهن في النهاية زي ما عند الرجالة حاجة واحدة بس.
زعق فيه ابن زيدون:
- اخرس. انت من غير قلب. انت حيوان.
رمقه المنفلوطي بعينين ضاحكتين، وأنف روماني ساخر، وقال وهو يغادر باب الغرفة الفسيحة:
- خليك على غماك. بكرة تعيط وتفوق.
نفذ المنفلوطي وعيده الخفي. تبع ابن زيدون ذات ليلة، وقد ارتدى هذه المرة كاكولته، وعمامته الأنيقة التي عممتها له بيدي، ووضع على عقلة أنفه الروماني نظارته السوداء مع أنه كان في ظلام الليل، وقال لي وهو يغادر البيت:
- عندي موعد هذه الليلة مع شيخ الحب.
كان يعرف أن ابن زيدون يجلس على مقهى، ويشد أنفاس حجر الشيشة، ثم يتوجه إلى بيت ليلى. في تلك الليلة تبع المنفلوطي ابن زيدون، ورآه يدلف من باب بيت ليلى المفتوح، ومثلما فعل ابن زيدون من قبل فعل المنفلوطي من بعد. علَّم مكان البيت بالشجرة، وزاد فطوّف في الحارات من حوله.
وفي تلك الليلة، كما روى لي المنفلوطي ذات يوم على مقهى البوسفور، قرر المنفلوطي أن ينقذ ابن زيدون من خدعة الحب الجارفة، فهو ابن بلده، وهو يحبه. وقد مات ابن زيدون وعصر ابن زيدون المليء بالفراغ لحكايات المحبين، وأطواق الحمائم.
في اليوم التالي عاد المنفلوطي من المعهد، وقال بجد شديد لابن زيدون:
- لازم تسافر السنبلاوين يا صاحبي. أبوك عيان. عيان جامد. ومحتاجك جنبه.
قال له ابن زيدون بانزعاج:
- عرفت منين؟
فقال له المنفلوطي:
- كنت باكلم أخويا المحاسب في التليفون من السنترال العمومي، قال لي الخبر.
ذعر ابن زيدون وارتبك، وبدا حائرًا يقوم ويجلس، والمنفوطي يرقبه خلسة بهدوء شديد، ويتشاغل عنه بأي شيء حوله. ولم يمسك ابن زيدون نفسه، فقد قال محدثًا نفسه بصوت مسموع: "وبعدين. كان عندي معاد مهم النهارده". ولم يعلق المنفلوطي بكلمة. ونظر ابن زيدون في ساعته، وعاد يرتدي بدلته، وغادر البيت.
***
في ليلة سفر ابن زيدون إلى السنبلاوين، أوفد المنفلوطي نفسه رسولا من قبل ابن زيدون إلى ليلى، ليخبرها باضطرار ابن زيدون إلى السفر لمرض أبيه. ولم تأخذ ليلى الريبة في تلك الزيارة، بعد أن أخبرها بأنه بلدياته وصديقه الصدوق ورفيقه في السكن. أكرمته ليلى، وراقبت عينيه المحايدتين في النظر إليها، فأمنت إليه، وقدمت له إكرامًا لوفادته عشاء شاركته فيه، وشرابًا شاركته احتساءه. وكان دِهنانًا مدهانًا، فأثنى على جمالها وطيبتها ورقة قلبها، وحسن حظ ابن زيدون بمعرفتها، وجرجرها للحديث عن نفسها.
أخبرته ليلى كما روي هو لي فيما بعد بأنها من بلدة بها معسكر للجيش، وأنها كانت زوجة لمدرس، ووافاه أجله تاركًا لها ابنتها ألطاف التي بلغت الآن سن الزواج، وأخبرته أن ألطاف تعيش الآن مع أختها في بلدها، حتى لا ترى ما هي فيه من حب لا ثمرة له بعد مع ابن زيدون. وشكت له من ابن زيدون، فهو حتى الآن لا يريد أن يسترها بزواج، فسوف تكون وحيدة وفقيرة يومًا، بعد أن تتزوج ابنتها من ابن الحلال، ولا يبقي لها سوى معاشها من زوجها الراحل، وسوف ترث ابنته ألطاف إيراد الطاحونة التي تركها لها أبوها بالبلدة، وتشاركها هذا البيت الذي تعيش فيه. وانفجرت ليلي تبكي بكاء محرقًا يوجع القلب، وهي تمتم من خلال دموعها، بأنها رجته ليتزوجها حتى بعقد عرفي لا يعترف به الناس، ولكنه دائمًا يؤجل ويتعلل ويسوف.
وانتهز المنفلوطي الفرصة، فربت عليها مهدئًا ومواسيًا، قتزايد بكاؤها، عندئذ ضمها إلى صدره وهما على كنبة بالغرفة، ولم يتردد في لوم صاحبه مؤكدًا لها أنه رهن إشارتها، وطوع أمرها في اللحظة التي تسمح بها له بالزواج منها. وفاح عرقه بفحولته، وفحت أنفاسه في عنقها وأذنها برغبته فيها، فوجدت نفسها تعانقه، وتستسلم له مستلقية بين يديه. وحين انتهيا تمتمت وعيناها مغلقتان: ألَّا. احنا عملنا إيه؟ عندئذ ضحك المنفلوطي ضحكة شيطانية ساخرة، وسبها بعبارة فاضحة وقبيحة، وزاد فمد يده وصفعها، وغادر بيتها مسرعًا، وهو يستكمل في طريقه إلى الباب إحكام قميصه وسرواله.
***
في اليوم التالي عاد ابن زيدون مع الظهر، وخلع ثيابه، ولم يستطع أن يستقر لحظة في مكان بالغرفة. راح يجلس ويقف وينظر من النافذة، ويروح ويجيء في الغرفة الواسعة بين الأسرة الثلاثة، في انتظار عودة المنفلوطي من المعهد. وحاول أن يصنع لنفسه شايًا على وابور الجاز في ركن الغرفة ففشل، وكاد يحرق نفسه والغرفة فقد كانت يداه ترتعشان. هب وابور الجاز لكثرة ما دفع به من الجاز، وفشل مرارًا في أن يشعل عود الكبريت. وحين أفلح هب وابور الجاز في وجهه، وحين أفلح في التحكم في نار الوابور، سقط البراد من فوق حوامل الوابور الثلاثة، واندلق ماؤه على أرض الغرفة، وجرى على طينها. كانت يداه ترتعشان، بل ترتعدان، فقد سيطر عليه هاجس بأن المنفلوطي أبعده عن ليلاه الحبيبة بسفره ليزور ليلى بدلا منه.
***
حين عدت مع المنفلوطي من المعهد، فوجئت بابن زيدون يندفع دون مقدمات أعرفها إلى المنفلوطي، ويصفعه على خده صفعة مدوية، فضحك المنفلوطي ضحكة مستفزة. وظنه يضربه لكذبه عليه فقط في مرض أبيه، فليلى لا تسمح بزيارته إلا ليلا حين تنقطع الرجل، ويهجع الجيران الذين يعرفون عنها كل شيء، ويعرفون الداخل والخارج من البيت، من وراء الأشياش المواربة، حتى في ظلام الليل. هم ابن زيدون بصفع المنفلوطي صفعة ثانية على خده الآخر، قائلا:
- حاقتلك. مش كل الطير اللي بيتاكل لحمه.
فأمسك المنفلوطي بمعصمه في قبضة قوية، ويده في طريقها إلى خده قائلا:
- ما تقدرش تقتل فرخة. الضعيف اللي زيك، اللي بتضحك عليه واحدة مليان خيبة من كله.
وصوب إليه صدمته:
- رحت لها في غيابك. وبالأمارة فوق بزها الشمال حسنة سودة.
واستدار عائدًا إلى باب الغرفة، قائلا:
- حاروح اقعد على قهوة البوسفور في الحر لحد ما تهدى يا صاحبي. يا ابن بلدي.
إثر خروجه. راح ابن زيدون ينتفض غضبًا وقهرًا وهو جالس على سريره. عزمت عليه بسندوتشي الفول والطعمية الخاصين به، واللذين جلبتهما معي من المطعم. لكنه رفض أن يأكل، قائلا لي:
- ما ليش نفس. عندك في الركن لفة. فكها وطلع منها الرز المعمر والحمام وكل وبر نفسك. ما تخليش حاجة لابن الـ.. ابن قتالين القتلة.
كان للمنفلوطي أخوان أحدهما مكوجي في السنبلاوين والآخر محاسب، وضبط المكوجي زوجته متلبسة بالخيانة، وتطوع المحاسب مع زوجته بقتلها له، وتقطيعها بالساطور عضوًا عضوًا، ورميها للكلاب في ظلام الليل، واكتشف البوليس مصرعها حين عثر على رأسها في مكان لم تعرف طريقه كلاب المدينة، واعترف المكوجي تحت الضرب بأنه القاتل، وخشي المحاسب أن يعترف أيضًا بدوره هو وزوجته في قتلها، فدبر تهريبه من البوليس حين نقله إلى محكمة الجنايات، فغطس حيث لا يعرف أحد له مكانًا، وشاع بين أهل السنبلاوين أنه هرب إلى الشام بمساعدة أخيه المحاسب.
وراح ابن زيدون يحكي لي، وأنا آكل من زوادته لأول مرة، قصة حبه، ويشكك فيما يدعيه المنفلوطي عليها. ووجدتني أتعاطف معه، وامتلئ سخطًا ضد المنفلوطي، ورحت أتعجب أنا المراهق الغر من المنفلوطي، فهو يحفظ عن ظهر قلب قصتيْ بول وفرجيني وما جدولين المفعمتان بالحب وأشواق المحبين وعذاباتهم.
