الإنسان اليوم بين الدّعاية وسلطة المقدس - في المقهى الفلسفي

رسالة تونس الثقافية

نزار شقرون

هل مازال المواطن العربي يحتاج إلى الخطاب الفلسفي في زمن اللّهاث خلف الرّغيف وفي دوّامة اليومي؟ هذا السّؤال الذي قاد إلى التّفكير في جدوى الفلسفة اليوم ومدى انسحاق الخطاب الفلسفي العربي فلا فاعليّة لهذا الخطاب في الشّارع العربي الذي أصبحت تحكمه خطابات جديدة و تتنازعه المنابر الإعلاميّة دون أن يمتّن فكره النّقدي، لأنّ الخطاب الفلسفي العربي بقي أسير جدران الجامعات العربيّة وكرّس بابتعاده عن مطارحة قضايا الإنسان منزلة القطيعة مع الشّارع. هكذا بقي الخطاب الفلسفي العربي صفويّا و"برجعاجيّا" رغم ما يشحن العقل العربي من مواجهات، هو في أمسّ الحاجة إلى آليّات الفلسفة وعقول المفكّرين. وببساطة شديدة يحتاج الإنسان العربي اليوم أن يدخل الخطاب الفلسفي الأزقّة الضّيقة ويمشي على الأرصفة وفي الأسواق حتّى يتلقّف قضايا الإنسان، ولهذا السّبب أسّست الجمعيّة التّونسيّة للفلسفة فضاء جديدا يستوعب مشاغل الإنسان ويبسّط الخطاب الفلسفي ، بل يقدّم للفلسفة مواضيع السّاعة لتتطارحها فتكون في قلب الأحداث بدل أن تستمرّ في تجاهل الواقع العربي وتتعالى عن حكيّة المجتمع العربي.

هذا الفضاء الذي تغامر به الجمعيّة الفلسفيّة بالتعاون مع دار محمد علي للنشر، هو " المقهى الفلسفي" الذي يلتقي فيه المفكّرون والباحثون في الفلسفة ومختلف المثقّفين من مجالات الإبداع المتنوّعة لتطارح مسألة من المسائل وقد شهدت الحلقة الثّانية منه والتي خصّصت لموضوع : "الإنسان اليوم وسلطة الدّعاية والإعلام" جدلا كبيرا بين المواكبين للمقهى، إذ لامس المسكوت عنه في قضيّة الدّعاية وقد قدّمت ورقتان علميّتان للخوض في الموضوع . وكانت الورقة الأولى من تقديم الأستاذة مبروكة العليبي تناولت فيها الجوانب السّلبيّة والإيجابيّة للدّعاية واضعة أسئلة كثيرة حول مدى مشروعيّة الدّعاية للأحزاب والمؤسّسات المدنيّة ذات الرّؤية التّقدّميّة في زمن بدأت فيه هوامش الحرّية تتقلّص وبدا فيه المثقّف التّقدّمي غير قادر على عرض مواقفه والدّعوة إلى أفكاره. كما بيّنت الأثر الاستعبادي لهيمنة بعض وسائل الإعلام ،على عقول المواطنين البسطاء الذين أفقرتهم مجتمعاتهم من آليّات النّقد والتّقويم فصاروا في شرك التّآمر والتّلاعب غير قادرين على تبيّن الحقيقة من الوهم.

وتميّز النّقاش بمشاركة وجوه ثقافيّة معروفة بنضالها نحو بناء ثقافة وطنيّة بديلة ومن هؤلاء الأساتذة محمد علي الحلواني ونجيب عبد المولى ومحمود بن جماعة و ثامر إدريس. هذا وقد قدّمنا مداخلة ثانية لإذكاء روح الحوار وتعميق النّظر في مسألة علاقة الدّعاية بآليّات صناعة القداسة في الوطن العربي، محاولين تنزيل أطروحاتنا النّظريّة في نماذج حيّة تخترق وجودنا. لقد تطوّر مفهوم الدّعاية فأصبح يعني اليوم استخدام جميع وسائل النّشر كالملصقات والسّينما والتّلفزيون والإذاعة لتمرير جملة من الأفكار السّياسيّة في مجتمع ما والتبس المفهوم باستخدام جميع الطّرق للتّحكّم والسيطرة في مشاعر الأفراد إلى درجة اغترابهم في إيديولوجيا محدّدة أو في رؤية حزبيّة و لذلك ارتبط مفهوم الدّعـاية بأنمطة الحكم الكلياني مثل النّـظام النّازي أو النّـظام السّتاليني أو الماوي. لكنّ الأنظمة الدّيمقراطيّة سرعان ما تبنّت آليّات هذا المفهوم ليصبح مقوّما أساسيّا من مقوّمات النّظام الرّأسمالي بالتباسه بالإشهار أي بانتقاله من المجال السّياسي إلى المجال الاقتصادي.

