1. الظاهر والباطن:
إنّ دراسة الأدب القديم تطرح من إشكاليات المنهج ما تزدحم به الكتب والأطروحات من المسائل الخلافية وأمّهات القضايا، والتي يمكن إرجاعها إلى ثنائيات عديدة ذات طابع فكريّ أو فلسفي أو بلاغي أو أدبي أو اجتماعي أو سياسي أو أيديولوجي. وقد تلتقي في صلب تلك الثنائيات أبعاد كثيرة من النواحي المذكورة وغيرها. من ذلك ثنائية اللفظ والمعنى، وثنائية الجوهر والأعرَاض، وثنائية الحقيقة والمجاز، وثنائية الشفوي والمكتوب، وثنائية الرسمي والهامشي ... ولعلّ الثنائية الشهيرة: ثنائية الظاهر والباطن، أو المظهر والمَخبر، هي من الذيوع بحيث أصبح من نافلة القول إنها تخترق السنّة الأدبية العربية فتشكّل في النصّ مجال ما يُقال، وحيّز ما لا يُقال. أو فلْنقلْ إنّها ترسم بدقّة منعرجات النصّ الأدبيّ، فتسم بعض جهاته بكونها "مناطق نشطة" وتطوي سائر الجهات في مواضع الحجب والإضمار.
ولعلّ المدخل الحضاري، يُيسّر قراءة النصّ الأدبيّ في ضوء سياقه التاريخي الاجتماعي، فيمكن تأويل انتشار ثنائية الظاهر والباطن وفق الأنساق المحايثة للنصّ على اعتبار أنّه منتج ثقافي أظهره إلى الوجود فاعل/فواعل اجتماعيـ(ـة) واستهدف من ذلك إنجاز واقعة رمزية يمكن معالجتها تحليلا وتأويلا وفق دراسة الخضمّ التاريخي والسياق الحضاري اللذيْن حفّا بولادة النصّ غير أنّ هذا المدخل، لن يقرّب النصّ منّا بقدر ما سيبعده عنّا، فهو في الوقت الذي يسعى فيه إلى كشف "خبايا" النصّ، فإنّه إنّما يحمله على مطابقة الأوضاع السياسية والتوازنات الاجتماعية التي حايثها ووُجد معها في إطار واحد. ولا يعني ذلك أنّ النصّ الأدبيّ لا يحتاج في تحليله إلى ما هو خارج عنه (على نحو ما يراه المنهج البنيوي) ولكن المقصد من هذا أنّ النصّ إذ يُرى فيه الجانب الوثائقيّ، فحسب، إنّما يُلغي أو يُضعف جوهره الفنّي، وربّما الأخلاقيّ، على اعتبار أنّ مفهوم الأدب القروسطيّ لم يكفَّ عن تمثُّل البعد الأخلاقيّ عنصرا تكوينيا لا ينفكّ عنه.
فإذا اختزلنا ثنائية الظاهر والباطن في كونها مبدأ تستعمله بعض المذاهب والنِّحَل تحصينا للذات وحماية للأتباع يُدعى تقيّةً، ولعلّ فيه مصالحة مع الواقع غير الموافق لتعاليم المذهب، نظرا إلى انخرام التوازن بين الطرف منتج النصّ (الضعيف) والطرف موضوع النصّ (القويّ)، فإنّنا نصل إلى القول بكون النصّ يصبح في هذه الحالة مجرّد بيان انفعاليّ يحتجّ على سلبيته بشكل رمزيّ: سواء بالتوسّل بالحكايات المَثَلية أو القصص الرمزية أو الخرافات وما الأدب العجائبيّ وقصص الخوارق وسِيَر الأبطال والأدب الملحميّ إلاّ نماذج معبّرة عن هذه الظاهرة، ظاهرة عبور أشكال التعبير الرمزيّ الأعصار والأمصار خلال الظروف غير المواتية، بشكل يعوّض فيه التخييلُ الفنّيُّ العنفَ الثوريَّ. غير أنّنا نزعم أنّ ثنائية الظاهر والباطن أعمق من أن تكون صيغة فكرية رمزية لسلوك التقيّة اجتماعيا ومذهبيا. بل إنّها سمة مميّزة لجلّ المعارف النقلية (أو قُل الإنسانية) انطبع بها أغلب التراث القروسطيّ.
