1-د:
عزمت أن أملأ خزان السيارة بالبنزين، وأن أسلك الطريق الساحلي.. أتوقف حين يصل عدَّاد الوقود إلى النصف. لن آخذ الماء، ولا الأكل، ولا النبيذ.. أريد قضاء يوم هوائي بامتياز. زهدت في الغطاء. اكتفيت ببعض الملابس التي يميل لونها إلى الزرقة. كنت أميل إلى تفضيل ما هو محلي منها.
أتعبني الوافد!
لم تعد الفكرة في عِدَادِ العزم، أنا الآن قابع خلف المقود أنتظر ارتفاع نسبة سخونة المحرك. صعدت من المرآب على أصوات وإيقاعات تحيل نبراتها إلى ما هو مادي جامد، مُخْتَلِطٍ بما هو إنساني ناطق.. من المؤكد أن روائح المرآب البهيمية سوف تتقلص بدءا من اليوم! فلم أعد أفرق هذه الأيام بين رائحة بول النِّعَاجِ والآدميين، وبين رائحة فضلات الخِرَاف وغائط البشر!
كل من صادفتهم.. من الأقارب والخلان والجيران والأصدقاء.. ألتقيهم إما حاملين أو جارِّين.. يربطون أو يطعمون.. يصورون أو يعانقون المواشي.. يدردشون حول أصل ومفصل الخروف: أركيولوجيا وجينيالوجيا خَرُوفِيَّة. جاري المهندس، يلف عنقه بخروف أبيض ناعم، ألقى التحية ونصف جسمه العلوي مبلل، لا أستطيع أن أجزم هل بالعرق أم بالبول أم بهما معا؟! الروائح متشابهة.. جارتي الأستاذة، طلبت مني يد المساعدة لرفع ما بداخل صندوق سيارتها، فاعتذرت بدعوى أن يدي تؤلمني، وكانت بعض آثار الفضلات على سروالها الأبيض الملتصق على فخذيها المنتفخين انْتِفَاخَ بَطْنِ ما اشْتَرَتْ.. جارتي المقابلة، النحيفة الطويلة، تعقل قوائم خروف غليظ كبير وكأنها تنتقم من نحافتها الطبيعية.. لا أعرف من سيزدرده معها وهي الوحيدة المبتسمة التي لا تربطنا بها إلا دقات كعب حذائها الوحيدة المنتظمة!
2ـ م:
استرجعت صور الأسبوع الماضي: في اللحظة التي أجلس فيها بمقاهي المدينة، أخطف الوقت خطفا من الزمن المنساب بسرعة، أشاهد عددا كبيرا من الأشخاص، يعرضون سلعا من نوع خاص على رواد المقاهي. سكاكين من أحجام متباينة.. سفافيد مختلفة الأشكال.. فحم صناعي.. مبارد براقة.. مناشير جذابة!
ينبهك البائع وأنت الغائص في كتاب، فتفتح بصرك على سكين يكاد يثقب عينيك:
ـ "إنه صيني".. يخاطبك البائع وهو يقلبه مصوبا إياه نحو قلبك.
ـ "شكرا".. تقول بلطف المستسلم غير القادر على رَدِّ الاستفزاز.
3ـ و:
حاولت أن أرصد عدد الباعة، وأن أحصي بسرعة عدد البضاعة.. وأن أضرب عدد الباعة في عدد الشوارع التي أجلس بها خلال الأسبوع.. وأن أقارن الأعداد بالشوارع وبحجم المدينة.
وَاوْ.. يَاهْ.. هل نحن في حرب؟! عدد السكاكين والسَّفَافِيدِ والمناشير كبير جدا! ما الداعي لكل هذا سنويا؟ أين ذهبت الأدوات التي اقتناها الناس في الموسم الماضي أو خلال الأعوام الفائتة؟ مع العلم أن نزعة الذبح هاته تسري بين الغالبية العظمى من الناس، فما يكاد الفرد يمسك بالموسى حتى يهدد بها بائعها أو زميله، في مشهد درامي عجيب!
يَاهْ!... وكأننا نصور مشاهد سينمائية من أفلام رعاة البقر في حرب إبادتهم الضروس للهنود الحمر! تصورت أن المدينة، وما عداها من مدن البلاد، وما حوت من عباد.. أو لنقل البلاد كلها.. ولِمَ لا نمطط خيالنا ليشمل الدول الشبيهة لنا في العادات؟ فنقول بأننا أصبحنا في بورصة مفتوحة لعرض الأدوات الحادة!
