مقدمة:
المقصود بالبناء الدرامي هو التطور في بنية التركيبة المسرحية، وصولاً إلى ذروتها ومن ثم إلى نتائجها النهائية. هكذا يحلل المختصون في علم المسرح قواعد المسرح الكلاسيكي والمسرح الواقعي ويقسمونها إلى مراحل تبدأ بالمقدمة أو المشاهد الاستهلالية، وتمر بمرحلة الصراع أو ما يسمى بالعقدة، بعدها تأتي النهاية لتشكل حلاً للمشكلة نفسها. إن هذه التقسيمات على الرغم من كونها تقسيمات مبسطة لأي عمل درامي، فإنها تثير لدى أي مخرج مسرحي أسئلة جمة حتى إذا انتهج منهج المسرح الحديث، وألغى أصول وقواعد اللعبة المسرحية القديمة. ومن ضمن هذه الأسئلة، ماذا يريد أن يقول في عرضه المسرحي؟ وماذا يريد أن يوصل إلى الجمهور؟ إذ ليس من الحكمة القفز دفعة واحدة على ما توصل إليه الباحثون في بحثهم الدؤوب عن أساليب فن المسرح وفن الإخراج على الإطلاق، وليس من المعقول أيضاً لأي مخرج مسرحي أن يقدم عرضه المسرحي اعتماداً على تجارب بيتر بروك مثلاً، دون أن يعرف أو أن يدرس أصول وقواعد الإخراج المسرحي! ومع ذلك فإن البناء الدرامي في النص هو الذي ينمي لدى المخرج القدرة على المخيلة والخيال، ويجعله يفكر بالعديد من الصور الكثيرة ليصل في النهاية إلى الصور الجيدة التي تلائم عرضه المسرحي.
إن موضوعة المسرحية قد تأتي مصادفة، أو أنها تأتي من خلال تجربة معاشه تتم معالجتها فيما بعد معالجة فنية أو حتى فلسفية عدمية. لكنها تعتمد في كل الأحوال على ما يسمى (العقدة) أو المشكلة الرئيسية للمسرحية الواحدة. إن ذلك يمكن أن يشكل اقتباساً جديداً للمخرج باعتبار أنه مؤلف جديد للعرض المسرحي، مؤلف لا ينتمي إلى زمان ومكان من الماضي، بل إلى زمان ومكان عصريين سيتحولان بمرور الوقت إلى ما هو ماض أيضاً. ومعنى ذلك إن الأصالة والطموح إلى التغيير ربما تكون الآن أكثر مما يعدونها أيام شكسبير. لكن الشيء المثير للاهتمام في عالمنا اليوم هو الكيفية التي استطاع فيها شكسبير اقتباس العديد من القصص المعروفة وتحويلها إلى أعمال درامية بالغة الروعة. ولنأخذ على ذلك مثالين واضحين في هذا البحث، أحدهما مسرحية تتناول «مأساة هاملت» من الدنمارك، ومسرحية «عطيل» التي تتناول أيضاً تلك المأساة الإنسانية الكبيرة التي مر بها قائد مغربي الأصل. هذا يعني أن هذا البحث سيتناول مسألتين رئيسيتين: الأولى البناء الدرامي في مسرحية «هاملت» والرؤية الجديدة التي تمكن المخرج من وضع خطته الإخراجية لها كاملة، والثانية هي مسرحية «عطيل» و كيفية اقتباسها من قصة أخرى وكتابها مجدداً وفقاً لبناء درامي قوي ومتكامل، وما هو دور المخرج في التعامل معها أيضاً.
كما إن الهدف الرئيسي من تحليل هاتين المسرحيتين هو البحث عن الطريقة التي استطاع بها شكسبير أن يكتبهما من جديد ، وأن يحافظ على تسلسل حلقات بنائهما الدرامي فيهما بأسلوب محكم، وكيف أنهما تحولا من قصص مقتبسة في الأصل إلى تراجيديات لهما تأثيرهما الكبير على الحركة المسرحية في كل مكان، على الرغم من أن حوادثهما قد وقعت في بيئتين مختلفتين عن البيئة التي عاش فيها شكسبير في عصر النهضة. من جانب آخر، أن في هاتين المسرحيتين الكثير من الحبكات الدرامية التي تمكن المخرجين المسرحيين من التعامل معهما بطريقة خلاقة حديثة و بأساليب إخراجية مختلفة، تستمد رؤياها الفنية من تلك الأفكار المتنوعة التي تزخر بها معظم مسرحيات شكسبير، لهذا تم اختيار هاتين المسرحيتين كنموذجين لهذا البحث:
أولاً - مسرحية «هاملت»:
إن هذه المسرحية هي مسرحية نموذجية ليست من الناحية الإنسانية فحسب بل من الناحية الفنية أيضاً، كما أنها تعطي المخرج الإمكانية للتعامل معها بطرق إخراجية شتى. إن الوحدة الدرامية الأولى التي يبدأ بها شكسبير عمله تتمثل في المشهد الإستهلالي هو - الطيف - وهنا يوضع المشاهد في حيرة من أمره. إذ كيف يمكن لمؤلف أن يكشف عن موضوعه وعقدته المسرحية دفعة واحدة، وماذا سيقدم للجمهور بعد ذلك، وهو يشخص القاتل تشخيصاً نهائياً إلا هو عم هاملت وزوج أمه (كلوديوس)؟ وتستمر الحوادث والفصول فصلاً بعد فصل حتى نجد أن هاملت قد تحول إلى رجل متأن، على الرغم من أن رياح الموت والمؤامرات أخذت تعصف به، وتسببت أيضاً في موت حبيبته أوفيليا غرقاً. إذن، لماذا لم يفعلها هاملت منذ الوهلة الأولى ويقتص لأبيه دفعة واحدة ، ويريح نفسه من هذا العذاب الذي عاشه طيلة زمن مسرحي يمتد إلى فترات عديدة؟ هذا هو قانون وحدة وصراع الأضداد الذي اعتمد شكسبير عليه في تناوله موضوعة هاملت وأفعاله المتأنية. ربما يأتي أحد المخرجين ويلغي هذا المشهد الاستهلالي تاركاً هاملت يبحث بمفرده عن حقيقة قاتل أبيه، دون أن يؤثر ذلك على مجرى الأحداث المتلاحقة.
لكن ماذا يعني التجريب في عرض مسرحي لا يرتكز أساساً على مقومات النص ويضيف لها؟ وللدلالة على ما طرح من أسئلة هو ما ورد في ختام هذا المشهد، حيث نجد أن الطيف يغيب بعد برهة من الزمان تاركاً ابنه - هاملت في حالة يرثى لها، وعندما يغيب يبدأ الحوار التالي المأخوذ من المسرحية المذكور أصلاً(1):
هوراشيو: ما هو الخبر يا مولاي؟
هاملت: رائع، رائع جداً!
هوراشيو: أخبرنا به يا مولاي؟
هاملت: لا، ستبوحان به.
