طرح عزيز العظمة السؤال البديهي: من يحدد إذا كان علينا اليوم البحث في «التوتاليتارية»؟ (مروان طحطح)المؤتمر الذي أقامه أخيراً «المعهد الألماني للدراسات الشرقية» في بيروت، استدرج عشرات الباحثين إلى تناول إشكاليات الفكر العربي من زاوية الخطاب السياسي المهيمن في أوروبا، وسلّط الضوء على عُقد النقص التي تقابله على هذه الضفة، وكاد ينسى التأثير الإسرائيلي في تنامي الراديكاليات في تاريخنا المعاصر
عندما تلتقي النظرة الأورومركزية بالليبرالية الساذجة لبعض المثقفين العرب ذوي الأحلام المنكسرة، نشهد مؤتمراً كـ«التوتاليتارية الأوروبية في مرايا الفكر العربي المعاصر»، الذي أقامه أخيراً «المعهد الألماني للدراسات الشرقية» في فندق «مونرو» في بيروت.
كان انشغال الغرب بنفسه واضحاً منذ البداية، لجهة فرض إطار البحث وطبيعته على المشاركين الـ 42 من عرب وأجانب. وحده السوري عزيز العظمة طرح السؤال البديهي في افتتاح المؤتمر: من يحدد أنّ علينا البحث في «التوتاليتارية» اليوم؟ لماذا ملصق المؤتمر مزيّن بتعابير مثل فاشية، نازية، ستالينية وشمولية؟ وما علاقة ذلك بهيمنة الخطاب السياسي الأوروبي الذي يحلو له استحضار مفارقات تاريخية مستوحاة من الخطابات «المابعدية» (المابعد حداثوية، المابعد شيوعية، المابعد قومية) لرسم حدود «أوروبية»، عندما يكون العالم العربي مادة البحث؟ كمثال على كلامه، تناول العظمة أبلسة حكم حزب البعث في العراق ـــــ توتاليتاري ستاليني ـــــ لأغراض سياسية، والإغراق في الأبلسات الأخرى للقومية العربية.
بدا واضحاً مثلاً أنّ أستاذ التاريخ الآتي من تورنتو (كندا) يانس هانسن، الذي تكلّم عن «قراءة حنّة آرندت في الشرق الأوسط»، يصبّ اهتمامه على إحصاء الترجمات العربية لآرندت، مدللاً على أنّ الفكر العربي المعاصر لم يفهم «أنّ الليبرالية الديموقراطية هي ما بعد إيديولوجية». وقال يانس إنّ ليبرالية آرندت المنبع «لأرقى أنواع الكفاح» اليوم في الشرق الأوسط مثل «الكفاح اللاعنفي كحملة مقاطعة إسرائيل». لكنّ إرشاد العرب كيف يقاومون إسرائيل لم يكن الطارئ الأوّل على المؤتمر، بل إنّ البروفسور بيتر فيين (ماريلاند) أصرّ على تفكيك مفهوم «التوتاليتارية» الى أجزاء، ثم النظر في التاريخ العربي لتفحص وجود تلك الأجزاء من عدمها، وذلك بعدما عرض «استحالة وجود نظرية أوروبية للتوتاليتارية من دون تناقضات»: فبعضهم لا يوافق على تصنيف نظام فرانكو أو موسوليني في خانة الأنظمة التوتاليتارية. لكن عندما سُئل عن النظرة الاستشراقية في بحثه، وانعدام الكلام عن إسرائيل، كمسبب رئيسي لذهاب الخطابات العربية إلى الراديكالية، احتدّ قائلاً إنّه «ليس خجولاً بالقول إنّ المؤتمر نظمّه الغرب من أجل الغرب، لأنّ البحث العلمي في العالم العربي هو دون المستوى المطلوب». أما إسرائيل «فلا علاقة وظيفية لها بالأنظمة الفاشية العربية، وهي على الأكثر مجرّد مسبب»، حسب البروفسور فيين.
