يقدّم الناقد الأردني قراءة دالة للمشهدية السينمائيّة وخصائصها المميزة من خلال ثلاثة أفلام عرضت مؤخرا في مهرجان ترابيكا الدوحة: "خارج عن القانون" لرشيد بوشارب، و"دموع غزة" لفيبكي لوكبرغ، و"نسخة طبق الأصل" للمخرج الإيراني عباس كياروستامي.

ثلاثة أفلام من مهرجان ترايبكا الدوحة السينمائي 2010

رامي أبوشهاب

تمتلك الأفلام التي سنأتي على عرضها عدداً من الملامح المشتركة، على الرّغم من الاختلافات التي تظهر للوهلة الأولى من حيث التصنيف والجغرافيا والموضوع، وحتى التناول، إلا أن هذه الأفلام تستقي من مقولة الانحياز للحياة هدفها الأساسي، فهي تتخذ من الإنسان البسيط والعادي، ورغبته في الحياة بنمطها البسيط واليومي والمألوف، مركزاً لها، وتهدف إلى تحليل عوامل هذا التقويض، ومنها ما ينتج بفعل عوامل خارجية، كالاحتلال والاستعمار والتهجير، ومنها ما هو داخلي، ومنه الحب حين يكون غير حقيقي، لاسيما حين يستغرق جزءا من حياتنا، لنكتشف بعد ذلك أن روحنا تمتلئ بالخواء، ولعل الأفلام الثلاثة التي نحدد بصدد الحديث عنها، ترتبط بطريقة أو بأخرى بالشرق أو الجنوب، فهنالك فيلمان يتحدثان عن تجربتي الاستعمار والعنف والحرب، قديماً وحديثاً، كما في فيلم رشيد بوشارب "خارج عن القانون"، الذي يتناول النضال الجزائري ضد الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين، و فيلم المخرجة النرويجية فيبكي لوكبرغ بعنوان "دموع غزة"، والذي يتناول الحرب الأخيرة على غزة من منظور وثائقي، وأخيراً فيلم المخرج الإيراني عباس كياروستامي بعنوان "نسخة طبق الأصل"، وهو فيلم روائي يتناول قصة حب بين رجل وامرأة وحساسية العلاقة بينهما. بقي أن نشير أن هذه الأفلام، قد تم عرضها مؤخراً في مهرجان ترايبكا الدوحة السينمائي 2010.

خارج عن القانون

من الملاحظ أن المخرج الجزائري رشيد بوشارب، يرفض إلا أن يكون إشكالياً، هذا الشغب الثقافي السينمائي تجسد عبر فيلمه  الموسوم بـ خارج عن القانون Outside the Law، والذي عُرض في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية،. وكما يبدو فإن الفيلم يمتلك حساً تشاكسياً ابتداء من عتبته الأولى، ونعني عنوان الفيلم ، فهذا العنوان يحيل إلى دلالات متعددة ومتباينة ومنفتحة على قراءات تحمل كثيراً من التوجهات غير البريئة،وتحديداً على صعيد الخطاب الموجه، فالقانون الذي يفترض به أن يكون درع الحماية والملاذ والفيصل لمساندة الحق على الباطل، يبدو في هذا الفيلم في وضع تطرفي إشكالي ومتناقض، فالاستعمار الذي تمرس في المكان والفضاء الزمني لشعوب متعددة في العالم، جاء باسم القانون، وجاء ليحل قانونه الخاص المشوّه، وبات كل من يقاوم هذا التوجه خارجاً عن القانون، وبهذا فإنه معرض للمحاكمة، وبناء على ذلك ينفتح الفيلم على مشهد يحمل من التكثيف الرمزي، والاختزالية العميقة لمقولة الفيلم الأيدلوجية منذ بدايته، ليبدأ فيما بعد تصاعد الأحداث على صعيد الحبكة، فالهدوء الذي تشي به الأرض والوادعة والسلام يتبددان عبر انعكاس واقع عائلة جزائرية تعمل في أرضها، كل ما سبق يتبدد بحضور القانون المُجسد بسلطة الحكم الاستعماري الفرنسي، الذي يصادر أرض هذه العائلة الجزائرية باسم القانون، وهكذا تتسع دائرة الأحداث متخذة من هذه العائلة مركزاً لها، حيث يقتل عدد من أفرداها في مذابح سنة 1945م لاسيما في مدينة اسطيف بعد أن انتقلت العائلة إليها بعد مصادرة الأرض.