حاولت أن أدفع بالخيال إلى مداه: ماذا لو جُنَّ هؤلاء الباعة وحَوَّلُوا ما يحملونه صوب بطون من لم يرغب في اقتناء ما يعرضونه فبقروها بقرا؟ وماذا لو جمعنا هذه الأدوات في ساحة ما وحَوَّلْنَاهَا إلى نَصْبٍ فني تذكاري؟ وماذا لو واجهوا بها ذلك العدو الذي يتصدر أمره جدول أعمال اجتماعات حكامهم؟
4ـ ي:
أثناء السِّيَاقة الشاردة.. تنبهت إلى أنني أمر من مدينة كل أماكنها التجارية مغلقة، وحدائقها خالية.. بعض المجموعات من الناس يشعلون مواقد النار بطريقة تقليدية، مستعملين الخشب والحطب والعجلات المطاطية المنتهية الصلاحية، ويحيطون بالنار بطريقة طوطمية لا تخلو من طقوسية.. هناك من يحرق رؤوس الخراف وأرجلها على هذه المواقد. رائحة الصوف المحروق، واللحم المشوي، والدم، والدخان، والمطاط، وروائح أخرى لم يستطع أنفي تمييزها رغم شساعة ثُقْبَيْهِ: رائحة اللارائحة. بحثت دون جدوى عن محل تجاري يمكن أن أقتني منه ـ ولو افتراضا ـ بعض الحاجيات.
شاهدت في مرآة السيارة الداخلية، وأنا أبعد بضع كيلومترات عن المدينة، غمامة خفيفة السواد، يسودها بعض البياض، تطفو فوق المدينة وهي تشبه غمامة الغاز الفسفوري.. حاولت أيضا أن أترك العنان للخيال: ماذا لو سقطت الأمطار من تلك الغيمة؟ كيف سيكون لونها وطعمها؟
قد يقلب هذا الحدث، لو حدث، التعريف العلمي الكلاسيكي للماء: لا لون، ولا رائحة، ولا طعم له…!
ماذا لو ساهم ماؤها في تلقيح نبات يشبه شكله شكل السكاكين والسواطير والخراف؟!
5ـ ي:
ركنت إلى قارعة الطريق متأملا سكون هذا الخلاء الذي أقف فيه! لا سيارة تمر عبر هذه الطريق الدائمة الاكتظاظ.. بعض الطيور تمر من حين لآخر في صمت وكأنها تحس ما يقع!
تخيلت منظر الناس وهم يزدردون اللحم وسط الدخان في منظر شبيه بتصوير مشهد سينمائي كانيبالي في عمق أدغال غابة الأمازون.. يتلذذون في كل مكان بعد أن قتلوا كَمًّا هائلا من الخرفان الوديعة، منتشين مزهوين بما يأكلون ويفعلون! سرت بعض الأمتار وسط حقل غير محروث، نباتاته المختلفة الجميلة تسر الناظر من فرط الانسجام، لم أجد طريقة ما أخلصها بها من وطأة حذائي! ولكن الطبيعة هكذا! نقوم بأشياء لا نرتاح لها، ولا نستطيع تقديم البديل! نجد المتعة في تدمير الجميل المنسجم!
استنشقت كمية كبيرة من الهواء الخالي من روائح السيارات والروائح الأخرى.. كما يستنشق مدمن الكوكايين جرعات المخدِّر بعد طول انقطاع. أحسست بأنها تصل إلى كل الشعيرات الدموية والمسام الجلدية والخلايا العصبية والألياف.. تسري في الجسم سريان الماء في الورق الصحي (Papier hygiène). ألقيت بنفسي، دون حذر أو تحفظ، فوق ربوة صغيرة تاركا أشعة الشمس تُنْعِشُ هذا الجسد الذي كاد أن يتحول إلى تمثال في شقة من شقق الإسمنت المسلح، وكاد أن يتكلس ويتقلص ويَتَيَبَّسَ. مَنَحْتُهُ فرصة الارتخاء كما يرتخي عنكبوت في عشه بعد صيد ثمين.