***
في الليل عاد المنفلوطي إلى الغرفة، وخلع بدلته، وارتدى جلبابه، وراح يتشمم الغرفة. وقال:
- ريحة حمام ورز معمر، ونهض وجذب لفة الطعام، وسحب منه حمامة وطبقًا من الرز المعمر.
وراح يأكل قائلا:
- طبعًا هوه قال لك ابن ال.. ما ياكلش منه. اللي زيي ما يقولش للأكل لأ أبدًا. حتى لو كان من عدوه.
وظل ساهرًا وأنا معه، أرقبه خلسة، ويرقبني خلسة. نواصل التدخين ولا نتحدث. ظللنا على هذه الحال زمنًا، وقد توقفت عن التفكير في الأمر كله، مترقبًا عودة ابن زيدون من سهرته مع ليلاه. فجأة قال لي المنفلوطي:
- طبعًا انت قلبك خرع زيه. ويمكن أخرع. ولو كنت في مكانه كان فاتك طبيت زي الرطل واتجوزتها.
لم أرد عليه بكلمة. ووجدتني أهمس لنفسي في نفسي:"اللهم قنا شر التجربة".
بعد حين قال لي المنفلوطي بعربية فصحى، وكأنه يتخيل ويرى ما جرى ويجري:
- أراهن أن الست ليلى ظلت صامتة، حين لقيت صاحبنا الأهبل، حتى فاجأها هو غاضبًا ولائمًا، بأنه قد عرف ما حدث بيني وبينها، عندئذ انفجرت باكية، ونهضت غاضبة بدورها، وأرته ما يدل على أنه قد اغتصبها، وقدمت له ثوبًا ممزقًا من الصدر إلى الذيل، وخدوشًا أحدثتها بجسدها، وهي التي دعتني ونحن معًا كجسد واحد أن أكون متوحشًا معها.
لزمت الصمت وأنا أحاول فهم ما قاله لي فأنا فتى غرّ، لا أعرف تمامًا بوضوح كل ما يتحدث عنه ويشير إليه.
***
عاد ابن زيدون قبيل الفجر مرهقًا وشاحبًا، يكتم غضبه، ويكظم غيظه كما يقول المجاورون. جلس على حافة سريره السفري، وقال للمنفلوطي:
- من بكره تسيب السكن يا مجرم يا سافل يا بتاع المقالب.
نظر إليه المنفلوطي وضحكة مكتومة تتراقص على شفتيه، ولم يقل شيئًا. فقال ابن زيدون للمنفلوطي:
- تقطع لها هدومها. المسكينة ما قدرتش تصرخ، وهي وحيدة، حتى لا تفضح نفسها عند الجيران. يا.. يا..
عندئذ انفجرت ضاحكًا، لكنني توقفت فجأة عن الضحك، فقد يكون المنفلوطي قد فعل ما أخبرني به فعلا، وكذب عليّ. وكان ابن زيدون ينظر إليّ بدهشة، وبدا في وجهه أنه يريد أن يقول لي: بتضحك على إيه انت كمان. لكنه قال لي بحدة:
- وانت كمان تسيب السكن معاه. السكن أنا اللي جبته. وأنا اللي اخترتك انت وهوه تسكنوا معايا.
فقال له المنفلوطي بجد:
- دا حصل وتشكر، وانا رديت لك جميلك، علشان أحافظ عليك كشفت ليلى ليك. على بلاطة يعني. لكن معاك إثبات. معاك عقد إن السكن الغلبان ده باسمك. باقي أسبوع يا صاحبي، ونسيب كلنا السكن، ونبدأ شهر المذاكرة في السنبلاوين، ولا تشوفني ولا اشوفك.
فقال ابن زيدون لفوره:
- تسيبوه انتم بعد أسبوع. ما فيش ساعة زيادة. واضح. أنا حاذاكر هنا، واقدر ادفع أجرة السكن خمسة وسبعين قرش لوحدي.
لم يرحمه المنفلوطي. فقد ضحك قائلا:
- طبعًا حب بالليل. ومذاكرة بالنهار، ويمكن نوم بسبب سهر الليل. ويوم الامتحان يا صاحبي ستكرم أو تهان.
وبات الاثنان يتهارشان بالكلام حتى ارتفع آذان الفجر في مسجد ناء بعيد، وأذن ديك الصباح فوق سطح غرفة ما، فسكت الاثنان عن الكلام غير المباح، ورقد ابن زيدون وهو ينتفض في بكاء مكتوم يقطع قلبي، وراح المنفلوطي يغط في نوم عميق.
في الصباح، بعد ساعتين لا غير، صحونا وارتدينا ثيابنا الدينية: الكاكولة والعمامة. وسبقنا المنفلوطي للخروج من الغرفة، لكنه توقف عند الباب، وقال مكايدًا ابن زيدون:
- بالمناسبة. لو فضلت هنا في شهر المذكرة، وانت وحيد ابوك يا روح ابوك، حابلغ أبوك عنك وعن الست ليلى، وعن خيبتك التقيلة في البلد اللي ما حدش عارفك فيها.
وبرغم هذا التهديد بقي ابن زيدون بمدينة تزقزق فيها طويلا بنات الليل وبائسات القيلولة تحت أشجار بحر مويس في عز القيلولة. ولم ينفذ المنفلوطي وعيده.
***
في الصف الأول الثانوي بالمعهد الديني. كان الامتحان في علم المنطق الأرسطي، بكتاب إيساغوجي الشهير بين المناطقة العرب. وهو العلم الذي عرفت عنه، في مقبل العقود من عمري، أن المنطق الحديث قد نسفه نسفًا، مع أنه كان الأساس الذي قامت عليه علوم الفقه والنحو والكلام. حرت حقًّا في المنطق بين أنواع وأشكال كليات المنطق وجزئياته السالبة والموجبة، وما تفرع منها. وهو علينا أمر دراسته مذكرة فيه وضعها لنا شيخ المنطق بالمعهد، مستمدًا مادتها بالطبع من كتاب إيساغوجي.
كانت المذكرة واضحة العرض، حسنة التأليف ككتاب تعليمي مبسط ومركز، وكنت مطمئنًا إلى النجاح في المنطق، لو أن الأسئلة جاءت تطلب تحليل مقدمات ونتائج بعينها، أيًّا كانت أطرافها. لكنني قبيل الامتحان في هذه المادة خشيت من عقلية الحفظ والتلقين المشيخية الكسول المعتادة. سعيت وحصلت على نماذج لأسئلة الامتحانات السابقة، للشيخ طاهر نفسه شيخ المنطق بالمعهد طوال سنوات متتابعة، وكانت كما توقعت وتخوفت.
وبت ليلة مهمومًا أفكر في غش هذه المادة بطريقة لا يمكن لأحد قط أن يكتشفها سواي، فمفتاح أسرارها أو شفرتها معي وحدي، وفي عقلي وحدي. بدوت في تلك الليلة سعيدًا ومبتهجًا. وفي الصباح سارعت إلى مكتبة، واشتريت مسطرة وبرجلا وفرخ ورق "فبر" مقوى. وجلست على مقهى البوسفور ضحى يوم جمعة. ورحت أترجم كتاب الشيخ طاهر كله، على صفحة الورق الفبر المقوى إلى سطور ونقاط في خطوط هندسية.
في المقهى حولت أشكال أرسطو المنطقية على الورق الفبر المقوى، وما يتفرع منه إلى شكل هندسي واحد من مستطيل ذي أربعة أضلاع تتقاسمه خطوط غير مكتملة في قلب المستطيل. كل خط مكتمل بها يشير ويرمز في رأسي وذاكرتي إلى شكل معين أو فرع منه، معروفة عندي كلمات عنوانه، وبالتالي تحليله ومثاله. استخدمت في هذا الشكل المسطرة بالملي والسنتي، وفي الخطوط الضغط بسن البرجل هنا وهناك. ورحت أعاود مذاكرة الكتاب، وحفظ الضروري المحتوم منه، كما تحفظ القوانين العلمية، وعيناي على تلك الخطوط والنقاط.
وفي صباح يوم الامتحان كان فرخ الورق هو السنادة المعتادة التي يضعها الطلاب تحت ورقة الإجابة حماية لما يكتبونه من تأثير خشب الأدراج تحتها. دق الجرس وتعالت الصيحة على المراقبين من الردهة ذات الأصداء: وزعوا الأوراق. كانت الأسئلة كما توقعت: اذكر، عرف. وفي نهايتها كان سؤال وحيد في الفهم يذكر عبارة: حلل مع التعليل. كان المراقب يروح ويجيء يرى الطلاب حيارى أمام الأسئلة، يسح عرق الصيف والحرج من جباههم ورقابهم، ويراني عالي الهمة، أواصل الكتابة والإجابة بتنظيم محكم، وأزيح ورقة الإجابة عن السنادة لحظة لا غير، أو أروح بها هواء على وجهي، وأواصل الكتابة كأنني أنقل من كتاب مفتوح. شك المراقب في أمري. تقدم نحوي. قلب ورقة إجابتي. فتح الدرج وأغلقه. شك في فرخ الورق. قلبه. لحظ خطوطًا مستطيلة غائرة، تتفرع منها خطوط غائرة. لم يفهم شيئًا. لم ير بالسنادة كلمة.
وأنا أسلم ورقتي للمراقب قال لي:
- إيه الخطوط اللى ع السنادة؟
قلت بيسر:
-لا شيء. باحب اللعب في البيت.
