القاص التونسي يكتب عن امرأة تنتظر شخصا ما يمثل إمكانية تحققها ورمزا لما تعشقه، ويصير انتظارها رغبة عارمة في لقائه وتنطلق بحثا عنه متخلصة من كل ما يعوقها ويمثل ثقلا على وجودها وغير عابئة بمن يحاولون الحد من رغباتها.

عارية

خير الدين الطاهر جمعة

في ذلك اليوم لم تكن وحدها، نظراتها التائهة في مقر عملها هي نفسها التي كانت في الطريق.. بحثَتْ عن شيء في الطريق لم تجده رأت الناس يتحركون بسرعة..شعرها يلاحقها متعبا و هي ممعنة في سيرها..انتبه إليها البعض..دلفت المقهى أرادت أن تتملى الأشياء والكائنات..لم تكن وحدها..كانت معها نظراتها الخضراء و شفتاها المستلقيتان تحت أشعة شمس الشتاء بتعنت و الملتحفتان بأحمر الشفاه..تبحث عن شيء بلا هوادة تلتفت يمينا وشمالا تقف عند محطة الحافلة تنتظر شخصًا ما.. مازالت تلتفت..ربما تأخر في المجيء..حذاؤها الإيطالي بكعبه الرشيق العالي يمعن النظر من عليائه في المارة علَّه يجد أنيسا ينسيه ملل الانتظار و عفن الاسفلت الرديء لكنه يتحرك في النهاية مواصلا طريقه..شامخة هي و جذلة تواصل طريقها تلاحقها خصلات شعرها الكستنائي..صدرها يهتزّ بحرية جميلة  كلما نزل حذاؤها من على الرصيف..عيناها ماضيتان بكل قوة و إصرار إلى الأمام.. هواء الشتاء البارد ينزلق على خدها..يحاول الانتظار بدوره قليلا عبثا يواصل طريقه حاملا معه العطر الفرنسي الهادئ..تتوقف عند حديقة عامة مازالت تلتفت بتوتر..لا أحد هنا ترفع نظرتها الخضراء إلى الساعة الدائرية الباردة..إنها الساعة العاشرة..تُحكِمُ ياقة معطفها الأسود على عنقها و تواصل طريقها... هذا الطريق الأخاذ لمْ تنسه تمشي بخطوات ملتفتة مازالت تبحث أو ربما تنتظر..الطريق الطويل لم يتغير والمارة فيه عيون متحركة أنهكتها الأيام..تدلف مقهى آخر تطلب قهوة سريعة تنفث دخانها بتلذذ ترفع نظرتها الخضراء الأخاذة لتوقف تطفل عيني النادل الجريئة..ترتعب من لهيب نظرات المرتادين الجائعة..تدفع الثمن لتعانق الشارع من جديد..لعله لن يأتي نعم لن يأتي تحكم وضع ياقتها حول عنقها...  تأخذ طريق الشاطئ و تمضي قدما  لا تلوي على شيء بنفس الخطوة الثابتة بنفس النظرة الهاربة.. مارة يمشون بلا وجوه و أشجار منافقة للبيئة و عيون تقفز على الرصيف بأجساد هلامية..تقطع الطريق بثقة لكنها تعود أدراجها، رائحة الشاطئ البعيد تغيرت من زمان..تقف فجأة تلتفت يمينا ثم شمالا... تعبّ نفسا عميقا تملأ رئتيها بالهواء..آه أيها البحر كم كنت جميلا   !  وكم أنت بعيد الآن ! أجمل ما فيك صوتك حتى رائحتك صارت ممتزجة بشئ مظلم  لا أفهمه..رائحة العرق و الملح الكاذب و الميناء الأعرج......

تستند إلى ساقها اليمنى السمراء كرمال الجنوب المتعبة.

