لم يحتفل نجيب هذا العام بعيد زواجه من لاورا شنايدر، كما كان يفعل في ما مضى،أما لاورا فيبدو أنها تجاهلت المناسبة هذه أو بالفعل ما خطرت لها على بال، للمناسبة سابقا بريق خاص و حماسة تجعلها تهيئ نفسها قبل أيام لدعوة أصحابها الممثلين والممثلات في المسرح الذي تعمل فيه ودعوة غيرهم من معارفها تقدم لهم الطعام اللذيذ والشراب الجيد، وتبدو أمامهم جميعا سعيدة مع نجيب أيما سعادة، كانت تقول له: نحن خلقنا لنكون معا. أو: كما لو أنك جئت من بلادك البعيدة كي نلتقي معا. وبعد أن يودعا آخر ضيف عند باب الشقة يصحبها نجيب إلى الأماكن التي تبقى ساهرة في كولن ومن بينها (مأوى القراصنة) بكل تأكيد، ولا يعودان إلى الشقة إلا عند الفجر وقد نال منهما التعب فيختمان يومهما بتناول الكروسون الساخن الذي يحليه مسحوق السكر. لقد مر اليوم الذي يحمل هذه الذكرى كما لو كان عاديا من أيامهما، أو لا يمتّ لهما بصلة، وقد عرفهما الساكنون في المبنى نفسه بوصفهما: الزوجان اللذان لا يطيق أحدهما الآخر.
كانت لاورا امرأة طويلة القامة متناسقة القوام، لم تخضع لجراحة تجميلية ولا قامت بتصغير أنفها وتكوير شفتيها ولا حاولت أن تزيد من ضخامة ثدييها بحقن ابر السليكون، لم تكن في حاجة إلى ذلك لأنها لم تنس تمارينها الرياضية التي تجعلها محافظة على رشاقتها، فالممثلة من وجهة نظرها يجب أن تضحي من أجل فنها وأن تبتعد عن الأنواع الضارة من الطعام و الشراب لدوام رشاقتها، ولكنها لم تنزل قط عن تصرفات المراهِقة التي سلكتها ذات يوم، مراهِقة راودها الانشداه والحيرة بفعل نموها، فكان جيرانها يتعرفون على صيحات الموضة في ملابسها دوماً قبل أن يتعرفوا على شكلها.
قبل أن تحل هذه الذكرى وجدت لاورا نفسها يائسة عاجزة عن إبعاد شبح الكآبة عن نجيب كلما دخل المنزل، لم تعجبها رؤيته يبتعد عنها على تلك الصورة، لم يعجبها رؤيته منطوياً على نفسه أو منعزلاً يتدرب على تحريك قسمات وجهه بالصورة التي يريد، كانت تخشى أن تصيبها العدوى، فالكآبة في نظرها مرض يؤذي الآخرين قبل أن يطيح بصاحبه، لذلك آلت الأمور لأن يعيشا منفصلين تقريباً في شقة من غرفتين و صالة.
في البداية سارت الأمور معهما بشكل عادي، عندما طلب نجيب منها اعتزال التمثيل، لأنه فيما يبدو لم يكن متحررا بالقدر الكافي ليحتمل مشاهدة زوجته أثناء التمثيل ولمقتضيات الدور الذي تقوم به، ليلة بعد أخرى بين أحضان هذا أو ذاك على خشبة المسرح أو في الكواليس، كان يعرف أن الممثلين والممثلات متعودون على العناق وتبادل القبلات فيما بينهم،ومن الطبيعي ان تنشأ بينهم أحيانا علاقات حميمة وأحيانا تفرض المـهنة هذه عليهم ذلك. قبل زواجهما قال لها مرة: هناك الكثير من الرجال الوسيمين حولك، لماذا اخترتني وأنت بين أصحاب الوسامة وأنا لست ممثلاً ولا وسيماً مثلهم، فتقول له ضاحكة: هذا شأني، أنا غبية فقدت عقلي ماذا تريد أكثر من هذا الاعتراف. مع ذلك طلب منها التخلي عن مهنتها بعد الزواج، فبذلت مجهوداً كبيراً كي لا تلبي طلبه، لكنها وافقت أخيراً. كانت تعرف أن ما طلبه نابع عن إحساس مرضي وأوهام لا تفهمها ولا علاقة لها بتلك التبريرات التي يقدمها لها بين الحين والآخر، من أنه يعتقد أنها شفافة أكثر مما يجب لذلك عندما تمثل تطغى شخصيتها الحقيقية على الشخصية التي تمثلها،وهذا يضعف من قدراتها الخاصة كممثلة. كان يقول لها: أنا أرى مواهبك ولكن يجب توجيهها إلى أشياء أخرى تبدعين فيها أكثر.
