الطيب ولد العروسي
رحل عمي الطاهر وطار إلى مثواه الأخير بعد مرض عضال ألزمه الفراش، وأوقفه عن الحركة - وهو المهووس بالتنقل الدائم - لمدة سنتين تقريبا، قضى معظم أيامهما في باريس بين مستشفى ' سانت أنطوان' وفندق في الناحية الثانية عشرة من باريس، وشقة في ' درا نسي' في ضواحي باريس.
ترجع علاقتي بعمي الطاهر إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك حينما كنت أراسل من حين لآخر مجلة ' آمال'، إذ كنت قد اتفقت مع الصديق عبد العالي رزاقي الذي كان يترأس المجلة، أن أرسل إليه مادة لقاءات أدبية مع كتـّاب همّشتهم المؤسسة الثقافية العربية، وفي هذا النطاق، كنت قد أجريت حوارا طويلا مع المرحوم الناقد الأدبي علي بن عاشور ( نشرته بعد موته في مجلة ' بريد الجنوب' الصادرة آنذاك في لندن' وفي كتيب في القاهرة مع شهادات لبعض أصدقائه، ثم أعيد نشر الحوار فقط في كتابي ' أعلام من الأدب الجزائري المعاصر') وفي هذا اللقاء اتهم علي بن عاشور الطاهر وطار بدفاعه عن البربرية، وأنه ' انتحل أغلب أعماله من بعض الروايات السوفييتية وحورها حسب الواقع الجزائري'، ولما عرف عمي الطاهر عن طريق أحد المحررين في المجلة انزعج كثيرا، وتم منع نشر الحوار في المجلة، ولا أعتقد أن عمي الطاهر كان من وراء هذا المنع.
وتعود معرفتي بالطاهر وطار بهذه الحادثة، التي لم تؤثر أبدا في علاقتنا، بحيث تواصلت لقاءاتنا من حين لآخر، وعندما أسس جمعية الجاحظية قمت بتشجيعه كثيرا، وعندما كنت أراه في باريس كان يحدثني عن مشاريعه الجديدة، وعن آفاق تلك المؤسسة التي لعبت دورا استثنائيا في الجزائر .
زرته ذات يوم من أيام سنة 2001، وراح يتجول بي في أروقة الجمعية المختلفة،حيث خصص قاعة لشاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا، وأخرى لشهيد الكلمة يوسف سبتي، وثالثة لأحد مؤسسي القصة القصيرة في الجزائر المرحوم الدكتور عمار بلحسن. وكان يومها في انتظار أحد المشاركين في إلقاء محاضرته، وقد بدأ الناس يفدون لأخذ أمكنتهم، وكنت صحبة الصحافية الجزائرية الأخت زينب قبي، والتي قلت لها حينما انتهينا من الزيارة إن حيوية عمي الطاهر تبين صدقه ومحاولته الدؤوب في السهر على تشييد صرح ثقافي بديل لما هو موجود في الجزائر، يكفيه فخرا أنه أنجز هذا الصرح الثقافي المميز والذي بالإضافة إلى القاعات التي زرناها معه، كان قد سهر على طبع مجموعة كبيرة من الأعمال الإبداعية، وعدة مجلات، ووفر لزوار المؤسسة مكتبة تتكون من أكثر من ثلاثة آلاف عنوان، خاصة وأن الجزائر كانت خارجة في تلك الفترة من العشرية السوداء، وكانت الآلام وآثار الحرب الأهلية تخيم على البلاد، لما ودعت عمي الطاهر، قلت للأخت زينب، إن عمي الطاهر يشبه المثقف الروسي ذائع الصيت بوشكين، وكنت في كل مرة أتصل بها، أسأل عن بوشكين الجزائري، والذي أعطى ( أعني عمي الطاهر) كل وقته للعمل على ابتكار برامج ثقافية متنوعة: لقاءات، ندوات، أيام دراسية، حتى أنه أنجز جوائز تقديرية في مجال القصة والرواية.
هكذا بقيت أتصل بعمي الطاهر بين فترة وأخرى، وذات يوم كنت مع الصديق الدكتور واسيني الأعرج في مقهى في الأوبرا، وإذ بعمي الطاهر يتصل به هاتفيا، وفي نهاية المكالمة، أخبرني واسيني بأن عمي الطاهر مريض وهنالك احتمال كبير في حضوره إلى باريس للعلاج..ثم واصل قائلا، بعد أن سألته عن نوع المرض الذي يتألم منه عمي الطاهر، فأجابني يبدو أنه مرض السرطان. أصبت بدوخة، ورحت أفكر في هذا الرجل الصريح، حتى أنني صدمت ونسيت محفظتي في المقهى، عدت لأخذها حينما اقتربت من محطة مترو الأنفاق.
بعدها زرت عمي الطاهر فور حضوره إلى باريس، ووجدته صحبة مجموعة من المثقفين الجزائريين والعرب، أخذ ينكـّت كعادته، ويسأل عن الأسرة وبعض المعارف، ثم بقينا نتردد عليه بين المستشفى والفندق والشقة التي مكث فيها ما يقارب السنة.