هوراشيو: أنا!؟ لا والله يا سيدي؟
مرسيلس: ولا أنا أيضاً يا سيدي؟
هاملت: ماذا تقولان إذن؟ أيخطر مثل هذا ببال إنسان؟ ولكن أتكتمان؟
إذن ماذا يعني الكتمان هنا،إذا كان هذا الفعل فعلاً حقيقياً غير قابل للشك على الإطلاق؟ إن هذا المشهد حسب رأيي يشكل إنعطافة هامة في مسرح عصر النهضة خاصة والمسرح الإليزابيثي عامة، لأنه يعتمد أساساً على اللعبة في الفعل الدرامي بطريقة محكمة، تلك اللعبة التي لم تكن متوفرة آنذاك إلا عند القليل من كتاب المسرح ومنهم كرستوفر مارلو وشكسبير. وهنا تتحول العقدة الواحدة إلى عقد وحبكات ثانوية متوازية ومتوازنة، مثل: إدعاء هاملت الجنون، أو تفسير ذلك بحب هاملت إلى أوفيليا من قبل والدها بولونيوس، ومشهد التمثيلية التي يضع خطوطها وحوارها هاملت شخصياً، في دس السم بنفس الطريقة التي قُتل فيها أبيه، ومكاشفة هاملت لأمه غورترود أنها تزوجت عمه قاتل أبيه، وقتل بولونيوس، وإبعاد هاملت للدراسة لغرض تصفيته، ومشهد حفار القبور، وصولاً إلى المشهد النهائي مشهد المبارزة الذي يقتل فيه الجميع بما فيهم هاملت.
ولأن مشهد التمثيلية الجوهري يشكل حلاً للغز الأساسي الذي استمر في الظهور على هيئة واقع لا لبس فيه، فإنه يعتبر مشهد الحل لعقدة المسرحية بأكملها قبل أن تكتمل المسرحية برمتها. حيث إننا نجد إن المشهد الأخير من المسرحية الذي يأتي بعدها بفترة متقاربة هو مشهد الخاتمة الذي ستحل به الفاجعة، شأنه شأن كل التراجيديات الشكسبيرية. مع ذلك فإننا لا يمكننا الوصول إلى المشهد الختامي دون التوقف والتمعن طويلاً بمشهد التمثيلية على النحو التالي: في أن تقام حفلة مسرحية اعتماداً على فكرة هاملت ، وهو الذي لم يكن يعرف عن مجيئهم إلى البلاط حتى يخبره بذلك روزنكرانتز، ويدخلان بعد ذلك بقليل في ذلك المشهد بالذات، ثم يطلب من الممثل الذي يعرفه من قبل بأن يمثل (مصرع غونزاغو) الذي هو في الحقيقة شبيهاً ب(مصرع أبيه)، ويأمره أن يحفظ عدة أبيات سيكتبها هو ليؤديها الممثل في دوره. هو مشهد نجد فيه أن هاملت يتحدث مع نفسه فوراً و يقرر سريعاً:(2)
سأجعل هؤلاء الممثلين يمثلون شيئاً عن مقتل أبي
أمام عمي. وسأراقب ملامحه،
وسأخترق دخيلته حتى الحشاشة
فإذا جفل، عرفت واجبي معه
أمام هذا المشهد السريع يستوقف المخرج كثيراً عند تحليله للبناء الدرامي أيضاً، بينما لا يستطيع الجمهور فهم شيء عن سرعة الاتفاق على التمثيلية سوى أن موضوعها يشبه مقتل الملك الراحل. مع ذلك فإن هذا يؤكد على أننا أمام قطعة لها علاقة بالصنعة المسرحية الحديثة، كما يقول شكسبير نفسه: (إن فكرة جعل مسرحية داخل مسرحية لها مصاعبها، فالمسرحية لكي تخدم غرضها الدرامي، يجب أن تقترب قدر الإمكان من الذي يجري في البلاط الدنيماركي من موقف، وكما أن على هاملت أن يقبض على ضمير الملك، علي أن أقبض على انتباه الجمهور). في ختام ذلك يجد المشاهدون أنفسهم أمام فعليين مسرحيين فيهما الكثير من التشابه، ويفاجأون مرة أخرى بالتماثل التام بين الحبكتين، حبكة المسرحية بكاملها التي تستند على الفعل الخبري والمرئي أصلاً في بداية المسرحية ممثلاً بالشبح، والفعل الواقعي الذي يجري أمامهم في هذه التمثيلية.
هنا تبرز براعة شكسبير في ربط الحبكة الثانوية بالحبكة الرئيسية، وربط جميع حلقات العقد الفرعية بالعقدة الرئيسية للعرض المسرحي برمته. لكن السؤال الذي يطرح نفسه للمناقشة: هل يمكن إخراج المسرحية بطريقة مغايرة تماماً لتسلسل بنائها الدرامي، ذلك الذي كتبت عليه قبل قرون عدة؟ من وجهة نظري يمكن ذلك، إذا استطاع المخرج التعامل في عمله تعاملاً موضوعياً باعتباره المؤلف الثاني للعرض المسرحي، اعتماداً على دروس علميه، وعلى اختيار دقيق للمشهد الذي سيبدأ عرضه فيه، هل هو مشهد الشبح ويستمر فيه حتى النهاية، أم هو مشهد التمثيلية الذي يستطيع من خلاله العودة بمادته الدرامية إلى الوراء لتكون أساساً إلى رؤية إخراجية جديدة؟ من جانب آخر يمكن الاستنتاج أن العقدة الرئيسة في المسرحية إلى جانب عقدة القتل بدس السم، هي زواج القاتل (كلوديوس) من (غروترود) أم هاملت يمكن أن تكون مادة لذلك، وعليه لابد من التعمق كثيراً في دراستها في هذا البحث على النحو التالي: إن بعض الباحثين يذهب إلى أن المشكلة الجوهرية في صراع هاملت هي زواجها المبكر هذا ولم يمر على وفاة زوجها الأول سوى بعض الوقت، أي قبل أن يجف التراب الذي دفن فيه. لكن هذا الموضوع يشكل فعلاً ظاهرياً إذا ما قورن بالفعل الرئيسي، هو الزواج من الملك القاتل، لأن هاملت قد تصور نتيجة هذا الزواج أن أمه شاركت بشكل أو بآخر بالقتل. فهل الضعف الإنساني هو الذي دفعها لذلك أم أن هنالك سبباً آخر؟
