في طريق عودتي من العمل وقعت عيناي عليه في إحدى الفتارين. جذبني بياضه الناصع وصدره المكشوف. يتلألأ فارضاً وجوده بين باقي المعروضات. تتناثر على ذيله الطويل حبات اللؤلؤ ووردات صغيرة في تشكيل بديع. مأخوذةً وقفت أتأمله بإعجاب. اعتراني خجل مفاجئ فغضضت بصري وواصلت سيري. لم تفارقني صورته ما تبقى من اليوم. ظل يخايلني، ويتراقص أمام عيني. اتهمتني أمي أكثر من مرة بالشرود متسائلة عما يشغلني. لم أستطع البوح.. صنعت فنجاناً من القهوة وتواريت عن عينيها في غرفتي مدعيه أن لدي عملا لابد من إنجازه. تعرف أمي إنني لا أشرب القهوة إلا في حالات التوتر أو الغضب، فظلت تلاحقني بنظراتها المرتابة، أما أنا فكنت أتحاشاها طول الوقت.
في غرفتي وضعت الفنجان على منضدة صغيرة ورحت أذرع الغرفة حتى كلت قدماي. لا أفكر في شيء ولا يشغل بالي شيئا وكأن عقلي قد شل، وظل الفستان يتراقص أمامي. جلست على المقعد الوحيد في الغرفة وقد هدني التعب. رحت أرتشف القهوة بتمهل متلذذة مرارتها في فمي. هززت الفنجان بحركة دائرية ثم قلبته في صحنه. حملقت فيه واجفة ودقات قلبي تتسارع. امتدت يدي بتردد ترفع الفنجان. قربته من وجهي مدققة النظر بحثاً عن ذلك الفستان فلم أعثر له على أثر. أدرت الفنجان في يدي عدة مرات دون جدوى. آويت إلي فراشي علني أجد مهربا في النوم.
في أرقي تذكرت يوماً بعيدا بكامل تفاصيله، يوم أحضر لنا أبي (رحمه الله) جهازا لتشغيل الأغاني على أسطوانات. يومها لفتت انتباهي أغنية بصوت شجي على لحن راقص، تقول: (توب الفرح يا توب.. مغزول من الفرحة.. يا حلم كل صغيرة متحيرة عشانك إنت). لم أدرك معانيها جيداً.. كنت صغيرة حينذاك.
طوت الأيام قصة هذا الجهاز فلم يعد يستعمله أحد، لكن تلك الأغنية ظلت تراودني من آن إلى آخر.
غلبني النوم فرأيته.. لم يكن بالفترينة هذه المرة.. لكنه يحتويني ويلفني بهالة من الضياء. أدور وألف حول نفسي بين نجوم مشعة متألقة مطلقة ضحكاتي المحبوسة في صدري من سنين. أمد يداي إلى الأمام باحثة عن شيء ما.. فما وجدته. تحيرت في نومي. فجأة، غشي عيني الضوء الباهر، فلم أعد أرى حتى نفسي، فقط فراغ أبيض كالثلج يبتلعني. أصحو من نومي فزعة. يرتجف جسدي من البرد. أسحب غطاء أتدثر به. أظل ساهدة إلى أن يتفتح الصباح.
أسمع من خلف الباب خطوات أمي الثقيلة، واحتكاك قدميها ببلاط الصالة. أنفض سهدي وأنهض بعيون منتفخة وجفون ملتهبة. أقف في الحمام تحت الدش فينساب الماء البارد.. أستمتع بالبرودة وبقشعريرة جسدي المرتجف.
في طريقي إلى العمل حاولت إقصاء صورة الفستان عن عيني. بين هزهزات الأتوبيس وهدهداته استسلمت لذكريات الطفولة. مرت الذكرى كشريط سينمائي أمام عيني. يوم عرس عمتي الصغرى، كنت في الثامنة مازلت. تبهرني الحركة المفعمة بالمرح في بيت جدي الهادئ حيث انتقلنا لقضاء فترة الاستعداد للعرس. بين ضحكات نساء العائلة ومزاحهن، وابتسامات عمتي الخجلى، ونظرات القلق في عينيها.. عشت أجمل أيام حياتي. أراقبهن. أركض بينهن مقدمة خدماتي البسيطة. أتابع حديث الفستان بشغف، فهو الأطول بين أحاديثهن. لا أفهم المصطلحات التي يطلقنها ولا الملاحظات. كن يتكلمن عن شيء مبهم.. يومها لم أع كل هذا الاهتمام بفستان. أمي تشتري لنا الفساتين في يوم واحد دون إثارة كل هذا اللغط.. أفرح بفستاني الجديد. ألبسه مرة ومرة وينتهي الأمر. يصير مثله كباقي فساتيني.