في هذه المرحلة من الفيلم نشاهد توظيفاً لتقنية القفزات الزمنية والمكانية التي يستخدمها بوشارب، إذ يعمق المخرج رشيد بوشارب عمق الجريمة الاستعمارية، ومفردة العنف المهيمن في خطابه وممارسته على حد سواء، تمهيداً فيما بعد لتبرير الفعل الانتقامي لأفراد العائلة وهذا يبدو كردة فعل متحصل من جراء الأثر المتولد والعميق والعنيف لقسوة الاستعمار، حيث نرى صفوف الجثث الملقاة على الأرصفة، وفعل الإعدام والتنكيل، وكثافة الحضور الإجرامي لليد الاستعمارية، والتي نراها ماثلة بوضوح في هذا المذابح، التي صاغها بوشارب بأدوات إخراجية لا يعوزها الاحترافية العالية، وتفارق تماماً التقديم الساذج الذي يميز السينما العربية لاسيما مفردة الإثارة، التي تعوز مشاهد المعارك والقتال التي تحفل بها الأفلام العربية ذات الترهل الواضح في هذا السياق. ولكن هذا القالب الذي ارتضاه بوشارب، دمغ فيلمه بقالب وبصمة أفلام الإثارة والحركة، لاسيما عبر شخصيات الفيلم وأفعالها، ونعني الأخوة الذكور الذين تبقوا من العائلة، بالإضافة إلى الأم، فبعد أن استشهد الأب والأخوات البنات في مذبحة اسطيف، تترسخ مشاهد القتل في أذهان من تبقى من العائلة، للتمهيد لاحقاً للفعل الانتقامي، ولتأكيد أيضاً بيان مواقع الآثار المترتبة على الفعل الاستعماري، وانعكاساته على الإنسان.

فالأخ الأكبر"مسعود"  يسافر إلى الهند الصينية محارباً في الجيش الفرنسي، بينما عبد القادر يسجن في فرنسا، وسعيد يسافر مع والدته إلى فرنسا الحاضرة الاستعمارية، ليقطن تحديداً في الضواحي، وفي بيوت من الصفيح تشكل في بعدها الدلالي هامشاً للمتروبوليتان الاستعماري الرأسمالي، ولعل قدرة بوشارب على التقاط مأسوية الواقع للمهاجرين الجزائريين من خلال استخدام الصورة القاتمة والرمادية والباردة وتوظيفها في سياق الفيلم يبدو ناجعاً وموفقاً جداً، فسعيد الأخ المنشق عن مثالية طوباوية ميزت الأخوين، يرفض الانسياق للعمل في مصنع رينو للسيارات كباقي العمال الجزائريين، وهنا نقرأ رفضاً لواقع الاستغلال الإمبريالي الاستعماري المتجسد برمز المصنع، ولهذا فإن شخصية سعيد تجترح مفهومها الخاص القائم على القوة والبحث عن الثراء السريع، والاستفادة من مفردات الحياة الغربية، فيقود عمله الخاص القائم على القوادة والنوادي الليلية والمراهنة بمباريات الملاكمة، في حين أن شخصية الأخ الثالث عبد القادر المسجون في فرنسا تضطلع بمهمة تجسيد أفكار المقاومة الصلبة، لاسيما بعد أن يتمرس وينمى ثقافياً في السجن، وفي مشهد مُحمل بالدلالات الهامة، نرى عبد القادر وقد شهد إعدام زميل له في السجن بالمقصلة، وباسم الجمهورية الفرنسية، ولعل البعد الرمزي لا يخفى على المشاهد في خلق مفارقة فكرية وتاريخية عبر هذا المشهد، ففرنسا الحرة التي قامت ثورتها الشهيرة ضد الطغيان والظلم، وحطمت سجن الباستيل، والتي استخدمت المقصلة للقصاص من أعداء الشعب، هي ذاتها من تقوم بإعدام الأحرار المناهضين بنفس الأداة، ولهذا نرى إصرار عبد القادر على نعت نفسه بـ "المناضل" في مواجهة أزمة الضمير التي تنتج من الدموية التي يتسم بها في إدارة المعركة والمقاومة على الأراضي الفرنسية.