إن بعض المخرجين يستندون في تفسيراتهم إلى علم النفس في تفسير العقد التي يعيشها الابن نتيجة ابتعاده عن أمه على الرغم منه، كعقدة أوديب مثلاً. هذا من حقهم إذا أوجدوا المبررات الموضوعية لذلك، والحجج المنطقية التي تجعلهم ينطلقون من هذا التفسير في التعامل مع الفعل الدرامي بأسره، ابتداء من المشهد الأول للمسرحية حتى المشهد الأخير. لكن ذلك يعتبر من اجتهاداتهم، إذا ما علمنا أن هذه المسرحية بالذات يمكن معالجتها درامياً وإخراجها بطرق شتى. إن هاملت يخبرنا عبر المسرحية بأن أمه مجرمة. ارتكبت إثماً تأفل له النجوم، ويجعل الحياة شيئاً وحشياً خالياً من أية قيم إنسانية. لقد اقترفت زنى المحارم. وبذلك يوصلنا شكسبير إلى حالة درامية كبيرة وإلى مقت شديد للملكة غروترود لا يقل عن كراهية الإغريقيين لجريمة أوديب، بل أنها أكثر مقتاً من الجريمة التي ارتكبها أوديب لأنه لا يدري، وكان هاملت يردد على إثر ذلك أيها الضعف اسمك المرأة. فإذا كان الطيف صادقاً وقد ثبت ذلك من خلال مشهد المسرحية التي تمت الإشارة إليه، لماذا لم يقدم هاملت على قتل الملك وقتل الملكة أيضاً باعتبارها متورطة فيه، وإذا لم تكن كذلك، فما مدى معرفتها بهذا الفعل الإجرامي؟
أن كل الوقائع تشير على أن الملكة لم تكن متورطة ولا على دراية بفعل زوجها الجديد (أخ الملك) زوجها السابق، إذ أنها تصاب بالذهول حينما يخبرها هاملت، بأنها قد شطرت قلبها إلى نصفين وأبقت على النصف المليء بالدنس والغدر والخيانة، وينصحها بأن تلقي بهذا النصف بعيداً وأن تعيد لنفسها النصف الطاهر الذي يقصد فيه أباه. وعليه فإنه يمكن تأكيد هذا الرأي من خلال دراستنا إلى المشهد الذي يلي مشهد تمثيلية (مصرع غونزاغو) واكتشاف فعل الجريمة التي قام بها أخيه كلوديوس ضده، وأعني به مشهد غرفة نوم الملكة (غورترود) التي هرع إليها هاملت سريعاً ظناً منه أنه سيجد الملك فيها لقتله، لكنه بدلاً من ذلك قتل بولونيوس والد حبيبته أوفيليا الذي كان يختبئ خلف الستار. هذا المشهد المركب على الرغم من بساطته، قد قادنا إلى مشهد آخر يمكن اعتباره مشهد الذروة في كل المسرحية، وهو مشهد المواجهة الصريحة بين هاملت وأمه التي شهدت قتل بولونيوس قائلة :
الملكة: يا للفعلة الدموية الشنعاء(3)!؟
هاملت: فعلة دموية تكاد يا أمي بسوئها توازي قتل ملك، وزواج من أخيه.
الملكة: قتل ملك!؟
إن هذا الاندهاش الذي تبديه في الحوار أعلاه يبرئها من تهمة المشاركة في قتل زوجها، ذلك الذي كان هاملت يعتقده ويردده دائماً في منولوجاته الداخلية للتخفيف من عذاباته في مشاهد سابقة، كما جاء في هذا المنولوج المعروف:
هاملت: آه. ليت هذا الجسد الصلد يذوب(4)
وينحل إلى قطرات من ندى
يا ليت الأزلي لم يضع شريعته
ضد قتل الذات، رباه، رباه،
ما أشد ما تبدوا لي عادات الدنيا هذه
مضنية، عتيقة، فاهية، لا نفع منها!
ألا تباً لها، تباً لها، إنها حديقة لم تعشب
شاخت وبزرت، لا يلؤها إلا
كل مخشوشن نتنت رائحته،
أهكذا تنتهي الأمور، لم يمر على موته شهران
بل أقل من شهرين، أقل من شهرين،
ملك رائع، إذا قيس بهذا
كان يعشق أمي
فلا يسمح لريح السماء
برؤية وجهها إذا اشتدت، يا أرض، يا سماء،
أمحتوم علي أن أتذكر!؟
لقد استندت إلى ما جاء في هذا المونولوج، من أجل إظهار مدى الحزن الذي أصاب هاملت، ليس فقط على مقتل أبيه فقط، بل لأن عمق هذه المأساة قد أوصلته إلى الشك بأمه، إلى درجة الإدانة الكاملة التي لا يمكن غفرانها باعتبارها فعل شائن. لذلك لم نجد عنده في مشهد غرفة الملكة أية صحوة أو ندم، ولا نبل يتناسب مع طبيعته النبيلة المعروفة،حيث أنه يستمر في مواجهته لأمه وهو في قمة هيجانه. بل أنه يزيد أمه ويزيدنا نحن هيجاناً من خلال حواراته الطويلة، التي تعقب ذلك والتي يعنف بها أمه أشد تعنيف:
الملكة: ما لذي فعلت لتتجرأ بإطلاق لسانك علي بهذا القول الوقح(5)؟
ويحي، أية فعلة تزأر كل هذا الزئير وترعد هذا الرعد في مطلعها؟
إن هاملت مع ذلك يلغي دفاعاتها عن نفسها، فتضطر إلى التماس الرأفة عدة مرات متوسلة إليه (كفى بربك) وهو لم يزل يزداد عنفاً، ولعله سيندفع أكثر في عنفه لولا ظهور الطيف هذه المرة أيضاً. لكن المشكلة الهامة التي وقف عندها الكثير من الباحثين كما يلي: هل خانت غرترود زوجها فعلاً قبل مصرعه؟ فهنالك من ينكر ذلك أيضاً لأن كلمة - الخيانة - لم ترد في المسرحية إلا مرة واحدة، غير أن نص شكسبير هذا قد تم تغيير بعض فقراته وتنقيحه من قبله أيضاً، ففي إحدى النسخ التي تمتلكها بلفوريست، تقول عند الحديث عن قاتل هاملت الملك الأب: «إنه قبل أن يلطخ يديه بدم أخيه، كان قد فحش بزوجته انتهاكاً للمحارم». بيد أن خطاب الطيف لأبنه لا يقبل أي التباس أو تفسير آخر، كما جاء في هذا الحوار الذي استند عليه الباحث المعروف د. برادلي:
الطيف: أجل، إن ذلك الوحش الزاني الذي استباح المحرمات(6)
بسحر دهائه، وهداياه الخؤون،
يا له من دهاء أثيم، ويا لها من هدايا تقوى
على إغراء كهذا! أَخضع لشهوته المخزية
إرادة الملكة، وهي التي أجادت إدعاء العفة و الفضيلة.
ياله من سقوط، ذاك يا هاملت!
