شاركت معالي وزيرة الثقافة البحرينية، الشيخة مي بنت محمد آل خليفة في المؤتمر الدولي للتراث الثقافي والمعماري الذي عقد بمدينة فلورنس في إيطاليا خلال الفترة بين 18-20 نوفمبر الجاري خلال الأسبوع العالمي للتراث الثقافي والمعماري الذي بدأ في المدينة ذاتها منذ الثاني عشر من نوفمبر الجاري، حيث تحدثت معاليها عن "المهن اليدوية والناتج عنها وعلاقتها بالدلالات الثقافية للشعوب" في ورقتها التي عرضتها أمام المؤتمر خلال المحور الخاص بالمهن اليدوية وجوانب الإبداع فيها. وقالت معالي الوزيرة أنه برغم ارتباط الناتج اليدوي بالطقوس والشعائر الدينية في كثير من الأحيان بالذوق الخاص لحضارة معينة وبالمؤسسين لها من ملوك وخلفاء وأمراء، إلا إنها تبقى تحمل في معالمها صفات وخصوصية ترتبط بالحضارة الخاصة بها أو بالزمن التي كانت هي أحد أهم معالمه، مؤكدة أنه في كلتا الحالتين كانت المؤسسة الدينية أو السلطة الحاكمة مصدر جذب للمبدعين والفنانيين وأصحاب المهن اليدوية المميزة مشيرة إلى حالات كثيرة في التاريخ الإسلامي والعربي يكون الناتج المميز لهذه الفترات الزمنية ناتجاً إنسانياً دمجت فيه أذواق شعوب وحضارات أخرى من خلال استقطاب الفنانيين والمبدعين الذين نقلوا الفن الخاص بهم إلى الحضارة الجديدة.
وأشارت معاليها إلى دور خلفاء المسلمين في رعاية هذه السمات الثقافية المميزة من خلال رغبتهم في إعطاء الهيبة والعظمة سواء في القصور أو الدوائر الخاصة بهم لسكان البلاد وأكثر تجاه السفراء والزائرين الذين تدخل النواتج الثقافية المرئية كجزء هام من تقاريرهم وملاحظاتهم بعد أية زيارة، مشيرة إلى العديد من الباحثين في هذا المجال الذين حاولوا حصر السمات الثقافية للإبداعات اليدوية والفنية في نطاق الحدود الجغرافية لبلدانهم ملتزمين بذلك بالسمات الثقافية، إلا أنه ومن خلال أبحاث أخرى غير انحيازية أثبت الآخرون أن السمات المتمثلة في حرف الفخار والخشب والمعادن والزجاج تحمل في كثير من الأحيان صفات مستوردة حتى وإن كانت في بلدان مثل البحرين تحيط به المياه من كل جانب. ودللت على ذلك بقولها: "لقد اكتشفنا التأثيرات الحضارية في فخار دلمون والمصوغات الذهبية لفترة تايلوس، ومثلما تأثرت العمارة لدينا وأثر العمال المهرة العاملين فيها بصفات مستوردة من الجزيرة العربية والعراق وفارس والهند، ولكننا في النهاية نطلق عليها العمارة التقليدية في مملكة البحرين وذهب البحرين والنقوش الجصية المميزة للحرفيين في البحرين"، وأشارت معاليها إلى أن المثال المذكور للاختلاط الحضاري والحرفي تكرر في كل فترات التاريخ الإسلامي.
وتطرقت معاليها إلى صناعة الفخار كنموذج لمعالم الثقافة للشعوب مشيرة إلى أنها بدأت مع استقرار الإنسان في البيئة الزراعية وانتشرت وبسرعة إلى نواحي كثيرة في العالم حملت معها من مكان إلى آخر ميزات خاصة بالبلد المصدر وتميزت عن الفخار المحلي والمصنع لأغراض خاصة في أي موقع إنساني خاص ولكنها وفي أحيان كثيرة تمازجت مع ذلك المحلي حتى أصبح يُطلق عليها اسم فترة أو حقبة أثرية تاريخية أكثر من اسم محلي أو اسم بلد معين، وأضافت: "ومع ذلك نستطيع أن نصنف وعلى أسس المعالم الخارجية الحرفية والتشكيل الفني (إلى جانب استخدام العمر الزمني للكربون) في حالة الفخار والمصنوعات الفخارية نستطيع نسب بعض الأعمال إلى أمكنه محددة أو حدود جغرافية معينة – ونعتبرها الأصول الرئيسية لأية مهنة أو حرفة معينة، نستطيع أن نقول مثلا نقوش ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام وصناعة الكتب والكتابة ما قبل الإسلام وبعده في بغداد ودمشق وأن نقارن العمارة المنتقلة من الجزيرة العربية – بتلك التي اختلطت فيها العمارة البيزنطية في الشام – وأن نقول أنها إحدى معالم الهوية والثقافة لتلك الفترة التاريخية"، واستدركت: "ومع ذلك فإن هذه المعالم اعتبرت بأنها الأسس الهامة لهويتنا حين تكون المظاهر الإبداعية للحرفيين هي المطالبة بإثبات هذه الهوية، من هنا نشأ نوع من الازدواجية فإننا في الحقيقة نعتمد على معالم تتألف من ناتج اختلاط حضاري نقوم بالانتساب إليها وفي نفس الوقت نحاول أن تكون علاقتنا من خلالها مفصلية مع معالم شعوب أخرى دون فقدان هذه الهوية المميزة لنا، وبذا نمارس ودون وعي أحيانا الانتماء الحقيقي للتراث الحرفي الإنساني والوطني أو الاثني، ربما نتعلم من هذا كيفية التعايش الحضاري والثقافي مع الشعوب الأخرى".