***
اللعبة نفسها في الغش في الامتحان، كررتها في السنة نفسها مع علم العروض، وكان أيضًا علمًا جديدًا عليّ، غير أنني استبدلت خطوط المستطيل بخطوط المثلثات. ثمانية مثلثات كبرى متداخلة للتفاعيل العروضية الثماني التي يكون منها ستة عشر بحرًا، تتفرع من زواياها خطوط فرعية يمنة ويسرة، وأعلى وأسفل، لتشير في عقلي إلى الأوتاد الخفيفة والثقيلة، وتفرعات العلل، وتغير التفاعيل من بحر إلى بحر.
أجبت أسئلة العروض جميعها. كانت كلها أسئلة موضوعة بعقلية الحفظ والتلقين: اذكر. اذكر. وهي طريقة تكفي لتعجيز أي طالب يمتحن في علم العروض، بل تكفي لقتل شاعرية أي شاعر. السؤال الوحيد، الخارج عن سنادتي فرحت به مع طلاب دفعتي فرحًا شديدًا. كان سؤالا خاصًّا باختبار المهارة في تقطيع بيت من الشعر بوضع حركاته وسكناته في سطر تحته، ووضع تفاعيله السليمة أو المعدلة بما أصابه من علل الزحاف والخرم وغيرها في سطر آخر.
ومن الغريب أنني حصلت في الغش غير المباشر لإجابات امتحاني المنطق والعروض على الدرجة العليا في العلمين.
***
قبيل يوم 15 مايو عام 1948 عدت بعد الامتحانات إلى أهلي بمدينة السنبلاوين، وكانت مصر كلها تغلي بسبب أمرين جديدين عليها. قهر الإقطاعيين للفلاحين، وفرضهم إيجارات عليهم لم يوقعوا عليها. كانت توقيعات الفلاحين على عقود المؤاجرة على بياض، وكان الإقطاعي يكتب عند التحصيل ما يشاء. ويرتفع الأجر المعتاد على الفدان من 14 جنيها إلى مائة وعشرين جنيهًا. وعند المحاسبة يتم الدفع أو الحبس والاستيلاء على بيت المؤاجر، وما قد يكون تحت يده من قراريطه الملك، وطرد أسرته من البلد بأسرها إلى حيث لا يعلم أحد إلا رب السماء والأرض. حتى الأمير محمد علي ولي العهد الملكي لم ينج من أخذ توقيعات الفلاحين المؤاجرين على بياض. وثار الفلاحون ودارت معارك صغيرة بين الفريقين سقط فيها قتلى من الفلاحين بالضروة على أعتاب أقسام الشرطة وبرصاص الشرطة.
وغطت على ذلك الحدث كله أو زاحمته في السنبلاوين أخبار الصراع المسلح بين عرب فلسطين ومن بها من يهود مقيمين كانوا أو مهاجرين, قامت الدنيا ولم تقعد بسبب عنف هذا الصراع. وسارع الإخوان المسلمون بالسنبلاوين إلى إرسال متطوعين إلى فلسطين، وتنادى الناس للحرب وللجهاد بالنفس والمال. وتوارت إلى حين جريمة الإقطاع مع عبيد الأرض من الفقراء المساكين. وتحت ضغط رأي عام عارم في أرجاء مصر سيرت مصر جيشها لنصرة عرب فلسطين في الخامس عشر من شهر مايو، وتعجيلا لتحقيق هذا النصر وتأكيدًا له، سرت في السنبلاوين فتوى سمعتها لأول مرة، ولعل المتصوفة أو كتاب التعاويذ هم الذي أطلقوها. كانت الفتوى تقضي باجتماع المسلمين في المسجد بعد صلاة العشاء، ونطقهم المرتل المتتابع أربعين ألف مرة لكلمة واحدة، يوجهونها بقلوب ضارعة إلى الله هي كلمة: يا لطيف، وكفْيِها على العدو، ففيها مفاتيح النصر بمشيئة الله.
سارعت إلى المسجد لأشاهد وأشارك وأرى، وراقني المشهد كله، والناس يهتزون أمامًا وخلفًا برتابة مع الإيقاع مرددين: يا لطيف. يا لطيف. ومع مشاركتي راحت عيناي تتجولان في المسجد وتشبان نحو ثلاثة رجال معممين وجوههم تواجه الناس الناظرين إلى المحراب. يتوسطهم إمام المسجد، وفي أيديهم سبح مئوية الأعداد. أحدهم يضبط بمسبحته عدد المئات والثاني عدد الألوف، والثالث وهو إمام المسجد يضبط عشرات الألوف. ومع نهاية كل عد من العدادين الثلاثة كان من عليه إعلان عدده أن يرفع مبسحته، وهو يزعق: يا لطيف معلنًا ذروة من ذرى عدد مئوي أو ألفي أو عشر ألفي.
بدا لي الجو من حولي مكهربًا يتردد صداه المكتوم بي جدران المسجد، وشعرت به ينداح خارج المسجد عابرًا شوارع السنبلاوين وحارتها، وسيطر عليّ شعور غامر بقرب النصر لا محالة، فطلب اللطف من الله يسير اللحظة في ركاب المجاهدين، ومن حولهم، ومن أمامهم، ومن خلفهم، ومن يمينهم، ومن شمالهم.
وراح الناس صباح اليوم التالي يتابعون أخبار تقدم الجيش المصري وفتكات المتطوعين في الكمائن بأعداء العرب والدين. حتى جاء الخبر المخيف بتراجعات الجيوش العربية المتوالية، وصار دعاء الناس في الصدور وحدها: يا لطيف. نجنا مما يخيف.
(7)
طوال شهور الصيف بالسنبلاوين كان ابن زيدون لا يزال يشكو إليّ من أفاعيل المنفلوطي السابقة معه في عام سابق مطين في نظره بطين، وعشرة زفت مع نفس ملوثة. وكان يمهد لأمر ما، أن أسكن معه في غرفة بالبيت عند الست ليلى، لأكون له أنا الفتى الطيب سترًا وغطاء، فلن يكون مقبولا أن يسكن وحده عندها ليمارس آمنًا حبه وعشقه في ليالي الخريف والشتاء والربيع. لم يقل لي عن نيته هذه حرفًا, فقط قال لي إثر عودته له من الزقازيق، وكان كثير التردد عليها كل أسبوع مرة طوال الصيف، أنه قد اختارني للسكنى معه في غرفة ببيت الست ليلى، فأنا مأمون الجانب، وأتفهم حرقة الحب، ولذعة الجوى.
وكان ذلك ما حدث. طاب لي وأنا شديد الفضول، مغرم بطبعي بمراقبة وملاحظة ما يجري من حولي، أن أرى وأعرف عن قرب علاقة ابن زيدون وليلى.
رأيت الست ليلى، عرفتها من قرب. امرأة سمراء واسعة العينين. قارحتهما نعم. لكنها كانت ممعودة العود، نصف مستهلكة، تكمن وراء طيات جلدها، هي التي تقترب من سن اليأس، نار خفية كامنة مستعدة لمجرد اللمس للاشتعال والتوهج. ولم تثر فيّ أية رغبة. بدت لي مثل تلك الشجرة الوحيدة، على رأس حارة بيتها، متوجة الرأس بأوراق نصف مخضرة، وليس تحتها نبتة حتى من عود واحد. راق لي أن أسمي تلك الشجرة هي الأخرى: ليلى. وحين ذكرت اسم الشجرة عندي لابن زيدون. نظر إليّ طويلا ولم يفهم شيئًا، أو لعله فهم وآثر ترك اللحظة تمر. فقط قال لي:
- انت بتخرف واللا بتألف.
ولم أقل شيئًا.
***
لا أذكر من تلك السنة، وكانت السنة الأخيرة لي بمدينة الزقازيق ومعهدها الديني سوى أنني كنت أذهب إلى المعهد وأعود من المعهد، وأتردد وحدي على دور السينما ومقهى البوسفور، وألعب الطاولة والشطرنج والدومينو لقتل الفراغ، وأبحث عن كتاب أستأجره من فاترينة الشيخ جودة، وانتظر أول الشهر لأشتري مجلة الرسالة أو الثقافة أو الكتاب أو الكاتب المصري، مع أول نزول نسخها القليلة ظهرًا من القطار، من متعهد بيعها بميدان المحطة خشية نفادها.
كانت الست ليلى تسافر بين شهر وآخر إلى بلدتها، وتغيب أيامًا ثم تعود، وذات مرة سألتها من باب المجاملة عن ابنتها ألطاف المقيمة عند أختها، كيف حالها، فنظرت إليّ بدهشة، ثم قالت لي:
- من قال لك إن لي ابنة. ألطاف ابنة أختي وليست ابنتي.
ارتبكت وقلت لها محرجًا فلا أريد أن أسبب لها ولا لنفسي ولا لابن زيدون مشكلة ما:
- لا أحد. اتهيا لي كده.
فقالت لي بحزن:
- لم أرزق من زوجي بابن ولا ابنة. حظي كده، وحظه.
وصمتت لحظة ثم ضحكت وهي تقترب مني، حتى بدا لي أنها تتحكك بي:
- حاعرفك قريب بألطاف. حتيجي هيه وامها عندي. انت شاب طيب، وخام، وابن حلال، وألف واحدة تتمناك.
هممت بالكلام، لكنها قالت لي، وهي تجلس آمنة لي على طرف سرير ابن زيدون، وكأن ما ستقوله قد أصبحا أمرًا ممكنًا وواقعًا لا مفر منه:
- شفت الشاب أبو عمة اللي في البيت اللي قدامنا. أهو ده بقى متجوز من بنت صاحبة البيت الست أم سنية. هوه الراجل الوحيد في البيت، وعنده من سنية اتنين، وأهله ما يعرفوش انه متجوز.
ولم تكذب الست ليلى خبرًا، فقد جاءت الست ليلى إلي غرفتي، ذات ليلة، وقالت لي ضاحكة:
- اتفضل اشرب شاي معانا. عندي ضيوف. إنما مفاجأة ليك.