الطيف لا يتحدث هنا عن هذا الزواج السريع بين كلوديوس وغروترود، إذ أن وقت ظهوره في عموم المسرحية لا يتعدى بضع دقائق .كما أن هذا المشهد لا يمكن تفسيره إلا إذا كان لدى الابن من الدلائل ما يتهم بها أمه. وعليه فإن ما ذهب به الدكتور برادلي في كتابه الهام التراجيديا الشكسبيرية ربما يدخل في إطار الفرضيات، وليس في إطار الوقائع حتى إذا كانت مأخوذة من حوارات المسرحية نفسها ، ومن بينها هذه الافتراضات الثلاثة: أولهما: أن هاملت اعتمد على عنصر الإخبار من قبل الطيف، والإخبار دائماً يشترط الفعل الحقيقي للدلالة عليه بشكل قطعي. إن هذا الافتراض قد جاء بعد مشهد الفجيعة الأولى وإعلان الملك كلوديوس زواجه من غوترود. فأي كان هذا الفعل مخفياً أم لا، لماذا لم يعلن عنه بجملة واحدة من حوار هاملت في مرحلة مبكرة من المسرحية؟ وهل كان هاملت غافلاً عن ذلك كل هذه المدة مثل أبيه القتيل؟ ثانيهما: إن الحالة المأساوية التي يعيشها هاملت بفقدانه أبيه، وإخبار الطيف له بأن القاتل هو عمه، وزواج عمه المبكر من أمه، وبعد ذلك تأثر حبه لأوفيليا بسبب تلك المآسي التي أتت تباعاً، قد تدفع بأية شخصية من الشخصيات الإنسانية إلى الحكم القطعي المطلق،الذي يمكن أن يتحول من كونه فعلاً مشكوكاً فيه إلى فعل لا يقبل النقض. ثالثهما: إن الاعتماد على نص قد تم حذف بعض فقراته، لا يمكن تحليله وفق تلك الفقرات المحذوفة، بل يمكن تحليله فقط بنفس الصيغة الحالية التي وجد عليها النص بوضعه الحالي. رابعهما: إن أية دلالة يتطلبها البحث لا بد أن تكون ذات دلالة منطقية، وهذه الدلالة المنطقية لابد وأن تقترن بما جاء من تفسيرات كان يخضع لها المسرح الاليزابيثي، منها الميل إلى تصديق الشخصيات الغيبية كالأشباح والساحرات وغير ذلك من الأمور. هذا الشيء يمكن القبول لأنه يأخذ بعين الاعتبار محاكاة أية ظاهرة بنفس ما تحمله هذه الظاهرة من تأثيرات اجتماعية تخضع إلى عامل الزمان والمكان.
لكن ماذا بوسع المخرج في العصر الحديث أن يفعل؟ وكيف يحلل موضوعة المسرحية هذه؟ وكيف يتعامل مع شخصياته تعاملاً صحيحاً ليس على أساس مبدأ الشك بل على اليقين وكيف يتوصل إلى ذلك؟ هل من خلال إخضاع عمله إلى التفسيرات العصرية، وإلغاء كل التفسيرات القديمة التي ذهب إليها الباحثون الآخرون؟ باعتقادي أن المخرج الذي يرغب بالوصول إلى حالة معرفية معقولة، يتوجب علي دراسة كل ما يتعلق بعمله المسرحي دراسة تحليلية. إذ لا بأس من الإلمام حتى بالمراحل التاريخية التي كتب فيها النص، وميل الجمهور الإليزابيثي إلى التصديق بالأشباح والشعوذة والسحر والشخصيات الغيبية مهما كان نوعها وأهميتها. إن ذلك سيعطيه القدرة على قبول ما هو إيجابي عصري والتخلي عن كل ما هو قديم غير منطقي. فالمشكلة التي يثيرها الطيف في مسرحية هاملت هي مشكلات إيمان الإليزابيثين بالأرواح، وهي ليست مشكلة هاملت كشخصية يمكن أن تنتمي إلى عصرنا الراهن، إذا أردنا التصدي لها حالياً. بل أنها مشكلات ربما لا تشغل بال المعاصرين في أية فترات اللاحقة. بيد أن ذلك يعطينا الفرصة على الإطلاع على الآراء الفلسفية واللاهوتية السائدة – آنذاك. فشكسبير على الرغم من اقتباسه نصوصاً قد كتبت قبله(7) فأنه لم يدخل إلى المسرح نماذج جديدة مذهلة خارجة عن الطرق السائدة في عصره، تلك المرتبطة بالفكر والشعور القائمين في تلك الآونة.
وهكذا فإن المشهد الاستهلالي الأول الذي بدأ بظهور الطيف ينعكس كلية على ما جرى من أحداث تقترب من الواقعية بالشيء الكثير، على الرغم من أنها تنتمي إلى المرحلة الرومانسية، التي يمكن أن تعطي الكاتب والمخرج حرية الولوج إلى التفسيرات الروحية الخلاقة التي ليست لها حدود تذكر، بدلاً من أن يجبره ذلك على الالتزام بها التزاماً قطعياً. لقد وضع شكسبير هنا أفضل ما يمكن وضعه من رهافة حسية وفنية و اقتصاد في المؤثرات والمكملات الأخرى التي تعينه على إخراج مسرحيته هذه، لكي تقنع هذا الجمهور المتلهف للروحيات، بحيث أنه لم يعطهم الفرصة الكاملة لملاحظة وجودها والتركيز عليها، أكثر من تركيزهم على الفعل الإنساني العظيم الذي يجري أمامهم. وبهذا الخصوص تجدر الإشارة إلى سيطرة علم الروحانيات والميتافيزيقيا على ذهنية الباحثين والعلماء الأوربين أسوة بالجمهور العريض أيضاً. فقد ظهر كتاب بقلم الألماني لودفيغ لافتر Ladwig Lafter بعنوان: الأرواح السارية في الليل عام 1570 في زيوريخ وتمت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية عام1572، يعلن فيه إن علم الروحانيات هو علم لا يختلف عن أية علوم أخرى التي تخضع إلى الدلائل الملموسة قدر خضوعها إلى تفسيرات ما وراء الطبيعة وما وراء الأشياء. ربما يكون هذا الكتاب قد وقع بين يدي شكسبير وقرأه، لكن ذلك لا يعطينا الدلالة الكافية على أهمية هذا الكتاب في التأثير على مسرحية هاملت وغيرها مما سيأتي ذكره كنماذج من التراجيديا الشكسبيرية،لأنها قد كتبت من جديد من خلال ذهنية وقدرة شعرية لكاتب عبقري تأثر بواقعه تأثيراً واضحاً.
هذا هو السبب الذي جعل كل المهتمين بعده من مخرجين وممثلين وباحثين يهتمون بمسرحياته كل الاهتمام في جميع بقاع الأرض. ومهما يكن فإن المخرج عند دراسته الحبكة الرئيسة في هذه المسرحية، لا يمكنه تجاوز تلك العلاقات المتشابكة فيها التي نتجت عنها تناقضات جمة. بالإضافة إلى ما تقدم من حبكات رئيسة تم تناولها فيما سبق، فإن في المسرحية حبكات كثيرة منها صغيرة أو كبيرة، ويمكن للمخرج أن يحول أية حبكة صغيرة أو ثانوية إلى حبكة كبيرة أو رئيسة إذا أراد. شريطة أن لا يلغي أو يضيف مشاهد من المسرحية، أو يكتب حواراً جديداً يتلاءم مع رؤيته الإخراجية الجديدة.إن هذا التغيير سيكون محور تساؤل آخر فيما بعد. إذ يكفي أن تفسر مشكلة غورترود في المسرحية، مثل مشكلة بعض النساء اللواتي تسوقهن رغباتهن إلى فعل غريزي سريع. وهذا التفسير يمكن أن يكون كافياً لأن يكون منطلقاً لعرض مسرحي جيد. فالطروحات والتفسيرات الجامدة لا تتماشى قط مع مسرحية هاملت، ولا مع المسرحيات التي كتبت في عصر النهضة، أو المسرحيات الكلاسيكية العظيمة التي كتبت بعضها بحوالي 500 إلى 400 سنة ق. الميلاد، ولا مع الطروحات الجديدة في المسرح الحديث، التي من واجبها الحفاظ على ديمومة تلك الأعمال وبعثها مجدداً إلى الحياة بطريقة عصرية.