تجد هذه الثنائية مرتكزاتها الأساسية في نصوص الدين الإسلامي. فمن أسماء الله الحسنى الظاهر والباطن، وقد فصّل القرآن الكريم القول في شأن المنافقين الذين يُظهرون عكس ما يبطنون. وقد جاء في سورة الحديد تصويرٌ للمنافقين يناسب ما يمتاز به سلوكهم من ازدواجية، إذ يقول تعالى:﴿يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ﴾(سورة الحديد، الآية13). فضلا عن غزارة حضور هذه الثنائية في أدبيات كثير من المذاهب، بل إنّ منها ما دُعيَ ظاهريا ومنها ما سُمّيَ باطنيا، من جهة كيفية نظره إلى القرآن وتأويله فالظاهريّ مَن يكتفي بالمدلول الحرفيّ للآي، بل قد يُنكر حصول المجاز إذ يرى أنّ المجاز قسيم الحقيقة، ولمّا كان لا يُتصوّر في القرآن غير الحقّ، فقد ألغى الظاهريةُ القول بورود المجاز في القرآن. أمّا الباطنية، فقد تعدّدت تأويلاتها البعيدة عن الظاهر وامتدّ تصريفها معاني الآي على تخريجات لا يُعدّ تجنّيا وسْمُ بعضها بالغرابة أو الإيغال. ولم تكن المتون الأدبية بمعزل عن التأثّر بثنائية الظاهر والباطن، بل لعلّها- فيما نظنّ- آلية من آليات إنتاج القيَم الرمزية ذات الشكل السرديّ. ولعلّ دراسة مثال من أمثلة النصوص السردية القديمة يمكن أن يُتّخذ دليلا على انتشار ثنائية الظاهر والباطن في الأدب القديم.
من ذلك أنّ الناظر في كتاب (الأسد والغوّاص)(1) - وهو كما أشار المحقق في عنوان فرعي على الغلاف «حكاية رمزية عربية من القرن الخامس الهجريّ» اعتنى الدكتور رضوان السيّد بإعداده - يقف على مواضع كثيرة حضرت فيها ثنائية الظاهر والباطن .. فما هي دلالاتها؟ وما الذي يمكن استنتاجه من تواترها الغزير في المتن؟ إذا وضعنا في الاعتبار إشارة المحقّق في تقديمه إلى كون الأثر مجهول المؤلّف غير أنّ "مشابه أسلوبية كثيرة"(2)موجودة بينه وبين كليلة ودمنة لابن المقفّع، تبيّن لنا عسر تأويل غزارة حضور ثنائية الظاهر والباطن، دون الانتباه إلى التعالقات النصّية التي ينهض عليها (الأسد والغوّاص) وإلى خصوصيات الإنشاء السرديّ وفنّيّاته. خصوصا إذا علمنا أنّ فرضية المحاكاة أو المعارضة غير مستبعدة رغم استدراك الدكتور رضوان السيّد قائلا: "لكن الفروق الظاهرة بين الحكايتين الرمزيتين تنسحب أيضا عن[كذا] الأسلوب الذي يتميّز بروح إسلاميّ أشدّ وضوحا منه عند ابن المقفّع لأنّ أصل ابن المقفّع غير عربيّ، ولا كذلك حكاية الأسد والغواص"(3). غير أنّ هذا التعليل غير دقيق، فيما نقدّر.