جاء يوم العرس.. كم كانت دهشتي وانبهاري وإحساسي بالفخر.. فجأة رأيت عمتي ملكة تخرج من إحدى حكايات جدتي. ثوبها الأبيض المرصع بنجوم صغيرة براقة يضفي عليها جلال وسمو. تتطلع إليها العيون بين الزغاريد والضحكات. هي محور اهتمام حشد هائل من الأهل والأصدقاء والغرباء. يومها تذكرت الأغنية. فهمت معنى (توب الفرح). تمنيت أن أرتدي ثوباً مثله. صرت أحلم بالثوب الأبيض وأتخيله. أراني أرتديه والأهل من حولي وقد صرت أكثر جمالاً. مع الأيام بدأت أبحث عن فتى أحلام يشاركني فرحتي بالثوب. تدور عيناي بين أبناء الأعمام والأخوال. أحلم أن نشب سريعاً حتى يأتي ذلك اليوم الذي أمتلك فيه ثوبي الأبيض. أفكر وأفرز من منهم يستحق مشاركتي هذه السعادة. أبدله كل يوم إذا تعاركت مع من اخترته.
مرت الأيام وكبرنا. تزوج أبناء الأعمام والأخوال، حتى أبناء الجيران. كل كان يبحث عن حلم بعيد ولم أكن حلم أي منهم..
مر يومي في العمل بطيئا كئيبا. أتعجل عقارب الساعة فتعاندني وتتلكأ. بين ساعات الملل تركت عيني تتجولان وتبحثان بين الزملاء. كلهم أصغر مني، ومعظمهم متزوجون. أحسست بالاختناق وبالعيون تراقبني في الخفاء. لم أطق صبراً. تحججت بمرض أمي واستأذنت. خرجت من مكتبي أبحث عن هواء. أتخبط في الزحام. يضغط على صدري سؤال. لماذا لم أمتلك فستانا؟ أتعثر في الإجابة وأعوامي الأربعين. لابد أن يكون هناك رجل لأمتلك مثل هذا الفستان. أين الرجال إذن. كانوا كثيرين من حولي لم يلتفت أحدهم إليّ. يمكنني أن أشتري فستانا، فكيف لي أن أشتري رجلا؟
قادتني قدماي إلى الفترينة. وقفت أتأمل الفستان بحسرة. فجأة اتخذت قرار. سأمتلك فستانا بدون رجل. راحت عيناي تبحثان بلهفة عن بطاقة مدون عليها السعر. خاب سعيهما فعادتا منكسرتين. بعد تردد دام لحظات حزمت أمري. دخلت إلى المحل. سألت الفتاة العاملة. ردت بابتسامة تودد. هالني الرقم. شكرتها منسحبة. لم أسمع تعليقها. الرقم يتردد في أذني ويتضخم. من أين لي هذا المبلغ؟ أضع راتبي كل شهر في يد أمي. لي فيه قدر معلوم يكفي بالكاد تكاليف المواصلات وبعض الأغراض الشخصية. لا أستطيع طلب هذا المبلغ من أمي. ستسأل فيما أحتاجه. لن أقدر على إجابتها. تلبدت الأسئلة غيوما في رأسي. أحسست بصداع عنيف. سرت في الشارع بشكل آلي. لا أشعر بخبطات المارة. لا أسمع اعتذاراتهم أو تعليقاتهم. توقف عقلي عن التفكير. الرقم بالون يتضخم داخل رأسي فيكاد أن ينفجر.
فزعت أمي لمرآي. سألت بلهفة عما أصابني. رددت باقتضاب عن مشاكل في العمل. دخلت حجرتي وأغلقت الباب. أن أنفرد بنفسي غاية أمنياتي. وقفت في منتصف الغرفة، كأني أراها للمرة الأولى. الفستان أمام عيني، والرقم يتردد في ذهني. صوت أمي ينتشلني من هذه الدوامة يدعوني للغداء.
أكلت بضع لقيمات مضطرة. فرد الصمت جناحيه علينا، أنا شاردة لا أفكر في شيء، وأمي ترقبني بعينين منزعجتين قلقتين. أنسحب في هدوء. أصنع لنفسي فنجان من القهوة. أتوارى خلف باب حجرتي. أمسك كتابا. أقلب صفحاته بملل. لابد أن أدبر المبلغ. أرتشف القهوة. مرارتها تؤلمني، تذكرني بمرارة الحياة. مع آخر رشفة تنبثق في رأسي فكرة. أشعر بالراحة وأن حملاً عن صدري زال. دلفت إلى الفراش آملة في نومٍ هادئ. هاجمتني أحلام كثيرة لم أتذكرها في الصباح.