فوظيفة المخرج المتجدد هي المساهمة في تحويل أي عمل مسرحي إلى عمل مليء بالحيوية والديناميكية حتى إذا كتب قبل آلاف السنين. ومن هذا المنطلق لي وقفة أخرى مع نص آخر يهدف إلى نفس الغرض الذي تم ذكره. ففي أيامنا هذه يكون من واجب المخرج عندما يختار موضوعاً من التاريخ، أن يحافظ على عرضه عرضاً صادقاً وأمنياً من الناحية التاريخية، وليس فقط من الناحية التقنية الحديثة وخضوعه إلى محاكاة العصر. إن من حسن شكسبير ومعاصريه، الاعتماد على كاتب واحد في مصادر كتاباتهم المسرحية، أو حتى على الرواية الشفهية التي هي من أهم ميزات الحفاظ على كل صنوف الأدب، منذ نشأته قبل تدوين الملاحم أو ما بعدها وصولاً إلى قرون عدة (ب. م).بل من حسن كل المخرجين في ذلك الوقت، أن يتناولوا في عرضهم المسرحي ما يخدم هذا العرض المسرحي بشكله الضيق المحدود. لكن دور المخرجين في الوقت الراهن قد أصبح أكثر سعة وتعقيد، بالنظر لوجود المدارس الإخراجية والنصوص الكثيرة التي تتطلب دراستها دراسة وافية. وعليه فإن علم المسرح قد تطور شأنه شأن العلوم الأخرى مما يتوجب على المخرج الإلمام بها على أقل تقدير. ولغرض التطرق إلى ذلك بشكل تحليلي واسع، فإنه من الأفضل اختيار نص مسرحي آخر كتبه شكسبير للدلالة على أن تلك النصوص كانت تقتبس من نصوص سبقتها، بيد أن معالجتها كتابياً وإخراجياً تختلف عن مصدرها الرئيسي بكثير:
ثانياً – مسرحية عطيل:
في البدء أقول أن هذه المسرحية قريبة جداً من ذهنية المشاهد الشرقي، وقد تم اختيارها على هذا الأساس، على الرغم من أن لهذا الاختيار أهداف أخرى سيتم تناولها لاحقاً . لكن من مهام الباحثين أيضاً عند تناولهم لها، أن يعلنوا بأن مأساة (عطيل) مقتبسة عن قصة بقلم جيرالدي تسنثيو. إن هذا الموضوع بات معروفاً لدى المهتمين بأدب شكسبير، وقد تم نشر العديد من الكتابات عنه بلغات مختلفة، لكن الشيء الذي لم يعد معروفاً كما كان، هو كيفية الاقتباس من نص معروف إلى نص مسرحي آخر، يمتلك كل شروط التأليف الإبداعية. إن هذا المثال، خير دليل على أن الاقتباس لا يتم من أجل تحقيق فكرة آنية مقتبسة، ولا من أجل إسقاط عمل فني مكتوب على حالة خاصة ضيقة المعالم، بل أنه فعل إبداعي كبير يضيف كثيراً إلى النص الأصلي ويرتقي به مجدداً إلى المستوى اللائق، كما قام به مؤلف عبقري مثل شكسبير عندما اقتبس مسرحية عطيل من قصة أخرى. ولأن الاقتباس المسرحي في هذه الآونة لم يرتق قط إلى مستوى النصوص الأصلية إلا ما ندر، فقد توجب التذكير دائماً بالكيفية التي يمكن أن يكون عليها الاقتباس وما هي شروطه الإبداعية. إذ حينما نتناول هذا الموضوع الذي نحن بصدده، فإننا نجد أن هنالك بوناً شاسعاً من ناحية البناء الدرامي والمستوى الفني بين مأساة شكسبير وهذه القصة .
فشكسبير عندما يأخذ عُقد مسرحياته من قصص أخرى قد تبدو للبعض أن هذه الحكاية مملة وصعبة. أو أن موضوع إعدادها أو اقتباسها أمراً سهلاً وهيناً، لا يتعدى تحويلها من قصة حدثت في الماضي وأصبحت حكايتها قديمة. مما يتطلب إعادة تركيبها وكتابتها بشكل جديد. إلا أننا عندما نفكر في الفوارق بين أي نص نثري مكتوب للقراءة فقط، وتحويله إلى مسرحية ليست للقراءة، ومن ثم تحويل ذلك إلى عمل مسرحي ينبض بالحياة على أيدي أي مخرج وممثليه، وقتها سنعرف مدى تلك الصعوبة التي يتطلبها هذا العمل المضني والشاق،حتى إذا أقتبس من نص مكتوب أصلاً. لكن ربما يتساءل أحد المخرجين: لماذا وقع اختيار شكسبير على تلك الحكاية شأنها شأن بقية الحكايات التي اختارها في مسرحياته، ولماذا ارتأى تغيير تركيبتها وأجزائها، بحيث يركز على الناحية الفنية ويخفف من التركيز على النواحي الأخرى، التي لا جدوى من معالجتها فنياً كما كان يعتقد؟ الإجابة على هذا السؤال كله تكمن في احتياجات المسرح ومستلزماته العلمية، وما يتوفر فيه من مكملات تقنية تساعد وتتناسب مع هذه التغييرات الجديدة. وعلى هذا الأساس يمكننا الآن تناول مسرحية (عطيل) بشكل مستفيض لكي نتعرف عليها وعلى مصدرها: لنبدأ أولاً بقصة التمثيلية المأخوذة من حكاية إيطالية تعرف بمجموعة (مائة و اثنتا عشرة حكاية) التي كتبها جيرالدي تسنثيو(28 (Cinthio الموجودة في المجموعة ذاتها، والذي يكاد أن يكون معاصراً لشكسبير نظراً لقرب الفترة الزمنية نفسها، ولكونه أيضاً كاتباً مسرحياً. إن هذه الحقيقة ستساعدنا كثيراً في تحليل الكثير من المسرحيات القديمة والحديثة، التي اقتبست في تلك الفترات، أو في الفترة الراهنة من قبل كتاب ومخرجين مختلفين.