فما المقصود بـ"أصل ابن المقفّع"؟ هل هو أصل الحكاية التي نقلها أم أصله هو مؤلّفا ينتمي إلى العِرْق الفارسيّ؟ فإذا كان المقصود هو الوجه الأوّل، فإننا نحتاج إلى إعادة النظر في معنى الأصالة: هل هو أن تكون عناصر الحكاية محلّية غير متأثّرة بغيرها من المؤثّرات "الأجنبية" أم أنّ تقنيات الكتابة (من ذلك مزج الشعر بالنثر وذكر بعض الأحداث الواقعية) التي وردت في (الأسد والغوّاص) ولم يكن لها حظّ في (كليلة ودمنة) هي التي تؤسّس أصالة الأثر الأوّل ذِكْرا وأجنبيّة الأثر الأسبق إنشاءً. أمّا إذا كان التأويل الثاني هو المقصود، فلا شكّ في أنّ فارسية بشّار وسيبويه وأبي العتاهية(ذكرا لا حصرا) لم تحُلْ دون أصالة إبداعاتهم وآثارهم، ممّا يجعل الحجّة غير مقبولة في تعليل الفوارق بين الأثريْن. لعلّ ما زعمناه من كون جدلية الظاهر والباطن لافتة في هذا الأثر، لا تنسحب فقط على ورودها لفظيا أو على النزعة المثنوية المسيطرة على شخوصه الرئيسية والثانوية في ضرب من المقابلات المثالية بين العدل والجور، بين الوفاء والغدر، بين السائس والمَسُوس،... بل إنّها تطول- من وجهة نظر فنّية- علاقة المؤلِّف بالمؤَلَّف: لعلّها صيغة بدائية لنظريّة موت المؤلّف البارطية لا لخلق حرّية التأويل، بل لضمان نَفاق النصّ، غير أنّ هذه الغاية لا تتحقق جليّا إلاّ بما سرى في النصّ من بُعد تعليميّ.
2. البعد التعليمي
وقد أثار انتباهنا ورود محاورة "فلسفية" تنظر في علاقة الأسماء بالمسمّيات ولعلّها في باب استعراض المعارف ذات المنحى التعليمي أدخلُ:
"قال[الأسد]: فلِمَ سُمّيتَ غوّاصا؟
قال: لغوصي على المعاني الدقيقة واستخراجي أسرار العلوم الخفيّة ومَن أكثرَ من شيء عُرف به. قال له الأسد: فالأسماء كلّها تجري هذا المجرى؟
قال: لا! أيّها الملِك! إنّ الأسماء وإن كانت تُراد للتعريف والتمييز، فإنّها تُقال على وجهين، اسم يدلّ على معنى في المسمّى، والآخر اسم لا يدلّ على معنى فيه. فأمّا الذي يدلّ على معنى فإنّه ينقسم قسمين، أحدهما ما يُقال على الحقيقة وهو الاسم المشتقّ من صيغة في المسمّى كاسمي أيها الملِك، فإنّه مشتقّ من صفة فيّ، وإمّا أن يكون عن طريق القلْب كما يُسمّى الأعمى بصيرا واللديغ سليما، وأمّا التي لا تدلّ على معنى فهي التي تُراد للتعريف والتمييز فقط وهي الأسماء غير المشتقّة"(4).
إنّه حوار أشبه ما يكون بالحوار الأفلاطوني في (الجمهورية) يكون الغرض منه السماح للفيلسوف/ الحكيم بالإدلاء بدلوه في قضيّة من القضايا. وكأنّ السؤال القادح للتوضيح الذي جاء به الحكيم إنّما هو مطيّة أسلوبية لاستعراض المعلومات والمعارف المنظّمة التي يريد المؤلّف ان يزوّد بها القارئ. فالحوار مجرّد قالب شكليّ لاستيعاب تلك المعارف التقريرية- المدرسية في جوهرها. وقد اشتمل هذا المقطع على معارف نحوية وصرفية وبلاغية ومنطقية، تبين عن نضج هذه العلوم في عصر التأليف، إذ تمكّن المؤلّف على لسان الغوّاص من النطق بالكلّيّات في تقسيم واضح وجهاز اصطلاحيّ دقيق. ولا فائدة في التعليق على إعجاب الأسد بكلام الغوّاص إعجابا جعله يطلب منه أن يصير من حاشيته:"فقال له الأسد: أكثرِ الكوْنَ بحضرتي، واختلِطْ بجُملتي لتزول عنك الحشمة"(5). فضلا عن تعليق الراوي إثر ذلك مباشرة بقوله:"وأمر خاصّتَه أن يخلطوه بأنفسهم ويجذبوه إلى جملتهم. وأقبل الأسد يبسطه وهو يأنس قليلا قليلا"(6).