تركت التمثيل وعملت مربية في دار للأيتام بالمدينة. فكرتها عن نفسها أنها مربية ماهرة كانت خاطئة، لأنها اكتشفت بالممارسة أن هذه المهنة أكثر صعوبة مما توقعت، فتركت العمل بعد أقل من شهر وراحت تبحث عن عمل آخر، لكن الأعمال التي عثرت عليها تحتاج جميعها إلى مؤهل مناسب، أو عليها اجتياز دورة تدريبية خاصة وهي لا تملك الاستعداد في الوقت الحاضر، لذلك تأجل بحثها عن ذلك إلى وقت لاحق.
* * *
كنا نلتقي مساء كل يوم جمعة تقريبا في حانة قريبة من وسط المدينة اسمها "مأوى القراصنة" يديرها السيد بولاك، و كثيراً ما كانت لاورا تصحبه إلى ذلك المكان فهي مغرمة بمثل تلك الأجواء التي عليها الحانة و بحركات بولاك التي كثيراً ما كانت تبدو من وجهة نظرها بهلوانية وهو يصب البيرة في أكوابها الكبيرة ويرفعها فتأتيك كما لو كانت محمولة على طبق طائر، لتحط على الطاولة الخشبية أمامك من دون أن يتناثر شيء من رغوتها، تعتقد لاورا في الأيام الأولى من تعرفها على نجيب، وكان في هذا المكان، أن الهدف من الاسم هو الإثارة لأنه يجعلك تتخيل استراحة لقراصنة نزلوا اليها من سطح سفينتهم، بعد أيام شاقة في عرض البحر أمضوها في المعارك الطاحنة وحصد الغنائم من السفن الأخرى،و إلا فما المقصود بالقراصنة ! هل هم مثل أولئك الذين رأيناهم في فيلم " القرصان القرمزي " الذي أخذ بطولته بيرت لانكستر في أول خمسينات القرن الماضي،أم هم القراصنة الذين صحبهم الجيش الأمريكي أثناء غزوه للعراق، أم هم من يسرقون حاملات النفط قرب سواحل أفريقيا شمال مدغشقر، هل هم قراصنة الانترنيت، قراصنة حسابات البنوك، أم هم قراصنة القلوب المعذبة. عندما يشتد شوقها وغرامها لنجيب تسمي المكان مأوى العاشقين المتيمين، لكن بعد الخلافات التي بدأت بينها وبينه كان المكان بالنسبة لها مأوى للنفوس المعذبة. عندما تكون بين هذا وذاك تطلق على المكان مأوى اليائسين الحالمين. بعيداً عن هذا كله كان بولاك الذي يدير الحانة وصاحبها الفعلي يعتبر "مأوى القراصنة " مأواه أولا الذي لا غيره عنده بعدما حلت المنيّة بزوجته وابنته الوحيدة، بعد انفجار قنبلة كانت مدفونة في حديقة منزله، ربما أسقطتها يوما إحدى طائرات الحلفاء على مدينة كولن في الحرب العالمية الثانية (ولم تنفجر حينها )، بعدما اصطدم الفأس الذي كانت تحفر به زوجته لتزرع شجرة تندرا صغيرة بتلك الكتلة من المعدن القاسي الصدئ. يبدو بولاك أكثر من جميع الحاضرين سعادة في الحانة وهو يؤدي عمله دون كلل، من فترة ما بعد الظهركل يوم وحتى انتصاف الليل، قد لا تكون هذه الحانة جنة بالمعنى الحقيقي لمن يرتادها لكنها كانت جنته. كان يلذ له الاستماع إلى زبائنه وهم يتبادلون آخر الأخبار من دون أن يوقفه ذلك عن العمل، وكثيراً ما كان يناقش البعض في حواراتهم المتشعبة أيضاً.