ولعل شكسبير يكون قد قرأها باللغة اللاتينية، التي كانت تستخدم في ذلك العصر، أو أن يكون قد سمع بها عن طريق نقلها شفهياً من قبل البحارة أو المهاجرين. فحكاية تسنيثيو تدور في جزيرة قبرص واسم بطلتها هي دزدمونة (ديدمونة)، ومن الظاهر أن شكسبير قد أبقى على هذا الاسم وغير اسم معظم الشخصيات، دون أن يغير كلياً من عقدتها وأنماط الشخصيات فيها. إلا أن ثمة وجوهاً كثيرة من الاختلاف تدعو إلى التعريف بالكيفية التي يمكن إتباعها من أجل اقتباس نص ما . فما هي هذه الفوارق وأوجه الاختلاف؟ في النص الأصلي من القصة، نجد أن قائداً مغربياً وصل هو وزوجته المحبوبة إلى جزيرة قبرص وكان البحر هادئاً. بينما نجد في مسرحية شكسبير، أنه كانت هنالك عاصفة قوية قد وصفها بلغة قوية بالغة التأثير. كما أن تسينثيو يضع قدراً من الحب الخبيث الذي يكنه ياجو لديدمونه ، وكان حبه هذا أحد الأسباب التي دعته لتدمير هذا الزواج، وعندما يسرق منديلها لا يفعل ذلك بواسطة زوجته، بل أنه يأخذه بنفسه من مكانها وهي مشغولة بمداعبة ابنتها الصغيرة. ويعرف كاسيو أن المنديل هو لديدمونه ويسعى لإعادته إليها بطريقة غير مباشرة لكنه يفشل في ذلك ، حتى أن المغربي عندما يرى ياجو وكاسي يتحدثان، يظن أنها محادثة عن زوجته ولا يخدع بها أبداً، لكنه يكتشف فيما بعد أن زوجة كاسيو هي التي نسخت خطه على المنديل. أما في المسرحية فلا توجد لكاسيو زوجة، بل له عشيقة ذات سمعة سيئة، كما أن قتل ديدمونة عند تسينثيو هو أقل فجيعة عند شكسبير .حيث يقضي عليها عطيل في المسرحية بطريقة مأساوية كبيرة . وتسير نهاية القصة أبطأ مما في مسرحية عطيل. إذ أن ياغو يجن من الحزن ويعترف للمغربي، فينقلب على ياغو ويجرده من رتبته، ولأنه يرغب بعد ذلك بالانتقام فإنه يفشي سر الجريمة التي ارتكباها سوية في قتل ديدمونه. فيؤخذ المغربي إلى البندقية بيد أنه لا يعترف بشيء، ولهذا لا يحكم عليه بالإعدام بل ينفى من البلاد كلها. ثم يقتل بعد ذلك على يد أحد أقرباء ديدمونة، ويقتل ياجو كذلك بسبب جرائم أخرى ارتكبها وتبقى زوجته تقص الحكاية بكاملها.
فإذا استثنينا هذه الزوائد فإننا سنجد أن عقدة مأساة (عطيل) هي مطابقة ومقاربة في الكثير من الأوجه لمأساة (المغربي) في القصة الإيطالية. مع كل هذا وذاك، أن ما يهمنا هنا هي معرفة الفوارق الدرامية بين الحالتين، إذ أن هذه المعرفة، قد تساعد كثيراً في عملية التعامل مع أي نص عند إخراجه للمسرح. وهنا يمكن طرح الأسئلة التالية:
أولاً - ما هو الفرق في الناحية الدرامية من القيام بتلك الرحلة في بحر هادئ أو عاصف؟ الفرق إن الجو في بحر عاصف قد يهيئ المشاهدين لشيء أكبر من الترقب والمشاهدة، خاصة إذا كان ذلك مشهداً استهلالياً. فالمسرحية ليست رومانسية بالأساس، أي أنها تعتمد على عنصر المناجاة بين حبيبين كمادة استهلالية لها. أو ربما يكون ذلك مطابقاً لما كان سائداً من عناصر الإثارة والترقب لدى الجمهور - آنذاك. إذ أن الجمهور عندما يراقب هذا الوصول المنفصل للسفينة الأولى والثانية التي على متن إحداها عطيل والأخرى ديدمونه، فهو يتهيأ لحالة الترقب، ويتهيأ أيضاً لمعرفة مقدار الحب الحار الذي يربط بين زوجين يحتفلان بعيد زواجهما الأول، خاصة عندما يضيف له شكسبير شيئاً من لغته الرفيعة المعروفة لديه، فإنه سيجعل المشاهدين يتابعون ما يحدث بترقب شديد. ولنأخذ مثلاً هذا الحوار الذي جاء عقب لقاء الحبيبين بعد حدوث العاصفة:
عطيل: (يخاطب ديدمونة) إن من أعجب العجب بقدر ما هو مبعث الرضا
أن أراك هنا.. أمام عيني.. يا بهجة النفس!
فإذا كان عقب كل عاصفة تأتي أمثال تلك اللحظات من الصفو.
ألا فلتهب الرياح حتى توقظ الموت.
ولتثب السفينة المبحرة فوق جبال الموج.
أعلى من قمم الأولمب، ثم لتهو ثانية في لجة أعمق
من درك الجحيم الأسفل بعداً من السماء، فلو أني مت الآن
لكان الموت أسعد الأمنيات، لأنني أخشى
إن كانت نفسي قد حققت أقصى ما تمنت على هذا النحو
بحيث أنه لن تلي راحة أخرى كهذه.
في صفحة القدر المجهول.
ثانياً - ما هي الأسباب التي دعت شكسبير إلى التركيز على كراهية ياجو لديدمونة، هذه الكراهية التي تنشأ بفعل عوامل نفسية، والتي تتحول بمرور الوقت إلى كراهية قاتلة مدمرة، لأنه لم ينل منها غايته؟ لكننا نعرف منذ البداية أن كراهية ياجو لعطيل هي الشيء الأساسي في المسرحية. وإن هذه الكراهية هي التي تشكل عقدة المسرحية لاحقاً، لأن لها تأثيراً هاماً في كل بنائها الدرامي اللاحق. بيد أن مصدر هذه الكراهية ينبع من القدرة المجردة على الكراهية المتأصلة في ذات ياجو، شأنه شأن القلة من الناس الذين تجتمع فيهم هذه الصفة. إن لون عطيل ذلك الزنجي الأسود الذي اقترن بديدمونة الجميلة، لم يكن سبباً كافياً فقط في كراهية ياجو لعطيل معاً، بل أن نزعة الاستحواذ على كل الأشياء هي سبب تلك الكراهية. كما أن قدرة ياجو على اللعب بشخص بريء مثل (عطيل) تدلل على فظاعة كبيرة وعلى نزعة مجردة تماماً من أية عاطفة إنسانية، وهي بموضعها الحقيقي في هذه المسرحية التي يكشف فيها شكسبير فظاعة النفس البشرية وما تحمله من سوء يؤدي إلى هلاك الآخرين. وهنا يذهب بعض الباحثين إلى أن سبب كراهية ياجو لعطيل ترجع مباشرة إلى ترقية كاسيو عليه ووضعه في مكانة لائقة أكثر منه. هذا التفسير صحيح في حالة كون ردة الفعل موازية إلى الفعل نفسه ومساوية لها، لكن القضية هنا قضية قتل عن عمد، ليس بيد القاتل نفسه بل بيد الضحية إلا وهو (عطيل).