وفي إطار تأكيد معاليها المتكرر خلال الكلمة على أطر الحفاظ على الهوية تطرقت إلى الفترة التي تلي العام 1990 وما نتج عن انتهاء صراع الأقطاب الكبرى وتحول العالم إلى نوع آخر من الصراعات ربما أهمها صراع الثقافة والهوية والعنصرية ولاحقا المعتقدات الدينية، بالاضافة إلى انتهاء صراع رأس المال وبدء صراع ضد الإرهاب الذي جعل من العالم كتلة غربية تصارع كتلة شرقية على أساس الانتماء الديني والثقافي بعد أن كان صراع اليمين ضد اليسار، مشيرة إلى أنه في هذه الفترة المذكورة تحولت أجزاء كثيرة من العالم إلى حالة لاتستطيع فيها الثقافة وحدها أو السياسة وحدها مجابهة التيارات المضادة، هذه الظروف أعادت تقسيم العالم مرة أخرى إلى ثقافات وديانات تميزت بالتوتر المستمر بينها حاولت الثقافة أن تقرب بينها من خلال حوار الحضارات والثقافات والأديان وبرغم ذلك تباعدت المسافة بين الفكر الأصولي سواء الغربي أو الشرقي وخطاب الحداثة في أوربا والشرق.
وقالت معاليها في هذه النقطة: "أدى انتشار هذا الفكر إلى تراجع الآخر الحداثي والمهتم بالابتكار والتطور ليترك المجال مرة أخرى لكل ناتج مستورد وإن كان مخالفاً في أنماطه وأشكاله الموروث الحضاري لدينا من ناتج عمل الإنسان"، "لقد تغيرت طرق الإنتاج وتغيرت الأيدي المنتجة لدينا، فصناعة السفن الموروثة على مدى قرون عدة تحولت إلى أيدي آسيوية وكذلك الفخار والنقوش الخشبية والأشكال المعمارية ومثل ما بدأنا بالتأثر بالثقافة الكونية أصبحنا نفقد تدريجياً موروثاتنا من الإبداع اليدوي المحلي".
وأكدت معاليها أنه ليس للحداثة دور في ذلك ولكن مجتمع الاستهلاك القائم على الموارد النفطية بالدرجة الأولى هو ما أدى إلى هذا التراجع وطبيعة وإمكانيات الشركات الغربية والأمريكية في السيطرة على الأذواق والأسواق هو ما جعلنا نفقد الموروث المذكور إلى جانب دخول أيدي عاملة مستوردة تقوم بأداء كل شئ، موضحة أن هذه حالة خاصة تعاني منها مجتمعات الخليج بصورة عامة مؤكدة إن ما نعاني منه ليس المواجهة بين الأصولية والحداثة فقط بل بين المحافظة على هويتنا أو القبول بالتدهور الحاصل لدينا والذي معه نفقد هذه الهوية.
يذكر أن المؤتمر ناقش عدة محاول من ضمنها: "المتاحف عالمياً.. تعاون أم تنافس"، "الرعايات الفنية"، دور الثقافة في التنمية في البلدان الناشئة"، "تعزيز التواصل التراثي المعماري الدولي"، "دور التكنولوجيا في تعزيز صناعة التراث الثقافي"، "آفاق تنمية المدن"، "الآثار الاقتصادية للصناعات المرتبطة بالتراث الثقافي والمعماري"، وتحدث فيها عدد كبير من الخبراء والمسؤولين في التراث الثقافي والمعماري والاقتصاديين على مستوى العالم.