(1) مدخل
ثمّة أعمالٌ أدبيّةٌ عديدة يتقاطعُ فيها السرّدُ الروائي بالتأملات الفلسفية([3]، ص 23، 65). تقاطعُهما طبيعيٌّ في الحقيقة، وإن يمكن أن تواجهه فخاخٌ تمدُّها الفلسفةُ للرواية([3]، ص 24): لغةُ الفلسفة تنتهكُ بطبيعتِها التجريدية، وسعيِها للإثبات والبرهنة، حُرمةَ الشكل الفني الروائي. كيف يلزم أن يكتب الفيلسوف روايته؟ أي بنيةٍ وشكلٍ يحتاجهما؟ ... أسئلةٌ مفتوحة([4]، ص 85) ليس لها ردٌّ محدّد. في كتابهِ الحديث: «أنا وعفريتي: الفلسفة كتخييل»[2] يدرسُ الفيلسوفُ بيير كاسونوجيس علاقة الرواية بالفلسفة. فيلاحظ الكاتب أن التخييل هو «العنصر الحيويّ في الطرح الفلسفي»: التخييل الفلسفي هو الوعاء الذي يصيغ فيه الفيلسوف إشكالياته، ويواجه فيه الواقعَ بالممكنِ بالمحال، ويُقدّمُ فيه مفاهيمه وتأملاته وأطروحاته.
يقول: «اللجوء للتخييل اتجاهٌ ملازمٌ للفيلسوف»، كما يتجلي ذلك في عددٍ كبيرٍ من النصوص التخييلية الفلسفية، مثل «تأملات ميتافيزيقية» لِديكارت التي يقدِّمها كرواية تخييل علمي، وبعض روايات سارتر. هدفُ الفيلسوفِ في تخييله السردي بطبيعة الحال إجلاءُ جوهرِ الحقيقة الفلسفية .Essence يقود ذلك إلى إشكاليةٍ رئيسة: تسرُّبُ الخطابِ الفلسفيّ في التخييل السردي وعلاقته به، أو ما يسمى «ما وراء التخييل»! يلاحظ الكاتبُ أن ثمّة خطابين ملتصقين في نصوص التخييل الفلسفي: خطاب الفيلسوف-المؤلف، وخطاب واجهتِهِ «البلاستيكية» التي تسرد تحوّلاتها طوال النص: الـ«زومبي» («الروح التي تخدم الساحر») الخاصِّ بالفيلسوف-المؤلف، كما يطلق عليه الكاتب. لِنُسمّيهِ هنا: عفريته! يُشبِّهُ الأوّلَ بالرأس والثاني باليد! ويلاحظُ الكاتب أن هذه الثنائية تختلط أحياناً وتجعل الاثنين يرتبطان بشكلٍ وثيق مما يؤدي لِصعوبةِ الفصل بينهما!
يضعُ الكاتبُ ثلاث أسئلة تواجهُ الفيلسوفَ-المؤلف وتُفضي إلى ثلاثة اتجاهات سرديّةٍ مختلفة:
(1) ألا يمكنُ اعتبارُ الفيلسوف-المؤلف شخصاً في النص، في حوارٍ دائم مع عفريته؟
(2) ألا يمكن اعتبارُ خطابِ الفيلسوف-المؤلف في النص تخييلاً موازياً لتخييل عفريته، يشرحُ تحوّلات هذا التوأم (بدلاً من اعتباره خطاباً يقع خارج دائرة التخييل)؟
(3) ألا يلزم بدل كلِّ ذلك أن يلتزمَ الفيلسوفُ-المؤلف بالصمت، أي أن يظلّ قابعاً في دولاب، مكتفياً بتنظيم تحوّلات عفريته؟
سنحاول في دراستنا هذه تطبيقَ هذه «المحاولة» النظرية (التي لا يقدِّمها كاسونوجيس كـ«منهج» مكتمل، بل كرؤيا مفتوحة) على نصِّ أبي العلاء المعرّي: «رسالة الغفران» الذي يسردُ فيه الفيلسوفُ أبو العلاء المعرّي زيارةَ ابن القارح للجنّة والنار، ولقائه بكوكبةٍ من شعراء الجاهلية والإسلام! سنتعرّضُ في دراستنا للعلاقة بين أبي العلاء وعفريتهِ (ابن القارح)، والأوجه المتنوّعة التي صنعها له الفيلسوف-المؤلف، والطُّرق التي أتّخذها الفيلسوف-المؤلف أبو العلاء لتقديم آرائه الفلسفية عِبر سارِديه، في ضوء الاتجاهات الثلاثة في ترسيمات مبحث بيير كاسونوجيس. هدفنا الرئيس هو إجلاء منهج «البرهان عبر المحال» الذي استخدمه أبو العلاء في تخييله، لإبراز إشكالياته الفلسفية، ولِدعمِ آرائه حول الميثولوجيا الإسلامية، كما صاغها في ديوانه الخالد «لزوم ما لا يلزم».