لا تعود إلى بيتها هي لا تريد ذلك...تعبُّ نفسا آخر..ربما تشعر بالاختناق تضع يدها على صدرها تبحث عن جدار تستند إليه..يجلب انتباهها نظرات عون الأمن الرمادية الذي صوَّب إليها فضوله العاري..تشعر بالوجع يتخلل يديها، تمسك برأسها بين يديها..تتحرك ببطء هذه المرة..تشعر بالعراء يداعبها وبالاختناق يطوقها..تتعثر في معطفها الذي سقط على الأرض وتتابع سيرها كانت بمفردها تقتلها الغربة في هذا الطريق...سبحت العيون المتعبة في نظراتها الخضراء المبتلة فواصلت طريقها عارية من كل شيء..مرة أخرى لم يأت أو ربما لن يأتي.. لِمَ أحبَّتْه كل هذا الحب لتفقده بهذه السهولة؟...أيَّ حياة تريد وهو الذي كره الحياة هو المتمرد كالشيطان البائس، هل تنساه بهذه السهولة؟ سارت في الطريق عارية رمت كل ملابسها على الأرض و عادت إلى الشرطي الذي نظر إليها ببلاهة..رمت بحذائها في الطريق على مرأى من العيون المتعبة ورائحة الأجساد الهلامية و أمام ذلك الخواء المكتظ بحثَتْ عنه دون خوف..بحثت عنه في الهواء الذي تتنشقه دون جدوى..نزعت آخر ما كانت تضع على جسدها البرونزي العجيب وتحسست عبثا ثنايا جسدها ولحمها  ربما هو في ذاكرتها السحرية التي لا تتذكر إلا الخونة أو الحشاشين أو المدمنين..الليل ستار و في النهار الحياة محض كذبة..أين ذهب يا ترى؟.. تشم رائحته تحت جلدها..يتحسسها كما كان يفعل،  رائحة خمره تلفح شفتيها.. لم تكن بمفردها منذ ولدت..لم تكن بمفردها..كان ينظر إليها من قاعها كان يحركها ويقلبها كما كان يفعل..حبي له كان صدفة و نسيانه لي كان حياة..سُرَّتي المهتزة تنثر ما بقي من خمرته و شفتاي ترقصان كلما همس في أذني:" معك أنا..قدرك أنا.. طريقك الذي نسيته... قلبك الذي بعته أين فمك وأين أذنيك مد ساقيك لترى الطريق الرحب والبحر البعيد" آه يا رائحة البحر الندية أين عطر عشبك الأخضر المستلقي على الشاطئ؟ أين موسيقى العشية في تلك المقاهي الزاهية على ناصية صباحاتنا الباردة؟

سارت عارية ومسرعة وهي تصرخ..رجل الأمن يقفز كالأبله أمام مشهد المرأة العارية..حدث هرج ومرج في الشارع..رجل الأمن يغازل جهازه بعصبية طالبا الدعم و النجدة والرحمة..أما هي فقد واصلت ركضها وصراخها فاتحة ذراعيها الطويلتين تضاعف طول هامتها و طال شعرها الكستنائي بشكل غريب حتى قارب عين الشمس واشتدت البرودة على العيون التي أصبحت غير قادرة على فهم الذي يعصف بالطريق..أصبحت تمثالا عظيما كاد يبتلع البحر و الطريق و هي في وضعها ذاك مازالت تلتفت و تبحث عنه من عليائها تكاد تحس به في داخل مسامها سيجارته التي كان لها معنى..صوته المبحوح..مشيته الشامخة..رائحة الخمر من فمه في الصباح..جريدته اليومية المطوية تحت إبطه.. قراءاته بين بساتين الكتب و هموم الناس في نظرته  والأسواق..هوسه بموسيقى الصباح و إيقاع قبلاته الثملة.. هو الوحيد الذي كان له يدان تتحركان وقدمان تمشيان و فم يتكلم..هو حبها الذي لم يتبدل معه عرفت دفء الفراش و روح المعنى في الكتاب و دلالة الصراخ الراقص في زمن الصمت  لم تكن القهوة معه سريعة كان للموسيقى وعي و للجمال حكاية ترسمها قباب جربة و ومآذن تونس و قرى الريح في الجنوب.

أقفرت المدينة و ذابت العيون من هول المفاجأة و البرد.  تراجعت مختبئة وراء الأسوار الحجرية العالية... ازدحم الطريق بالسيارات السوداء و تناثرت رسائل النجدة بين الأجهزة الطنانة: مَسْخُ  امرأةٍ عارية في الطريق العام تركض بمفردها شعرها منع الشمس عن المدينة وجسدها سد حركة الشارع...امرأة عارية في الطريق خصلات شعرها تبحث مثل أصابع الأخطبوط عن شيء أو شخص.

وفي لحظة أُغْلقت كل  الطرقات  واختبأت العيون وتكاثرت الأحذية و السيارات السوداء  وقع تطويق المكان وانحسر المشهد على امرأة عارية جالسة تحت شجرة على الرصيف وقد ضمت ركبتيها إلى صدرها وأسندت ذقنها إلى ركبتيها وشدت قدميها بيديها.

تلتفت نظرتها الخضراء الدامعة يمينا وشمالا بحثا عن شخص لم يأت.

 

العين   يونيو2007