فالسارد يرسم لنا صورة مثالية/ نموذجية لعلاقة صاحب السلطة بصاحب الفكر، فجعل الأوّل يتودّد إلى الثاني ويقرّبه منه ووصف الأوّل بالحشمة والوحشة. فهو لا يطرق أبواب صاحب السلطان متزلّفا متملّقا. الصورة المعيارية "للمثقّف" هي أن يكون عزيز الجانب ولعلّ المؤلِّف المجهول لم يصف لنا واقعا، بل صورة مثاليةً رمزيةً دعا إلى تحقيقها ولعلّ نماذجها الواقعية قليلٌ عديدُها. وغنيٌّ عن القول ما جرى في الواقع من تحالف سلطة السيف وسلطة القلم أو من معاداة بين الطرفين، خلّدت كلاّ منهما كتب أدب المجالس على الخصوص. ولعلّ اسم الغواص وهو علَم منقول عن صيغة مبالغة تدلّ على إكثار من حدث الغوص، يحمل في حدّ ذاته ثنائية الظاهر والباطن، فهو يدلّ على "استخراج أسرار العلوم الخفيّة"(7)كما جاء في النصّ، وهل يكون الاستخراج إلاّ بحركة من الخارج إلى الداخل تعقبها حركة من الداخل إلى الخارج. فضلا عن تعلّق عمل الاستخراج بأسرار العلوم الخفيّة. والملاحظ في هذا السياق، تنافر توصيف الغوّاص لنفسه مع العمل الذي أنجزه. فقد أوهم تعليله لاسمه بخوضه في علوم خاصّية لا يدركها إلاّ من فارق الجماعة أو القوم الذين وصفهم الغوّاص بكونهم قوما "يعدّون طلب العلم سقطة وحبّ الحكمة عيبا"(8) ولكنّ ما مارسه كان تفريقا منطقيا ينطوي على إفادة من معارف اليونان، فضلا عمّا أُشرب كلامُه من استثمار لبعض خصائص اللسان العربيّ عبر عرض بعض الأمثلة شواهدَ على التفريع الذي أقامه الغوّاص للأسماء.
ولعلّ اقتران الإفادة من المنطوق بالإفادة من تقسيم النحاة، يؤشّر على اكتمال نضج العِلْميْن في صيغتهما الوسيطة،ممّا أهّل المؤلِّف لتوظيف المعارف المنطقية والنحوية في سياق أدبيّ، وهو من هذه الجهة يذكّرنا بلويس كارول وكتابه (أليس في بلاد العجائب) إذ عمد إلى وضع معضلات منطقية في سياقات توحي بالسذاجة بيد أنّها سذاجة عميقة لا تكتفي بالمفاكهة والتلطيف بقدر ما تدعو إلى التأمّل وإعمال الرأي. إنّ ما أشرنا إليه آنفا من منحى تعليميّ، يكاد لا يفارق التأليف الأدبيّ القديم، غيرأنّ الكتّاب يتفاوتون في حسن التوظيف وطريقة الإدراج، بل إنّ الأسلوب الواحد، نحو الاستطراد يكون حِلْيةً في موضع ويصبح عبئا في موضع آخر. فكأنّ ذلك المنحى يندرج ضمن سُنّة الكتابة في تلك العصور، أو لعلّه تكرّس شيئا فشيئا حتّى اكتسب سمة العُرف الأدبيّ لا يسع الكاتبَ تجاهلُه أو إنكارُه. فإذا نظرنا إلى زاوية الخصائص الفنّية التي قام عليها (الأسد والغوّاص) وجدنا أنّ بنية التضمين متغلغلة في الأثر ومتمّكنة منه تمكّنا.