في المسار الأفقي لأحداث الفيلم  يجتمع الأخوة الثلاثة في فرنسا، حيث نرى توجهات وانشقاقاً للمفاهيم بين الأخوة، عبد القادر يقوم بمهمة دعم الثورة ، أو جبهة التحرير مادياً ومعنوياً وفكرياً، وبإيمان عميق، ودون أي تنازع أو صراع أخلاقي لفعل القتل الذي يستوجبه النضال، في حين ينحاز له الأخ الأكبر مسعود، ولكن ضمن أزمة نفسية وصراع عميق للفعل الناتج عن القتل، في حين أن الأخ الثالث سعيد يرفض الانخراط بالفعل العملي للنضال، ولكن يقدم نصف أرباحه للجبهة والنضال، وفي أجواء كلاسيكية ثلاثينية مقتبسة من حياة رجال العصابات والمافيا، وبتأثر واضح بعدد من المخرجين لعل أبرزهم كوبولا في فيله الأشهر "الأب الروحي" أو "العراب" بالإضافة إلى تأثره بأفلام هذه الفئة من السينما الأميركية، نشاهد فيلم إثارة أكشن يتخذ من الملابس والأكسسوارت والرؤية الإخراجية في تلك الأفلام شكلاً جذاباً للمشاهد.

فمشاهد المعارك والصراع من قوى البوليس، والاستخبارات الفرنسية في باريس تبدو في أرقى درجات الاحترافية، التي تميز بها هذا العمل على يد المخرج بوشارب، والذي تمكن من خلق معادلة تجمع بين نقيضين، ونعني الفعل الاحترافي القائم على الشكل الجذاب لأفعال القتل والإثارة والمغامرة لشخصيات مرتهنة لواقعها وقضيتها العادلة، فالشخصيات في "خارج عن القانون" تحمل بداخلها غضباً وأيديولوجية صادقة تقوم على النضال والمقاومة للاستعمار، ولكن بمظهر رجال العصابات، إن كان على صعيد شكلي كالملابس كالبذلات والقبعات، والأسلحة، وأسلوب التدخين، أو حتى طريقة الحديث، والحركة، فهنالك مزيج غريب بين هذين المستويين، وكأن بوشارب يعمل على خلق مفردة سينمائية تعتمد التشويق والإثارة، ليكونا مجتمعين أداة مؤثرة في المتابعة والإعجاب والإبهار، ولكن دون التضحية بالرسالة الفكرية للفيلم، التي اتخذت قوتها من رؤية إخراجية ثورية، تقوم على المزج بين الحركة والقيم الإنسانية، مع التضحية كما يبدو بالتعمق في التشكيل الداخلي للشخصيات وفضائها، وحساسية الأداء للممثلين، باستثناء مسعود في بعض المواقف، فالواضح كما يبدو أن التكنيك السردي للفيلم، يخلو من مسارات التحول القائمة على توترات الحدث، فالفيلم يبدو موجهاً عبر حركتين أساسيتين، هما الجريمة وفعل الانتقام.