(2) ابن القارح «زومبي» أبي العلاء في «رواية الغفران»
في كتابه[2] يتحدّث كاسونوجيس عن لجوء المؤلف-الفيلسوف في نصوص التخييل الفلسفي إلى واجهةٍ «بلاستيكية» يستخدمها لإبراز اشكالايته الفلسفية. يرسم أيضاً معالمَ بنيةِ نصوص التخييل الفلسفي،([2]، ص 87) فالتخييل الفلسفي لا ينتجُ قصةً سرديّةً خطيّةً تقليدية، وإنما سرداً تتعاقب شذراته لملامسة الإشكاليّة الفلسفية، وتقديمِها وتطويرِها. ينطبق هذا الهيكل النظري في الحقيقة تماماً على «رواية الغفران»: لأبي العلاء واجهةٌ بلاستيكية تسرد تحوّلاتها طوال روايته: ابن القارح، شيخٌ حلبيٌّ من أهل الأدب كان قد بعث رسالةً لأبي العلاء المعرّي يسرد فيها آراءه حول عددٍ من الشخصيات الأدبية والفكرية، ويشكو فيها حاله. ردّ عليه أبو العلاء بكتابٍ خالد: «رسالة الغفران» يتضمّن رسالةَ ردٍّ تناقش تلك الآراء وتختلف معها، وروايةً فريدةً مدهشة: «رواية الغفران». في روايته هذه يتصوّرُ أبو العلاء أن ابن القارح قد مات ودخل الجنة. يستهلّ روايته بسرد يوميّات «نعيم» ابن القارح و«لياليه الساهرة» فيها، قبل أن يعود إلى الخلف لِيُفصِّل تجربة ابن القارح المضنية في عبور موقف الحشر، ثمّ دخوله الجنة بالوساطات. يستأنف أبو العلاء من جديد سرد يوميّات ابن القارح في الجنّة وحواراته مع عدد من شعراء الجاهلية والإسلام، وأهل الأدب. تليها رحلة إلى جهنم لمقابلة وحوار عددٍ آخر منهم، للقاء أبي مرّة: الشيطان، أيضاً. ويتقمّص أبو العلاء شخصيّةَ عفريته ابن القارح في حواراته الأدبية، المهنيّة جدّاً، وفي دحضه للمنحولات الأدبية، في حين يُصمِّمه لِيكونَ عكسَهُ النموذجيّ في الجوانب الأخرى لاسيّما في قصائد مديحه للنافذين (كان أبو العلاء يمقتُ ذلك)، في نفاقهِ وشتمه، في لهثهِ بحثاً عن المتعة الحسيّة الدانية: يفاوض الباري عز وجل بين سجدتين حول حجم دبر الحورية. يأتيه الرد: يكفي أن يرغب بما يريد لتتحقق رغبته حالاً، لأن «الله على كلّ شيءٍ قدير»! ثمّ يعود ابن القارح من جديد إلى الجنة، يلتقي بآدم ويحاوره، يزور أحياء غريبةً فيها. خلال كلّ النصوص الشذراتية لحوارات وتنقّلات ابن القارح في أفياء الآخرة يصف أبو العلاء جغرافية الجنّة والنار وعوالمهما، جنّات الجنّ والحيوانات، جنّات شعراء الرجز.
(3) كيف تجسّدت تأملات أبي العلاء في تخييل روايته؟
لعل نقد الفكر الظلامي الديني أحدُ أهمِّ الإشكاليات الكبرى التي تدور حولها تأملات أبي العلاء الفلسفية. يعرف «فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة» جيّداً أن هذا الفكر يسيطر على أدمغة العامة أساساً من خلال سيطرته على الإجابة على سؤالين مُرعِبين: من أين جئنا؟ وأين سنذهب بعد الموت؟، هما في الحقيقة وجهان لسؤال واحد!
تتموضع رسالة الغفران في جبهة السؤال الثاني: أين سنذهب؟
حول السؤال الأوّل، كان أبو العلاء قد «لخّص»، إذا جاز القول، «أصلَ الأنواع»، قبل ثمانيةِ قرونٍ ونصف من داروين، بهذه الثلاثة أبيات ذات البصيرةِ الثاقبة في رؤيتها المادية المنسجمة مع العلم الحديث:
(1) والذي حارتِ البريّةُ فيهِ حيوانٌ مستحدَثٌ من جمادِ
(2) أرى الحيَّ جنساً ظلّ يشملُ عالمي بأنواعهِ، لا بوركَ النوعُ والجِنس!
(3) جائزٌ أن يكونَ آدمُ هذا قبلَهُ آدمٌ على إثرِ آدم!
أطلق في ثالثهما صيغة «آدم ابن آدم» التي يرفع العِلمُ الحديث رايتَها اليوم، في مواجهة صيغة النظرية الدينية: «آدم ابن النفخة في الصلصال»!
تدور أحداث رواية الغفران في فضاء حياةِ الآخرة: عذاب القبر، المحشر، الصراط، الجنة، الجحيم ... كما تصوِّرها الميثولوجيا الإسلامية. يصيغ أبو العلاء أو يُسرِّبُ في روايته أسئلةً مربكة حول بعض الإشكاليات الفلسفية: القدرة الإلهية، الغفران، نمط حياة الجنّة والنار. هدفُهُ كعادته إيقاظُ العقلِ أثناء قراءة النظرية الدينية ونقدُ ظلاميةِ كهنتها الذي قال عنهم في لزوميّاتِه:[5]
طلب الخسائسَ وارتقى في منبرٍ يصفُ الحسابَ لأمّةٍ ليهولها
ويكونُ غيرَ مصدِّقٍ بقيامةٍ أمسى يُمثِّل في النفوسِ ذهولَها
فخُذِ الذي قال اللبيبُ وعشْ به ودعِ الغواةَ كذوبَها وجهولَها!