3. بنية التضمين
تتسلسل الأخبار والقصص المضمّنة تسلسلا قائما على التناوب بين الأخبار المنقولة عن شخصيات واقعية وأخرى اختفت معالمها، وإن اشتركت في دورانها على نوى واحدة. وما المراوحة بين التاريخ والحكايات الحِكْميّة، إلاّ وسيلة أسلوبية لتجاوز رتابة النمط الواحد الذي يمكن وسمُ "كليلة ودمنة" به مثلا. وتتقاطع في (الأسد والغوّاص) ملامح الأدب الرسمي (الآداب والسير وتاريخ الملوك) والأدب الهامشي (قصص العشق واللصوص والعيّارين) ممّا جعل الأثر ملتقى لمشارب غير متجانسة، وإن ماثل سنّة التأليف في القرن الخامس للهجرة (إن صحّت نسبته إلى تلك الفترة – لا نقول ذلك إلاّ احتياطا). ولعلّ هذا التجميع الفسيفسائي ينطق عن ذوق ثقافيّ تشكّل،و قد انتهى إلى الخروج عن حذلقة المقامات ووعورة النصوص الفلسفية وسفساف الأدب الشعبي، إلى صيغة معدَّلة للأنماط المذكورة في ضرب من التمازج لا يُضحّي بالحكمة في سبيل السرد ولا يُعنى بالرشاقة الأسلوبية إلى حدّ التشبّع، بل كلّ شيء بمقدار، دون أن يخفى ما يمكن أن يبدُر إلى ذهن القارئ من إيقاع مقارنات - تطرح نفسها- مع "كليلة ودمنة". غير أنّ تضمين القصص التاريخية والشواهد الشعرية، لممّا يؤصّل "عربيّة" (الأسد والغوّاص) قياسا بخلوّ كتاب عبد الله بن المقفّع من الشعر ومن الأخبار الواقعية.
ومن يبحث في مواقف مؤلّف (الأسد والغوّاص) السياسية يجد في غضون الكتاب مؤشّرات دالّة على ضرب من "التزلّف" إلى الحكم العبّاسي، يمكن أن نستشفّه في الخبر التالي، مثلا:"وقيل لبعض بني مروان بعد زوال ملكهم: ما الذي أزال ملككم؟ فقال: شغلتنا لذّاتنا عن التفرّغ لمهمّاتنا، ووثقنا بكُفاتنا فآثروا مرافقهم علينا، وظلم عمّالنا رعيّتنا ففسدت نيّاتهم لنا وتمنّوا الراحة منّا، وحُمل على أهل خراجنا فقلّ دخلنا(فتأخّر) عطاء جندنا فزالت الطاعة منهم لنا، وقصدنا عدوّنا فقلّ ناصرُنا. وكان أعظم ما زال به مُلكنا استتار الأخبار عنّا"(9). يبدو الحوار المنقول بين سائل مجهول ومسؤول معلوم/مجهول مثالا على طبيعة نظام الحوار في الأثر، إذ هو قادح للسرد باعث على توليده. ولكن كيف تراكب السرد والحوار؟ وكيف تآلف النمطان؟
4. انسلال السرد من المحاورة
ليس (الأسد والغوّاص) بدعا من المؤلّفات التي تنشدّ إلى أدب الذاكرة، إذ يقوم على المحاورة بين الشخصيتين الرئيسيتين في القصّة الإطارية. غير أنّ انشداد الكتابة إلى أدب الذاكرة لم يَحُلْ دون غلبة تيّار السرد، فهو القادر وحده على كتابة الحكاية والانتقال بالحوار من عالم المشافهة إلى عالم الكتابة(10). بل لعلّه – في ظلّ انحجاب اسم المؤلّف - يسعنا أن نركن إلى ضرب من الأحكام يسم المُصَنَّفَ موضوعَ الدراسة باختراقه الحدود الأجناسية أو على الأقلّ بعدم انخراطه الواضح في جنس متميّز من أجناس الأدب القديم، رغم "المشابه الأسلوبية" المشار إليها آنفا في علاقة (الأسد والغوّاص) بـ(كليلة ودمنة). بل لعلّ "الحكاية المثَليّةَ، بمقوّماتها الأجناسية المخصوصة تنطوي على قدرة على الانتشار وقابلية لتجاوز الحدود الفاصلة بين اللغات والثقافات"(11). ولعلّ الحُكم الذي أطلقه فرج بن رمضان على (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء) لأحمد بن عربشاه الحنفيّ (ت.854هـ) ينطبق عموما على (الأسد والغوّاص)، يقول:"مهما يكن من أمره في حدّ ذاته وفي ملابسات وضعه أو تأليفه أو مجرّد ظهوره كيفما كان، فإنّه بلا شكّ يمثّل علامة بارزة هامّة في مدوّنة الحكاية المثلية العربية وأنّه[...] في أبرز صيغ ومحطّات تَبْيِئَة[كذا] هذا الجنس الوافد في نظام الأدب العربيّ"(12). ويرى الباحث نفسه أنّ "الكتاب صادر عن حسّ تواصل وانسجام لا مع ما سبقه من نصوص الحكاية المثلية فحسب، بل خاصّة مع ما سبقها في الأدب العربيّ من أجناس مشابهة لها أو قابلة للاندماج فيها من جهة وما نشأ بعدها بالتأكيد من أجناس القصص العربي من جهة أخرى، أعني المقامة تحديدا"(13).