وضمن هذا المستوى الإجرائي المُهجن من رؤى سينمائية متعددة ، يمضي الفيلم في مقاربة توترات العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر على أكثر من صعيد، ومنه إبراز فعل بعض المواطنين الفرنسيين، وتعاطفهم مع الثورة الفرنسية، وحتى مشاركتهم عملياً، كما يبدو ذلك في شخصية هيلين الفتاة الفرنسية الشقراء الجميلة، وبعض أصدقائها الذين يقومون بمساعدة عبد القادر ومسعود في تحويل الأموال أو الإتاوات التي يضطلعون بتحصيلها لصالح جبهة التحرير، بالإضافة إلى إبراز الصراع بين الجبهة و حركة التحرير في التوجه لإدارة النضال ضد المستعمر، ومن ثم بيان أهمية نقل المعركة ضد الاستعمار إلى قلب فرنسا وباريس تحديداً، وهذا كان توجهاً ظاهراً لدى المناضلين الجزائريين كما يبدو من الفيلم، ولعل حواراً شديد الأهمية بين عبد القادر والضابط الفرنسي حول تبرير المقاومة عبر دعوة عبد القادر الضابط الفرنسي إلى القيام بعملية استبدالية لمفردتي فرنسا والجزائر، بمفردتي ألمانيا وفرنسا، وهنا إشارة إلى الاحتلال الألماني لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، ومشروعية المقاومة للمحتل أينما كان، وفي أي زمن.

وفي نقد مستمر للواقع الاستعماري المتواري بذكاء خلف أفعال المشاهدة والمطاردة والإثارة، أي الشكل الغربي الجذاب، نشاهد مشاهد لزيارة شارل ديغول للجزائر وفي استقباله عدد من المسؤولين الجزائريين، حيث أن هذا الاهتمام يأتي على خلفية اكتشاف وجود بئر نفط في الجزائر، وهكذا يبقى الخبث الاستعماري قائماً، والإدانة له واضحة من قبل رشيد بوشارب في قالب سينمائي خبيث ومخاتل كما هو الاستعمار ذاته. في النهاية، فإن هذا الفيلم، قد تسبب بموجة من الانتقادات من قبل اليمين الفرنسي المحافظ، حيث تم الاعتراض على عرض الفيلم في عدد من المهرجانات، لاسيما مهرجان كان حيث اتهم بتحريف التاريخ، ونكئ جراح الحرب، وإثارة مشاعر الكراهية والانتقام، ومع ذلك يبقى الفيلم - على الرغم من الأصداء والانتقادات التي تسبب بها - علامة سينمائية تضاف إلى تاريخ المخرج رشيد بوشارب، الذي وظف عددا من التقنيات والمستويات المتباينة، إذ اعتمد على الشكل الاحترافي لموجة سينمائية أو اتجاه سينمائي ساد في السينما العالمية، ونعني أفلام العصابات والمافيا، كما أسسه عدد من المخرجين العالميين.

ولكن هذا الشكل الفني الجذاب كان يضطلع بمهمة أخرى تقوم على تعرية مفردات الخطاب الاستعماري، والكشف عن تناقضاته وتمظهراته، علاوة على وضع مفهوم النضال والحق بالمقاومة في موقعه الصحيح، على الرغم من كل المحاولات التي باتت تتخذ من مفاهيم الحوار والمهادنة إستراتيجية لاسترجاع الحق المستلب، ولهذا كان اسم الثائر الفيتنامي هوشي منه حاضراً في سيناريو الفيلم، دلالة على شرعية المقاومة لكل شعب محتل، فالنضال والمقاومة ليست فعلاً خارجاً عن القانون، والمناضل ليس شخصاً خارجاً على القانون، لاسيما حين يكون القانون من منظور المستعمِر، وهذا يعني بالضرورة رفضاً لتصورات ومقولات من يصوغ الآخر انطلاقاً من تصوراته الخاصة، ولهذا تبدو كلمات عبد القادر وإصراره على أنه مناضل وليس مجرماً، تتردد في أصداء القاعة المعتمة، بعد أن يسدل الستار على وقائع الفيلم، بمشهد عبد القادر وقد تحول إلى جثة هامدة ملطخة بالدماء، لا باعتباره خارجاً عن القانون، إنما باعتباره بطلاً منتصراً كما جاء على لسان الضابط الفرنسي.