لاحقاً، تكلّم الباحث العراقي فالح عبد الجبار مشيراً إلى أنّ العراق «منذ بداية الخمسينيات حتى منتصف السبعينيات، خلا من أيّة إشارة إلى التوتاليتارية»، حتى قدوم صدام حسين. وانتقد التحليلات الاختزالية للتوتاليتارية في العراق من جانب كنعان مكية، وعدم ملاءمة إسقاط مقالة آرندت في التوتاليتارية التي تحلّل أساساً مجتمعاً صناعياً متقدماً. والأجدى عند دراسة العالم العربي، وفق عبد الجبّار، الأخذ في الاعتبار الريع النفطي، والبنية الاجتماعية القرابية الطاغية، والتوسع الجغرافي، ما يعني تقادم وسائل السيطرة على المجتمع، بعدما كانت الانقلابات تجري عبر السيطرة على الإذاعة ومبنى الحكومة. لكنّ عبد الجبار ارتأى أن يختم بحثه في «المؤتمر الذي نظّمه الأوروبيّون للأوروبيين»، بأنّ «العالم العربي بعيد عن معرفة التوتاليتارية». بل إن «الفكر السياسي برمّته في العالم العربي يفتقر الى أيّ عمق معرفي».
المؤتمر تخلّلته بحوث عربية جادة تفوقت على مثيلاتها الأوروبية أحياناً، كبحث السوري عبد الله حنا، الذي خلص إلى أنّ الحزب الشيوعي السوري نشأ على قيم البرجوازية الفرنسية خلال الثلاثينيات، بدلاً من التأثّر بالبولشفية.
أمّا الكندية اليسون درو، التي يفترض أنّها تنتمي إلى التيار المابعد كولونيالي، فقدّمت سرداً تاريخياً لمسيرة الحزب الشيوعي الجزائري، الذي ضمّ بمعظمه مستوطنين، وناهض استعمال الكفاح المسلّح. علماً أن الحزب الشيوعي الفرنسي كان المسيطر عليه، بقيادة توريز الذي ابتدع حينها نظرية عرقية مفادها أنّ «الجزائر ليست أمّة بل تجمّع لـ20 عرقاً»، لتبرير وقوفه ضد الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر. كذلك رأت أنّ الحزب الشيوعي الجزائري «بمساواته» بين المواطنين الجزائريين والمستوطنين الفرنسيين (الأقدام السوداء) وتشديده على الديموقراطية، قدّم مثالاً نادراً للأداء السياسي الذي كان يجب أن يكون في فترة ما بعد الاستقلال، لكنّه مُنع من جانب «توتاليتارية» جبهة التحرير الوطنية لاحقاً.
ما سبق لا يعني أنّ بعض الباحثين الغربيين لم يعوا التناقضات الكامنة في المنهجية. فقد استمعنا إلى أبحاث قيّمة مثل الباحث الفرنسي المستقل ديديه مونسيو، الذي قدّم تحليلاً ثاقباً لتطوّر الشباب المصري المثقف، بدءاً من منتصف الثلاثينيات ومناهضة الفاشية ثم مناهضة الاستعمار واعتناق الماركسية.
في نهاية الأمر، تناقضات هذا المؤتمر تختصر ما هو عالق اليوم: هيمنة الإيديولوجي السياسي بمعناه الضيّق على البحث العلمي في العالمين العربي والغربي، النظرة الأورو ـــــ مركزية للعالم العربي وعقد النقص العربية المقابلة، وجود إسرائيل في «قلب» أوروبا لكن في أرض العرب، شؤون الهوية والحداثة والتراث، شؤون ما بعد الحداثة الأوروبية واستيرادها تحت ستار ليبرالية «ما بعد إيديولوجية»، الإمبريالية الجديدة والاستعمار الثقافي ووضع المثقف العربي. كلّها أسئلة تنتظر أجوبة جديدة ومقنعة، خارج مدار الوصاية والعلاقات الفوقيّة والمنظور الليبرالي.