وكما أشرنا إلى انسلال السرد من المحاورة، وهو ما يمكن أن نسمّيَه تقاطعا بين أنماط الخطاب، فإنّ (الأسد والغوّاص) يقوم على ضرب من "المحاورة بين الحكاية وأجناس أخرى غير قصصية"(14)، بمعنى أنّ الأثر يتجاوز تقاطُع الأنماط ليُحقّق تقاطُع الأجناس. وبذلك يمكن الاطمئنان إلى نسبة الطرافة إلى هذا الأثر. ولعلّ سمةً أخرى يمكن أن تلتصق بكتاب (الأسد والغوّاص) تتمثّل في اشتماله على ما أشرنا إليه آنفا من استعراضٍ للمعارف ذي منحى تعليميّ، بوسعنا أن نذهب مذهب بعض الدارسين، فنعدّها نظيرا لها لما ارتكز عليه فنّ المقامات من استعراض لغويّ حتّى أنّ بعض الدارسين اقترح "وضع تسمية تصنيفية أجناسية خاصّة بها هي "القصص اللغويّ""(15) غير أنّ (الأسد والغوّاص) لم يغرق في هذا الأسلوب الذي ظلّ خصيصة تمييزية لفنّ المقامات، ولكن لا يمنعنا ذلك من اعتبار هذا الأثر خلاصة تفاعل بل وتنازع بين "مضمون تعليميّ منحدر من الحكاية المثَلية وشكل تعليميّ أيضا آت من بلاغة المقامة"(16).
وإذا ما ربطنا بين الهيئتيْن النمطية والأجناسية للأثر، تجلّى لنا تنازُع السرد والحوار من جهة، والقصّ والتعليم من جهة أخرى. ولعلّ حركة التجاذب المزدوجة هذه هي التي أسهمت - ضمن غيرها من العوامل(17)- في غياب منظومة قرائية متكاملة تنصت لأصوات هذا النصّ دون أن تُدخل عليه الضيم بتغليب بعض سماته على بعض أو باطّراح بعض خصائصه خارج منظورها. ولعلّ مراجعة المسلَّمات النقدية المُحنَّطة، أدعى لرفع التهميش عن قطاعات من السرد القديم تنظيرا وتأويلا.
الهوامش:
(1) مؤلّف مجهول،1992،الأسد والغوّاص: حكاية رمزية عربية من القرن الخامس الهجري، بيروت، دار الطليعة، ط2 (ط1، 1978)
(2) الأسد والغوّاص، ص35
(3) المرجع نفسه، الصفحة نفسها
(4) المرجع نفسه، صص66-67
(5) المرجع نفسه، ص67
(6) المرجع نفسه، الصفحة نفسها
(7) المرجع نفسه، ص66
(8) المرجع نفسه، الصفحة نفسها
(9) المرجع نفسه،صص184-185
(10) ابن رمضان، صالح،"الإمتاع والمؤانسة وطروس الكتابة"، حوليات الجامعة التونسية،ص242
(11) ابن رمضان، فرج،2001، الأدب العربي القديم ونظرية الأجناس: القصص، صفاقس/تونس، دار محمد علي الحامّي،ط1، ص119
(12) المرجع نفسه، ص145
(13) المرجع نفسه، الصفحة نفسها
(14) المرجع نفسه، الصفحة نفسها
(15) المرجع نفسه، ص147
(16) المرجع نفسه، الصفحة نفسها
(17) من بين تلك العوامل "سلطة علماء اللغة" و"انخراط الكتّاب أنفسهم" في سُنن القراءة النقدية السائدة الخاضعة لسلطة النحاة ومفعول القراءة الإيديولوجية التي تُصنّف الآثار وفق التعاطف مثلا مع مصير المؤلّف(من ذلك نهاية ابن المقفّع المأسوية).انظر المرجع السابق،صص147-149.