إن شكسبير يرينا في هذه المسرحية مقدار الفرق الكبير بين الضعف الإنساني للإنسان العادي، وبين الخبث الذي هو محور الشرور البشرية ومصدر قوتها .ومن ثم فإن التغييرات التي أدخلها على المأساة، قد أعطتها قدرة درامية هائلة يمكن أن تكون مؤثرة في كل الأزمان والعصور. لقد استطاع شكسبير أن يخلص القصة الأساسية من نقطة ضعفها العادية التي يمكن أن تتأصل في غالبية الناس، ألا وهي الغيرة من شخص آخر لا يتناسب شكله ومظهرة مع زوجته التي تحبه حباً جماً. في الوقت الذي يجد فيه المرء نفسه متمتعاً بوسامة الخلق، و لا يجد نفس الحب عند المرأة التي تزوجها هو.هذه العقدة هي عقدة بسيطة بعض الشيء، وتحدث يومياً باستمرار، وليس من المهم على المؤلف أو حتى على المخرج التوقف عندها كثيراً، فهنالك من الصراعات الإنسانية ما هو أعمق من ذلك بكثير.
ثالثاً: بعض الباحثين يقول أن سرقة المنديل في قصة تسينثو لها تأثير درامي أكثر من المسرحي، إذ أن ياجو كان ماض بخطته الشنيعة حتى النهاية، من خلال استخدام ابنته الصغيرة لهذا الغرض كما ورد في القصة. لكن شكسبير أدرك أن الأطفال الأبرياء، لا يمكن أن يلعبوا دوراً يساعد على تحقيق أعلى درجات الخبث (القاتل) إلى ما لانهاية، لأن طبيعتهم البريئة قد تدفعهم إلى البوح بما طلب منهم الكبار دون دراية منهم بعواقب ذلك، هذا الأمر يحدث في أحيان كثيرة. وعليه فقد أعطى زوجة ياجو (أميليا) نفس الدور الذي لعبته الطفلة في القصة الأساسية. وهنا تضاف براعة أخرى إلى براعة شكسبير المعهودة بما قام به من تغيير، فدزدمونة عند تسينثو تفقد منديلها بسبب عطفها وشفقتها على طفلة صغيرة، بينما نجد أنها تفقده في المسرحية بسبب حبها لزوجها فقط، حيث يسقط منها بعد محاولتها ربط رأسه لأنه كان يشكو من الصداع. بهذه الطريقة يضاعف شكسبير مشاعر الأسى والألم لدى مشاهديه أو قرائه، لأن عقدة المسرحية ستقود الجميع إلى كارثة لا مخرج منها ولا مفر. إن أمليا لم تكن تعرف بنوايا زوجها، على الرغم من أنها شاركت زوجها في جريمته، فهذا المنديل يعتبر رمزاً للحب الصادق الذي يجمع (عطيل) بحبيبته (دزدمونة) وقد أهداه لها تعبيراً عن ذلك الحب وطلب منها أن لا تفقده أبداً، فماذا يحصل إذا تم تسليمه إلى عشيق وهمي، وعرضه مجدداً على عطيل؟ تلك هي فعلة ياجو التي مهدت لعطيل أن يقتل زوجته الخائنة حسب اعتقاده. أما الوقائع المختلفة لموت دزدمونة في القصة والمسرحية، فلها مبررات فنية أيضاً، ففي القصة يتهدم جانب من المنزل على جثمانها بعد قتلها من المغربي بمساعدة ياجو. لكن في العصر الإليزابيثي ومسرحه، فإنه من المستحيل التعامل مع الفعل الدرامي على هذه الطريقة التقليدية، في أن يربط الممثل الذي كان يمثل شخصيتها إلى سرير ويتم ضربه حتى الموت،حتى ينتهي ويسقط بعد ذلك جزء من المنزل للتغطية على الجريمة. إن هذا سيؤثر حتماً في إيقاع العرض المسرحي، الذي كانت له حساباته الخاصة الدقيقة نوعاً ما في ذلك العصر.
رابعاً: لكن هنالك ضرورات للتعامل مع الأفعال الدرامية أكثر فنية من الضرورات العملية التي يتطلبها العرض المسرحي، إلا وهي مقدار تأثير ذلك على نفوس المشاهدين، عندما يقتل الزوج العاشق زوجته الحبيبة البريئة الطاهرة. هذا المشهد الدرامي المحكم من الناحية الفنية يعطينا فكرة واضحة عن عبقرية مؤلفه، في أن يبعد شخص أخر مثل ياجو عن فعل تلك الجريمة أو الاشتراك فيها!
خامساً: إن استسلام (دزدمونة) لفعل القتل في المسرحية دون أي ضجيج أو انفعال، وتضحيتها بنفسها وهي تعلم علم اليقين بأنها بريئة كل البراءة مما يدعيه حبيبها (عطيل)، لهي من العلامات الدالة على مواجهة القضاء والقدر مواجهة لا خلاص منها، فتلك الوقيعة ستحدث لا محالة. وعليه فهذه التضحية بالنفس تعيد الذاكرة إلى تلك التضحيات الجسام، التي مرت بها الشخصيات في الملاحم القديمة أو في المسرح اليوناني القديم باعتبار القضاء والقدر فعل غيبي، على الرغم من أن القضاء والقدر في زمن الرومانسية،أخذ طابعاً فنياً جديداً لأنه أصبح من صنع البشر، كما حدث في هذه المسرحية. ومن المفيد هنا التطرق إلى بعض النقاط الجوهرية التي تطرق إليها هذا الفصل، من وجهة نظر إخراجية:
(1) إن الأفعال المسرحية التي تشكل الحبكات الدرامية في مسرحيات شكسبير خاصة، يمكن التعامل معها على أنها أفعال وحبكات درامية رئيسة حتى إذا كانت ثانوية كما يظن البعض.
(2) يمكن للحبكات الثانوية أن تكون منطلقاً لعرض مسرحي كامل دون تغيير أو تبديل في المشاهد كما ذكرت. فعلى سبيل المثال، أن انتحار أوفيليا غرقاً في مسرحية هاملت، يمكن اعتباره موضوعاً رئيسياً، يستطيع من خلاله المخرج التعامل مع جميع أحداث المسرحية. أو أن مشهد انفصال هاملت عن أمه بعد زواجها من عمه، يصلح أيضاً أن يكون منطلقاً آخر لكل العرض المسرحي بمعزل عن مشهد القتل بالسم وظهور الطيف. وفي مسرحية عطيل يمكن معالجة موضوع الحرية على أساس أنها النقطة الرئيسة في العرض المسرحي برمته، استناداً إلى شخصية (عطيل) الرجل الذي يقود جيشاً بكامله دون أن يتمتع بحريته الكاملة، فوجدها أخيراً بزوجته التي استبدلت حريتها في الحياة بالموت طواعية من أجل حبيبها.
