يقدم الناقد والروائي السوري نبيل سليمان هنا قراءته لأحدث روايات الكاتب السوري خليل صويلح ويقيم فيها تجربته في إدماج بعض استراتيجيات الرواية الرقمية في نصه الجديد.

(دع عنك لومي) ورواية العالم الافتراضي

نبيل سليمان

بعد روايتيه "وراق الحب" و"بريد عاجل" يواصل خليل صويلح في روايته الجديدة "دعْ عنك لومي" (دار الآداب، بيروت 2006) تصوير انكسارات الروح وانهيار القيم، ويذهب أبعد في تشييء الجسد والاحتفاء به في آن واحد. ويبدو كل ذلك هتكاً للتواطؤات الثقافية والأخلاقية في المجتمع السوري خلال سنواته القليلة الفائتة، حيث يتطابق الزمن الروائي مع زمن الكتابة. وقد جاء هذا الهتك صريحاًً وصارخاًً في مواقع محدودة من الرواية، كما في سؤال أنيس عزيز لفريق (شلّة) الثعالب عما، إذا كانوا قرأوا ما كتبه برهان غليون في موقع الرأي على شبكة الإنترنيت، ليتوالى الكلام في قانون الطوارئ، واعتقال بعض ناشطي المجتمع المدني وفساد المديرين العامين ... فضلاً عن احتلال العراق. ومثل ذلك هي الإلماحة إلى الريبورتاج عن الاعتصام أمام القصر العدلي في دمشق. ومثل ذلك أيضاً هي السخرية من المعارضة عبر مدونة ماهر غزال في أحد مواقع الإنترنيت المجانية، حيث يشارك الرجل في التوقيع على بيانات تدعو إلى حقوق الإنسان، وفضح ممارسات السلطة في قمع حرية التعبير، وإلغاء حالة الطوارئ والديكتاتورية العسكرية، في ظل "عالم افتراضي" مفتوح لم تطله أيدي الرقابة الإعلامية بعد. على أن الرواية غالباً ما تستبطن مثل هذا الهتك العام فيما تهتك من سير وأفعال شخصياتها، وبخاصة الرئيس منها ممن يشكلون فريق الثعالب، ولهم ركن دائم في حانة الكهف.

تبدأ الرواية بما يستعيده عماد معصراني تحت عنوان "فكاهة متخيلة" من لقائه في القاهرة بالممثلة الهاوية حنان متولي. وسوف ينقل السارد رواية أخرى لعماد عن ذلك اللقاء. كما سيعلن السارد منذ البداية عن ولع فريق الثعالب وسواه بتبادل الشتائم في قواميسهم السورية والعراقية والفرنسية، والتي ستضاف إلى ما يتصل بالجسد والعلاقات الجنسية وسواهما، كأن الرواية تمارس لعبة العري اللغوي أيضاًًً. من بار في النهار إلى حانة في الكهف أو سواها في الليل، يقضي فريق الثعالب الوقت، فيسلق كلٌّ صاحبه بالسوقي واللص والسافل والنكرة والشرير و... ولا يوفر الفريق أحداً من ذلك، كما لا يحمي أحداً غيابه من ذلك. ولا يبدو هؤلاء المثقفون إلا مخمورين ومفلسين ومتفيهقين ونمامين وانتهازيين، لا يردع واحدهم رادع عن الكذب أو السرقة أو الاحتيال. وقد التحق الراوي بهذا الفريق آخذاً بنصيحة إيكو، ليتخلص من الضجر التاريخي بتجريب حياة مختلفة!

في عيني الراوي يظهر عماد معصراني ثمرة معطوبة. ويظهر أنس عزيز ـ الذي كان يعمل سائقاً في السفارة الأميركية ـ رجل التحولات بامتياز، ومثله الشاعر سمير شكري الذي لا يستقر على حال. أما ماهر غزال الذي يلتحق بالشلة فهو رجل الزئبق الانتحاري المقامر. وسوف يتعاور أولاء والراوي وسواهم من شخصيات الرواية على ما يمكن تصنيفه في صنفين، واحد يتعلق بالسرد، والآخر بالصورة. وعبر ذلك يتفاقم في رواية "دع عنك لومي" ما كان في روايتي الكاتب السابقتين من عرض واستعراض ثقافي، فتتلاطم أسماء الكتب والكتّاب والمتناصات على ألسنة الشخصيات والسارد والراوي، غير أن السخرية التي وسمت الرواية بعامة، تخفف من وطأة ذلك عليها.