دموع غزة

ومن ضمن الأفلام الوثائقية التي عرضت في مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي الفيلم النرويجي "دموع غزة"Tears of Gaza  الذي تبلغ مدته (83) دقيقة، إذ تقدم لنا المخرجة النرويجية فيبكي لوكبرغ فيلماً وثائقياً شديد الواقعية، حيث يتخذ الفيلم من الحرب الأخيرة على غزة موضوعه ضمن عدد من المستويات على صعيد التقديم، إذ تعرض المخرجة عبر ثلاثة أطفال من غزة آثار الحرب وانعكاساتها على الإنسان الفلسطيني، لاسيما الأطفال والنساء، ولكن هذه الانعكاسات يقدم لها عبر إستراتيجية إخراجية تقوم على إبراز فداحة الحرب ومأساويتها، على الطفل إنسانياً، وضمن رؤية تتخذ من القراءة النفسية منطلقاً لها.

تستفيد المخرجة من الأرشيف الإخباري للحرب على غزة عام 2008/2009، ولعل هذا الأرشيف الإخباري، وإن كان يتسم بالتذبذب من خلال عملية التقديم والتوظيف خاصة في إبراز مأساوية الحرب على غزة عبر مشاهد الجثث والأشلاء، التي تقدم لها المخرجة، ولكنها لا تتخذها مركزاً لها، فعلى الرغم من بعض المشاهد المؤثرة، إلا أن هنالك الكثير مما يمكن أن يوظف، ضمن هذا السياق، وعلى ما يبدو فإن المخرجة كانت تضع في اعتبارها المشاهد الغربي كمتلقٍ، وليس المشاهد العربي، الذي كان ينتظر أبعاداً أكثر عمقاً، وخطاباً أكثر توجيها، لاسيما أنه قد شهد الحرب، وتابعها عبر نشرات الأخبار بصورها ودمويتها، ومع ذلك، فإن هذه المشاهد استطاعت أن تحدث تأثيراً قوياً لاسيما لدى المشاهد الغربي، الذي حيّدت له هذه المشاهد عبر وسائل الإعلام الغربية، التي لم تعرض لها كما ينبغي، ومع ذلك فإن الفيلم يشكل حالة صدمة، ووثيقة حقيقة على دموية الحرب والجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني في غزة.

الفيلم لم يخرج عن كلاسيكية شكل الفيلم الوثائقي بنكهة واقعية مؤثرة، حيث تتحرك الكاميرا في شوارع غزة ، متتبعة الحياة اليومية، وتفاصيلها التي تتعلق بآمال لا تخرج عن تحقيق حياة طبيعية جداً، في حين يبقى الأطفال الثلاثة محور الفيلم، من خلال تتبع ما تقوض من عوالمهم داخلياً وخارجياً جراء الحرب، لاسيما الأثر النفسي الداخلي الذي تعنى به المخرجة، كما يعاينه المشاهد في قراءة واقع الحرب على شخصيات الأطفال الثلاثة، بينما نرى أثر تلك الحرب مضاعفاً وقاسياً على الشخصية الثالثة، وهي فتاة غزّية، وتتضح معالم الشرخ في عالمها الهش، حين نعاين الأثر الجسدي والنفسي الذي تسببت به الحرب، إذ تضررت ساق الفتاة، بالإضافة إلى فقدها لوالدها، ففي مشهد عميق تسرد تلك الفتاة شهادتها وقصتها، حين تم قصف منزلها، وخروجها من المنزل لتجد والدها مصاباً، حيث تمكث قربه ولكنها ما تلبث أن تصاب لتفقد الوعي، وتقضي ليلة كاملة بالقرب من والدها الذي تحول إلى جثة.