في العمل كنت مهمومة. تخيرت إحدى الزميلات. اقتربت منها أسر لها سراً. بتردد أخبرتها عن حاجتي لبعض المال لمرض أمي، ورغبتي في عمل "جمعية". سألتني عن المبلغ. أخبرتها. هونت علي. أخبرتني أنها ستتدبر الأمر.
مر الوقت ببطء. نفد صبري وضاق صدري. لذت بمكتبي ساكنة. قلقة أتخذ من مرض أمي ستارا. أقاوم شعورا في أعماق نفسي بالكذب وخوفاً مبهماً على أمي. حاولت إقصاء هذه المشاعر والأفكار جانباً متابعة حركة زميلتي بين المكاتب.
في نهاية اليوم وضعت زميلتي في يدي مظروف وبعض الأمنيات الطيبة. كدت أطير من الفرح. قبلتها ممتنة. تعجلت المغادرة. كدت أركض في الطريق. أمام المحل وقفت لاهثة ألتقط أنفاسي وأستجمع شجاعتي. شعرت أنني مُقْدِمَة على عمل غريب لن يقبله أحد. دفعني إصرار قوي للدخول. أغادر المحل محتضنة كنزي الثمين. اشتريت حقيبة جلدية أخفي فيها الفستان.
بارتباك ألقيت التحية على أمي. سألتني عن الحقيبة. وجدتني أخترع لها قصة عن زميلة تجري بعض الإصلاحات في منزلها، وهناك أشياء تحرص عليها، ورجتني الاحتفاظ بها حتى تنتهي الإصلاحات. تعجبت من قدرتي على الكذب. وضعت الحقيبة في الدولاب وأغلقت بابه بالمفتاح.
في المطبخ قبلت أمي، ووقفت أعاونها في تجهيز الطعام. تجاهلت نظراتها المرتابة. لا أريد إفساد سعادتي بأي حوار أو تعليق. لاذت بالصمت مكرهه. قدرت عزوفي عن الكلام. تناولت الغداء في عجلة. صنعت فنجان من القهوة ودخلت حجرتي تشيعني دعوة أمي المعتادة أن تطمئن علي كما اطمأنت على أختي.
وضعت فنجان القهوة، وجلست أقلب في صفحات كتاب. أنصت لحركة أمي في الصالة. أنتظر لحظة دخولها حجرتها بفارغ صبر. تتنقل عيناي بين الدولاب وباب الغرفة المغلقين. أضع الكتاب جانباً. أنهض. أخطو بضع خطوات. أقترب من باب الغرفة. أتسمع الحركة في الخارج. ينعشني صوت إغلاق باب حجرة أمي. أعود لمقعدي. عيناي مثبتتان على الدولاب ودقات قلبي تتسارع. أواصل الانتظار. أتذكر فنجان القهوة. أرتشف منه رشفة صغيرة. فقد حرارته فلم أستسغه. أعدته إلى المنضدة. أعياني الانتظار. أحسسته دهراً. على أطراف أصابعي تقدمت من الدولاب. بهدوء أخرجت الحقيبة. بيد مرتجف فتحتها. أكتم أنفاسي كي لا تسمع أمي دقات قلبي. أخرجت الفستان. بسطه على السرير. وقفت أتأمله. كلما أمعنت النظر إليه صار أجمل. تحسسته بأطراف أصابعي. ملمسه الناعم أنعشني. مررت براحة يدي عليه نشوى. جلست على الأرض بجانب السرير. وضعت خدي على الفستان أتلمس نعومته. وقفت. بدأت خلع ملابسي في هدوء. تذكرت باب الغرفة. انتابتني رعشة. ذهبت إلي الباب وأغلقته بالمفتاح. أحمل الفستان. أضمه إلى صدري. أتحسسه بخدي. تدغدغني حبات اللؤلؤ. أبتسم في سعادة. أنصت لحركة وهمية في الخارج. لا أحد. أستكمل خلع ملابسي. أرتدي الفستان بحرص. أتأمله مبهورة الأنفاس. أقف إلى المرآة. أكذّبها. هل الواقفة داخل المرآة أنا؟ أفك شعري المعقوص. تتهدل خصلاته على ظهري العاري. أجذب بعض الخصلات لتتدلى على صدري. ألتفت يمنة ويسرة أعاين الجانبين. أدور مولية ظهري للمرآة ملقية بنظرة إلى الخلف. أكتم صرخة فرح في صدري. ألف حول نفسي. أضحك وأضحك.. أدور وأدور. يطير ذيل الفستان محلقاً حولي. أتحرك في أنحاء الغرفة مفتونة. أسرع في الدوران. أسرع أكثر وأكثر.. بكل طاقتي. يحف ذيل الفستان بمحتويات الحجرة. ينطلق فنجان القهوة رافضاً. أقف مذهولة أحدق في البقع البنية تقتل فرحتي.