الشعر أمر محير، شيء غامض، طيف يمر بسرعة ولا نتمكن من إمساك كل جزيئاته، ما نقرأه هنا وهناك من قصائد ليس كل الشعر، ليس كل الدوامة التي تصول وتجول في أعماق الإنسان، كل القصائد نتف صغيرة، قابلة للإنبات في تربة القلوب، كل شيء نشعر به لا يتكرر مرة أخرى، كل شيء نشعر به يموت، ويترك صدى له يبحث عن موعد للقدوم إلينا من جديد، كل الشعر بصمات، كله منطلق إلى ما لا نهاية، كله قابل للتطور.. تطور.. تطور.. تطور.. توقف لا.. موت جامد مكتوم دون صدى لا، عدم لا، إن حدث التلاشي فبإشكال مختلفة، لا تشابه في أي شيء، لا تشابه في الموت، لا تشابه في الحياة، لا تشابه في الآلهة..
فلك الأصداء ديوان الشاعر خالد مطاوع يمكننا أن نقرأه كحالة شعرية ممتدة من حواس الشاعر إلى نواة صدى لا متناهية، تخيلها الشاعر أو عاش في ربوعها، حقيبة سفر تتطاير من مكان إلى مكان، تحول مشاعرها ومحتوياتها ساعة تلبس أو تستعمل إلى مقاطع شعرية لا تكتمل دورتها، دائما تترك كوة أو ثقبا صغيرا يمكن القصيدة من رؤية النور الجديد عندما ترحل في الحقيبة مجددا، يفتحها الجمارك ويحملها الحمالون في عرباتهم، وتبيت في الأقبية وحيدة، تحس بالبرد فتشعل بضع كلمات، تحس بالحر فتستعير من نخيل قصائدها مروحة سعف أو تفتح فمها لنسيم عليل من إحدى وديان قصائدها، لم أجد نفسي وأنا أطالع هذا الديوان أمام مجموعة قصائد، لكن شعرت أني أمام حالة واحدة يعيشها الشاعر وينقلها إلى خارج نفسه، ينقلها كاملة بتاريخها وتضاريسها ورائحتها ومذاقها ملامسا وجدانيا كل من يلتقيه في هذه الحياة من سعاة بريد وسائقي أجرة وندل وعساكر ورؤساء وباعة جرائد وحليب صانعا كما يقول مدينة عذراء بلا شيء بلا رتوش بلا تلوث ديدن كل الكتاب والشعراء الكونيين الطامحين لخلق عالمهم ومدنهم التي تعنيهم وحدهم، هذا الوحد الذي يمثل كل القراء وكل الأصدقاء وكل الحياة برمتها إن كان لها رمّة:
مدينة بلا كلمات.. ليل بلا ليل
في مكان ما أتذكّر
هذه الثياب ليست ثيابي
هذه العظام ليست عظامي
أنسى وأتذكر ثانية
سفن في ميناء، تلك التي هي البحر
هي الرحلة
التي توقظ نورا في صدري.
البحث عن النور في الصدر .. البحث في قلب الظلام عن قبس يضيء الدقات التي تخلق مظلمة.. يحتاج إلى فجر.. فجر من الأحاسيس البكر التي تترك تتخلق دون تدخل منا.. تترك تضيء على سجيتها.. لتمنحنا نورا لا يحتاج لظلام كي يُرى، نورا يُرى حتى في عالم النور، نور مفعم بالحياة، لم تنتجه نضيدة، ولا نهار، ولا فلك، أنتجه صدى نجا من موت الولادة، صدى ارتطم بعازل الفناء وعاد ليزرع دورة جديدة، وابتسامة سخرية من كل شيء، ابتسامة مغموسة في خميرة الضحك، القهقهة، الجنون، ابتسامة متلونة، نابتة في حقل، مرتوية من الماء والشمس، مانحة للحياة خضرتها وخصوبة طازجة لرئات المدخنين:
عشب الشعير أخضر طيلة الشتاء
وبذور البازلياء في راحة يدي كحبيبات خميرة
حاملة ذات الوعد بالنمو.
طيور الضحى تنعب،
الفضة المزرقة
على أجنحتها نقود مسروقة من الشمس.