كثيراً ما كان نجيب يزودني بمعلومات عن لاورا عندما تكون حاضرة، وكنت أعرف أنه بذلك يريد أن يسمعها رأيه : هل تعرف أنها ممثلة جيدة لكنها لم تأخذ فرصتها وظلت أدوارها ثانوية، لكن قل لي إلى متى يبقى الممثل ينتظرالفرصة لكي يطلع إلى فوق؟ كنت أعرف أن عمل زوجته يحرجه حتى لو كان ما تؤديه على خشبة المسرح هو تمثيل، مع أنها خارج المسرح، في البيت منظمة قنوعة تكاد تكون ربة بيت مثالية.
رمت علاقاتها السابقة جميعها وراء ظهرها بعدما تزوجت، لكن كيف يرضى وهو القادم من ريف جنوب بغداد أن يراها تتقلب بين أحضان هذا أو ذاك لمقتضيات الدور، ربما كان قادراً على تحليل هذه النقطة بالذات تحليلاً نفسياً بمقتضى الشهادة الجامعية التي يحملها.
مرة في " مأوى القراصنة "لم تكن لاورا برفقته، حينما قال لي : لا تظن أنها تركت المسرح استجابة لطلبي، لا، فعلت ذلك بعد أن فقدت الأمل في ما تحمله من مؤهلات، فالسنوات تمضي وهي مجرد ممثلة أدوارها غير مهمة و قصيرة دائما.
في يوم وهما يتناولان فطورهما معاً قالت له : ها أنا تركت التمثيل، فماذا بعد ذلك؟ قل لي : من ينفق على البيت؟ ليست هناك مشكلة في دفع الإيجار لأني أملك هذه الشقة الصغيرة، لكن من يسدد فواتير التلفون والانترنيت، الكهرباء والغاز، الحاجات التي اشتريناها والتي سنشتريها بالتقسيط؟ من يدفع حساب المقهى أو المطعم الذي سنستريح فيه بعد العناء من التسوق؟ من يدفع محروقات السيارة ومتطلباتها؟ من يدفع، من يدفع؟ كانت مواجهة حقيقية وضعت فيها لاورا النقاط على الحروف كما يقال. ولأنه بلا عمل مستقر ودخل ثابت يقيس به الأمور بشكل صحيح، راح يفتش عن ما يمكن أن يسدد ذلك الذي عددته لاورا.
حصل بالفعل على عدد من الأعمال، لكنها غير مشجعة، إما أن أجر ساعة العمل غير مجزٍ أو أنه كان شاقاً، أو يقع في مكان بعيد يكلف الوصول اليه الكثير من الوقت والمال. ظل يبحث هنا وهناك ولم ييأس، لم يفته أي اعلان عن عمل الا وقرأه، بحث في الانترنيت، راجع مكاتب العمل، سأل هذا وناشد ذاك، وهي تبحث معه ولم تتخل عنه، إلى أن جاءت الساعة التي وجد فيه من يراه مؤهلاً لإشغال الوظيفة التي أعلنت عنها مجموعة أسواق كارشتات في جريدة فرانكفورت الكماينه، كانت كارشتات تختار كوادرها بعد مقابلات شخصية كخطوة أولى، تتضح فيها مؤهلات المتقدمين وقدراتهم ومهاراتهم، وكانت المقابلات الشخصية هذه سبيلاً لاختيار الرجل المناسب في المكان المناسب. في المقابلة الأولى صار عليه أن يجيب على أسئلة يتم من خلالها اقتناعهم من ملائمة المرشح لتلك الوظيفة، كانت الأسئلة متنوعة وتركز على أكثر من جانب: هل تستمتع بالعمل في المشاريع الصعبة؟هل لديك نجاحات يمكنك أن تفخر بها؟هل لديك أفكار جديدة؟هل استطعت يوماً ما تحقيق الغاية في مشروع صعب؟هل استطعت أن تحقق يوماً ما هدفاً لم تكن تعرف أنك ستحققه؟ كيف تظهر قابليتك على العمل؟.
وفي مقابلة ثانية وجهت له أسئلة مثل: هل أنت مستعد لأن تخاطر؟ وإذا كان الجواب بنعم صف لنا مخاطرة خضتها سابقاً لتكمل مهمة ما.