وألحت عليّ، فتبعتها بجلباب البيت، وبرأسي عاريًا، ودخلت غرفتها. كانت بها حفلة الشاي، وبضع نساء متشحات بالسواد. قدمت لي من بينهن أختها وابنتها ألطاف. وخرجت ألطاف وعادت وقد حملت لنا صينية الشاي، ثم جلبت لنا طبقًا به حلوى شامية، ورمقتُ ألطاف خجلا بنظرة خاطفة، لحظتها الست ليلى وأختها. وجلست ألطاف وهي تختلس النظر إليّ بفضول بوجه محايد. وقالت لي ليلى ضاحكة:
- إيه رأيك في اسم ألطاف. مش اسم جميل بذمتك.
فقلت لها دون أن أنظر إليها ما حضرني من الكلام:
- عاشت الأسامي.
ولذت بالصمت. دخلت داخل نفسي بسرعة، وتحصنت، وأغلقت كل الأبواب المفتوحة. لم يرق لي الموقف كله. اعتذرت عن الحلوى على حبي لها، كأنها ستقودني إلى حتفي لو فعلت. وكان الشاي قد برد، فدلقته في حلقي في جرعات متلاحقة. قررت الفرار وإيقاف الموقف كله عند ما جرى. وتصرفت بجلافة. نهضت في مكاني واقفًا، وقائلا:
- ما علش عندي مذاكرة.
وغادرت غرفة السيدات المتشحات بالسواد. تركتهن جالسات على الكليم فوق الحصير وطرف السرير والكنبة العديدة الوسائد للجنب وللظهر. كانت تلك هي غرفة الست ليلى، وغرفة ساعات ليالي الحب العذري وغير العذري لابن زيدون، حتى بت أسأل نفسي:"لم لا يعيش معها في غرفتها الليل والنهار، ويريحها، ويريح نفسه، ويريحني معهما؟"
دخلت غرفتي، ورددت بابها ورائي، ورحت أستعيد ما جرى، دون أن أفكر في شيء محدد. ولم تفتح معي الست ليلى ذلك الموضوع مرة أخرى، ولم تقل لابن زيدون شيئًا، ولم أقل له بدوري أي شيء. مات الموقف كله كما بدأ، وربما قبل أن يبدأ. ويخيل لي أنه كان ميتًا في قلب معلق بحب جارتي القريبة قربًا نائيًا في السنبلاوين، والبعيدة بعدًا لا يطاق.
***
حين كان ابن زيدون يسافر إلى السنبلاوين، أو كانت ليلى تسافر إلى بلدتها كنت أتعرض في الحالين لحال من التوتر تثير الغيظ والقلق. ففي أيام غياب ابن زيدون، كنت أتعرض لمشاغبات الست ليلى مرة أو اثنتين في اليوم. تدفع الست ليلى الباب فجأة، وتطلب مني شيئًا ما مثل ورقة جرنان قديم، ويداها لزجتان من تخريط البصل، أو تقشير السمك، وتسألني سؤالا عابرًا خطر ببالها عن ابن زيدون، أو عن البنت التي أحبها من بعيد لبعيد في السنبلاوين، فألزم الحذر، ولا أعطيها عقادًا نافعًا في الحالين عما أسأل عنه.
لكن أغرب مرة كانت حين دخلت عليّ فجأة، ورائحة الثوم الفاغمة تفوح من فمها وأصابعها مع رائحة السمك، وتقول لي:
- اقرا لي الجواب ده.
اكتشفت في تلك اللحظة أنها لم تكن تعرف القراءة والكتابة. نظرت إلى يديها اللزجتين المرفوعتين الفارغتين إلا من أثر الطعام. كانت تأكل وقطعت أكلها. قالت لي وهي تومئ برأسها وعيناها تشيران لي إلى جيب صغير بجلبابها البلدي الأبيض المنقوش بنقوش صغيرة خضراء:
- هنا.
كان الجيب بفستانها على بطنها على يمين السرة. ترددت لحظة. كيف أفتح جيبًا لامرأة، وصغيرًا هكذا، ولاصقًا قرب الصرة. وكانت قد اقتربت لتمكنني من جيبها وأنفاسها الأنثوية تلفح وجهي، وكانت على وجهها بسمة توشك أن تنفجر ضحكة. واهتديت إلى حيلة اللصوص في الزحام والقطارات قبل أن تنفجر ضحكتها، وحتى لا تقول لي: يا خيبتك يا خيبتك. مش عارف تمد إيدك لجيب واحدة ست. مددت إصبعين لا غير، وواربت بهما أعلى الجيب، ثم دفعت بهما داخل الجيب برفق قبل أن ينغلق الجيب، محاذرًا أن يشعر بهما جلدها، فقد تحس أنني أزغزغها، وتضحك، وتلقي بنفسها عليّ. وعدت بالإصبعين خاليين فلم يكن بجيبها شيء، سوى ملمسه القطني الساخن بحرارة جسدها. قلت لها:
- ما فيش جواب في الجيب.
فقالت لي متضاحكة:
- الله. يبقى نسيت. أكيد هنا.
وأشارت برأسها ويداها لا تزالان مرفوعتين، وأومأت بعينيها إلى نحرها، وراء قبة ثوبها المفتوح تحت النحر الهضيم. وحين رأت ترددي وحرجي ضحكت. وقالت:
- مالك. مد إيدك ما تخافش. كلنا بنعين حاجتنا الغالية هنا. جوابات. فلوس.
ورقعت ضحكة معلمة. هممت بمد يدي لكنني توقفت. وجدت نفسي كمن يرفع لها ثوبها عن ساقيها، وأدركت في تلك اللحظة أن المنفلوطي كان صادقًا فيما قاله لي. قلت لها بجد قاطع:
- إلا هنا. لما تغسلي إيديكي ابقي هاتيه واللا اقريه انتي.
قالت لفورها:
- ما باعرفش القراية والكتابة. ياه دا انت بتتكسف موت.
وتلفتت حولها فرأت ورق صحيفة فمسحت يديها بها، وعادت إليّ، ومدت يدها إلى نحرها، وراء فتحة ثوبها فوق نهديها، وعادت يدها بورقة. فتحت طيتها. كانت ورقة بيضاء لا حرف بها، ولا حتى الخط الأخضر أو الأزرق. قلت لها بدهشة:
- فين الجواب. دا ورقة بيضا.
وكأنها كانت تعرف أنها ورقة بيضاء، فقد قالت لي بلا تردد:
- الله. يبقى وقعت مني، وأنا باقلع فستاني التاني.
لم يرق لي ملعوبها، فقلت لها بهدوء واحترام بالغين، فقد سقطت من نظري:
- روحي كملي أكل الأول.
انكسفت ليلى لما قلته لها. استدارت إلى الباب. وعند العتبة توقفت، والتفتت قائلة:
- هوه صاحبك حيرجع امته.
خشيت أنا المستأجر المقيم في بيتها إلى حين أن أغلق وراءها باب غرفة أنا بها ضيف، ملحق بضيف، وتملك هي أن تطردنا منها شر طرد. فاكتفيت برد الباب مواربًا، وجلست على حافة سريري. ولست على يقين من أنني كنت لا أنتظر عودتها برسالتها. وتمددت على سريري متناومًا.
وانتبهت حين سمعت صوتها يقول، وقد دخلت من الباب لتوها:
- باقول لك إيه يا جميل. ما تعلمني القراية والكتابة.
أحست من أنفاسي المنتظمة أنني قد نمت فعلا بسرعة. وسمعت صوتها يقول:
- دا انت نمت فعلا... يا بختك.
وأغلقت هي الباب بيدها. ووقع في خاطري أنها لن تأتي إليّ في غيبة ابن زيدون مرة أخرى. ولم أحدث ابن زيدون مرة واحدة بشيء مما يحدث بيننا أو لا يحدث، فلا شيء في الحالين قد حدث أو لم يحدث على الإطلاق. كنت ماهرًا بطبعي في كتم السر عن الغير، حتى لا أضع أية أحطاب على النيران الخفية في الصدور، المستعدة أبدًا للتأجج في أية لحظة حين تثار.
***
وحين كانت ليلى تسافر كنت أعاني الأمرين من ابن زيدون. كان ابن زيدون لا يطيق الخروج من البيت، ولا الغياب عن البيت في غياب ليلاه. يعود من المعهد فيقضي عصر كل يوم في رقدة القيلولة, والليل في ترتيل أشعار لابن زيدون في ولادته. ينشدها لي قهرًا، سواء كنت أستمع له أو لا أستمع، حتى بت أكره ابن زيدون وولادة وشعر ابن زيدون وغريمه ابن عبدوس والأندلس كلها. ومن العجيب أن دموع ابن زيدون لم تجف قط من عينيه، ولعاب أنفه لم يتوقف قط مع أي بيت، ومنديله لم يكف عن التردد في يده بين أنفه وعينيه، لا في ليالي الصيف، ولا في ليالي الربيع أو الخريف، وكأنه يبكي حبيبًا غائبًا لا يعود.
كنت أشعر أنه يمثل التريّل والتباكي والتشاعر في وجود أحد معه ليبرهن على تفرده الثقافي والغرامي معًا، وبت على يقين أنني لو هربت في ليالي غياب ليلى إلى المقهى، فلن يرتل وحيدًا شعرًا لسميِّه، ولن يذرف دمعة، أو يسيل لعابًا، وسيحتاس مع ساعات وقته في وحدته. ولكن كيف المهرب وإلى أين المهرب حين تكون الليلة في مدينة الزقازيق تحت رحمة المطر، ووحل الحارات، وسفع الهواء البارد.