6ـ ي:
تابعت السفر إلى أن وَصَلَت سعة خزان الوقود النصف، عرجت على ساحل فسيح. أزلت الحذاء والجوارب. تركت جلد رجلاي ينتشي لذة التَّمَاسِ الساخن بحبيبات الرمال، وتَحَسُّسِ أَثَرِ وَخَزَاتِهَا الشبيهة بمفعول آثار وََخْزِ الإبر الصينية. تركت الفرصة للعين كي ترى دون حاجز. سئمت مناظر العمارات التي كسرت أفق الرؤية بالمدينة! دنوت من الماء ببطء. كانت الأمواج تنكسر بخفة وغنج على الشاطئ.. وكان الصفاء سيد المكان. تحررت من ضغط الاستيقاظ في السابعة صباحا، ولعنة الساعة البيولوجية، وأداء الفواتير الجزافية التقديرية المنتفخة دون تدقيق. تحررت من كلمتي "حبيبي" و"بابا" التَّمَلُّكِيَّة.. لا أريد أن أملك أحدا، ولا أريد أحدا أن يملكني.. ولو من باب اللياقة والحلم! وها أنا أَبْعُدُ عن الواجبات والوجبات: يتشابهان من حيث الثقل!
أنا الآن في حضن الطبيعة العذراء. لا أُحَاسِبُ ولا أُحَاسَبُ. أبحث عن الفطرة التي كادت الثقافة أن تجففها.. وتكرس وحشية جديدة. الثقافة تخلق طبيعة ثانية.. لها طبيعتها... تحررت من كل هذا، وها أنا اليوم ضائع، عن وعي، رغم أن الكثير يريدني أن أقاسمه "سفُّود" الكباب في أجواء أسطورية.
تخلصت من علب الدواء، ورائحة قارورة الغاز.. آه.. أف! كم أكره حملها وتغييرها! تخلصت من روتين وقهر الانتظام في الوجبات والعمل والمواعيد. سئمت أجوبة التلاميذ والطلبة العشوائية. مللت الدخول والخروج من المرآب وتسخين السيارة ومراقبة الماء والزيت. الآن! تخلصت من كل شيء، مرحليا على الأقل. تركت المدينة التي داهمتها الأكباش. تركت الناس يفترسون، وهربت كي افترس خلوتي ووحدتي. لا أكلم أحدا ولا يكلمني أحد. تخلصت من لغو الناس أيضا، وانصرفت عن القطيع. تركت القطيع يفترس القطيع. لا أفهم كيف أن الناس يقترضون من أجل شراء الكبش؟! بل منهم من أغرقه الكبش في سلسلة دسمة من القروض.. ما يكاد ينتهي من الدفعة الأولى فتلحقه الثانية! حلقات متصلة من أجل سواد عيون الكبش، وكبر قرونه، وأصله ومفصله، وحلاوة لحمه، وبياض شحمه، وسمنته، وطراوة كبده.. كاد المقترض أن يصبح قردا!
7ـ و:
بدأت الشمس تنطفئ في البحر. ظهرت غيوم بيضاء متفرقة في كبد السماء. حاولت جمع بعض أشيائي المتناثرة على الساحل. لا وجود للصوص الشواطئ. عادت مناظر وآثار الذبح تتكالب على مخيلتي: الدم الملبد، محتويات بطون الخراف، القرون المقطوعة، الجلود، الزوائد، المجامر المليئة بالرماد وببقايا الفحم والشحم.. تذكرت كم أسرة سَوَّدَت عيني الخروف بالكحل، وقدمت له الحناء أكلا قبل الذبح؟! وكم أسرةٍ وضع أفرادها أقدامهم في بُقَعِِ دَمِ الخروف الساخن سيرا على العادة؟! وكم من العائلات تحفظ دمه في قوارير أنيقة؟! وكم فتاةٍ وضع أهلها الدَّوَّارَة فوق رأسها طمعا في عريس مرتقب؟! وكم أسرةٍ عَلَّقَت "مَرَّارَة" الخروف في مكان ما من بيتها كي تيبس المشاكل بيبوسها؟! وكم من الناس علق قرون الخروف فوق باب منزله طردا للعين؟!
يبدو أنني لم أستطع التخلص من هالة هذه الطقوس إلا عبر البعد المادي عنها.. لكنها احتلت مخيلتي طيلة هذا اليوم!
8ـ ن:
عدت ليلا. الروائح تهاجمني رغم أن كل أبواب ونوافذ السيارة محكمة الإغلاق، ومكيف الهواء يقظ.. صعدت من المرآب وأنا أعطس. فتحت المنزل فإذا بغيمة من الدخان تستقر داخله وكأنني ذبحت الخراف، وأشعلت المواقد، وشويت الكباب إرضاء للأحباب.
مراكش: يناير 2009.