إن ما تعنى به المخرجة- تحديداً - في فيلمها، هو مقاربة عالم الطفل، الذي يتقوض عالمه فجأة من جراء الحرب، فكما يسرد لنا أحد الأطفال الثلاثة، كيف كان عالمه قبل الحرب، حين كان والده يصحبهم إلى شاطئ غزة، ولكن الآن لم يعد هنالك من والد، أو حتى منزل، كل شيء تقوض بفعل آلة الحرب الإسرائيلية. هذا النسق يتخذ من فعل الشهادة التي تتحقق يتم عبر سرد طفولي، مشحون بالانكسار والغضب والاختناق، وهذا مما يمكن أن نعده فعلاً إيجابياً في الفيلم، ومع ذلك يبقى الفيلم على الرغم من توفر هذه الإيجابية في الفيلم، إلا أنها تعتبر مأخذاً عليه في الوقت ذاته، إذ يبدو الفيلم أسير هدفه وعنوانه، ألا وهو تقديم مرثاة لمدينة غزة، وأهل غزة، وهذا يحمل- طبعاً - شكلاً من التعاطف الفاعل، عوضاً أيضاً عن كشف وتعرية الجرائم المرتكبة، بالإضافة إلى أن مخرجة الفيلم بدت في كثير من الأحيان حريصة على عدم تحقيق الاشتباك مع الخلفية السياسية أو الجغرافية أو التاريخية للصراع، وكانت حريصة كل الحرص على عدم التوجه إلى الطرف الآخر المعتدي، وإشراكه في الفيلم، أو حتى محاورته حول تحمل مسؤوليته، فقد آثرت المخرجة أن تبدو متمركزة خلف الكاميرا، لتدعها تقول وتلخص وحشية الكيان الصهيوني، ومن هنا نرى المخرجة في كثير من الأحيان تعمل على خلق تقابلات وطباقات بين وداعة الأطفال، ومسالمة الأهالي وفقدانهم لأي أداة للدفاع، ومألوفية عالمهم وبساطته، وهو ما يعادل العادي لكل كائن على هذه الأرض، نرى المخرجة في المقابل تنتقل بلقطات سريعة بين هذه الحالة البشرية المألوفة للإنسان في منزله وبيته، وبين الدبابات المدججة والجنود المحملين بالسلاح، والطائرات التي تمطر السماء والأرض بقنابل الفسفور الأبيض، ويبدو أن المخرجة أرادت أن توصل رسالتها إلى العالم الغربي، هادفة إلى تعميق هذه البشاعة، لاسيما حين تنقل بؤرة الرؤية الإخراجية إلى مدرسة وكالة الغوث، حيث احتمت بعض الأسر الفلسطينية، إلا أن القوات الإسرائيلية قامت بقصف هذه المدرسة.