منهجهُ المنطقي الذي يلجأ له غالباً في هذه الرواية هو «البرهان عبر المحال»، La preuve par l’absurde، الذي يُستخدَمُ في الرياضيات لبرهنةِ صحةِ نظريةٍ ما: يكفي افتراضُ صحةِ عكسِ تلك النظرية، والوصولُ إلى تناقضٍ في البرهان، لإثبات صحّةِ النظرية الأصليّة! كذلك عمل أبو العلاء إزاء المفاهيم التي أراد أن يُجلي عدمَ صوابِها للقارئ: افترض أنها صحيحة (دفعها إلى أقصى مداها، مدلِّلاً على ذلك بنصوصٍ من المصحف الكريم) ليصل إلى مبتغاه: إعطاء صورةٍ متكاملةٍ لعوالم الجنة والجحيم وميكانيكا الحياة فيهما، تتفجّرُ فيها المفارقات والتناقضات المنطقية من كلِّ حدبٍ وصوب!...
3.1)) إشكاليّة القدرة الإلهية:
يُحدِّدُ كاسونوجيس دائرةَ «الممكنِ التخيّلي» بأنّها دائرةُ السرد الذي يتفاعل القارئُ معه وينقادُ إليه أثناء قراءته. تتجاوزُ وتضمُّ تلك الدائرةُ بالطبع دائرةَ «الممكنِ العلميّ»، التي تتجاوز بدورِها وتضمّ دائرةَ «الممكن في أرض الواقع».([2]، ص 52) الممكن التخييّلي، الذي يتجاوز الممكنَ العلمي وينقادُ إليه القارئ مع ذلك، هو ما يمكن تخيله في واقعٍ فيزيائيٍّ آخر غير واقعِ كونِنا، له قوانين وخصائص أخرى. مثال على ذلك: السفرُ إلى الماضي في روايات التخييل العلمي([2]، ص 53) مستحيلُ الحدوث علميّاً في كوننا بسبب كثافة كتلته، لكنه ممكنٌ في كونٍ فيزيائي افتراضيٍّ آخر (كما برهن عالم الرياضيات جودل). مثال آخر: الرجلُ اللامرئي في رواية ويلز([2]، ص 39) بفضل مسحوقٍ كيماوي اخترعهُ من موادٍ نادرة، تلاه التعرّضُ لإشعاعات كهرومغناطيسية، غيرُ ممكن علميّاً لكنه مقبولٌ أيضاً كتخييل: مجرّد اللجوء إلى هذه الوصفات الكيماويّة النادرة والكهرومغناطيسية المعقّدة تؤدّي لاستقطاب القارئ للنص، لأنه يتناغم في ذهنه مع مبدأ السببية في تفسير ظواهر الكون، المتجذّر في بنية منظومة الدماغ. في حين أن التحوّل إلى إنسانٍ لا مرئيٍّ لِمجرّد فركِ خاتمٍ سحريٍّ لا غير (كما تسردهُ بعض الأساطير الإغريقية والشرقيّة السحيقة) طريقةٌ عتيقة لا ينقاد لها القارئ الحديث عموماً! أمّا «غير الممكن» أو المستحيل فهو، بالنسبة للكاتب، السردُ الذي لا ينسجم مع القوانين الرياضية ([2]، ص 56)، لأنها قوانين مجرّدة عن التجربة والسياق الفيزيائي.
سأضرب مثلاً يوضِّحُ مفهومَي الممكن التخييليّ والمستحيل: يمكن للقارئ أن ينقاد بسهولة لسردٍ في رواية الخيال العلمي يتحدّث عن «سوبرمان» الشهير (الذي يمتلك قوة خارقة، شأنه شأن أي إنسان جاء من كوكب كريبتون وتعرّضَ لإشعاعات شمس الأرض!) وهو يطير باتجاه مكانٍ بعيد يحمل سيارةً بِغرضِ إخفائها عن نظر قوةٍ شريرةٍ تريد تدميرها! لكن القارئ سيعتبرُ من السخافة بمكان السردَ الذي يقول إن سوبرمان ابتلع السيارة ليخفيها في جوفه عن تلك القوة الشريرة، كما اختفى يونس في بطن الحوت، لأن الحجم الرياضي للسيارة يفوق بكل بساطة حجم بلعوم سوبرمان!