وأسئلة أخرى مثل : هل أنت شخص منافس للآخرين، ومن هم منافسوك كما تتصور؟ كيف يعمل تحصيلك العلمي على مساعدتك في هذا العمل؟
وجهت الأسئلة بطرق مختلفة، أحياناً تطرح عليه بشكل سريع ومتعاقب، من دون أن يعطى وقت للتفكير، لم يستفزه أي منها ولم يبعده عن الأهداف التي خطط لها.
لكنه شعر بعد هذه المقابلات بالارتياح، فقد أعادت له أجوبته على تلك الأسئلة الثقة بنفسه وبقدراته ومهاراته وأيقن أن عنده من المرونة ما لم يكن يتصوره من قبل.
تقدم صفوف المنافسين لأنه حصل على الوظيفة أخيراً، ربما اختصاصه أهله لذلك، كان نجيب قد تخرج في جامعة بغداد يحمل شهادة ملائمة لأن يكون مدرساً لعلم النفس في إعدادية بابل للبنين في مدينة الحلة، وأن هذا الاختصاص ساعاته الأسبوعية المقررة محدودة لا تكفي المطلوب من المدرس تغطيتها، لذلك كلفته الإدارة بتدريس مادة الفن والرسم بجانب ساعاته لكي يعالج النقص. كان الرسم يدرّس وله درجات، لكن الطالب لا يرسب في الامتحان النهائي، و في حينها لم يعترض رغم أنه لا يعرف شيئا عن الرسم وتاريخه والرسامين العالميين ومناهجـهم. كان يقضي الوقت داخل قاعة الدرس بحل مشاكل الطلاب، عندما يتعذر عليه ذلك يكتبها في تقرير مفصل إلى الإدارة للعلم والاطلاع، والمرة الوحيدة التي أراد أن يجرب فيها حظه في رسم حركة أصابع اليد على السبورة،بدت الأصابع كأنها مخالب قط أو صقر، وقد كشفت هذه التجربة حقيقته أمام الطلاب، كل ذلك وحرب الخليج على الأبواب. مرة سأله أحدهم في الصف : أستاذ، هل يطير الفيل؟ استغرب أن يطرح عليه مثل هذا السؤال، ومع ذلك تمالك نفسه وأجاب : وهل هناك شخص عاقل يسأل مثل هذا السؤال !من هو الأبله الذي قال لك هذا؟ أجاب التلميذ: ولكن يا أستاذي العزيزالذي قال هذا هو الرئيس القائد صدام حسين مساء أمس و هو يخاطب الأمريكان الذين أعدوا عدتهم وأرسلوا اساطيلهم القتالية باتجاه الخليج العربي على شاشة التلفزيون: لو أقدم الأمريكان على فعلتهم و جاءوا إلى المنازلة المنتظرة فإننا سنريهم قدرتنا على أن نجعل الفيل يطير في السماء. فوقف نجيب حائراً وتبين له أنه وقع في فخ نصبه له أحدهم، أجاب: نعم رغم ضخامة هذا الحيوان العظيم إلا أنه يطير افضل منا نحن البشر. وكان متأكدا من أن هذا الجواب لن ينفعه فقد تأخر كثيرا عن الجملة التي سبق أن قالها.
بإشارة من أحد أو من غير إشارة، انقطع نجيب عن الدوام في اليوم التالي دون أن يعطي المدرسة تبريراً لانقطاعه، كما أنه لم يمكث يومها في بيته لأنه يدري أن ما جرى سيرفعه واحد منهم في تقرير مكتوب إلى الجهات الأمنية أو الحزبية، قبل أن يغادر المنزل أوصى والديه وإخوانه وإخواته بأن يخبروا من يسأل عنه أن لا علم لهم بمكان وجوده، بعد ما غادر المنزل. سألوه عما إذا كان مطارداً من أحد؟ فقال لهم : سيكون مطارداً بسبب مكيدة من أحد. بعد ذلك صدق حدسه فقد سأل عنه أفراد من قوى الأمن و فتشت عنه مفارز خاصة من جيش الحزب الشعبي، فبدأ نجيب يخطط بشكل جدي لكي ينقذ حياته قبل أن يقع في أيديهم وتكون نهايته، حتى لو قاده ذلك إلى مغادرة البلاد.
