تقدم الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة في هذا الخطاب الذي كتبته بمناسبة فوزها بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية تأملات في تجربتها الروائية خاصة، وكتابة المرأة العربية ووضعها الوجودي والأدبي عامة.

فلسطين هي المختبر الصغير لوطن أكبر

سحر خليفة

هذه الجائزة وهذا الحفل يذكراني بمشهدين لن أنساهما طوال حياتي. الأول هو حين أشارت علي أستاذتي في جامعة بيرزيت الدكتورة حنان عشراوي بتقديم روايتي الصبار لدائرة اللغة العربية لتكون بديلا عن الساعة المعتمدة الناقصة لتخريجي. كان ذلك سنة 1976، أي قبل ثلاثين سنة. وافقت الدائرة على الاقتراح لكن التقييم كان نكسة، كان سقوطا، كان علامة D التي لم أحصل عليها قبل ذاك اليوم ولا بعده. رئيس دائرة العربية فسر لرئيسة دائرة الانجليزية الدكتورة حنان عشراوي أن الرواية لا ترقى الى مستوى الأدب. قالت له أن الرواية منشورة بثلاث لغات في ذاك الوقت ولاقت رواجا وشعبية. إلا أن رئيس دائرة العربية فسر موقفه بقوله أن الرواية منحدرة ولا ترقى إلى مستوى الأدب ولا أي نوع من أنواع الأدب لأنها غير مؤدبة، هابطة، وهي قبيحة. الطالبة سحر، قال، تحكي عن أجواء لا تليق بها فهي امرأة، وهي شابة، وهي ابنة ناس محترمين، وأول على آخر هي تلميذتنا. الطالبة سحر، تحكي عن العمال في إسرائيل، تحكي عن الأسرى والمساجين، تحكي عن الاشتباكات والعمليات والقنابل، وبلغة هابطة شعبية. هل هذا أدب؟ هل هذا فن؟ وأخذت D.

والمشهد الثاني هو حين تقدمت بروايتي تلك كي أنشرها هنا في مصر، لأن مصر هي قلب الأم وأم الأمة في الأدب والفن والسينما والمسرح والتلفزيون كانت لنا، وتظل تكون هي الشاهد، وهي القائد، وهي نجيب محفوظ. حملت روايتي من هناك حتى هنا وعرضتها بتفاؤل على الناشر، لأنها بنظري وبنظر الذين قرأوها في فلسطين أحسن بكثير من روايتي الأولى لم نعد جواري لكم. إلا أن الناشر اعتذر بأدب ولباقة لأن الرواية ـ كما قال لي ـ مجهولة الجنس والهوية. قلت له: ماذا تقصد؟ قال "إذا حطيت صباعي هنا (ووضع إبهامه على إسمي) ما حدش هيعرف مين الكاتب راجل أو ست.)

كدت أبكي لأني ما كنت في ذاك الوقت بعد كبيرة، أقصد سنا. قلت له : يا أستاذي، أتعيب علي أن أكتب عن الرجال لأني امرأة؟ لماذا الرجال كتبوا عنا منذ الأزل، طوال قرون، وهم لا يعرفون عن المرأة كما نعرفكم؟ هنريخ إبسن كتب بيت الدمية، وبرنارد شو كتب ميجر باربرا، ونجيب محفوظ كتب عن أمينة في بين القصرين. فلماذا لا أكتب عن عادل وزهدي ورشاد وأبو صابر وسلسلة طويلة من الأسماء الذكورية؟ قال لي ما قال أستاذ العربية: لكنك تكتبين عن العمال والفدائيين وأجواء السجن والعمليات والتفجيرات وأشياء عجيبة وغريبة. أنا لم أقرأ لامرأة قريبة ولا بعيدة مثل هذا! قلت له: سبحان الله! كنتم تعيرون أدب المرأة بالانغلاق والتباكي والتمحور حول الذات والآن تعيبون على المرأة أن تكتب عن واقعها الذي هو أكبر وأوسع من البيت والزواج ورثاء الذات. وتعيبون عليها أن تكتب عن الشارع وعن المارة وعن التجار والبياعين والسراقين ولصوص الحكم والثوريين والفدائيين وبنَفَس العارف والثائر وبقلب يمور بالمحبة ونكران الذات. رفض وتلكأ وتمنّع ولم تظهر الرواية هنا في مصر. لكنها ظهرت ـ فيما بعد ـ في 17 دولة أجنبية بما فيها كوريا وماليزيا وإسرائيل.