الفيلم لا يقوم على توظيف مشاهد القتل والتدمير والبربرية الصهيونية، إلا بمقدار أن تؤدي هذه المشاهد دوراً وظيفياً في أثر هذا الفعل على تقويض عالم الطفل البريء والإنسان المحايد، ولهذا تكثر المخرجة من لحظات التأمل التي يمارسها الأطفال الثلاثة، والتي تبدو في بعض جوانبها من أكثر المشاهد توفيقاً، حيث نتلمس العوالم السحيقة للطفل، الذي تهشم جزء داخلي منه، ولم يعد هنالك من شيء يسمح له بترميمه، ولهذا تستحضر المخرجة شاطئ غزة، الذي يبدو حاضراً كشخصية أخرى، لمفردات الغياب والتلاشي والضياع والأمل والأمان، فهو تجسدي لحالة تحمل كثيراً من التناقض، وكم تبدو مشاهد الأطفال الثلاثة، وهم يتجهون نحو البحر والتطلع إلى ما وراء الأفق، مؤثرة ومعبرة فهم قد أداروا ظهورهم إلى العدسة، ومن خلفها عالم أدار لهم ظهره هو أيضاً، حيث يبدو ذلك  شبيهاً جداً بأيقونة الرسام الفلسطيني العالمي ناجي العالي، ونعني حنظلة، وقد امتلأ هؤلاء الأطفال بالآلام والأشواك، بيد أن القدرة على البدء من جديد تبدو صعبة، إلا أن المخرجة تعول عليها كثيراً، عبر الإبقاء على ابتسامات الأطفال المغتصبة، والحالمة بأمل جديد.

نسخة طبق الأصل

وفي الفيلم الثالث وهو ينتمي لسينما المخرج عباس كياروستامي، ويتميز بتشكيل مختلف مكنه خلال العقدين المنصرمين من تأسيس سينما إيرانية، لا يمكن تجاوز جمالياتها في المشهد السينمائي العالمي، وذلك عبر عدد من أفلامه، التي تقدم رؤية جديدة في الطرح السينمائي. إذ يتخذ هذا المخرج من الفضاءات المتجاورة فلسفة له. أفلام المخرج الإيراني عباس كياروستامي تقوم على المزج بين الكاميرا واللغة والصمت، ومخالفة المألوف عبر طرح متناسى ومسكوت عنه، فالفيلم بالنسبة لعباس كياروستامي؛ نص أدبي قابل لأن يحتمل مقولة بلاغية أو شعرية، تتجسد عبر العدسة التي يتقن كياروستامي إدارتها، كما يتقن قيادة العملية برمتها، بما تحتمله من نص وممثلين وفريق عمل، وغير ذلك.

من الجدير بالذكر أن عباس كياروستامي قد ارتبط بفيلمه الشهير "طعم الكرز"، والذي تحصّل على جائزة مهرجان كان لعام 1997، حيث أسس هذا الفيلم لانطلاقة جديدة لصاحبه في عالم السينما، لتتوالى بعد ذلك أفلامه الهامة، ومنها على سبيل المثال: "سوف تحملنا الرياح"، و"عشرة"، و"إي بي سي أفريقيا"، و"شيرين"، وغيرها من الأفلام، وأخيرا فيلمه الأخير "نسخة طبق الأصل" 2010 Certified Copy، حيث صرح كياروستامي إلى أن هذا الفيلم، يعد أسهل أفلامه من حيث الإخراج، ويعود ذلك إلى توفر فريق من المحترفين من ممثلين وتقنيين، بالإضافة إلى توفر الحرية لكل ما يريد أن يقوله، علاوة على أن "نسخة طبق الأصل"، يعد أول أفلامه خارج إيران.