أعد نفسه لمغادرة العراق بعد حرب الخليج، دفع الكثير من المال لعبور الحدود إلى سوريا من منطقة القامشلي، ثم بعدها بمسافة ليست طويلة يعبر إلى تركيا،ونجح في ذلك، لم يكن يحمل معه من الأشياء المهمة سوى شهادته الجامعية وبعض الأوراق الثبوتية ومبلغاً يصل إلى أربعمائة دولار، منها صرف ثمن تذكرة الباص الذي أقله من الاسكندرون إلى استامبول. هناك سكن في بيت قريب من الميناء مع شبان مثله، كانوا قادرين على التخفي وعلى أن يجدوا ما يعينهم على سد الرمق، من دون أن يلفتوا اليهم الأنظار، قدم هؤلاء من دول مختلفة اتخذوا من استامبول منطلقاً لأحلامهم في الوصول إلى الدول الأوروبية ليبدأوا فيها حياتهم الجديدة. كان ذلك البيت يفرغ من ساكنيه في النهار، لكنه ليلا يمتلئ بالكثير من الذين لهم الأهداف نفسها، ومع هؤلاء جميعهم أخذ استعداده للسفر يقترب شيئا فشيئاً ليتخفى أخيراً في واحدة من شاحنات المسافات الطويلة التي تنقل الخضروات الطازجة و غيرها إلى ألمانيا.
* * *
كنت أجده حائراً أمامي و أنا أسأله عن الوظيفة التي صارت له أخيرا،أليس لها تسمية معينة، نقول: معلم للذي يعلم التلاميذ، أو طبيب للذي يكشف على المرضى ونقول صحافي و مندوب مبيعات مثلي، و نقول سائق تاكسي، طيار، حلاق وهكذا، فلا أجد جوابا دقيقا عنده، و كما أعرف أن لدى أي مهنة قدرة على أن تشرح نفسها بنفسها ولا تحتاج إلي تفسيرات و توضيحات، أما هو فماذا يمكن أن يسمي وظيفته؟.
عرفت أنه يقف في موقع مواجه لكل من يدخل إلى أسواق كارشتات، لكن هل يقول إنه بواب لأنه يقف وراء الأبواب ! ليس هذا عمله. هولا يفتح الباب لأحد، الناس يدخلون وهو يستقبلهم بما يليق بهم،هو لا يدلهم على الحاجات التي قدموا يشترونها، لا، هذا ليس عمله، ليس بواباً هو ولا دليلاً، هذه مهن لا تحتاج لكل تلك الأسئلة في تلك المـقابلات التي أجروها معه، الموضوع أكبر من هذا،يستطيع القول إنه يستقبِل، ليس هذا عنوان الوظيفة لكنه توصيف لها، لأنه لا يوجد ما يفهم منه المرء عنوانا لهذة الوظيفة. أنه مستقبِل جيد، مستقبل متعلم، لا أحد يستقبِل أحدا مثله. هو يملك معلومات في علم النفس وعليه الاستفادة منها قدر ما يستطيع، عنده قدرة التعبير في وجهه، فهو يعيش مع زوجة احترفت التمثيل لفترة طويلة وعليه أن يعبر دائما بهذه الوسيلة. كل من يدفع الباب ويدخل كارشتات يراه أمامه بحيث لا يمكن أن يمر أحد من دون أن يرى ابتسامته، هو ليس مهرجاً ولا ممثلا كوميدياً، بكل بساطة إنهم وجدوا في أدائه طريقة جديدة لزيادة مبيعات السوق. هو لا يوزع إعلانات عن بضاعة ما ولا يحمل لوحة تعلن عن حاجة للبيع، هو فقط يبتسم في وجه الداخل، لكنه ضليع في تقديم نوع الابتسامة التي يواجه بها الداخل، هنا تبرز إمكانياته التي سوف تتطور أكثر فأكثر مع مرور الوقت،والمهم فوق ذلك كله هو الراتب الذي سيؤول له نهاية كل شهر، به يسدد الفواتير ويدفع أسعار المحروقات ويسدد الأقساط الشهرية وغير ذلك.