مفهوم «القدرة الآلهية» في الآخرة يتجلّى هنا كإشكالية فلسفية جوهريّة: هو ألِفُ الروايةِ وياؤها، قانونُ فيزيائها الأوحد الذي يفسِّرُ ميكانيكا كلِّ حركةٍ وسكنةٍ في ملكوتِ الآخرة! إذ لا يكتفي هذا المفهوم بهندسة الممكن التخييليّ في «رواية الغفران» (بالشكلِ المعتادِ عليه في الرواية الغرائبية ورواية الخيال العلمي) مثل: أشجار الجنة عملاقةٌ تذهبُ جذوعُها من شرق الجنة لغربها، الحيوانات تتكلم في الجنة، يستطيع الإنسان في الجنة أن يرى ما يبعد عنه عدّة «سنوات ضوئية» (استخدمت الرواية هذا المفهوم العلمي![1]، ص 118) لكن مفهوم القدرة الإلهية يتجاوز في الرواية مستوى هذا الممكن التخييلي التقليدي بإلغائه كل القوانين الفيزيائية والبيولوجية بضربةٍ واحدة، لِيكون لهُ نفس مفعول «الخاتم السحري» العتيق الذي يكفي فركُهُ لتتحقق حالاً أية رغبة أو حلم: الثمار والطيور تتحوّل في الجنة، بمجرد رغبة أهلِها، إلى حور عينٍ كواعب أترابا، تناقش في الأدب وتستشهدُ بأشعار العرب!... يمكن أيضاً، حسب رغبة ساكن الجنة، تغييرُ مقاييسِ أعضاء جسدها حسب هواه (كما فعل ابن القارح بين سجدتين). يكفي، كمثلٍ آخر، أن يخطر ببال ساكن الجنّة ذكر الفقاع (البيرة) لتتفجّر أمام أقدامه أنهارٌ من البيرة، «الجرعة منها أفضل من كلِّ ملذات الدنيا!» بل يصل مفهوم هذه القدرة أيضاً، فيما يشبه الاستخفاف الكاريكاتوري من هذا المفهوم، إلى المحال الذي يتجاوز القوانين الرياضية المجرّدةِ عن أي سياقٍ وتجربة: تنهار «نظرية الأرقام» في الجنّة رأساً على عقب: يكفي مثلاً أن يرى المحتفلون في مآدب الجنة طاووساً، أو إوزّةً يحلمون بأكلها، كلّ واحدٍ على طريقته، لِتصلَ مطبوخةً إثر ذلك مباشرةً، في نُسخٍ مكرّرة في نفس اللحظة، لكلِّ صحنٍ كما حلم بها صاحبه، ثمّ لتتجمّعَ عظامُها من جديد وتعودَ لِنسختها الأصلية الأولى! كذلك حال قصّة الإوزة التي تقول لابن القارح: «إني أمنى بذبحك لي من قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة ألف عام!» ما أمتع رياضيّات إوزّ الجنة وهي تنطُّ هكذا فوق المجاز لِتغتالَ المنطقَ الرياضي وتُرديهِ قتيلاً!
ما يؤكد أن أبا العلاء استخدم منهج «البرهان عبر المحال» في تقديم القدرة الإلهية في روايته بهذه المواصفات العجيبة الخارقة التي تتجاوز مبدأ السببيّة أو حتّى شروط التخييل الغرائبي، هو كون صاحب صيغة «آدم ابن آدم» فيلسوفاً عقلانيّاً استخدم دوماً مبدأ السببية في تفسير الظواهر، بِحدَسٍ علميّ ينسجم مع نتائج العلم الحديث، كما أوردناه في أرائه ما قبل الداروينية حول نظرية الخلق! يكفي قراءة آخر فقرات رواية الغفران عندما يعود ابن القارح من رحلته، إلى قصرهِ في دار الخلود، ويسمعُ نداء الثمرات له: «هل لك يا أبا الحسن، هل لك!»، لاستيعاب سخرية أبي العلاء من نهاية العقل في الجنة: «ويتكئ ابن القارح على مفرشٍ من السندس، ويأمر الحور العين أن يحملن المفرش فيضعنه على سرير من سرر أهل الجنة، وإنما هو زبرجدٌ أو عسجد. ويكوِّنُ البارئ فيه حلقاً من الذهب تطيف به من كل الأشراء، حتى يأخذ كل واحدٍ من الغلمان المخلدين، وكل واحدةٍ من الجواري المشبّهة بالجمان، واحدةً من تلك الحلق. فيُحمَلُ على تلك الحال إلى محله المشيّد بدار الخلود، فكلما مرّ بشجرة نضحتهُ أغصانها بماء الورد قد خلط بماء الكافور، وبمسكٍ ما جُني من دماء الفور، بل هو بتقدير الله الكريم. وتناديه الثمرات من كل أوبٍ وهو مستلقٍ على الظهر: «هل لك يا أبا الحسن، هل لك!»... فإذا أراد عنقوداً من العنب أو غيره انقضب من الشجرة بمشيئة الله، وحملته القدرة إلى فيه، وأهل الجنّة يلقونه بأصناف التحية... لا يزال كذلك أبداً سرمداً، ناعماً في الوقتِ المتطاولِ منعمّاً، لا تجدُ الغِيَرُ فيه مزعماً.»