وبدا لي أن عذابات حب الاثنين، وتمثيليات غرامهما اللافح المتلافح، تصب في رأسي وتخنق روحي أنا، وأروح أقول لنفسي:"هانت." وأنا أحسب في نفسي لنفسي ما بقي لي من شهور عامي الدراسي في تلك الغرفة، سجينًا في غرفة أنا الوحيد فيها السجين. وأثور على نفسي فأقول لنفسي:"أنت وحدك المسئول. وأنت حيث تضع نفسك، ولأنك أنت هو أنت فسيظل غيرك يضعك حيث يريد، ما دمت لا تريد بل لا تجرؤ على الرحيل." وسرعان ما تخمد ثورتي وتهمد إلى حين. وأدركت أنا المراهق الغر، في ومضة خاطفة، أنني موجود في هذه الدنيا وغير موجود.
***
كانت أسعد ليلة عشتها في بيت الست ليلى هي ليلة الضحك. في وقت واحد خلا البيت فيه من ابن زيدون ومن الست ليلى. سافرت أنا أولا إلى السنبلاوين أول شهر لأرى أهلي ويروني، وأبيت ليلة الجمعة مع أهلي، وآكل من طهي أمي أكلة غنية وشهية لا أنال مثلها في مدينة الزقازيق, ثم عدت إلى مدينة الزقازيق وبيت الست ليلى عصر يوم الجمعة.
وضع الشيال قفة الزوادة أمام الباب، ودفعت الباب فلم يندفع مصراعه. طرقت الباب مرارًا فلم يفتح لي أحد. بحثت عن المفتاح في سيالة جلبابي، وأخرجت مفتاحين فتحت بأحدهما الباب، وحملت قفة الزوادة بين يدي، ودفعت بركبتي باب الغرفة فلم ينفتح، وكان الليل يبدأ إظلامه بسرعة في فضاء ساحة البيت الصغيرة. دسست المفتاح الآخر في ثقب باب الغرفة، ودفعت الباب وحملت الزوادة ووضعتها في ركن الغرفة بجانب الحلل والأطباق ووابور الجاز. كانت الغرفة شديدة الحر مكتومة الهواء فسارعت بفتح النافذة.
قكرت أن ابن زيدون قد تكرم على الست ليلى وصحبها معه إلى السينما لأول مرة منذ عرفها. كان يخشى أن يراها أحد معه أو يراه أحد معها، ويخشى أن تسير بجانبه، أو حتى أن تسير وراءه بمسافة ما، وهي ولاّدته التي يحبها. وقعت عيني على ورقة على سرير ابن زيدون تقول لي إنه اضطر إلى السفر، وأن الست ليلى اضطرت إلى السفر بدورها إلى بلدها لمرض أختها، وأن البيت في حراستي، وعليّ المحافظة عليه إلى حين عودتهما أو عودة أحدهما, شعرت إثر قراءتي لرسالته أنني تابع لهما، وأنه يتحدث إلى كرب بيت، وهو مثلي مجرد ضيف في بيت الست ليلى.
انتهزت الفرصة، وأخذت دشًّا باردًا على الواقف في حمام الست ليلى، وجففت الماء بالفلاية في أرض الحمام، حتى لا أترك ورائي أثرًا. كان الحمام متاحًا لابن زيدون وقتما يشاء ليلا، ولم يكن متاحًا لي، وكان عليّ أن أستحم دائمًا خلال الشهر في حمامات المعهد، مرة أو مرتين في الأسبوع.
فردت ورقة صحيفة على مقعد خيزراني أمام السرير، وأخرجت مطايب أمي العاجلة، وجلست أتعشي وبجانبي قلة ماء. كان العشاء أمامي حمامًا محشيًا محمرًا، خمسة فرد عدًّا، ومحشرة بها محاشي الكوسة والباذنجان وورق العنب، وقد حشرت بها حشرًا، وحمر وجهها بنار الفرن. طاب لي الطعام، وخطر لي أنه سيفسد لو بقي منه شيء وبات ليلته. أتيت عليه كله: خمسة فرد حمام، حمامة بعد حمامة، ومحشرة المحشي كلها محشية بعد محشية، وعيني على نفسي باردة. فاللهم لا حسد.
أحسست بالتخمة، وشعرت بالظمأ، ولم يكن في بطني متسع للماء، فاكتفيت منه ببعض رشفات، وسارعت بالخروج من البيت. وأغلقت ورائي بالمفتاح باب البيت. وكان جيبي عامرًا بجنيه ونصف مصاريف الشهر، فشربت في الطريق زجاجة كوكاكولا كبيرة لأطفئ حر التخمة، وحين تكرعت استرحت، واستطعت التنفس.
وذهبت إلى أول سينما صادفتني، وكانت بها ثلاثة أفلام شاهدت منها اثنين، ونمت مع الفيلم الأخير في مقعدي، وصحوت حين أضيئت الصالة، وتحركت بها الأقدام، وعلت الأصوات.
في البيت سارعت بالنوم، وطوال الليل كنت سعيدًا سعادة لا توصف بداخلي. لم أحتلم كعادتي حين يمتلئ بطني، لكنني كنت نائمًا أضحك من قلبي، وأواصل الضحك، وصحوت من نومي فجأة من شدة ضحكي في نومي، فوجدتني لا أزال أضحك. وضحكت على نفسي من جديد لضحكي بغير سبب. وهكذا واصلت الضحك حتى نمت مرة أخرى وأنا أضحك.
***
حين صحوت، كان الضحك قد ذهب، وكان الوقت ظهرًا، ورأيت ابن زيدون واقفًا فوق رأسي، يجمع في ورقة الصحيفة أنقاض الحمامات الخمس، وبقايا أوراق محشي الباذنجان، قال لي عاتبًا:
- لم تترك لي شيئًا.
اعتذرت له فأنا لم أكن أعلم متى سيعود من سفره، والطعام إذا بقي سيفسد كله في حر الغرفة، وهونت عليه من شأن الطعام، فقال لي ضاحكًا:
- يا مفتري. خمس حمامات. عددت رءوسها.
ولم أرد عليه. وأخرج مطايب زوادته قائلا:
- طبعا إنت لسه شبعان. وفي الحقيقة أنا حاعين أحسن حاجة في الزوادة لليلى فقد تعود اليوم.
قلت له:
- أنا شخصيا لن أتغدى ولن أتعشي. فين وفين على ما أجوع تاني.
ضحك عليّ، واستمر يأكل. ولم يبق بدوره شيئًا مما أمامه، ولم تعد ليلى إلى البيت في ذلك اليوم. وفي الليل عاودت صاحبي روح ابن زيدون، فشعرت بالأسى، وتذكرت ضحكًا ولى البارحة، ولا أعرف متى سيعود. لكنه في تلك الليلة قال لي ما يريحني وما سيقلقني في الوقت نفسه. لم يتباك في تلك الليلة، ولم يتمخط، ولم يرتل شعر ابن زيدون، وكأنه العارف الوحيد به في الدنيا. في تلك الليلة قال لي:
- اتفقت أنا وليلى على أن نتزوج عند عودتي إلى المعهد في العام القادم طبعًا انت سعيد علشانا. بس حتخسرنا يا صاحبي. حتسكن لوحدك. لكن حتنورنا طبعًا وتشرفنا بالزيارة.
لم أجبه بحرف. لم أقل له أنني سأستريح منها ومنه، ولم أراجعه فيما قال إنه قد قرره. ولم أقل له رأيي في أن هذا الزواج لن ينجح قط، لأنها هي هي ولأنه هو هو، ولن يغير أحدهما الآخر، فهما مجرد غريبين جائعين وظامئين التقيا.
***
ذات نهار، عاد ابن زيدون من المعهد، وقال وهو يضع عمامته على مقعدها الخاص بها، ويعلقها على مشجبه ومسماره الخاصين بهما، ويلبس جلبابه الأبيض المكوي بيد الست ليلى:
- ابسط يا عم. فرجت. سنوات الغربة حتطير، وتعيش مع أهلك.
نظرت إليه مستفهما: كيف؟ فراح يخبرني بخبر ذكره له المشايخ الكبار في المعهد اليوم. ولم تنشره الصحف بعد. في المنصورة عروس النيل ومدينة نجم الدين أيوب وشجرة الدر، يجري الآن الإعداد لافتتاح معهد ديني بقسميه الابتدائي والثانوي، وسينقل كل طلاب مديريتي المنصورة ودمياط وما حولهما إليه.
في الحال، قفز ذهني إلى لحظة نهاية مرتقبة بين ولادة وابن زيدون. ويبدو أن تلك اللحظة كانت تشغل ابن زيدون طوال عودته في الطريق من المعهد، فعلى الغداء لم تكن له نفس لمد يده إلى الطعمية، وطبق الفول المطيب بالزيت والليمون والمبهَّر بالصلصلة، والخبز الطري الشهي العبق التخمير والرائحة. ونهض وراح يروح ويجيء في الغرفة. ثم قال لي بحيرة بصوت عال، ومحدثًا نفسه في الوقت نفسه:
- مش حظ مهبب ليه وليها. متجوز هنا، وعايش في السنبلاوين مع ابويا، ورايح جاي في القطر كل يوم من السنبلاوين للمنصورة، ومن المنصورة إلى السنبلاوين.
والتفت إليّ، وجلس قائلا:
- دبرني يا وزير.
قفز إلى ذهني ابن عبدوس. قلت لنفسي:"ابن عبدوس هو الحل. لكن كيف؟" ولم أجرؤ أن أقول له ذلك.
تمدد ابن زيدون على سريره. وقال لي وهو يحدق في سقف الغرفة الجيري الأصفر:
- لحد ما اعرف لها حل، من فضلك ما تجيبش لليلى سيرة معهد المنصورة، ولو سألتك قول لها إنها إشاعة.