لا أدري كيف أتعامل مع هذا العمل الإبداعي الكبير، من الصعب أن تتحدث عن فقراته كلها، لكن يمكنك أن تعيش هذه الفقرات، يمكنك أن تتخلى عنها وتكتب قصيدتك الخاصة، تكتب عن حياتك، عن عالمك، عن أسرتك، عن يومياتك، عن الأشياء البسيطة المهملة العابرة في حياتك، تتحدث ليتحول حديثك إلى شعر، فأنت تقرأ ولسانك الذي ستتكلم به مغروسا في قلب القصيدة، قلب النواة، البذرة النامية داخلتك المرتوية من روحك والمرتدية مشاعرك وأحاسيسك بمختلف أنواعها، هذا الديوان عبارة عن ورشة شعرية، تستفزك، تجعلك تكتب دون أن تتطرق إليه كثيرا، لأن ما به لا يهمك شخصيا إلا في القليل منه، ما به يهم العالم كله، وأنت وأنا لسنا العالم كله، جزء ضئيلا منه، نقرأ في هذا الديوان كلاما عاديا، أخبارا، جملا تمنحنا صورة فوتغرافية لحدث حدث أو يحدث أمامنا، ليس به الصور الشعرية العربية التقليدية، ليس به البلاغة التي درسناها في المدرسة كناية مجاز تورية الخ، ديوان مثل نشرة الأخبار أو البرامج التي نتابعها في قنوات العالم، نجد فيه أيضا حتى صور قلمية أو قصص قصيرة جدا، لكن داخل الديوان لأنها لم تكتب وحدها ووظفت ذات سياق معين فلا ينبغي أن نعتبرها سردا وسنعتبرها شعرا كما في نص بعنوان سليمة ! صفحة 100، والذي يبدأ ب " كان لبنات عمي ببغاء لا ينادي إلا باسم واحدة منهن. وحين ينادي باسمها يغلق عينيه ويمد عنقه الأزرق كما لو انه يبلع ريقه أو يتنحنح. . كنت أركض إلى المطبخ وأحضر له حبات فول سوداني يأكلها ببطء مقصود. يلتقطها من راحة يدي وتطقطق داخل فمه الأسود كأن أحدا ما يدق على الباب بحذر. كنت أتوسل إلى الببغاء مناديا ابنة عمي مناديا بكل الأسماء التي أعرفها. لكن الببغاء كان ينظر خلفي وكأن الصيحات التي أطلقتها باتت عبئا يعاني حمله، كأنها جلبة صادرة من منزل مغلق لا أمل في فتحه.".
ما لحظته في هذا الديوان أنه يجعلك تكتب، يجعلك تواصل ما بدأه من قصائد، يمكنك أن تضيف للقصيدة من عندك، يمكنك أن تعبث بها قليلا وتغير فيها، لن يخرب شيء، ليس بها أقوال مأثورة يمكننا أن نضعها رؤوس أقلام أو نزيّن بها افتتاحيات مقالاتنا أو رواياتنا أو يومياتنا، ورشة لعينة من الكتابة، تتشابك فيها المطارق بالكاشطات بالمذيبات بالمعاول بالنار بالثلج بالليل وبالألوان، ريح من الكلمات تأخذك زوبعتها، تدور بك وترمي بك عشوائيا لتنهض وتواصل سكرة الدوران فيها، ريح تشرب نخبها، صوفية عولمة وحداثة وتجريب وأشياء جديدة لم نألفها في قصائد سابقة يستعرض فيها الشعراء بطولاتهم حذلقاتهم، في هذا الديوان نرى البساطة، طفل يعيش في أسرة في عمل في عالم يتحدث بلغة عادية عن أمه وأخواته وعماته وجدته، عن قراءاته، عن رحلاته، عن السياسة، عن التلفاز وملاعب الكرة، عن الحياة اليومية والشهرية والسنوية والأبدية، يحاول بقصيدته الطويلة هذه المفككة إلى أجزاء تسلق الريح ليزرع وشيجة في تربة الأبد:
الريح
تدثرني في نزهاتي الليلية
تنادي اسما أفترض أنه اسمي
تعلن الأشجار
وتخبر العصافير بسرها
الريح التي تهب عبر نافذتي
هي الريح ذاتها
البعض يستقبلها بصرير
البعض يتبلها بطعامه
البعض يحمّلها أنغامه
ويرشق الأرصفة بإيقاعها
والبعض مثلي يدعها تهب
عبر بيته لتخرج أينما تشاء
الريح ذاتها، القوة ذاتها
التي تصِلُ وتقطع.
قصائد معدنية إلكترونية ركب شاعرها على براق النار كي يجول بين أفلاكها ويلتمس أصدائها، محاولا أن يتصدى لرعب العالم ودماره، بتعابير عاش سعادتها الماضية وأحبها أن تمتد ململما إليه كل مسراته ورابطا مسيرته التي بدأها بأقطاب نورانية من متصوفين وشعراء كبار وأناس بسطاء لا شهرة لديهم ظاهرة، لكن القصيدة انتشلتهم وجعلتهم أعلاما أبدية خالدة، قصائد تمنح للحياة قيمتها، وتبذر خميرة المساواة والتسامح في ماء مطر، أهداه لنا الحب الذي تركناه وهربنا بعيدا عنه ظانين أننا نحن الحب نفسه والقوة نفسها لكن كنا مخادعين وكاذبين والقصائد المنبثقة من أعماقنا فضحتنا، إننا نتألم الآن، ونبحث عن دواء، إننا نقرأ هنا وهناك، نبحث عن الإكسير والترياق وجدنا الصدى ولم نجد من أطلق الصرخة.. سأصرخ الآن ووو ه ه ه وه وه وه وه وه وه وه وه وه وه وه وه وسأضحك أيضا هههههههه ههههه هههه ثم أمسك فرامل وابتسم فقط.
كاتب من ليبيا