كان على اتصال يومي بالجاحظية، عبر الهاتف والإنتيرنت، بل كان يسهر عليها وكأنه ما زال في الجزائر، يعرف ما يجري في أروقتها صباحا ومساء، وكان أن حدثني عن مشروع توسيعها وإضافة طابق جديد مساحته ستون مترا مربعا لأن الأنشطة بحاجة إلى التوسع في مساحة المكان. هكذا كان يهندس هو وحده لإضافة تلك القاعة ، كما كان عمي الطاهر يكتب بأصبع واحدة على حاسوبه روايته ' قصيدة في التذلل' متحديا الألم القاسي الذي كان يعانيه على مدار الأربع والعشرين ساعة، والذي كان يتعاطى من أجل تخفيفه أدوية كثيرة، مما جعل قواه أو سيطرته على الفعل الثقافي تقل، ولكنه لم يفقد روح المداعبة والضحك مع زواره، ولم يفقد الوعي.
قال لي ذات يوم: أتحدى الألم الذي أنا واع به، إما أن أتغلب عليه، أو يأخذني مثل كثير من أصدقائي المبدعين، وكذا بعض معارفي..ثم واصل، على كل حال أنا هيأت نفسي لكل الظروف والاحتمالات.
وعندما كنا نقوم بزيارته في الفندق كان ينزعج من تصرف مكتب استقبالات الفندق ، لان حركته في الفندق كانت نوعا ما مقيدة بحكم القوانين الإدارية المتعامل بها فندقيا، إضافة إلى أن عمي الطاهر كان يود أن يقوم بتأثيث غرفته التي كان يقيم فيها بالفندق على مزاجه الخاص، هذا ما قاله لي ذات يوم عندما زرته صحبة الصديق عيدود الأزهر، إذ طلب مني أن أقوم بمساعدته في إيجاد شقة، فشرحت له قائلا إن الحصول على سكن يتطلب أوراقا كثيرة في ذلك الوقت، ثم ضحك وقال لي ' دبر رأسك، وعموما إن وجدت لي السكن أم لم تجده، فأنا قررت أن أعينك سفيرنا في باريس، سفير المثقفين الجزائريين'. ورغم أنه يعرف أنني لا أصبو لمناصب مثل هذه، إلا أنني سعدت بهذا القرار وهذا التعيين ( الوطاري)، ولحسن حظه، أنني عندما خرجت من عنده من الفندق، قال لي الصديق عيدود: ' أنا أتدبر الأمر'، فأعلمت عمي الطاهر بالخبر، فقال لي: ' أريد أن أزور هذا البيت'، فذهب عنده عيدود وأخذه بالسيارة لزيارة الشقة التي أعجبته أيما إعجاب، وكان أن قررت عائلة الصديق عيدود التي أجّرت له البيت، أن تأخذ منه مبلغا ماليا يغطي مصارف الأكل والشرب والمأوى، وهكذا وجد عمي الطاهر أسرة ثانية كان الكبير والصغير فيها يناديه ' بابي Papy ' وكم مرة رأيت صاحبة البيت تأتي عنده وتسأله في نوعية الأكلات التي يمكن برمجتها له، كما كانت حريصة ،بل شديدة أحيانا معه، عندما كان يبالغ في طلب الأكلات التقليدية التي كانت ترهق صحته، أو تغضب عليه عندما لا يلتزم بنصائح الطبيب، وكان يستمع إلى كلامها بمحبة، ولكنها كانت واثقة بعدم تطبيقه لكل النصائح الطبية.
والجدير بالذكر أن عمي الطاهر عندما أقام بهذا البيت، رتبه حسب مزاجه، واشترى بعض الأغراض الجديدة، وغرس مجموعة من النباتات في أحواض كانت موجودة بجانب البيت، كان يرعاها ويسقيها ويفتخر بنموها يوميا، بل كان يحدث بعض زواره عنها، هذا بالإضافة إلى أنه كان محافظا على ممارسة المشي لمسافة معينة يوميا وهو يتوكأ على عصاه التي أطلق عليها اسم أوباما، ربما بحكم لون مقبض تلك العصا..
لم أعرف شخصا مثل عمي الطاهر الذي كان يهوى القيام بإصلاح الكهرباء، السيارات، التلفزيون، الدهان، كما لم أر شخصا مثله يحب الأطفال، إذ عندما يكون معهم يأخذون منه كل ما يريدون، يصبح طفلا كبيرا، أما عندما يكلمه حفيده من الجزائر فحدث ولا حرج، كان دائم الاتصال بابنته ويسأل باستمرار عن أحفاده.
هذه بعض الجوانب من شخصية عمي الطاهر الحنون، الطيب، العادل مع الناس، المزاجي، الصريح، القلق، المجاهد الذي عاش فترتي حرب التحرير والاستقلال، وبالتالي تعكس بعض تصرفاته جيل المجاهدين الذين حققوا الاستقلال ودفعوا من أجله الغالي والنفيس، ولكنهم لم يروا بأمّ أعينهم ما كانوا يطمحون إليه مثل العيش في وئام وفي مجتمع عادل وديمقراطي، جيل عاش نكبات تلو الأخرى، ولم ير تحقيق جل المبادئ المعلن عنها في منطلقات وأهداف وبيان أول تشرين الثاني ( نوفمبر) 1954 لانطلاق ثورة التحرير الجزائرية.
وعرف عن عمي الطاهر باختياره الجانب الأيديولوجي الذي ظل متمسكا به طيلة حياته، والذي نادى من خلاله ' بشيوعية لا تنفي وجود الله'، ويؤمن بمجتمع عادل يوفر للإنسان حرية القول والعبادة والعيش بكرامة.
رحمك الله يا عمي الطاهر ويرجع لك الفضل في المساهمة في تعزيز وتأصيل فن الرواية باللغة العربية في الجزائر.
كاتب من الجزائر يقيم في باريس