***
بدت ليلى سعيدة إثر عودتها من إنشاص. أخذت موافقة أختها وأهلها، وراحت تستعد للزواج من ابن زيدون. حدثته عن عزمها على بناء غرفة لهما، خاصة بهما على ناصية البيت فوق السطح، وتسوير السطح بسور، وعمل تكعيبة على السطح أمام الغرفة، يسهران تحتها، ويتناولان فيها غداءهما وفطورهما وعشاءهما. ويستقبلان فيها ضيوفهما "الحلِّيين". وسمعت صوتها لأول مرة تغني في غيبة ابن زيدون، وهي في الحمام، وهي في غرفتها وحدها، وهي في المطبخ. لم يكن في غنائها غناء، كانت فيه فقط سعادة. وأحسست بها ذات ليلة وهي ترقص لابن زيدون، فقد كان يطبل لها بكفه، وينقر بأصابعه على ظهر صينية الشاي النحاسية. وملأ الحزن قلبي لأجلها وليس لأجله.
***
ذات نهار، عادت ليلى من سوق الثلاثاء، وقد جلبت معها من السوق عامل بناء، وصعدت به إلى السطح، وراحت تحدثه عما تريده منه، وزادت فطلبت منه في عجلتها، أن يقيم على السطح حتى لا يضيع وقته ووقتها ووقت الغرفة والتكعيبة في المرواح والمجيء، فأقام لنفسه عشة مؤقتة على السطح، ولم يبد ابن زيدون قبولا لعامل البناء في البيت، وراح يلومها لأنه بوسعها أن تؤجل ذلك كله إلى شهور الإجازة الصيفية، فقالت له كما روى لي ضاحكة:
- خير البر عاجله. يمكن تشور بحاجة كده والا كده في البنا، والا في التكعيية وكراسي القعدة، وسقفة التكعيبة. وأكيد حاحتاج شورتك. ومين عارف، يمكن تغير رأيك، ونقدم الزواج، ونكسب الصيف، بدل قعدتك هناك في أوضتك، وقعدتي هنا في أوضتي.
واستسلم ابن زيدون لجنونها، لكنه رفض أن يصعد إلى السطح، أو يجلس مع عامل البناء، أو يتناول معه غداء أو شايًا. أنا وحدي، من باب الفضول لا غير، قبلت دعوتها لي على الغداء معها ومع عامل البناء. كان الغداء غدوة سردين عصر عليه الليمون، وجرد قشره، ونظفت بطنه، وبصل أخضر، في يوم سافر فيه ابن زيدون لزيارة أبيه في مرضه.
بدوا لي على الغداء من طينة واحدة، ومستوى طبقي واحد، عدا أنه كان يقرأ ويكتب وفق حاجته هو كعامل بناء. وبدوا لي أليفين معًا في الحديث والضحك على تحفظهما. ورأيتهما فيما تخيلت يسيران معًا، ويد أحدهما في يد الآخر، ويجلسان معا متجاورين في السينما، ويأكلان معا ترمسًا، وفولا مدخنًا متبلا، وحلبة منبتة، ويمصان قصبًا فائق الحلاوة بزعازيعه المسكرة عند محطة الكهرباء، ويضحكان من قلبهما لهواء كورنيش بحر مويس. ووقعت عيناي على عينيه فجأة، ونحن نشرب الشاي، وهو ينظر إليها نظرة راغبة متقدة محمرة بياض العينين، ووجه يحمر لحظة، ويشحب لحظة.
كان السطح قد خلا من أحجاره المحروقة، وكانت الغرفة قد تم بناؤها، وبقي بها فراغ نافذتيهما ينتظر جلب شباكين جاهزين بزجاجهما وشيشهما وتركيبهما، وفراغ السقف ينتظر شد أخشابه وعروقه فوقها، وبياض الغرفة من الداخل والخارج، ثم يأتي دور التكعيبة الخشبية، وعندئذ ينتهي دور عامل البناء في العمل ببيت الست ليلى.
تلقت الست ليلى رسالة العينين وانفعالات وجهه، وبدت مرتعدة، فنهضت فجأة قائلة بحرج لعامل البناء:
- أنا نازلة تحت. ابق نضف الحتة، ورتب المكان.
ولم تنتظر لتدعوتي للنزول معها. وتركتنا وحدنا، منحدرة على درج السام الحجري المسفلت. ورأيته يطرق ناظرًا إلى حجره مكسوفًا من نفسه، والكوب يسقط من يده. ثم ينهض إلى الغرفة الخاوية تحت فضاء الغروب، وعتمته الزاحفة. وسمعته ينشج نشيجًا مكتومًا. وخطر ببالي أن عامل البناء هو ابن عبدوس، وأن القدر الآن يضحك.
كعادتي لم أقل لابن زيدون كلمة، ولم أنطق بحرف. تفكرت وقدرت وقررت أن أدع المقادير تجري كما الخيل. ورحت أرقب بروح من الرغبة في الشر، ربما، وبروح من الأمل في الخير، ربما، لها، وربما لهما. ورب القلوب وحده يعلم الغيوب.
***
على السطح مرض عامل البناء مرضًا شديدًا. حين ذهبت إلى المعهد صعدت الست ليلى إلى السطح تحمل للسيد عامل البناء فطوره، لقبه ابن زيدون بلقب "السيد" لإغاظة الست ليلى، وربما لشعوره بالخطر منه. وجدته الست ليلى ملقى محمومًا بالغرفة المكشوفة، يهذي ويرتجف، وتصطك أسنانه وركبتاه. جست جبهته بكفها فوجدته كما قالت لي "سخن نار". نزلت هلعة، وسحبت ورقة القطن التي عندها، وزجاجة الخل، وصعدت إليه وراحت تبدل كمادات الخل على جبينه، وسمعته يهذي باسمها. شعرت بالانزعاج، وخشيت أن يسمعه أحد، وبخاصة ابن زيدون. وراحت تفكر في أنه ينبغي أن يشفى ليتم ما بدأه، ويذهب إلى حال سبيله، حتى لو لم يكمل عمله في الحجرة والتكعيبة. ولاحظت أنه كان يتوقف عن الهذيان باسمها، وبأي هلوسة أخرى عن الأحجار والأخشاب، وأسماء سواها، للناس والأشياء، حين تترك يدها فوق الكمادة على جبهته بعض الوقت، كأن فيها شفاءه. بين لحظة وأخرى كانت تسقيه جرعة ماء باردة، مقطرة من ماء الزير في حوش البيت، ترفع رأسه لتسقيه، فتلفح أنفاسه الساخنة رقبتها ونحرها. قدرت أنه مصاب بحمى ما لا تعرفها قد تكون حمى راجعة من التي تروح وتجيء، أو حمى معدية قد تصيبها، وتنتقل منها إلى ابن زيدون، وتتلاشى الجوازة لغير رجعة.
في اللحظة التي أحست بأنه قد نام فيها نزلت، وذبحت له فرخة صغيرة ليشرب شربتها، وفيما الفرخة تنضج على الوابور، أسرعت إلى صيدلية الميدان، وطلبت النجدة من الصيدلي، وحكت له ما حدث، فأعطاها برشامًا لتعطيه واحدة، كلما ارتفعت حرارته، ونصحها بطلب الإسعاف ليذهب به إلى مستشفى الحميات، فلا أحد يعرف أي نوع لديه من أنواع الحمى. ومد يده إلى يد سماعة التليفون ليديرها، لكنها سارعت بمد يدها لوقف يده قبل رفعه للسماعة، قائلة:
- ما لوش لزوم. نستنه شوية. يمكن يخف ونشوف.
كان بالها في أنها لا تعرف له اسمًا بعد، ولم تسأله عن اسمه من ساعة سؤالها له في السوق دون سواه عن حرفته. فقال لها: محسوبك بنا، فظلت توجه له الخطاب من يوم قدومه إلى بيتها بقولها: يا ريس. يا معلم. يا اسطى. يا ابن الناس. ولم تسأله قط عن اسمه. كان عندها أي أحد يؤدي عملا، ويذهب لحاله.
وراحت تلوم نفسها في الطريق: يا خيبتك التقيلة يا ليلى. حد يشغل واحد عنده وما يسألوش عن اسمه، ويآمنه وما يسألوش عن بلده وأهله. وفكّرتْ في أن السؤال عن الاسم مودة وتعارف، وربما لهذا السبب لم تسأله عن اسمه، خشية أن يظن لحظة أنها سهلة المنال، أو يتجرأ عليها ويناديها أو يخاطبها باسمها. وضحكت في سرها على نفسها، فهي تجلس معه، وتساعده أحيانًا بمناولته: حجر، أو كوب ماء أو شاي، أو المسطرين. وهي تفطر معه، وأحيانًا تتعشى معه.
رفعت ليلى رأسه، ودست في حلقه الحبة المسكنة لحرارة الحمى. وجلست ترقبه وقد نام بعد فترة نومًا عميقًا، وغمره العرق، فغطته بلحاف قديم، ورجت أن يكون عرق العافية ليكمل الغرفة، ويقيم التكعيبة، ويرحل بسرعة قبل أن يدمر علاقتها بحبيبها. وخيل لها للحظة من شدة سكونه أنه قد مات، وأنها ستحتاس به، وهي لا تعرف له أهلا ولا بلدًا ولا اسمًا، ويجلب بموته عندها النحس لها إلى نهاية العمر.
***
أحست ليلى وهي في الغرفة الخاوية وحيدة معه بمن يفتح باب البيت، فنزلت مسرعة، وحين رأتني أدخل الغرفة، لحقت بي قائلة:
- الحمد لله انك انت مش هوه.