فهذا أنس عزيز الذي يعيش اللحظة الفلسفية، ولا تنقذه. الجمل المستلة من هابرماس وإيكو وفوكو، يردد أننا نعيش اللحظة الفلسفية، ويرى الحياة سلسلة من نوبات الجنون. وهذا المصاب بـ (خصاء وجودي) ويرصف في مخيلته صور الممثلات، يهرّب في لغته جملاً غرائبية تتعلق بالعنف المشهدي، والفرضية المطلقة للصيرورة، والفرضية العليا للتاريخ... وأنس عزيز وماهر غزال يتساجلان في اندحار السرديات الكبرى في نص ما بعد الحداثة، وتحطيم البنى التقليدية للسرد. ومنذ البداية يبدو السارد ناقداً حداثياً يبذّ صنوه في روايتي صويلح السابقتين، كما تبدو (دع عنك لومي) في أكثر من موضع حلبة للمنافسة في النقد والفلسفة الحداثيين - وما بعد - بين السارد والراوي وأغلب الشخصيات الأخرى. في هذه الحلبة الروائية الثقافية، ليس الضحية فقط خروفاً كويتياً يسرقه عماد، وليس الضحية الدكتور حسني حمام الذي تأتي قصته في الوحدة السردية (14)، ولا مغسل الموتى أبو ليلى الذي تسبق قصته في الوحدة السردية (6).. بل الضحية، أولاً وأخيراً، هي المرأة. فمنى جابر المصابة بإيدز تاريخي هي نص متعدد، وجارتها الفرنسية التي يهيئ سمير شكري للإيقاع بها، هي نص مذهل. وثمة دائماً (نص مؤجل) أو نص مستهلك أو نصوص محتملة في الأجساد المكشوفة أو الباذخة أو العولمية التي ليست غير طرائد مؤجلة ـ عنوان الوحدة السردية (13) ـ يمهد للظفر بأحدها قصف تمهيدي ـ عنوان الوحدة السردية (11) ـ والتكئة هنا هي على كتاب "الاستشراق جنسياًًً" للتركي جميل إيرفن شك!

على هذا النحو تتلاطم في الرواية سرديات النص المتفرع، ولكن بلا رواية رقمية، ويحدو لذلك عالم الكمبيوتر جاردن لاينر الذي صاغ مصطلح الواقع الافتراضي ـ ولكن من خلف ستار ـ ويشتبك في الحداء تخليق الهويات الجديدة في ثقافة ما بعد الحداثة، بانتمائها إلى واقع أعلى (فائق) يتجاوز الواقع ولا يعيد إليه، ومن حيث هي صور بلا أصل، أو صور محاكية للصورة. كما تشتبك في هذا الحداء فلسفة الإغواء ـ بورديار ـ بتحدي العالم وتحويل الواقع. وبما أن الشخصيات الرئيسة تتوزع بين كاتب وفنان، فقد كان للنشر الإلكتروني - من بين علامات عصر الصورة - شأوه في الرواية. ففي الوحدة السردية (16) يحدث أنس المرأة عن "ربيع دمشق" الذي تحول إلى رماد وعن حياتنا التي صارت "مزاداً علنياً بالموت. صور تمحو أخرى قبل أن تكتمل". وبعد أن يجلجل أنس بالصورة التي تعوض عن خواء المكتوب، يدعو المرأة إلى ما تتدفق به الشاشات من صور تبيح في شكل ما العنف وتحوله إلى سلعة للفرجة: "إنها حالة من الغواية المستترة بخطاب استهلاكي". أما منى جابر فقد نشرت نصاً جديداً في موقع إلكتروني بعدما رفضته أكثر من صحيفة تحت بند خدش الحياء العام. كما أثارت قصتها "ملاءة بيضاء" أصداء صاخبة في منتديات الشبكة العنكبوتية، للسبب نفسه. لقد خرجت منى جابر من شرنقة العزلة إلى فسحة عالم افتراضي فسيح لا يطالبها ببلاغة في صياغة نصوصها، ولا يحاسبها على ركاكتها اللغوية. كما اكتشف سمير شكري على الإنترنيت نصوصاً أهم وأكثر حرية وخيالاً "لأن كتابها لا يفكرون بمسطرة الرقابة ومخافر الشرطة الفكرية التي تقبع في رؤوس الآخرين. وفي الوحدتين السرديتين 19 ـ 20 اللتين يتولاهما الراوي، يتحدث عن موقع ماهر غزال على الإنترنيت ويصفه بالعلماني المتطرف والإرهابي المؤجل ومخترع السيرة الذاتية المتجددة المليئة بالثغرات والعطب. كما يحدث الراوي عن ظفر ماهر بالشيخ سالم (الكبش الحقيقي) الذي أعلن أنه ينوي إصدار مجلة "الصهيل" الإلكترونية، لاستعادة القيم الأصلية للأجداد، فطوى فريق الثعالب صفحة ما بعد الحداثة، وفتحوا صفحة الأصالة، واخترعوا لهم أنساباً قبلية، تزلفاً للشيخ سالم وطمعاً بجيوبه، شأنهم عندما التفوا حول الدكتور في الأدب الجاهلي حسني حمام الذي يكتب رسائل الدكتوراه بالأجرة، فضحى فريق الثعالب بالثقافة البصرية لمصلحة الجرجاني والمعلقات. حتى إذا توقف جود هذا الحاتمي عليهم بسفره، عادوا إلى ملعب ما بعد الحداثة!