ننطلق من الفرضيّة التّالية أنّ الدّعاية طرحت بعمق منصب الصّورة في المجتمعات عبر التّاريخ وأنّها تطابقت مع المنظومات العقائديّة أكانت دينيّة أم إيديولوجيّة. لقد نشأ مصطلح "الدّعاية" في الخطاب المسيحي خلال القرن السّابع عشر، إذ دعا البابا غريغوار الخامس عشر إلى نشر المسيحيّة مستعملا مصطلح Propaganda وهو مصطلح لاتيني سيشحن بدلالة الأنشطة السّياسيّة إبّان الثّورة الفرنسيّة معتمدا على الصّورة كحامل مركزي لمحتوى هذه الدّعاية. ولقد اتّصلت الدّعاية في الحقبة المسيحيّة القروسطيّة وخلال عصر النّهضة وإلى حدود العصر الكلاسيكي الحديث بالصّورة الدّينيّة ممثّلة في الأيقونة ،باعتبار ها الوسيلة المثلى لاستمالة الأفراد إلى المسيحيّة و للتّأثير في نفوس المسيحيّين أنفسهم ، أصبحت الدّعاية رسالة دينيّة عقائديّة تقوم على سياديّة القداسة. لكنّ الدّعاية في إطارها اللاّديني انتشرت خلال الحرب العالميّة الأولى محدثة نوعا من التّلازم بين الصّورة والنّصّ السّياسي الذي اختزلت فيه شعارات تحمل وعودا أو موقفا من الخصوم ووظّف الاشتراكيّون صور قادتهم لنشر أفكارهم في صفوف الأتباع . فانتقلت الدّعاية من الأيقونة إلى البورتريه الرّسمي أو السّياسي معلنة التّخلّي عن العناصر الشّكليّة لتجسيد القداسة ومن أبرزها استبعاد الهالة المقدّسة عن رموز الإيديولوجيا ،غير أنّ اختفاء عناصر الشّكل القداسي من الصّورة /الملصق لم يفد تهجير هذه القداسة تماما فقد تمّ استبدال المقدّس الدّيني بالمقدّس الإيديولوجي وبقيت الصّورة محافظة على رمزيّتها ووظائفيّتها رغم الانعطافة الظّاهرة بين الخطابين.