لا بد لنا من الإشارة إلى أنه قد تم عرض "نسخة طبق الأصل" في عدد من المهرجانات، ومنها مهرجان بلد الوليد، وقد حصل على جائزة السنبلة الذهبية، بالإضافة إلى مهرجان كان، وقد حصلت الممثلة الفرنسية فيه جولييت بينوش على جائزة أفضل ممثلة عن دورها، وقد شاركها البطولة في هذا الفيلم مغني الأوبرا وليم شيمل في تجربة أولى له. في هذا الفيلم يعمل المخرج عبر نص خطّه كياروستامي في معالجة حبكة وقصة، تبدو كلاسيكية ومطروقة، عبر عدد من الأعمال الفنية، حيث تذهب إلى البحث في العلاقة بين الرجل والمرأة، وحالة افتراضية من الحب الذي يجمعهما، ولكن الحب هنا يتخذ شكل توتر حواري بين رؤى متعددة بين فرضيتين، هما الأصل والنسخة، وهكذا تتبدى عملية الإسقاط لحالة خارجية، إذ أن يبدو الفيلم ضمن بعدين، البعد الأول يتجسد بحضور مؤلف إنجليزي إلى بلدة توسكانا الإيطالية، لعرض كتابه، وفكرته التي تتمحور حول الأعمال الفنية، وتحديداً النسخ المنقولة عن الأصل، فهي من وجهة نظره، ربما لا تقل جودة وأهمية عن النسخة الأصل، وضمن هذا التوجه تتداخل العلاقة بين الرجل والمرأة، حين تعرض عليه بطلة الفيلم، والتي تؤدي دور مديرة دار عرض للتحف الأثرية رحلة بالسيارة في أرجاء مدينة توسكانا الخلابة، مما يسمح بحوار عميق ومتوتر بين الشخصيتين، يتناول رحلة الحب والزواج والحياة، وهكذا تتبدى الرؤية المنبثقة والمضمرة والمعلنة للبطلة، التي ترى شخصية المؤلف نسخة عن علاقة سابقة، أي نسخة عن زوجها السابق، وهنا تتحول المعادلة إلى علاقة استبدالية بين الأصل والنسخة، وفي هذا الحالة يتفوق الظاهر، أي ظاهر العلاقة على العلاقة الأصلية، كما قال أحد المعلقين في صحيفة الغارديان.

هذا الفيلم مثقل بالأفكار حول الحب والإنسان، وتوترات ما ينتج عنهما، وعلى ما يبدو فإن تلك الحوارات، التي تتخذ بعض موضعها في السيارة، هي تقنية أثيرة لدى المخرج، الذي اعتمد على هذا الأسلوب، في عدد من أفلامه السابقة، فالمخرج يستفيد من الفضاء الخاص والمغلق أولاً، كما في السيارة المعزولة بخلفية مؤثرة لمدينة جميلة، تؤدي فيها الطبيعة دوراً وظيفيا في إبراز المشاعر والأفكار، والتي تتجسد عبر حضور الشخصيات ضمن الأداء الحواري المعمق، وطبعاً ممزوجة بصمت مؤثر ناتج من حضور طبيعة، وهكذا يجمع كياروستامي بين هذين النقيضين في فيلمه، فهو يعول كثيراً على القيم التواصلية للإنسان، ولهذا نرى إشارة نقدية إلى حالة فقدان التواصل عبر مشهد الهاتف النقال، وكأن هنالك توجها إلى تعميق الكينونة الإنسانية المباشرة للحوار والتواصل، فأفكار عباس كياروستامي تنحاز إلى البحث عن حميمية الحياة، والاحتفاء بها عبر المتعة، والاستفادة من كل المعطيات المتوفرة ، لاسيما العفوية والتلقائية، كما هي الطبيعة، وعلى ما يبدو فإن عباس كياروستامي، يتمثل سينما جديدة، تقوم على السينما الشعرية بطرح حقيقي، لا نلامس فيه هشاشة الفكرة وتسطحها، إذ هذا النوع من التقديم ينساب إلى المشاهد ببساطة وعفوية.

بقي أن نشير إلى أن مشاركة الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، قد أضفى على الفيلم نجاحاً لافتاً، فهي تمتلك هذا المتطلب من الحساسية الفنية لأداء مثل هذه الأدوار، كما فعلت سابقاً في عدد من أفلامها، لعل أشهرهما "المريض الإنجليزي"، و"شوكولا". لقد استطاع كياروستامي توظيف هذا الأداء الاستثنائي لممثلة متميزة، كما استطاعت هي أيضاً أن تستفيد من شعرية سينما كياروستامي، وقدرتها على توظيف حضورها كما ينبغي، وعبر نص وإخراج يمتلك الكثير من أسس نجاحه، على الرغم من مألوفية القصة، واجترارها في عدد من الأعمال الفنية.