والسؤال الآن ماذا نكتب ولماذا نكتب وكيف نكتب؟ الكتابة بالأصل هي تعبير الإنسان عن ذاته، عن واقعه، عن أجوائه، عما يحب، عما يكره، عما يشكل هواجسه وكوابيسه. نحن لا نكتب بلا إحساس. نحن لا نكتب بلا كوابيس. يقال عن الإلهام "عفريت الفن"، وهذا صحيح. لكن عفريت الفن لا يخرج إلا من الأرض، من الواقع. قد ندبجه وننمقه ونحلّيه، لكنه يظل ابن الواقع ومن عمق الأرض. قد نسمو به ونحلم ونطير ونحلق، لكنه مهما ارتفع، إبن الواقع وابن المكان وابن الزمان وابن التاريخ. وهذا ينطبق على المرأة وعلي أنا. حين كنا خلف الخمار، في الحرملك، كنا نكتب عن حدود المكان، عن واقعنا. وحين خرجنا الى الشارع والى الجامعة والحكومة، وبتنا وزيرات وسفيرات ومناضلات، صرنا نكتب عن دنيانا، دنيا أوسع وأغنى وأعمّ. وربما، بعض الأحيان، نكتب بعيون حساسة وقلب أرحم لأنا نتحلى برحم الأم. نكتب بلطف، نكتب بعنف، نكتب بحنان ومحبة لأنا صرنا في قلب الأمة والحركة ونمشي على الأرض، لا تحت الأرض.

أما كيف كتبت عن العمال والفدائيين والعمليات والتفجيرات، فهي أيضا قصة لذيذة سأحكيها لكم. أثناء دراستي في بيرزيت، وكان ذلك قبل أكثر من ثلاثين سنة، كما قلت لكم، طلب منا أستاذ علم الاجتماع أن نكتب بحوثا مختصرة عن أية ظواهر اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية ظهرت وانتشرت تحت الاحتلال، بسبب الاحتلال. وكانت أهم وأغرب ظاهرة في ذاك الوقت، أي في أوائل السبعينيات، ظاهرة عمل العمال في اسرائيل. كتب كثيرا عن الموضوع في فلسطين وخارجها. وقيل وقتها أن العمال أصبحوا عملاء، وأن فلسطين باتت وكرا للمرتزقة، وأن الثورة لم تعرف كيف تؤدبهم أو تردعهم، وهذا مشين، على فلسطين، وعلى الأمة. هذا خيانة! اخترت أن أقوم بذاك البحث وأرصد ما يقوم به العمال ودوافعهم، وظروف العيش، والتناقض بين ما يحسون وما يفعلون. أليسوا عربا؟ ألا يخجلون من خدمة العدو في أرض كانت لأجدادهم وما زالت لهم؟ ألا يحسون بعمق المأساة؟ وماذا يحسون إذا استشهد أحد منهم أو جار لهم أثناء اشتباك أو عملية؟ ما الذي يدفعهم لذاك العار والتردي؟ وما معنى الظاهرة وكيف نمت ولماذا نمت وماذا نفعل؟

أنا كما تعلمون، وكما ترون، ومن الواضح، أني امرأة ولست رجلا، ولست من أسرة كادحة أو فدائية، وكنت أتمنى لو كان لي ولو قريب واحد من الثوار ومع الثورة. فكيف إذن أكتب عن هذا، وأكتب عن ذاك، وأنا الأنثى، أنا المراة التي لم تقترب في يوم ما من الأجواء المشحونة والعمليات والتعرض لمحك التجربة في المصنع أو المزرعة أو المعتقل وضرب الرصاص والمدافع؟ صحيح أني عشت الاحتلال بحذافيره، ومشيت في الشوارع والتظاهرات ورأيت مئات الاشتباكات بالحجارة، لكن لا رصاص ولا مدافع ولا عمليات في ذاك الوقت. وأثناء القصف، كنت أختبيء في بيتي، مثل كل الناس أو معظمهم. وفي منع التجول كنت أقبع بين الجدران وانتظر الفرج ولا أقاوم، أي لا أحمل سلاحا ولم أحمل إلا قلمي، وهو كما أصبح بالنسبة لي، أبلغ وأغلى من أي سلاح.