(3.2) إشكالية الغفران ودخول الجنة:
الغفران هو المفهوم الآخر الرئيس الذي تتجلّى إشكاليته في «رواية الغفران». لعل دخول ابن القارح الجنة، بعد أن غُفِر له، يقدِّمُ ذلك أفضل تقديم: تاب ابن القارح في نهاية عمرهِ في الدّنيا، كما تُقدِّمه الرواية: كان ذلك مخرجه من أهوال جهنم، من وجهة نظر القِيَم الدينية (التي يختلفُ معها أبو العلاء) لاسيّما وأن حسناته طوال حياته الأرضية قليلة، كما يقدِّمهُ صاحب رواية الغفران! ابن القارح، الذي قضّى حياته يتقرّبُ من الحكّامِ والنافذين ويمدحهم شعراً (بعكس أبي العلاء الذي كان يمقتُ ذلك!)، خاض غمار رحلةٍ طويلة للدخولِ إلى الجنّة. بدأها بِنظمِ شِعرٍ يمدحُ به رضوان، خازن الجنّة، للتقرّب منه. لسوء حظّ ابن القارح: يجهل رضوان ماذا يعني مفهوم الشِّعر! بعقليّة ماسحِ أحذيةٍ في الدّنيا والآخرة، مدح ابن القارح طويلاً خازناً آخر للجنّة، يقال له زفر. إلا أنه كان كمن «يخاطب ركوداً صماء»! إذا به بِرَجُلٍ «عليه نورٌ يتلألأ»: حمزة بن عبد المطلب! قال لنفسه: «الشِّعرُ عند هذا أنفق منه عند خازن الجنان لأنه شاعر، وإخوته شعراء!». مدحه شعراً ليُسهِّل له دخول الجنّة! ردّ عليه حمزة: «إني لا أقدر على ما تطلب لكني أنفِّذُ معك رسولاً إلى ابن أخي علي ابن أبي طالب، ليخاطب النبي في أمرك». يصلُ لِعلي الذي يسألهُ عن صحيفة حسناته! يردُّ عليه إنها ضاعت منه في المحشر، ثم يضيف «وأظهرتُ له الولَه والجزع!» نجح التمثيل المسرحي كما يبدو لأن أمير المؤمنين ردّ عليهِ ببراءتِهِ الشهيرة: «لا عليك! ألكَ شاهدٌ بالتوبة؟»
بعد أن عثر على شاهدِه، انتقل إلى «حوض النبي محمد الذي يسقي منه أُمَّتَه يوم القيامة»، فقال للعترة المختارين فيه هذه العبارة، بعقليّة بقّالٍ في سوق الحسنات: «إني كنتُ في الدار الذاهبة إذا كتبتُ كتاباً وفرغتُ منه، قلت في آخره: «وصلّى الله على سيّدنا محمد خاتم النبيين، وعلى عترتهِ الأخيار الطيبين». فقالوا له: «ما نصنع بك؟» وكأن عليهم تسديد ثمن ذكرهِ لهم في صلواتِه! فقال لهم: «إن مولاتنا فاطمة، عليها السلام، دخلت الجنة منذ دهر». ثمّ طلبهم أن يتوسّطوا له عندها، حال خروجها من دارها لزيارة والدها، لتتوسّط له عند أبيها! لا تنتهي هذه القصة الطويلة إلا عندما يأتي إبراهيم، ابن الرسول، بحثاً عن ابن القارح بعد أن تأخر عنه، وجذبَهُ جذبةً رمت به في الجنّة! دخلها هكذا لكزاً، "بالدهفة"، من قِبَل إبراهيم، ابن النبي محمد صلى الله عليه وسلّم!
يزدادُ جلاء إشكالية الغفران في الرواية عندما نلاحظ أن شخصية هزيلةً كابن القارح دخل الجنة، في حين أن أمرأ القيس وعنترة العبسي (بسبب بيتين من الشعر قالهما في وصف الخمر) يصطليان في سعير جهنم. ناهيك أن أبا العلاء لم يكن يرفض الخمر لِواعزٍ شرعيّ، بل لكونِهِ يمنع الرؤيةَ المجرّدة، يؤذي العقل ويهزّ البصيرة، كما يقولُ في لزوميّاته:
يقول الناس أن الخمر تؤذي بما في الصدر من همٍّ قديم
ولولا أنها باللبِّ تؤذي لكنتُ أخا المدامة والنديم
تتعمّق هذه الإشكالية أثناء تقديم بشار ابن برد في جهنم، عندما رآه ابن القارح وشاهد ما نزل بهذا الشاعر من نكال لقوله حول إبليس:
النار عنصرهُ، وآدم طينةٌ والطين لا يسمو سموّ النارِ
يقولُ ابن القارح لِبشّار هذه العبارة العميقة: «لقد أحسنتَ في مقالك، وأسأتَ في معتقدك!» التي لا تعني بكلِّ صراحة: «العقيدة في عالَم، والصواب في عالَمٍ آخر»! وتتفاقم الإشكالية مع طرفة بن العبد الذي يختتم حواره مع ابن القارح بهذه العبارة المدهشة: «وددتُ أني لم أنطق مصراعاً، وعُدمتُ في الدار الزائلة إمراعاً، ودخلتُ الجنّة مع الهمج والطغام ... وكيف لي بهدوء وسكون، أركنُ إليه بعض الركون؟ (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً).» كذلك حال الشنفرى الذي قال بيتاً في الدار الخادعة «يتأدب به في جهنم مدى الّدهر!». أو حال «المصطبحِ بصحن الغانية»، عمرو بن كلثوم، الذي قال:
الا هبّي بصحنكِ فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
والذي يلومه ابن القارح أثناء حواره لأنه «ساندَ» في قولِه:
كأن متونهنَّ مُتون غُدرٍ تُصفِّقُها الرياحُ إذا جرَيْنا
في الجانب الآخر من الصراط ينال الأعشى شفاعةَ الرسول لأنه مدحه بقصيدة! يدخلُ الجنةَ، بفضلِ ما يُشبه «غفران البقالين»، شريطة أن لا يشرب خمراً فيها، كعقوبةٍ على شربِهِ الخمرَ في الدنيا! يثير كلُّ هذا التخييل الشذراتي إشكاليةَ مفهوم الغفرانِ وأخلاقِ الثواب والعقاب، في سردٍ بديعٍ يُربكُ دماغ القارئ بشكلٍ يُحمَدُ عليه. لعلّ القارئ يودُّ أحياناً في أغلب الظنّ أن يقول: «الجحيم وطن الأحرار والمبدعين الذين لا يميلون إلى النفاق وقصائد المديح!» أو أن يبدي استنكاراً مخلِصاً صغيراً: «شعراء الجحيم هم الأولى بأن يكونوا في الجنة!»