بدأ اليوم الأول بمقدرة بسيطة لكن سرعان ما تطورت بالفعل، في اليوم الأول كان يعرف أن الابتسامة للصغير غيرها للكبير، ولكنه تعلم، مثلما يتعلم المرء الكثير مما يقع ضمن دائرة اختصاصه أو خارجها، سابقاً لم يعرف أن الابتسامة لأبناء المدينة هي غيرها لأبناء الريف، والابتسامة للمواطن غيرها للأجنبي، ولكنه تعلم ذلك وتعلم كيف يهز رأسه مع الابتسامة تحية للداخل، وكم حدود تلك الهزة، ومتى تصل إلى ما يقرب الانحناءة أحياناً، لأن كل شيء محسوب له و مقدّر. وتعلم هل يكتفي بالابتسامة للطفل أم يمد أصابعه لشعر رأسه ليمسح فوقه برفق، أثبت بذلك أنه قادر أن يتعلم أكثر وأكثر لو أعطيت له الفرصة.
في اليوم الثاني جرب أن يبتسم في وجه الداخل إلى كارشتات ابتسامة الصباح،فنجح لأن تأثيرها كان جيداً، و أثبت أنه قادر على أداء ابتسامة ما قبل الظهر وابتسامة ما بعد الظهر. ابتسامة ساخنة وأخرى باردة أو بين بين، كل شيء يحسب بمقادير.ابتسامة يتركها تغلي على نار هادئة، وابتسامة يخرجها من جيبه كالحاوي ويلصقها على وجهه متى أراد.
يأتي بالجديد كل يوم، تماماً كما أرادوا منه ذلك وأكثر، فاقتنع أن عمله لا يقل أهمية عن تأثيرالإعلانات على البضاعة التي يُنفق عليها الكثير، لأن الذي يدخل كارشتات وهو مرتاح غير الذي يدخله وهو منزعج، عمله يتكفل بجعل ذاك المنزعج ينسى انزعاجه ما دام دخل ليشتري، وذاك المرتاح الذي قدم ليشتري قميصا سيخرج ومعه قميصين. مع ذلك كان يعرف أن هذا لا يكفي.
في الأيام التي تلت، تعلم أن يستقبل الشخص الحزين بالابتسامة الحزينة أو بابتسامة المواساة، فيشعر الحزين بالراحة لهذه المشاركة، تعلم أيضاً أن يبتسم فتبدو ابتسامته مخلوطة بماء الورد مع زهور الاقحوان أو بالورود المخملية، مع ورد الكرز أو زهور القرنفل،مع الياسمين،مختلطة بالعسل الطبيعي أو بالفواكه المجففة، مع الزبيب الأسود أو التوت ألأحمر، ابتسامة مع اليوسفي أو الخوخ و التفاح والأناناس، بالفراولة والتوت والليـمون، بقشور البرتقال أوبنكهة التوابل و بالكرز البري. ابتسامة بالجرجير، ابتسامة بالخس، بالبطاطا، بالنعناع، ابتسامة بالنسكافيه أو الكاباتشينوأو الشكولاته،باللوز المبشور،مع اليانسون،بالزعفران،بالقرنفل، بالريحان، ابتسامة مثل هذه تخفض مستوى السكر في دم من يتلقاها أو تخفض ضغطه فيشعر بالراحة، وهو ينتقي له مزيداً من المشتريات.
لم يكتف بذلك، توصل إلى ابتسامة مخلوطة مع البابونج والقرفة والزنجبيل والهيل،أو مخلوطة مع الكراوية واليانسون وزهرة الصبار، تثير شعوراً سريعاً بالدفء وسريان الطاقة في الجسم.
أخذه الحماس أكثر، فراحت قريحته تكتشف أشياء قادرة على زيادة قدرة الشرايين على الارتخاء، والتمدد لاستيعاب تدفق أكبر للدم فخلط الابتسامة بالكركديه وأوراق الليمون وعرق السوس، خلطها بورق العنب ولب الجزر وثمر العليق فأعطى ذلك مفعولاً جيداً للذين يحتاجون لها، فاشتروا أكثر مما هو متوقع بعد أن أخذوا الجرعة منه وهم يدخلون كارشتات.
أجرى بحوثاً خاصة وعملية فتوصل إلى أن يستقبل الداخلين بابتسامة تخفف عنهم آلام حصى الكلى وأخرى تقلل من اضطرابات القولون والبروستات والجهاز الهضمي، و تخفف للنساء اضطرابات الدورة الشهرية. نجح أيضاً في حل مشاكل الأرق والتوتر العصـبي والصداع، لا يهم أن يكون التأثير محدوداً، كما المخدر ينتهي تأثيره بعد وقت قصير.