(3) إن النقطة التي أشرت إليها أعلاه تعني أن مخرج العمل، سيتعامل بقدرة خلاقة جديدة لأي نص مسرحي سواء كان قديماً أو حديثاً، وقد لا يلتزم التزاماً حرفياً بما قدمه المؤلف من أفكار أو ملاحظات فقط ، حتى إذا كانت مفيدة. إن هذه ليست دعوة للتحرر من أصول وقواعد النص المسرحي، بل أنها دعوة لإضافة ما هو جديد وحيوي في نفس الوقت. فالمؤلف المسرحي لم يكتب نصه، لكي يقدم بنفس الطريقة التي قدمها قبل قرون عدة.
(4) إن الحسابات التي تخضع إلى الالتزام الحرفي بما كتب وما سيكتب نصاً وروحاً وشكلاً مسرحياً، هي حسابات خارجة عن ذهن جميع المؤلفين القدامى والمحدثين. فالمؤلف يكتب نصه وقد يخرجه ويمثله كما كان يفعل شكسبير، لكنه لم يكن يضع في حسبانه أن نصوصه ستبقى حية على الدوام في الحياة المسرحية والأدبية. صحيح أن قدرتها على التأثير كبيرة جداً مهما تغيرت الأزمان والعصور، لكن ذلك التأثير، لا ينفصل قط عن قدرة المخرجين الخلاقة التي تعاملت مع هذه النصوص في هذا البلد أو في هذا العصر أو ذاك. نعم. أنها يمكن أن تبقى حية ومؤثرة لكنها ستبقى نصوصاً أدبية إذا لم يتم التعامل معها على خشبة المسرح من قبل مخرجين وممثلين أكفاء.
(5) فيما سبق أوردت أمثلة حية على الاقتباس من الأعمال المسرحية، إن هذا الاقتباس جائز في فن التأليف المسرحي شريطة أن يقترن بتغيير الخط العام للموضوع المطروح، وبتناوله تناولاً فكرياً حديثاً يختلف تماماً عن أفكار المؤلف السابق.
(6) لم يكن الاقتباس المسرحي شائعاً في مرحلة الرومانسية أو مرحلة الكلاسيكية الحديثة أو الكلاسيكية القديمة، ولم يقتصر الاقتباس على المؤلف الذي ينتمي إلى فترة متقاربة مع المؤلف الآخر، بل أنه موجود فعلاً في عصرنا الراهن. إذ يمكن للمؤلف المسرحي أن يتناول موضوعاً مسرحياً حدث قبل 500 سنة (ق. م) ويسقطه إسقاطاً جديدة بأفكار وحوار، وأفعال جديدة على المرحلة الراهنة .إن ذلك لا يعني أن المخرج يتمتع بنفس القدر من الحرية الكافية التي يتمتع بها المؤلف، باعتباره مؤلفاً للعرض المسرحي. فالمؤلف لا ينقل عن غيره نقلاً حرفياً حتى إذا تشابهت لديه الحوادث، و الفرق بين هذه وتلك هي في كيفية معالجتها درامياً بمشاهد وحوارات وصوراً درامية أخرى. لهذا أن وظيفة المخرج تتحدد في تحويل هذه المشاهد والحوارات والصور الدرامية، إلى عناصر حية ذات رؤية جديدة.
(7) هنالك بعض التجارب المسرحية لمخرجين مسرحيين من الذين يضيفون إلى النص الأصلي أو يحذفون منه. إن ذلك لا يعد أمراً مقبولاً من الناحية الأدبية والفنية. هذا لا يعني أن المخرج لا يحق له كتابة نص مسرحي، لكنه من الواجب أن يعلن بأن هذا النص هو نص آخر.
كاتب ومخرج مسرحي مقيم في برلين
الهوامش:
(1) مشهد مأخوذ من مسرحية هاملت لشكسبير.
(2) مشهد مأخوذ من المسرحية.
(3) مشهد مأخوذ من المسرحية.
(4) مشهد مأخوذ من المسرحية.
(5) مشهد مأخوذ من المسرحية.
(6) مشهد مأخوذ من المسرحية.
(7) سيرد تناول ذلك لا حقاً نظراً للأهمية.
(8) هو الاسم الذي اشتهر به كاتب القصة الأصلية الذي ولد عام 1504 وتوفى عام 1573 مما يفسر ذلك التقارب الزمني بين الفترة التاريخية التي عاشها هو وعاشها شكسبير.
(9) الحوار مأخوذ من المشهد الأول. الفصل الثاني. مسرحية عطيل.
(10) إيقاع العرض المسرحي هو من أهم موضوعات الإخراج المسرحي، وقد تم التطرق إلى هذا الموضوع في عدة دراسات مختلفة.
(11) يمكن المقارنة في هذا المجال بين مسرحية (ألكترا) لشاعر المآسي اليونانية القديمة يوربيديس الذي كتبها في حوالي (486 - 407) ق. م ومسرحية الكتب الأمريكي المعروف أوجين أونيل Eugene O،Neill . من عام (1888 - 1954) المسماة (الحداد يليق بإلكترا) التي استخدم فيها مأساة الكترا اليونانية التي كتبها أيضاً أسخيوس وسوفولكس، لكن أونيل حولها إلى مأساة حديثة شخصياتها أمريكيون يعيشون في ظروف الحرب العالمية الأولى الصعبة.
المصادر والمراجع:
1 -The Oxford Companion to the Theatre،Marjori Boulton. London . 1950.
The Oxford Comp. to English Literature. Marijrie
Boulton. London. 1950.
3- British Drama League، 9 Fitzroy Square، London، W. 1.1948.
4- Shakespear British Drama، The Notional Book League، Oxford. 1940.
إعداد الممثل. قسطنطين ستانسلافسكي. ترجمة د. محمد زكي. بيروت. دار النهضة العربية. 1960.
فن الكاتب المسرحي. روجرم إيسفيلد. ترجمة دريني خشبة. 1978.
مجلة: Theater Der Zeit، Berlin، 1953، Nr.55.11
ما الذي يحدث في هاملت. جون دوفر ويلسون. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. دار الرشيد للنشر. 1981.
نظرية المسرح الحديث. أريك بنتلي. ترجمة يوسف عبد المسيح ثروت. وزارة الإعلام. العراق. 1975.
10 - En Finir avec ics chefs d،oeuvre، in theater et son double idees Gallimard، n، 362، Paris،1964.
Engen Ionesco، notes et contre. paris34.1966 - 11
تاريخ المسرح الروسي. مجموعة من الكتاب الروس. دار الفن. موسكو. 1972.
فن المسرحية. فردب ميليت. جيرالد أيدس بنتلي. ترجمة صدقي حطاب. دار الثقافة. بيروت. 1966.
التكامل الفني في العرض المسرحي. ألكسي بوبوف. ترجمة د. شريف شاكر. وزارة الثقافة. دمشق. 1979
15- The World drama. Ardis Niocol. The National Book League. Oxford. 1942
16 - Jennelle Reiner، after Brecht. The Universty of Michigan Press. 1994.
17 - Martin Esslin، Contemporary History Staged، Plays International.1990.
18 - Reading from British Drama، Marjorie Boulton، london، 1955.
19-Theater der Zeit، Berlin،1953، Nr. 7 55.
مجلة المسرح المصرية. العدد الثالث. 1981.
مجلة المسرح المصرية. العدد الحادي عشر. 1982.