يفجّرُ هكذا أبو العلاء، بنفس منهج «البرهان عبر المحال»، أسئلةً عميقة حول مفهومَي الغفران والشفاعة، لاسيما أن أبا العلاء يعتبر في لزوميّاته أن الفضيلةَ يلزم أن تُمارَسَ لِجَمالِها، وليس بحثاً عن جزاءٍ وثواب:
توَخَّيْ جميلاً، وافعليهِ لِحُسنِهِ ولا تحكمي إنّ المليكَ به يجزي
يتلخَّصُ الدِّينُ المثالي، أو الفضيلة، في فكرِه، بكلمتين: إنصافُ الجميعِ دون تمييز، الالتزامُ بالحقِّ والقانون:
الدِّينُ إنصافُكَ الأقوامَ كلّهمُ وأيُّ دِينٍ لآبي الحقِّ إن وجبا؟
كلُّ ما عدا ذلك زمزمةُ ذباب وطلفسات.
(3.3) الحياة الثقافية في الجنّة والجحيم
تبدو الجنّة في رواية الغفران، انطلاقاً من صورتِها في المصحف الكريم، عالَم ملذات ومآدب وملاهٍ أبديّة! شعارها السرمدي: «إن أصحاب الجنة في شغلٍ فاكهون، هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متكئون، لهم فاكهةٌ ولهم ما يدّعون!» سكّانُها «مطنطنون» في بحبوحةٍ ونعيم سرمديّ، متكئون كملوك يكفي أن يساورهم حلمٌ ما لِيتحقّق حالاً! يمتلكون ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعِتْ: «إنا أنشأناهنّ إنشاءً، فجعلناهنّ أبكاراً، عُرُباً أتراباً، لأصحاب اليمين». يكفي، على سبيل المثال، أن يخطر ببالِ ساكنِها بيتُ شعرٍ غراميٍّ لأمرئ القيس (الذي يصطلي في الجحيم في نفس اللحظة!) لِيجدَ الساكنُ نفسه وسط باقةٍ من الحور العين يتماقلن حوله، ولِيتنقّلَ بينهنّ بعد ذلك من ثَغرٍ لِثَغر، كما وجدَ ابن القارح نفسه أحياناً يُضاجعُ أكثر من حوريّة في نفس الوقت! لذلك نسي شعراء الجنة، عندما كان ابن القارح يتحاور معهم، ما قالوه من شِعْرٍ في «الفانية»، فيما كان الحوار مع شعراء الجحيم تفاعليّاً وغنيّاً جدّاً.[6] هكذا تبدو الجنة في الرواية: مقبرة العقل والذاكرة. لا توجد فيها مكتبةٌ واحدة، رقميّةٌ أو ورقيّة، لا كتابٌ أو متحف! فيما تبدو الجحيمُ وطنَ الأحرار والمبدعين، مأوى الذاكرة!
3.4)) جنّة الجن وجنّة الحيوانات
لم ينس أبو العلاء، انطلاقاً من أسس الميثولوجيا الإسلامية، أن يصفَ جنّةَ الجن الذين أسلموا! جعلهم ينظمون الشعر في روايته، شأنهم شأن البشر! حوار ابن القارح مع الشيخ الخيثعور من بني الشيصبان، المكنّى أبي هدرش، وقصيدة هذا الجنيّ الطويلة (التي كتبها أبو العلاء بالطبع) عن «رجم الجن لأنهم استرقوا السمع للملائكة»، كما يقول المصحف الكريم، مثيرةٌ للغاية!
من جانبٍ آخر، صمّم أبو العلاء، بيد فنّانٍ معماريٍّ مدهش، للحيوانات جنّتَها الخاصة، وفاءً لرؤيته الفلسفية التي تعتبرها «أنواعاً» في نفس شجرة «الجنس الحيّ»، شأنها شأن الإنسان (كان أبو العلاء نباتياً، شديد العطف بالحيوان!) وجعلها تتحاور أيضاً في قضايا الأدب مع ابن القارح! حواره مع حيّات الفردوس في «روضاتها المؤنّقة التي تلعب فيها الحيّات ويتماقلن، يتخاففن ويتثاقلن»، ونقاشاته معها شديدة الإثارة!