ماذا فعلت؟ تنكرت في هيئة عاملة قروية. تعرفت على عاملة من مخيم قريب من نابلس، في العشرينات، قوية، ذكية، طريفة، ظريفة، تعمل في معمل شوكولاتة. وعدتني ندى، وفيما بعد أسميتها خضرة في روايتي عباد الشمس، وعدتني ندى بأخذي إلى مصنعها في تل أبيب، إن أنا أتقنت التنكر وعدم الإفشاء. وهذا ما فعلت. لبست فستانا مشجرا بخصر ساحل، وتحته بنطلون سترتش، وقمطة على الرأس، وأتقنت عبارات شعبية ولزمت الصمت معظم الوقت حتى لا يكشفني لساني أو أتعثر. وخرجت مع الفجر، قبل ضوء الفجر، حيث الموقف وباصات العمال، وسارت الحافلة إلى هدفها، أي تل أبيب، ورأيت وسمعت ولمست وعشت تلك التجربة بما فيها من ذل وبؤس ومرارة وأبعاد معيبة ومخيفة. واكتشفت أشياء لا أعرفها، لا نعرفها، لا نحس بها، لا نعرف كيف نعاينها ونعاملها، ليس كنساء، وأيضا كرجال، في فلسطين وخارجها. واكتشفت أيضا أن فلسطين هي المختبر الصغير لوضع أكبر، لوطن أكبر، لواقع أكبر منا، أعقد منا، أصعب، أعوص، أدهى وأمر.

وكانت تلك فاتحة كتاباتي بذاك الأسلوب لأني اكتشفت أن الواقع، واقعي أنا، واقع ناسي، كبير وعميق ومعقد. فالأدب كما تبين لي ليس حلية نعلقها في صدر البيت وشكلة على الرأس. بل هو إحساس أعمق، أعمق، بتراب الأرض، بالشوارع، بهموم الناس، برصاص المحتل والمدافع، بالضحايا ودم الثوار. وأيضا بالحب والتمني وحنين القلب، وجمال الروح والتصدي للكآبة بأجنحة الحلم. الأدب لي ليس نزهة، بل جهد وأجنحة ومرايا وعتاب الذات، وسماء ماطرة وقذائف والجرسيات والمآذن في أرض ما عرفت إلا الدم وهي المرأة في ثوب عروس، في عرش إله، وأنا العابدة الأزلية لهذا الملكوت وسماء القدس، وتراب الوطن المضمخ بقناني العطر، وقلوب عذارى تتلوع من وهج الحب، وعيون عسلية تناجيني وتقول لي أن الإنسان، مهما ضعف، مهما تجبر، فهو إنسان. وأن العربي مهما نأى أو تناءى فهو بالقلب قريب مني، يبادلني الحب.

وهذي الجائزة أقبلها وأقبّلها بحب وأمل، وأقول لقلمي ولوطني، وطني هناك، ووطني هنا، أني أعطيت بلا تحفظ، وأني آخذ ما أعطيته. وبلا ادعاء، أقول أني استحق المحبة، واستحق الثناء، لأني اجتهدت، لأني تعلمت، لأني علمت. لأني صهرت روحي وقلبي فيما أكتب، وحملت القدس على رموشي وفي نني العين، وقلت المستقبل يا بلدي أرقى وأجمل، لأن الإيمان بماضينا سينير الطريق لحاضرنا ويواسينا، ويجمّعنا على فعل الخير والمحبة، ويحلّينا.

هذا ما قلت، هذا ما أقول. فلكم مني ألف تحية، وشكر وسلام ومحبة، وقبلة على الخد، قبلة على الخد.