إنّ ما يدعم افتراضنا بأهمّيّة الصّورة في الدّعاية هو توفّر تقنيات جديدة في بداية القرن العشرين حيث انتقلت الصّورة من المجال اليدوي إلى مجال الاستنساخ الآلي ومن تجلّياته الصّورة الفوتوغرافيّة والسّينما والتّلفزيون( استعمال تقنية طباعة الأوفسات سنة 1904 و فتح أوّل قاعة سينما بباريس سنة 1911) وقد استخدم هذا التّطوّر التّقني لصالح الدّعاية التي تحكّمت فيها الأنظمة الأكثر راديكاليّذة وانغلاقا والتي نهضت على رؤية آحاديّة للوجود وعرفت بإقامتها لأنظمة رقابة على الأفراد من ذلك أنّ الأنظمة الاشتراكيّة أو ذات الحكم المطلق ،خصّصت أجهزة رسميّة لـ"الدّعاية الحزبيّة" فقد أدار جوزيف قوبلز Joseph Gobbels "وزارة الإعلام والدّعاية" في ألمانيا النّازية و تولّى سارج تشاكوتينSerge Tchakhotine إدارة "الهيئة الثّوريّة للدّعاية" إبّان الحرب الأهليّة الرّوسيّة وتحوّلت هذه الهيئة في الحكم البلشفي إلى "قسم التّحريض والدّعاية" وامتدّت هذه الأجهزة في جلّ الأنظمة الدّيكتاتوريّة في مابين الحربين وأثناء الحرب العالميّة الثّانية لتقوم على عناصر موحّدة في الخطاب الدّعائي الذي تجسّد في الملصقات والطّوابع البريديّة والأوراق الرّسميّة والرّايات والأعلام والأفلام السّينمائيّة ، وهدف الخطاب إلى صناعة صورة /رمز للشّخص الواحد المنقذ الذي يتّخذ صورة الأب الرّوحي للبروليتاريا (ستالين) أو للعرق الآري(هتلر) ليكون الشّخص المنقذ استعاضة لاشعوريّة عن القدّيس ورؤية الخلاص التي بنيت عليها المسيحيّة الغربيّة والشّرقيّة على السّواء. وتحوّلت الاجتماعات السّياسيّة العامّة إلى فضاء مشهدي للدّعاية، بل إنّ المدن والقرى بشوارعها وأزقّتها صارت جزءا من العمليّة الدّعائيّة التي خرجت من مفهوم الصّورة كحامل ورقي أو آلي ليكون الفضاء المكاني صورة أكبر وأشمل لهذا الخطاب وانتقلنا بذلك إلى سينوغرافيا الدّعاية وتدخّل المؤثّرات الصّوتيّة والضّوئيّة، فحوّلت الدّعاية الفضاءات العامّة إلى أماكن مفتوحة طقوسيّة لا تبتعد في لا وعيها البنيوي عن الطّقس التّطهّري الإغريقي، بينما اعتبر تشاكوتين أنّ"الدّعاية السّياسيّة هي اغتصاب نفسي للجماهير" بل ذهب إلى أنّ ردود فعل الجماهير قائمة على الحركات البافلوفيّة وبذلك تكون الدّعاية وسيلة ترويض الأفراد.

إنّ الدّور الخطير الذي لعبته الدّعاية في النّصف الأوّل من القرن العشرين تسرّب إلى المعسكر الرّأسمالي بأشكال تقنيّة أكثرتقدّما دون أن يسلم الفرد الحداثي من آليّات التّحكّم والتّأثير التي وضعتها الدّعاية لنفسها منذ أمد بعيد وهو ما يجعلنا نفترض بأنّ الدّعاية في الأنظمة الكليانيّة أو الدّيمقراطيّة لا تختلف من حيث الطّابع قدر اختلافها من حيث الأشكال التي بدت مع غطرسة الرّأسماليّة وتحوّلها إلى نمط امبريالي أعنف في نتائجها ودرجة استلاب الأفراد بل والشّعوب فيها. إنّنا نمعن أكثر في افتراضنا بأنّ الدّعاية شكّلت منصبا جديدا للصّورة دون أن تتنصّل الصّورة من قاعها القداسي، فقد أصبحت الصّورة ذات سلطة على الكلمات وإذا كانت القداسات الدّينيّة أعلنت منذ العهد القديم بأنّ البدء أسّه الكلمة فإنّ القداسات الجديدة "اللاّدينيّة" في المعلن والغارقة في الدّيني في الباطن أعلنت بأنّ البدء هو الصّورة. فالتبست الدّعاية السّياسيّة بالإشهار، التباس الطّموح السّياسي باستراتيجيّة التّوسّع والهيمنة الاقتصاديّة وفي حين بدا الإشهار انسيابيّا و إغوائيّا، حافظت الدّعاية على صلابتها وعنفها مع شيء من التّلطيف الذي يستعمل كمساحيق تجميل لئلاّ تذكّر الدّعاية الرّأسماليّة بالحقبة الدّعائيّة للأنظمة الدّيكتاتوريّة السّابقة، فتكون الدّعاية في المجتمعات الدّيمقراطيّة وديعة في نصبها لشرك التّحكّم. ولا شكّ أنّ الإشهار استعار العنف في بعض نماذجه من الدّعاية كما استفادت هذه الأخيرة منه أيضا.