وجلست تلهث، وراحت تحكي، ورق لها وله قلبي. فطلبت منها أن تكفي على الخبر ماجور، وسوف أقوم أنا بتمريضه، وسألتها عن اسمه، فهزت رأسها نفيًا بأنها لا تعرف له اسمًا، فأكدت لها وأنا في دهشة من أمرها أنني سأعرف.
صعدت إليه بعد ساعة، فوجدته لا يزال نائمًا، وظللت أتردد بين السطح وغرفتي، وابن زيدون يسألني حائرًا:
- مالك؟ فيه إيه؟
فلا أجيبه بشيء، سوى أنني أحب جلسة السطح مع الأسطى البنا، لكي ينتهي بسرعة، ويرحل عن البيت، ويريحنا من أصوات الجرجرة للأشياء، والخبط، والدق، والرزع.
ثلاثة أيام مرت. وهو في وقدة الحمى تنزل ساعات، وترتفع ساعات، ولا تكاد تبدأ حتى أسارع بإخمادها. وفي اليوم الرابع فارقته الحمى، ووجدته جالسًا مهمومًا يدخن. هنأته بسلامته، وتوددت إليه حتى أنس لي، فسألته عن اسمه فقال لي:
- علي محمود.
وذكر لي اسم بلدته، وعائلته، وحدثني عن فشله في التعليم لفقره وفقر أهله. وقفز إلى رأسي خاطر حين سألني مترددًا عن ست الستات، الست ليلى. هكذا لقبها. خطر لي أنه قد وقع في عشقها، وأن حُمَّاه كانت بسببها، وقد واتته الحمى في اللحظة التى كسرت فيها خاطره ونحن نشرب الشاي. رجوته أن يستريح حتى يشفى تمامًا، وطمأنته أن ست الستات ستعاود الصعود إليه حين يتأكد لها شفاؤه، ويعاود العمل. فلم يكذب لي قولا، وتمدد وغرق في النوم.
***
حين خلا البيت من ابن زيدون، خرجت إلى حوش البيت، واقتربت من باب غرفتها، وتنحنحت كأنني في طريقي إلى الحمام، وعدت لأقف على باب غرفتي. كان ذلك سيمًا بيني وبينها. لحقت بي في الغرفة، فأخبرتها باسمه، وقلت لها ضاحكًا:
- وبلده يا ستي قريبة من بلدك واسمها.. يعني بلديات.
ولا أدري لم صاحت بي:
- تف من بقك.
وسارعت بمصارحتها مداعبًا، حسب ظني، بأن مرضه كان بسبب حبه لها، وكسرها لخاطره، فلطمت لفورها خديها، وقالت:
- يا خيبتك التقيلة يا ليلى. بيحبني.
ونهضت غاضبة، وهي تقول لي:
- يبقى حاطرده. أنا ناقصة هم ومشاكل. كفاية اللي بيه.
طلبت منها أن تتصرف بهدوء وحذر معه، وألا تتسرع بطرده فتدمره، وتعالج المسألة برفق وحكمة. واكتشفت فيما بعد أنها لم تكن بحاجة إلى نصائحي.
***
لا أعرف كيف جرت الأمور بينها وبين علي البنا فوق السطح، في الغرفة التي لم تستكمل على يديه وجودها وشكلها، والسقيفة التي توقف مشروعها كله عند ليلى، وكأنها قد عدلت عنها، ولم تعد بحاجة إليها. ولاحظت أن ابن زيدون لم يعد يرى ولادته ليلا إلا كل حين ومين. ولاحظت أن ليلى صارت تصعد كثيرًا إلى السطح في غياب ابن زيدون حاملة معها لعلي البنا، ولنفسها ما لذ وطاب، من طعام وشراب، ولاحظت أن علي البنا كان يغني فوق السطح غناء خفيضًا أغاني من أغاني المحبين، في أوقات الضحوات والعصاري، وعندئذ تنتصب أذنا ليلى كما الفرس، مصغية إليه، ولا تلبث أن تصعد إلى السطح بيد تحمل شيئًا من طعام أو شراب، أو بيدين فارغتين، مصطحبة معها وجهها المنظف من كل زغب، تحت الأنف، أو حول الرموش والحاجبين، ورائحتها العطرة، وعينيها المشرقتين السعيدتين.
ثم حدث ما دفع بالأمور كلها بين ابن زيدون وولادة إلى ذروتها وانحدارها في وقت واحد.
***
ذات ليلة، رأيت ابن زيدون جالسًا عاري الذراعين في فانلة حمالة بلا ساعدين، يدهن بطون وظهور ساعديه وعضديه بمرهم ما تفوح منه رائحة دوائية مزعجة كرائحة كبريت الجرب. سألته عن مرضه مرارًا، فلم يجبني مرارًا، وحين زهق مني قال لي اسم مرض سري لا أذكره، وربما كان هو الزهري. وفي مرة أخرى باح لي بأنه أخذه بسبب الضعف والدناوة، من بنت ليل من الواقفات تحت أشجار بحر مويس، ناسيًا أن يأخذ احتياطه كما يفعل الكثيرون بدهن نفسه بعصير الليمون، وإجبارها على وضع حبة اسبرين باير في جوف موضع اللقاء معها هي ابنة الليل، كما اعتاد الكثيرون أن يفعلوا. ورأيته مرة واقفًا بشاربه الكث متخفيًا في جلباب وطاقية بطابور الرجال أمام مستشفى الأمراض السرية. وفي مرة باح لى بأنه لا يستطيع الاقتراب من ليلى، ولا الذهاب إليها.
ومرت الليالي من بعد ومن قبل عليّ في الغرفة معه، مستريحًا من بكائياته وترتيله لأشعار ابن زيدون، أراه وهو يدير بيده مفتاح محطات الراديو حتى يعثر على أغنية عربية ترثي الهوى الذي ولى، وتعترف على لسان الحبيبة أو الحبيب المغني بأنه يستاهل كل اللى يجرا له. وأخمد الراديو ذات ليلة، وتمدد وأدار ظهره لي موليًا وجهه نحو الحائط، تحت سجاف النافذة. وهمس من مكانه لي:
- أنا ضيعت بحماقتي حبًّا عظيمًا. أنا اللي ضيعت ولادة. وفاز بها ابن عبدوس. دناوتي هي السبب. دناوتي هي السبب.
وأجهش ببكاء مكتوم، واقتربت منه. جلست على سريره، ورحت أواسيه وأهون عليه الأمر، ورائحة مراهمه تقرفني. ولا أعرف متى استغرق في نوم عميق, وعدت إلى سريري وقد استولى عليّ خوف مزعج، فإذا كان ما بذراعيه مرضًا معديًا، فقد انتقلت إليّ العدوى، وسوف أبيت متهمًا عند أهلي وطلاب المعهد بالدناوة والفجور.
***
في الصباح، خرجت عفوًا إلى باب الحمام. عبرت الساحة المكشوفة الصغيرة، ورأيته واقفًا مع ليلى، وهي تقول له بصوت هامس مرتفع بعض الشيء:
- بعد إيه؟ بعد إيه؟ مستحيل. ما كنت قدامك ليل نهار. عمري قلت: لأ. تجيب لنفسك بلوة ليه. تخوني ليه, عياك معدي ووسخ، وكمان فضيحة. تنساني خالص، وتروح في حالك يا ابن الناس، وتسيبني في حالي، وتريحني من شعرك اللي لا يودي ولا يجيب، ولا عمري فهمت منه كلمة.
في الأعلى، فوق السطح، توقف الغناء الضحوي لعلي البنا. وفكرت أنه كان يرهف السمع، وأنه يعرف أن ليلاه كانت على علاقة بصاحبي الذي لم يجلس معه يومًا. وقدرت أن ليلى قد اعترفت له بكل شيء لتضعه في النور. لم يكونا قد رأياني في وقفتي على غير قصد أنظر إليهما وأسمع، وأنتظر فراغهما من التلاوم، لأدخل الحمام على مضض وعجل. حين رأتني دخلت غرفتها، وأغلقت بابها في وجه ابن زيدون، فسارع بالعودة غاضبًا إلى غرفتنا.
في غرفتنا قال لي ابن زيدون:
- على إيه وجع القلب دا كله. دي معضمة ومكارة، وبتاخدني على قد عقلي، وجاهلة كمان. حولت أعلمها كتابة اسمها بس فشلت. أحسن اللي حصل. أحسن اللي حصل.
وراح يردد لنفسه مؤكدًا: أحسن. أحسن, أحسن. وجلس على طرف سريره قائلا لي بتوجس:
- يا ترى حتحكيله إيه عن ليلى، وعني، وعن الواد البنا الصعلوك اللي فوق. مش عايز حد يشمت فيه. أنا اللي سبتها مش هيه اللي سابتني. اوع تشمته فيه.
كان واضحًا أنه يشير إلى صاحبنا المنفلوطي. ولم أقل له شيئًا.
***
في الصباح، جاءت ليلى إلى غرفتي. وجلست مطرقة برأسها على طرف سريري، وقالت لي:
- أنا بنت أصول. جاهلة نعم. لكن بنت أصول. خليكوا في الأوضة لحد ما تسافروا. بس قول لصاحبك إن مش عايزاه يوريني وشه وهو في البيت ولا يخش حمامي. لو شفته مرة واحدة، أو شافني مرة واحدة حاطرده من البيت.
وأحست بالحرج مما قالته، فقالت لي وهي تنهض:
- الأوضة من النهارده أوضتك، لو مشي ولو قعد. انت راجل طيب ونضيف. وبوش واحد. والأسطى علي حبك قوي.