لقد بنى خليل صويلح روايته الجديدة في خمس وعشرين وحدة سردية معنونة، ينهض أغلبها كقصة قصيرة مستقلة عن غيرها ومشتبكة معه في آن، بأقدار متفاوتة، مما يذكّر بصنيع زكريا تامر للتوّ في قصته الطويلة أو روايته القصيرة "القنفذ". وقد توزعت تلك الوحدات ـ القصص على ما رواه في البداية عماد معصراني في وحدتين تتوسطهما وتتلوهما وحدتان يرويهما السارد بضمير الغائب. ثم تولى الراوي بضمير المتكلم، وبلا اسم، سرد الوحدة الخامسة، واختفى مفسحاً للسارد حتى الوحدة السردية (12)، ليعود متسللاً في بعض الوحدات إلى أن يستأثر بالسرد في الوحدات الخمس الأخيرة. وبهذا النصيب الذي كان للراوي، تلوّح الرواية للسيرة حتى بدا الراوي في الوحدتين السرديتين الأخيرتين كأنما أدار ظهره لكل ما سبق، وأقبل في بداية جديدة يشرح أن حانة الكهف مجاز لكهف ثانٍ وثالث هو البلاد الذاهبة إلى حتفها، وينشئ حكاية افتراضية مع ممرضة، ثم يعود إلى صديقته القديمة الفنانة المطلقة عبلة، لكأن الراوي قد نسي الرواية فجاءت خاتمتها منبتة عنها. ولئن كان ذلك يعزز نفور البناء الروائي من الوحدة النصية، ويوهم بالتفكك، فقد سبق لهذا البناء قبل خاتمته المنفلشة أن بدد ذلك الوهم بالأطر الزمانية والمكانية، وبما غلب عليه من نظام التداخل بين الوحدات السردية، من دون أن يغيب عنه نظام التتابع، ولينهض البناء أخيراً، وعلى رغم عرج الخاتمة، متلبساً بالواقع الافتراضي ـ بالأحرى الواقع الخلّبي كما تؤثر فريال مهنا أن تقول ـ الذي يبحث عن رواية افتراضية، بينما تصخب الرواية الورقية "دع عنك لومي" بالسخرية من مثقفيها وهتك وضاعتهم وهامشيتهم وصخبهم بأوهام ما بعد الحداثة، فحُقَّ فيهم ما صبّه تيري إيجلتون على تلك الأوهام التي تضاعف أعباء المثقف المقموع والمجتمع المقموع.