قصائد الشاعر الألماني فولكر براون

العالم السري لللامعنى

عبدالحق ميفراني

يعد الشاعر فولكر براون واحدا من أهم الشعراء الألمان، ولد في مدينة دريسدن سنة 1939. وينتمي الى الجيل الذي عانى من ويلات الحرب العالمية الثانية، مارس براون قبل متابعة دراسة الفلسفة في جامعة لايبرج مهنة عامل مطابع وميكانيكي وعامل بناء في إحدى التعاونيات. عمل من 1965حتى 1967 في مسرح بريخت الشهير (برلينير انسامبيل) كما عمل في مسرح برلين، وتعود أول أعماله الأدبية الى الستينات وتعكس حماسا كبيرا لبناء الاشتراكية، لكنه بدا منذ "ربيع براغ" أكثر نقدية لمسألة الحياة في ظل الاشتراكية الواقعية، مناديا بضرورة الإصلاح، الى أن غادر اتحاد كتاب ألمانيا الشرقية عام 1982. وبالرغم من ذلك تسلم براون الجائزة الوطنية لألمانيا الديمقراطية عام 1988. يعمل الشاعر فولكر براون خبيرا دراماتيكيا في فرقة برلين المسرحية وبالمسرح الألماني. من أعماله الشعرية تحد لذاتي (شعر)، ضد عالم التماثل (شعر)، مجتمع انتقالي (دراما)، متنزه بروسيا (شعر)، ماذا تريدون إذن؟ (مسرحية).

وقد ترجمت أعمال براون الى العديد من اللغات: الانجليزية، الفرنسية، واليابانية، والصينية، والبولندية، والعربية وغيرها ... حاز الشاعر براون الذي يعيش اليوم في برلين على عدة جوائز هامة منها جائزة شيللر(1992)، النقد الأدبي الألماني (1996)، ارفين شرتماتير (1998)، بوشنير (2000).

حرب على الأكواخ سلام على القصور:
قامت دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية بسوريا، بتقديم الشاعر فولكر براون، من خلال إصدار مختارات من قصائده من دواوينه الثلاثة (1)، وقد قام بترجمة القصائد الأستاذ مصطفى سليمان الأكاديمي المقيم في ألمانيا. والذي سبق أن قدم للقارئ العربي الشاعر منفريد بيتير هاين. أما ديوان "حرب على الأكواخ، سلام على القصور" صدر هذه السنة في طبعة أنيقة ومحدودة (1000) نسخة، بورق صقيل ، وإخراج فني أنيق وقد قدم هذه التجربة الشعرية الشاعر والناقد المغربي محمد بنيس، والذي سبق أن تلاقح مع تجربة الشاعر فولكر براون على قرب في المغرب، وحينها قرأ الشاعر محمد بنيس قصائد براون مترجمة الى العربية كما أشرف الشاعر محمد بنيس بمعية وحدة بناء الخطاب الشعري المغربي الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، على تنظيم لقاء شعراء مغاربة ألمان ، بموازاة الدورة الثالثة من الحوار العربي الألماني بعنوان الترجمة والتحديث الشعري ـ أيام 26،27 ماي 2005.

في تقديمه للديوان يؤكد الشاعر محمد بنيس أن "الحكمة من يكتب لغة الجسد"، إذ أن قصائد براون "تعيد كتابة النشيد بلغة الجسد، ذلك سر قصيدته وتلك حكمتها"، ولم يكن النداء في ثنايا قصائد براون إغراءا، بل "كان النشيد الذي يعيد كلمة الجسد الى مركز القصيدة". في تجربة الشاعر براون سموق "للنفس الملحمي"، وقصائده تنصت للعالم، ورؤيته "بحواس يقظة"، بل بحواس "لا تعبأ بالمتناقض"، فولكر براون شاعر تأخذنا قصائده الى أقصى طرف في "اقتفاء الحواس"، حواس يعتبرها الشاعر محمد بنيس "جسد مخصوص هو جسد فولكر براون" وهنا تكمن خصوصية الكتابة العابرة بين الأشكال الشعرية، لنتأمل هذه المتواليات الشعرية من قصائده:

كل خطوة، مافتئت أخطوها
تؤلمني (ص11).
.ص13 التخطي عصي مني يجعل صبري>.
نحن بلا هوية
لكن لدينا جرعة الموت (ص14)
سنة تلو سنة، يتلاشى القاع قليلا، وأحس بأني أحيا به أكثر عمقا (ص15).
نصوصي المكتوبة جميعها عادت طلاسم (ص25).
أما أنا فها هنا باق في الظل أتلظى (...) (ص43).
أنا لست على عجلة من أمري
أن أجد المكان والسر واحد
من كل الشعوب اللامفيدة (ص68)
الحلم الجديد من فن الحياة، أجمل من عالم تحكمه القوة (ص77)

حول الشعر وقصيدة براون:

قصائد "حرب على الأكواخ، سلام على القصور" تقدم أقانيم تجربة شعرية متميزة، لجغرافية جمالية ظلت سكنا بعيدا عن الثقافة العربية، اللهم، في بعض إشراقاتها، المتوجة في المتخيل الأدبي العربي، الشاعر فولكر براون مسكون بهواجس عالمه المتشظي، والمركب، وفي الديوان عبور لمسارات شعرية تمتد من الخمسينات الى مطلع القرن الحالي. وفي القصائد غور عميق في الكينونة وفي المدى الأنطولوجي، بما هو تحسس لسكن الجسد وحقيقته، يشير براون الى أن القصيدة "بشكلها الحسي التي تجذبنا إليها ولا تطلق سراحنا، ولكنها تأخذ برؤيتنا الى خارجها تمر بنا عبر ذاتها الى خلفية النص الى اللقطة الحقيقية التي وقعت بها الويلات الفظيعة، التعذيب، القتل"(ص94). يتجه الشاعر براون بالشعر الى حديقته السرية، حيث العالم استعارة مركبة، لا تحدد ملامح عوالمها، الشعر نفي وهدم، وتشكل لعالمي براون المركب، عالم سقوط اليقينيات، حيث تمسي الحقيقة، عبور الى اللاحقيقة. حيث المنتهى واللانهائي، ومن ثمة يتصالح الشاعر مع عمق متخيله ومع مجازاته.

وقصائد الديوان تشظي فعلي لهذه الرؤية الكلية، قصائد/طلاسم، وفي هذا التأشير المجازي لبراون بلوغ لسمو فكرته والتي عبر عنها الشاعر محمد بنيس بكتابة النشيد. وتسعفنا فكرة الانتقال بين الأشكال الشعرية في فهم قدرة قصيدة براون على الترحال بالاهتداء عبر شرطه الإنساني، وفي يم الهدم المتواصل نبني نحن تكوينا للقصيدة، كي يتردد النشيد داخلنا وكي نعيد تأمل هذا العالم المركب، هذه العوالم التي تخاصم الشاعر. وعبر اللغة تفسح مساحات البياض حرية جماليات التلقي، قصيدة براون تتصور رؤى اللغة، وهي تنسج نقذها اللاذع والصريح لأي عالم بديل، إذ يهيمن حقل معجمي يستمد قوة التشيؤ من قدرة الصياغات التريكيبية على نسج صور شعرية غاية في المفارقات، وبهجنة باذخة، تصوغ اللغة مفارقات اللامعنى، حيث لا تصبح القصيدة إلا صدى متصل بآخرى تعيد مجددا تأكيد مقولة براون العميقة:

"نصوصي المكتوبة جميعها عادت طلاسما"(ص5).

الواقعية السرية:

عاصر الشاعر براون هيولى العصر الحديث، بحروبه، بأحلامه، وبأوهامه، بمفارقاته وخساراته، ومن خلال تمرس بالحياة، شيد براون واقعيته السرية الخصبة، والمولدة لعدد لا ينتهي من القراءات، لذلك تبدو ترجمة مصطفى السليمان أكثر جرأة على التآلف ، مع تجربة شعرية أكثر تعقيدا وتركيبا، إن لم نقل استحالة، وهو ما يقدم قوة لتآلف الترجمة مع هذا النص الألماني الشعري المكبل بترسانة لا تنتهي من المرجعيات، والصياغات. ويمكننا أن نحتفي بالنص المترجم على قدرة مصطفى السليمان الحلول في النص الأصلي لشاعر عايش العالم الذي شيد خساراته في نصوصه عبر مدار الستين سنة. وهو ما يقدم توجها عاما لخلاصة الشاعر براون، وهو يؤسس واقعيته السرية، لا كواقع راهن فج، ولكنه واقع الويلات والذي شهد خسارات على مستويات عدة، ومنها ما يرتبط بالشاعر مباشرة، انهيار منظومة اجتماعية بقيمها، وخيانات في أقصى لحظات التجلي حيث الشاعر مسكون بتشييد صيغة المفارقة الكونية لانهيار عظيم، لن يبرح "هنا الآن" إلا لكي يتولد جسدا ثاويا في النص الشعري البراوني. "ماذا تبقى" إذن للشاعر، وهو "يركل بحذائه" (ص5)، العالم الذي اتجه "الى الغرب" مهاجرا، وفي تصريح مجازي، يؤكد الشاعر فولكر براون أن " الأمل على الطريق مصيدة"/(ص5)، و "عندما أصبح باستطاعته الرؤية من جديد" قال:"عدت لأرى بوضوح، وكلا العينين تكذبان/تقدمان لي عالما جميلا، أحب أن أخدع الآن"(ص84).

إن هذه القدرة على تمثل مقولة الغياب، تؤشر لفعل المحو الذي يمارسه النص الشعري وهو تأكيد على سرية هذا العالم الذي تشيده القصائد، ما دامت هي سبر لأغوار اللامعنى، هذه التركيبة السحرية المقدمة لرؤية الشاعر براون وحين نصل لهذا المستوى من التحليل، نكتشف جغرافية شعرية مفردة في التميز، بمواصفات جمالية تتجه الى الكشف عن عالم الشاعر فولكر براون المجازي والذي لن يكون في النهاية إلا استعارة كبرى لهذا الشقاء الإنساني المركب.

*"حرب على الأكواخ، سلام على القصور" فولكر براون، ترجمة مصطفى السليمان، تقديم محمد بنيس، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، دمشق, ط1/2006.