أجرى تجارب للوصول إلى نوع يهدئ من تهيج الجلد، وظهورالأكزييما وأنواع أخرى من الطفح الجلدي وحب الشباب، ويساعد في الحصول على بشرة ناعمة نقية وصحية.
بابتسامة يستطيع أن ينشط ذاكرة من يدخل أو يساعده في زيادة قدرته الجنسية، بابتسامة يستطيع أن يقاوم أعراض الشيخوخة وأخرى تخفض من مستوى الكولسترول، أو تقلل من احتمالات الاصابة بالسرطان، بابتسامة أخرى يزيد من قدرة الجهاز المناعي أو يعالج الجيوب الأنفية أو يقلل من تأثيرات التلوث وفعل الزمن، ووصل الأمر إلى اكتشافه ابتسامة تقاوم تسوس الأسنان و التهابات اللثة.
كان نجيب رجلا مناسبا لعمله، ابتسامته تلك لا تحل قبل أوانها ولا قبل أن يكون أوانها قد فات. تظهر للآخرين دائماً في اللحظة المناسبة وهو أمر ضروري لكي يكون لها سحرها وتأثيرها.
كل ذلك مدروس بعناية، في نظرة خاطفة يعرف ماذا يطلب الداخل كي يعطيه ما يشعره بالارتياح، فلا يخرج بعدها إلا وقد زادت قائمة مشترياته.
أحيانا وهو في استراحة أو أن عمله لم يبدأ بعد يتصلون به : تعال إلى كارشتات بسرعة. كان يذهب و لم يقل لا مرة.
كان نجيب يستهلك الكثير من طاقة جسمه كل يوم، و لم يبال بذلك.
ليس هذا سهلاً، و غالبا لا يشكره أحد حتى لو وصل إلى أعلى المستويات لأنه عمله الذي يأخذ أجرا عليه، أصبحت قدرته على التحمل أكبر و بات قويا كالآلة لا يشكو و لا يطلب العون، قد يرتكب أخطاء أحيانا لكن تجاوزها ليس بالأمر الصعب.
مع ذلك كان خائفا أن يلوح له شبح البطالة يومـا.
* * *
خفتت ابتسامة نجيب بعد الانتهاء من العمل، لاحظت ذلك عندما نلتقي في " مأوى القراصنة" أوهي غابت تقريبا مهما تنوعت الأحاديت بيننا وأخذت طرقاً شتى، أصبح يعيش حياته الخاصة بملامح وجه جامدة، رجلا جدي و حزين بل وجديته مبالغ فيها، كذلك حزنه،أصبح يعيش حياتين واحدة داخل كارشتات يوزع فيها ابتساماته، وأخرى خارج كارشتات تغوص فيها ابتساماته في الأغوار السحيقة، لاحظت أيضاً أنه كثيراً ما كان يحرك من قسمات وجهه أمامي بدون مناسبة أو ضرورة، كثيراً ما كان يتلمس بأصابعه مواطن معينة من خديه، أو يضغط فوقها أو يدفعها أحياناً إلى هذا الجانب أو ذاك، ربما هي نوع من ذلك التدريب الذي ربما يقضيه في مراقبة تحركات قسمات وجهه في المرآة.
اعتقدت زوجته مع مرور الأيام أن نجيب ليس حزينا فقط بل هو متشائم، ولأنها لا تحب المتشائمين، ولا أولئك الذين لا تعرف الابتسامة طريقاً إلى وجوههم،ولا أولئك الذين يعيشون يومهم في كآبة وعزلة عن الآخرين أخذ حديثها معه يتحوّل دائما إلى لوم يعقبه صراخ وتوجيه اتهامات، ولأنها تخشى العدوى، فالكآبة في نظرها مرض يطيح بالآخرين قبل أن يؤذي صاحبه، لذلك عاشت معه في تعاسة أيما تعاسة.
غالباً ما كانت تقول له : أنت تقدم لزبائن كارشتات كل شيء،الابتسامات بأنواعها فتفرحهم وتدخل في نفوسهم الأمل،أما أنا فماذا قدمت لي؟ الذين يرونك في العمل يعتبرونك كائناً لا تعرف غير الابتسام، وربما لا تعرف في العمل أو في غيره، غير أن تكون بمظهر السعيد الذي أنت عليه.