إحداهنّ مثلاً كانت تسكنُ دار حسن البصري، ثمّ بيت ابن عمرو بن العلاء، ثم انتقلت إلى الكوفة لتحيى في جوار حمزة بن الحبيب. ناقشَتْ ابن القارح في أمورٍ أدبيّةٍ ونحويّةٍ مختلفة، شرحتْ له قراءات بعض آيات القرآن التي سمعتها ممن سكنت في بيوتهم، انتقدت بعض مزاعم النحويين! أذهلَتْ بمعارفها ومواهبها الأدبية ابن القارح! غير أنها عندما خلعت جلدها كحيّة، وتحوّلت حوريّةً «من أحسن غواني الجنّة، ذات رضابٍ أفضل من خمر الدرياقة». هرب ابن القارح مهرولاً في الجنة وهو يقول لنفسه: «كيف يُركنُ إلى حيّة شرفها السمّ؟»! ثمّة طباعٌ لا تتغيّر حتّى في الجنّة: لا يثق ابن القارح (بِرُوحِ بَدويٍّ شديدِ التشكّكِ والحذرِ والارتياب) حتى بالله، وكأنه سيمنحهُ حوريّات برضابٍ ختامهُ سمّ، فيما وعدَهُ برضابٍ ختامهُ مسك!
3.5)) جنّة الرجز
إذا كان أبو العلاء قد صبّ تأملاته الفلسفية في وعاء رواية الغفران، فهو قد صبّ فيها، قبل هذا وذاك، تأملاته وآراءه وذوقهُ الأدبي. لم ينس مثلاً أن يُصمِّم «جنّة شعراء الرجز»: «جنّةٌ صغيرة ليس لبيوتها سموق بيوت الجنّة» لأن «الله يحبّ معالي الأمور ويكره سفاسفها، وإن الرجز من سفساف القريض»!
3.6)) آخِرة الكلمات!
مجموع حوارات الرواية وقراءاتها المهنيّة لمئات أبيات الشعر، أجْلَت أن أبا العلاء سيّد لغة العرب بدون منازع، بطريرك كلماتها الذي قيل عنه: «ما قالت العرب كلمةً لا يعرفها أبو العلاء»! لذلك عندما قال الشمّاخ بن ضرار لابن القارح في الجنّة إنه نسي ما قاله في حياة الدنيا من شِعر: «لقد شغلني عنه النعيم الدائم، فما أذكر منه بيتاً واحداً»، ردّ عليه ابن القارح، الناطق الأدبي باسم أبي العلاء: «لقد غفلت أيها المؤمن وأضعت! أما علمتَ أن كلمتيك أنفع لك من ابنتيك؟ وإن القصيدة من قصائد النابغة لأنفع له من ابنته عقرب»! الكلمات، كما يراها أبو العلاء في لزوميّاته، رحالةٌ تعبرُ الزمن، خيولٌ جائلةٌ تسافرُ بِنعالِ الريح نحو المستقبل، تخترقُ القرون. يهوي جسدُ الفارس ويذوي، «ينقلهُ الحتفُ عن عاداتِه»، فيما تواصلُ خيول الكلماتِ، مشرئبةَ الأعناق، رحلتَها الأبديّة في دنيا الخلود، كما يقول أبو العلاء:
لا خيلَ مثل قوافي الشعرِ جائلةً أبقى على الدّهرِ أعناقاً وآطالا
إن ينقُلِ الحتفُ عن عاداتهِ بطلاً فما تزالُ معانيهنّ أبطالا
«في البدء كانت الكلمة»، تقول فاتحة التوراة! لا أعرف! ربما كان ذلك حقّاً، من يدري! لكن «في الأخير لا تبقى إلا الكلمة»، «لا آخرة إلا للكلمات»، كما يقول ضمنيّاً حكيمُ العربِ الأمجد!
4)) رواية الغفران والاتجاهات الثلاثة في علاقة المؤلف بعفريته
يتحدّث أبو العلاء في بداية الرواية كشخصٍ في النص، بشكلٍ موازٍ لِعفريته، بما يتوافق والاتجاه الأول من الاتجاهات الثلاثة لعلاقة المؤلف بعفريته التي أشرنا لها في مدخل هذه الدراسة. يستخدم ضميرَ المتكلم، في بعض الصفحات الأولى من الرواية([1]، ص 26، 41). يختفي المؤلفُ كشخصٍ في الرواية بعد ذلك، لِتراوح الرواية بين الاتجاه الثاني والثالث. في كل حوارات عفريته مع أهل الأدب من بشرٍ وجنٍّ وحيوانات يلتزم سردُ أبي العلاء بالاتجاه الثالث: يقبعُ المؤلف في دولاب مكتفياً بتنظيم تحوّلات عفريته الذي يمتلك في واقع الحال وجهين بلاستيكيّين: له، في كينونته الأدبية، آراء أبي العلاء وله سلوك وروح ابن القارح عدا ذلك. أروع ما في كلّ ذلك أن المؤلف يجعل كلّ الاستنتاجات الأدبية المتعلّقة بأشعار من يحاورونه تخرج من أفواههم وليس من ابن القارح! ثمّة ذكاء وفنيّةٌ بليغة ومهنيّةٌ عالية في هذا الاختيار!