لكنّ الإشهار يبقى مجرّد جزء من الدّعاية. وقد استحكمت الصّلة بين الدّعاية والإشهار استحكامهما في المقدّس وصناعته، إذ تحوّل عصر الاستنساخ الآلي إلى عصر صناعة القداسة بامتياز وإذا كان رولان بارت قد انتبه في قراءته السّيميائيّة للمنتجات الاستهلاكيّة، إلى الصّلة الجوهريّة المعقودة بين السّيارات وبين الكاتدرائيّات القوطيّة، فإنّه بيّن ضمنيّا أنّ لكلّ عصر أساطيره التي تنهض على شعور ما بالقداسة. وعلّنا نفترض بأنّ الخطاب الدّعائي المعاصر يمثّل خطابا أسطوريّا يحمل دلالة ثانية و هو ما أشار إليه بارت أيضا ومن خصائصه أنّه يقيّد الفرد و لا يحرّره وهو تكراريّ وغير دافع للخلق مادام يهدف إلى إخضاع المجتمعات إلى جدول إرشادي واحد. إنّ هذه الفرضيّة الثّانية التي انتهينا إليها والقائمة على اعتبار الدّعاية قوامها الصّورة ومآلها صناعة القداسة تجعلنا نتخيّر مجموعة من الأمثلة التي تقترب من مدار تفكيرنا راهنا - مع الإشارة إلى أنّ فعلنا الانتقائي قائم على استشعار تهديد ما - ويواجه آليّات ثلاث أصوليّات متنامية، أوّلها الأصوليّة اليهوديّة وثانيها الأصوليّة الإسلاميّة، وثالثها الأصوليّة المذهبيّة.

الأصوليّة اليهوديّة: محرقة الحظّ السّيّء:
مازالت الخارجيّة الإسرائيليّة تستمرّ في الدّعاية إلى عذاب اليهود في الفترة الهتلريّة وإلى ما تسمّيه "الكارثة" إشارة إلى "الهولوكوست"، إذ أنّ همّها الرّئيسي هو الاستمرار في إنتاج الخطاب الأسطوري حول هذا الحدث الذي يجرّم دوليّا كلّ من ينفيه فيحاكم ويسجن باعتباره معاديا للسّامية،(ناهيك محاكمة إدغار موران وروجيه غارودي) وتنطلق الحملة المتواصلة من صور الإبادة الجماعيّة الافتراضيّة مستخدمة السّينما والمواقع الالكترونيّة بل إنّ الأفلام التي أنتجتها السّينما الأمريكيّة للدّعاية إلى هذا الحدث خلقت تعاطفا دوليّا مع اليهود وجرّمت الألمان أكثر و أصبحت قضيّة اليهود الأصوليّين الرّئيسيّة بعد الحرب العالميّة الثّانية هي اضطهاد اليهود. وهذا ما تؤكّده الصّفحة الرّئيسيّة لموقع وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة التي تفتح بمقال دائم للكاتبة الإسرائيليّة "عيريت أبرامسكي" تحت عنوان" الكارثة الدّعاية:اليهود هم حظّنا السّيء" حيث تنطلق من شعار مركزي للدّعاية النّازية ضدّ اليهود في سنة 1932 وتجدّد استخدامه لتوظيفه دعائيّا في الاتّجاه المعاكس. لقد كانت الصّحيفة الألمانيّة الأسبوعيّة "دير شتيرمر" (المهاجم) تكتب في أسفل كلّ صفحاتها بأحرف سميكة" اليهود هم حظّنا السّيء" وتنشر رسوما كاريكاتوريّة يظهر فيها اليهود معقوفي الأنوف وشبيهين بالقرود. وكانت أبرامسكي تستفيد من هذه الدّعاية لتبيّن بجلاء صورة اليهودي في تلك الفترة وتؤثّر في نفوس الأجيال الجديدة من اليهود الذين نشأوا على هذا الخطاب. فلم يعد من اهتمامات الخارجيّة الإسرائيليّة تشويه صورة العربي في السّينما كما كانت تفعل إبّان احتدام الصّراع العربي الإسرائيلي،فقد اتّجهت اليوم من جديد إلى تحديد أولويّة دعائيّة وهي لفت أنظار العالم إلى "المحرقة" أي إلى الأساس التّاريخي الذي بوّأ اليهود الأصوليّين مقاليد التّحكّم في العالم.