أراد نجيب أن يقدم لها الأبتسامة التي تلائم وضعها، كما لو كان في عمله فيخلطها بكل تلك الأشياء المحببة،حاول فنجح أحياناً وفي أحيان أخرى بدا كما لو كان يجهد نفسه في انتزاعها من أعماقه انتزاعاً، و قد صرح لها بأنه لا يتقصد ذلك معها، هو يريد أن يبتسم ولكن ما عاد بمقدوره فعل شيء، فيبقى مستسلما لقسمات وجهه التي أجهدت أثناء دوامه الطويل وتريد أن تخلد إلى الراحة، لتواصل عملها غداً.
* * *
مر أسبوعان أو ثلاثة أسابيع لم ألتق خلالها بنجيب لا في "مأوى القراصنة" ولا في غيره، من جانبه لم يتصل بي ومن جانبي حاولت لكن تلفونه كان لا يرد، واتصلت بـلاورا فأعلمتني أنها قليلا ما تراه هذه الأيام، إلى أن رن تلفوني في أحد الأيام وكانت لاورا على الخط، قالت لي من دون مقدمات : هل تعرف شيئا عن نجيب؟ قلت: لا، هل حدث أمر ما؟
قالت: لم أجد له أثرا، بحثت في كل مكان لكن الجواب دائما ليس هنا. تصور الشرطة قالت لي: هو ليس بخاراً تلاشى في الفضاء ولا هو قطرة مطر تسربت إلى باطن الأرض، كل ما في الأمرعليك الانتظار.
قلت لها : اطمئني، سيعود عاجلا أم آجلا، ما عنده غيرك.
أجابت : كنت أعرف أن ذلك سيحدث ذات يوم.
بعد المكالمة هذه أسرعت بالذهاب إلى كارشتات لعلي أجد ما يقودني اليه، عرفت من بعضهم أنه شوهد قبل نهاية الدوام واقفاً في مكانه حائراً، ليست له القدرة على الإمساك بوجه معين يقدم له الابتسامة، فالازدحام على أشده والناس تدخل كارشتات أفواجاً بسبب اقتراب موعد عيد الميلاد وأعياد رأس السنة، عشرات الوجوه تأتي دفعة واحدة، ليسوا بحاجة إلى من يبتسم لهم، كلهم يريدون أن يشتروا هدايا عيد الميلاد وأشياء جديدة للعام الجديد، لا يحتاجون إلى منشطات من أي نوع ليشتروا أكثر. هم يعتبرون أنفسهم محظوظين لو وجدوا ما يريدون قبل غيرهم. في كارشتات قالوا لي إنه كان يريد أن يفعل شيئاً، أن يقدم خدمته لكارشتات لكن ما عادت هناك فرصة، الجميع في سباق لم ير مثله من قبل، كثيرا ما يرى نفسه مدفوعا إلى الوراء دون إرادته، فيتراجع إلى الجانب مفسحا لهم الطريق.
لمن يبتسم.. ومن منهم يستقبل ابتسامته ! قد يفعل ذلك فتأتي ابتسامته خاطئة بسبب توقيتها غير المضبوط. مرة واحدة في ذلك اليوم ترك مكانه ليخبر إدارة شؤون العمل، أن لا يحملوه ذنباً على عدم قدرته استقباله الزبائن هذا اليوم بما يريدون، تفهموا الوضع وطلبوا منه أن لا يترك مكانه مهما تعددت الأسباب، عاد يجرّب حظه لكنه فشل، حاول مرة بعد مرة فنال منه التعب، أخذ له زاوية ينتظر حلول معجزة ما تعينه، لكن انتظاره طال والمعجزة لم تأت، والناس تدخل دون أن ينتبه أحد إلى وجوده. قبل انتهاء ساعات العمل اختفى نجيب كالبخار أو ذاب كالثلج العالق على الأوراق الأبرية في ظهيرة مشمسة، أو تلاشى كالطيف العابر، حدث هذا قبل أن ينزع عنه ملابس العمل، والجميع يقول لك : لا أعرف لكن ملابسه الشخصية ظلت معلقة في دولابه الخاص.
* * * *