وهي عند الباب قالت لي:
- أنا والأسطى علي اتفقنا على الجواز. هوه من توبي، وأنا من توبه. بيحكي لي حكايات ورا حكايات. وبيخليني أموت من الضحك. وزي الخاتم في إيدي.
***
قبل موعد عودتنا إلى مدائننا الصغيرة للمذاكرة، ضحكنا نحن المجاورين من سكان حي كفر "أبو حسين" من قلوبنا. على مجاورين اثنين، من قرية واحدة. يسكنان معًا غرفة في بيت، ويذهبان معًا إلى المعهد ويعودان معًا من المعهد إلى الحجرة التي يسكنان بها، والتي لم تطأها قدم أحد سواهما، ويذهبان إلى المسجد معًا ويعودان معًا، ولا يرى أحدهما إلا مع صاحبه ورفيق سكنه دون سائر خلق الله. ولا أظن أنهما قد سارا معًا على كورنيش بحر مويس مرة، أو ذهبا إلى السينما مرة. كانا بالنسبة لنا نحن المجاورين وكأنهما لا وجود لهما في الحي.
ذات عصر، سمعنا أصوات شجار ومطاردات في الحي. جذبنا الشجار إليه، وحين عرفنا السبب ضحكنا من قلوبنا، وضحك معنا أهل الحي، وراح الكل يضرب كفًّا على كف. كان سبب الشجار هو الخلاف بينهما على اقتسام مليم، بقي من ميس الشهر المشترك بينهما، ولم يكن مع من بيده الميس فكة مليم، فطلب من صاحبه تأجيله إلى حين، فأبى صاحبه إلا الآن، أو يعطيه هو المليم ولا يستكرده وينام هو عليه.
ودبت الخناقة. وتطورت إلى عناد أحمق، فالمليم على المليم يساوي جنيه. وأبى الاثنان الحصول على فكة المليم من أي أحد من المجاورين في الحي، أو يقبل التبرع من أحد المجاورين بمليم آخر لفض المشكلة بينهما، وإيقاف ضحك أهل الحي عليهما وعلينا. وأبى كلاهما أن يترك الغرفة لصاحبه, وعندئذ قدم من بيده ميس الشهر المليم كاملا لصاحبه، وهو يستعوض الله في نصف المليم، لكنه أصر على اقتسام الغرفة، وباب الغرفة أيضًا بينهما بالطباشير، وكأن الطباشيرة كانت جاهزة في جيبه، فقد أخرجها من جيبه، وقسم بها الغرفة قسمين. وقسم مدخل الباب من عتبته قسمين. وشرط ألا يدخل صاحبه من مصراعه بالباب، وألا يطأ بقدمه نصفه الخاص به في غرفة السكن. وقبل الآخر. وانتهت المشكلة، ولكن ضحكنا نحن المجاورين، وضحك أهل الحي بكفر "أبو حسين" لم ينته في تلك الليلة، ولا ليالي أخرى بعدها.
***
انتهى آخر امتحان لي بمدينة الزقازيق، ورحت أودع في روحي مدينة التيه إلى غير عودة، فوق سطح عربة من عربات قطار الدلتا، وأودع معها ذكريات قطارات العساكر الإنجليز، ومستشفى الأمراض السرية، ومقهى البوسفور، وحي الوسعة الذي لم أره إلا عن بعد ولم تطأه قدمي، والبنات الضائعات الواقفات تحت الأشجار على رصيف كورنيش بحر مويس، في وقدة حر القيلولة، أو ظلام الليل، ينتظرن الزبون من راغبي الجنس على الواقف، سقطت في نفسي سبع سنوات عجاف كسنوات فرعون، أو لعلهن سمان كسنوات يوسف.
لا أعرف كيف قفز أو انحدر إلى رأسي فجأة المجاور خضر دون سائر المجاورين، وأنا على سطح قطار دلتا يقترب بي من مركز ديرب نجم فصحبته.
كان الولد أو المشيوخ خضر، من المترددين على وسعة الزقازيق كل خميس، والمرددين دائمًا لشعار: الإنسان ليس مسئولا عن نصفه الأسفل. النصف الأسفل يتحرك وحده، ويفكر وحده. وكان من المتغنين بمسرات الحرام ولذائذه، على الأقل لاختبار رجولة الرجال، قبل أن يصابوا بفواجع الربط والعنَّات في ليلة العرس، وما بعد ليالي العرس. وبدت نهاية خضر المجاور بائسة ومضحكة.
السطوحي صاحبه وبلدياته ورفيق سكنه، ضاق به، وبنزقه، وبإثارته لمنازغ ومنازع الشياطين في نفسه، فأرسل رسالة من مجهول إلى أبيه، بقلم غير قلمه، دفع فيها إلى كاتبها عشرة قروش. وتربص الأب المفجوع بولده خضر، فطب سرًّا على مدينة الزقازيق، وقبيل التاسعة مساء يوم خميس، كما ذكرت له الرسالة المجهولة، تربص بولده مستترًا بظلام الليل، على رأس الحارة التي بها بيته بكفر الحريري، ورآه يخرج من البيت، فتبعه من بعد قريب حتى دخل به حي الوسعة، ورآه يتوقف عند باب مفتوح، ويدخل البيت، وظل الباب مفتوحًا ينتظر دخوله بدوره. وانتظر الأب وهو لا يصدق ما رآه، وقد قرر أن يضبطه، وهو متلبس معها على سريرها.
في اللحظة التي قدرها، خرج من مكمنه، واتجه إلى الباب المفتوح، كانت بصالته الطينية لمبة بشعلة تتراقص ذبالتها مع هواء الليل. ورأى بابًا مفتوحًا على يساره لغرفة مضاءة، وتنصت متسمعًا حتى رأى أن لحظة التلبس تحدث الآن، فنزع كوفيته الطويلة عن رقبته، واندفع هائجًا إلى الغرفة. وقبل أن يفيق المتلبسان المنتشيان كانت رقبة خضر قد أحيط بها بكوفية أبيه الطويلة، وكان خضر يجذب بها من فوق السرير، والبنية التي على السرير تصرخ مستنجدة بنساء الحي وقواديه. وراح الأب يضرب ابنه خضر طوال الطريق للخروج من الحي بفردة بلغته، ويسبه، ويسب بذرته الشيطانية، وأمه التي جاءت به إلى الدنيا، والليلة السوداء التي اقترب فيها من أمه. وسمع الكل الأب يقول لخضر:
- انت طالب علم انت. انت فاسق وفاجر يا ابن الصرمة. حترجع البلد معايا تزرع وتقلع، وفضيحتك وفضيحتي للركب. وإن ما عجبكش الحال يا فرطوس يا ابن الفرطوسة، حاطردك من البيت وتشتغل تراحيل.
وهم القوادون، كما يقول الرواة، بالتجمع على الأب الهائج كما الثور، لكن كبيرهم أشار لهم فتوقفوا. وسأل البنت التي كانت معه: دفع والاّ لأ. فهزت رأسها وهي تضحك، فانصرف القوادون، وعادت النسوة إلى البيوت، وعادت فتاة خضر إلى بيتها تاركة خضرًا لمصيره، فهو واحد لا غير ممن يأتون ويذهبون، بموعد وبغير موعد. من الأفندية والعمال والمعلمين وأعيان الريف والمشايخ الصغار المتنكرين في ليل أو نهار.
واختفى خضر من مدينة الزقازيق، وجاءت الأخبار بأن "خضر" قد هرب من أبيه ومن القرية بعد عام واحد، فقد سدت في وجهه كل أبوابه وتباعد عنه كل من يجايلونه، ويقولون إنه قد اشتغل ابن ليل، ويقولون إن أول ضحاياه كان السطوحي بلدياته. جرجره خضر وهو لا يدري إلى الغاب على شط المصرف الكبير وذبحه ورمى به في المصرف، مع الحمير الميتة.
***
حين اقترب بي القطار من مركز ديرب نجم، عائدًا بي من سنوات التيه، نفضت عن نفسي الأسى، والرغبة في البكاء, هببت واقفًا فوق سطح قطار يسعى بين المزارع والقرى كالسلحفاة، ودرت بعيني في مزارع خضراء فسيحة مترامية على مدى البصر، يحنو عليها أفق جيري كقبة سماوية. أبهجني المشهد في وقدة الحر، فردت ذراعي على جانبي على اتساعهما، ورحت أرقص دائرًا حول نفسي، فوق سطح عربة تتراقص بدورها في سيرها، وزعقت من قلبي كالأهبل: هيه.. هيه.. أنا حر.. أنا حر.. فجأة. لطشني في عنقي سلك ممتد بميل بين عمودي تليفون على جانبي الطريق. سقطت أتدحرج فوق سطح العربة، وسقطت معي صرخة الحرية. كدت أسقط من فوق العربة على الطريق، أسعفتني يدي وحلاوة الروح، أمسكت يدي بدائرة التهوية البارزة وسط العربة، وتشبثت بها، ورفعت بصعوبة ثقلي المتدلي على جانب العربة. وجلست أتنفس منبهرًا ولاهثًا. لا أصدق أنني نجوت. وحين لمحت السلك يتراجع أمامي أدركت ما حدث، ورحت أرتجف، وتحسست لسعة السلك على عنقي. وحين هدأت لم أجرؤ على الوقوف مرة أخرى فوق العربة. زحفت فوقها متأرجحًا معها، ثم تدليت بين عربتين، وقد غمرني الخوف من السقوط بينهما، أنا الذي اعتدت التسطيح فوق عربات القطارات والعدو فوق عرباتها من عربة إلى عربة.
حين جلست في مقعدي، لاحظت أن جاري الريفي يحدق في عنقي، ويقول لي:
- حد ضربك بكورباج؟
لم أجبه. وبكيت، وغفوت.