الأصوليّة الإسلاميّة: شفاعة الإسلام الأمريكي
كنّا قد أطلقنا مصطلح"الإسلام الأمريكي" في السّنة الماضية ، وعنينا به نوعا من التّديّن الذي بثّته الإدارة الأمريكيّة في العالم العربي، وهو لا يتّصل بالإسلام الطّرقي بل هو نوع من الإسلام"البرجوازي" الذي يناقض بالبداهة الإسلام السّياسي. وكنّا قد أشرنا إلى رمز من رموز هذا الإسلام الأمريكي، وهو "الدّاعية عمر خالد" وسرعان ما تلقّفت وسائل الإعلام العربيّة المصطلح الذي أطلقناه حيث كتب عصام عبد العزيز بـمجلّة "روز اليوسف "مقالا تحت عنوان "الإسلام الأمريكي"بتاريخ 20/5/2006 بعد ما أثاره المصطلح من لغط في السّاحة الإعلاميّة. إنّ "عمر خالد" يمثّل ظاهرة دعائيّة لإسلام جديد، وهو ما انتبهت إليه الدّوائر الإعلاميّة الأمريكيّة حيث سارعت صحيفة" النّيورك تايمز" إلى تخصيص ملحق الأسبوع لتقديم هذا الدّاعية وتصدّر التّحقيق الصّحفي صورة لـ"عمر خالد" وهو واقف في حالة صلاة ومن خلفه يضيء قرص القمر واتّخذت الصّورة بعدا أيقونيّا شبيها بأيقونات القدّيسين من المسيحيّين. كما وضعت على صدره شارة كتب عليها بالأحرف السّميكة اسم الصّحيفة. وأمّا عنوان الدّراسة فهو:"مدّ يد العون لمسلم متطلّع إلى الأمام" و هدفت الدّراسة إلى إحداث تقارب بين الإدارة الأمريكيّة وهذا الدّاعية، خاصّة بعد مواقفه في أعقاب أزمة نشر الرّسوم الكاريكاتوريّة المسيئة للنّبيّ. وقد سعت الصّحفيّة التي قامت بإعداد التّحقيق وتدعى "سامنتا شابيرو" وهي أمريكيّة من أصل يهودي إلى تقديم صورة فريدة عن إسلام يخدم المصالح الأمريكيّة فهي تقول:" عندما تستمع لعمر خالد فإنّه يتعذّر عليك غالبا أن تقطع إلى أيّ الجانبين يميل، فهو يقول إنّ الكفّار استولوا على فلسطين وهو يعني اليهود والإسرائيليّن، ولكنّه في المقابل يقول إنّ الأسلوب الأفضل لتحريرها ليس العنف وإنّما من خلال نجاحك في حياتك عموما ومساعدة الآخرين على التّديّن".

إنّ هذه الدّعاية لنوع من التّديّن تخلق بدورها قداسة جديدة حيث يلتبس الأمر لدى بعض الشّباب أو أنصار هذا الدّاعية وبين صورة الصّحابة أو صورة المبشّرين بالجنّة، حتّى أنّ البرنامج الجديد لهذا الدّاعية في قناة "الرّسالة" وعنوانه"صدق رسول اللّه" ينتج هذا التّطابق الآلي بين الدّاعية والرّسول. كما يلتبس فيه الإشهار بالدّعاية فيستهلّ الفاصل الإشهاري إثر كلّ جزء من البرنامج، بانجذاب شعار القناة من الرّكن الأيمن في الأعلى إلى موضع قلب "عمر خالد" ثمّ يخرج من موضع القلب شعار البرنامج"صدق رسول اللّه" فلا يدرك المشاهد أكان ذلك إيحاء بصدقيّة تعليقات عمر خالد على حديث من الأحاديث النّبويّة أم هو إيهام بمشابهة ما، بين شخص الدّاعية وشخص النبيّ وتدعم هذه التّقنية الرّقميّة الهالة المقدّسة للدّاعية فتزيد من تملّك المشاهدين والتّحكّم فيهم وتخديرهم، حيث تتداخل الأزمنة. وهذه الدّعاية الأمريكيّة والعربيّة لعمر خالد تكشف أيضا الآليّّات السّينوغرافيّة التي يعتمدها الدّاعية لإحكام خطابه الدّعائي وهو ما باحت به "شابيرو" التي رافقته في تسجيلاته التّلفزيونيّة.