لعلّ الحوار التالي، الذي يبرهنُ فيه آدمُ نفسُه أن كلّ ما قيل باسمه من الشعر منتحَلٌ، يُجلي ذلك الأسلوب الرائع في استنطاق الاستنتاجات من الساردين الآخرين أنفسهم. يعطي ذلك الأسلوب لهذه الاستنتاجات قيمةً أهمَّ وأكبر، ينوِّعُ أصوات الرواية وأبعادها الفاعلة، يشدُّ القارئ لمتابعةِ تفاصيل السردِ وتطوّرات تفاعلاته، ويعمِّق إيمانهُ بصوابِ الاستنتاجات... يستخدمُ أبو العلاء في حوار آدم وابن القارح، كعادته، المنطقَ، التحليلَ اللغوي، ضربَ الميتافيزيقيا بالميتافيزيقيا للوصول إلى نتائجه: «فيلقى ابن القارح آدمَ، عليه السلام، في الطريق فيقول: يا أبانا، صلّى الله عليك، قد رويَ عنك شِعرٌ منه قولك:
نحن بنو الأرضِ وسكّانُها منها خُلِقنا وإليها نعُودْ
والسُّعدُ لا يبقى لأصحابِهِ والنحسُ تمحوهُ ليالي السُّعود
فيقول: إن هذا القول حق، وما نطقهُ إلا بعضُ الحكماء، ولكني لم اسمع بهِ حتّى الساعة! فيقول: لعلّك يا أبانا قلتَهُ ثمّ نسيت! فقد علمتُ أن النسيان متسرِّعٌ إليك، وحسبكَ شهيداً على ذلك الآية المتلوّة في فرقانِ محمّد، صلى اللهُ عليه: «ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي، ولم نجد له عزماً!». يقول آدم، صلّى اللهُ عليه وسلّم: «أبيتم إلا عقوقاً وأذيّة، إنما كنتُ أتكلّمُ العربية وأنا في الجنّة، فلّما هبطتُ إلى الأرض نُقِلَ لِساني إلى السريانية، فلم أنطق بغيرِها إلى أن هلكتُ، فلمّا ردّني الله، سبحانه وتعالى، إلى الجنّة عادت عليّ العربية!
فأي حينٍ نظمتُ هذا الشِّعر: في العاجلة أو الآجلة؟. والذي قال ذلك يجبُ أن يكون قاله في الدّار الماكرة، ألا ترى قوله: «منها خُلِقنا وإليها نعود»؟ فكيف أقول ذلك ولساني سريّاني؟ وأما الجنّة، قبل أن أخرجَ منها، لم أكن أدري بالموت فيها. وأما بعد رجوعي إليها فلا معنى لقولي: «وإليها نعود» لأنه كذبٌ لا محالة، ونحن معشر أهلِ الجنّة خالدون مخلّدون!»
5)) خاتمة
عبر نقْشٍ ثريٍّ عارمِ الخيال لِعوالم الجنّة والنار، كتب أبو العلاء نصّاً بديعاً يتقاطع فيه السّردُ الروائي بالتأملات الفلسفية. استخدم منهج «البرهان عبر المحال» ليصل نصّه هذا لِـ«ذي الدّين» و«ذي العقل» في نفس الوقت، ولِيستولي عليهما معاً منذ عشرة قرون! تزداد رغبة الأوّل شوقاً ولهفةً لِـ«نعيم» الجنّة بعد قراءة النص، فيما يتساءل الثاني حول فحوى مسلمّات هذه العقائد، يرتبك، يضحك، يصطدم ... وكأن أبو العلاء أراد أن يؤكد في «رواية الغفران»، قبل هذا وذاك، ما قاله في لزوميّاته:
اثنانُ أهلُ الأرضِ: ذو عَقلٍ بلا دِينٍ، وآخرُ ديِّنٌ لا عقلَ له
كاتب وجامعي وروائي يمني
* دراسة مقدّمة لِلملتقى الدولي الخامس للإبداع الروائي العربي: الرواية العربية إلى أين؟ القاهرة، 12-15 ديسمبر 2010
مراجع:
(1) رسالة الغفران، أبو العلاء المعري، دار صادر، بيروت.
(2) Mon zombie et moi, la philosophie comme fiction. Pierre Cassou-Noguès. Ed. Seuil, 2010.
(3) L’atelier du roman, Mars 2010, Ed. Flamarion, n. 61, Paris
(4) La connaissance de l’écrivain, Jacques Bouveresse, Ed. Agone, 2008.
(5) Les Impératifs, poèmes de l’ascèse. Edition bilingue. Ma’arrî. Traduits et commentés par H. H. Vuong, et P. Mégarbané. Ed. Sindbad, 2009.
(6) «الجنة والجحيم في ملكوت رسالة الغفران»، حبيب عبدالرب سروري، صحيفة القدس العربي، 9 نوفمبر 2010.