الأصوليّة المذهبيّة: إعدام مقتدى الصّدر
إنّ بثّ مشهد إعدام صدّام حسين يستحقّ قراءات وافرة في باب مساءلة الدّعاية وصفتها الانقلابيّة، فقد هدف حكم الإعدام الإطاحة برمز قومي كان قد ارتبط في المخيال الجمعي بصورة المنقذ والبطل المخلّص وتطابقت صورته مع صورة صلاح الدّين الأيّوبي وجمال عبد النّاصر أي أنّه استوطن في الخطاب الأسطوري وأضحت صورته قريبة من صور القدّيسين والمخلّصين لكنّ الهدف الرّئيسي من تصوير لحظات الإعدام يتجاوز قتل الأسطورة أو البعد التّوثيقي أو تقديم حجّة مادّية على تنفيذ الحكم، بل تمثّل في رغبة الحكومة العراقيّة في تحقيق نصر ميداني وتلبية رغبة أغلبيّة نافذة في الشّارع العراقي تدين للحكومة وللكسرويّين الجدد في طهران. لقد كان الهدف مزدوجا إذن، ولكنّ افتقار الآليّة الدّعائيّة الجديدة إلى وعي تقني وقصور حرفيّتها و يفاعة صلتها بصناعة الصّورة أدّى إلى وقوع البرنامج الدّعائي في الارتجاليّة وبدل أن تغنم الحكومة من دم صدّام غرقت في مستنقع الدمّ. والملفت للانتباه أنّ الحكومة العراقيّة لم تراجع حساباتها إثر السّماح ببثّ مشاهد مصوّرة بكاميرا التّلفزيون ولكن بعد بثّ صور سجّلت بكاميرا الهاتف الجوّال- هذا البثّ التّالي للأوّل كان مثار غضب وإحراج الحكومة العراقيّة والأمريكيّة على السّواء - لأنّه زاوج بين الصّورة والصّوت. كما أنّ الصّورة التي بثّت في الأوّل لم تكشف عن هويّة الحاضرين في الشّعبة رقم 5 في مقرّ المخابرات العراقيّة فلم يكن التّأثير ذاته في نفوس المشاهدين الذين أصيبوا بالذّهول أكثر حين بثّت صور التّسجيل الثّاني الصّوتي وتبيّن الجميع أنّ الجناة من المتشفّين ينتسبون إلى المذهب الشّيعي وأنّهم أنصار مقتدى الصّدر.

ماتزال الكلمة لها دورها وتأثيرها في عمليّة الدّعاية، حتّى وإن كانت انقلابيّة على أصحابها وإيجابيّة لخصوم الحكومة العراقيّة أي المقاومة العراقيّة، لكنّ الإيجابيّة الكبرى من هذا الحدث غنمتها الإدارة الأمريكيّة لا في مستوى إلهاب الصّراع الطّائفي ونجاح خطّة "الفوضى الخلاّقة"و إنّما في إطار صراعها الخفيّ والمعلن أحيانا مع مقتدى الصّدر والتّيّار الصّدري بشكل عامّ، فقد قطع الصّدريّون في ظلّ صمت المرجعيّة عن إدانة ما حدث، طريق العودة إلى مصالحة العراقيّين والمقاومة العراقيّة ممثّلة في هيئة علماء المسلمين، فقد ادّعت التّقارير العسكريّة الأمريكيّة التي أثبتها بريمر في كتابه"عام قضيته في العراق" عن تخوّف الإدارة الأمريكيّة من مقتدى الصّدر التي كانت التّقارير تعتبره في بداية الاحتلال الدّيكتاتور الثّاني بعد صدّام إلى درجة أنّ استقدام السّيستاني من بريطانيا كان بهدف تحجيم نفوذ مقتدى الصّدر الذي قالت عنه التّقارير أنّه"إسلامي بلشفي لا يؤمن إلاّ بالقوّة ولن يتوقّف من الحصول عليها"(ص.169.) لقد عكفت الإدارة الأمريكيّة على جذب التيّار الصّدري إلى التّعاون الكلّي، حتّى لا تبقى زعامة شيعيّة خارج دائرتها وحاول بريمر القبض على مقتدى الصّدر بتهمة قتل عبد المجيد الخوئي. وتزامنت هذه الرّغبة مع سعي القيادات المذهبيّة الشّيعيّة إلى التّخلّص من مقتدى الصّدر وقادت هذه التّهديدات إلى تراجع التّيّار الصّدري عن مقاومة الاحتلال أمام تزايد هيمنة الحلف الشّيعي الموالي لإيران. لذلك كانت الهتافات المصاحبة لصور إعدام صدّام والمنادية بحياة مقتدى إزاء موت صدّام، كفيلة بأن تقدّم للإدارة الأمريكيّة الولاء المطلق للتّيّار الصّدري ولخروجه من الطّائفة إلى محرقة الطّائفيّة.