الإعلاميون آخر من يعلم!

رسالة العراق

جمال العميدي

تقرير عن مشكلة السلطة الرابعة في عراق ما بعد صدام

للثالث من أيار معان كثيرة لدي. المعنى الأول يعود إلى عام 1968، إذ اندلعت الثورة الطلابية في أوربا، فغيّرت مجرى التاريخ. وكلما تذكّرتُ تلك الثورة، استدعيت صورتين فوتوغرافيتين فرنسيتين أختصر بهما، عادة، هذه الذكرى. أولى الصور هي للمفكر الفرنسي ميشيل فوكو، بصلعته الشهيرة، وهو يمدّ يديه باتجاه الكاميرا، حتى لتكادان تخترقانها، راسما على وجهه علامات الجديّة والغضب، بعد سنين من العمل على فلسفة اللعب. أما الصورة الثانية فهي لمظاهرة طلابية ترفع شعارا يقول: "فلْتنزل البنى إلى الشوارع"، في إشارة إلى أن الفكر البنيوي الذي هيمن على فرنسا الستينيات، كان متواطئا مع السلطات بشكل أو بآخر. كان يوم اندلاع الثورة الطلابية هو اليوم الذي وُلِدْتُ فيه، وهذا هو المعنى الثاني لهذا التاريخ. لكن ما أريد تسليط الضوء عليه هنا مختلف عن هذين المعنيين، وهو يتعلّق بأن الثالث من أيار هو "اليوم العالمي لحرية الصحافة".

اليوم هو الثالث من أيار. وبصفتي إعلاميا عراقيا، أقول بهذه المناسبة إن حالي لا يختلف كثيرا عن حال معظم الإعلاميين العراقيين، ويمكن تلخيصه بعنوان مقالي: الإعلاميون آخر من يعلم! هذا العنوان ينطوي، كما هو واضح، على مفارقة ما تعود إلى طبيعة المعجم العربي. فـ "الإعلام" و"الإعلامي" و"المعلومات"، والمفردات الأخرى المتعلّقة بها، تعود إلى جذر ثلاثي واحد هو "ع. ل. م"، والكلمة المركزية التي تميّز هذا الجذر هي "علم". وحين أُطلق المصطلح على العاملين في المجال الإعلامي، إنما كان القصد منه، كما أعتقد، هو أن هؤلاء لهم اليد الطولى في نقل المعلومات إلى الناس، والإسهام في إخراجهم من "الجهل" إلى "العلم". لكن معظم الإعلاميين العراقيين، وهم يحرصون باستمرار على القيام بهذه المهمة النبيلة، ظلّوا آخر من يعلم، مما أسهم في التأثير على أدائهم، بشكل أو بآخر.

سؤال السلطة الرابعة:
طلبت إليّ إحدى المؤسسات الإعلامية الدولية كتابة تقرير عن حالة الإعلام العراقي، على أن أجيب فيه على بعض الأسئلة. كان السؤال الأول المطروح عليّ هو: هل هناك محطة تلفزيونية أو إذاعية عراقية تشبه "بي بي سي"، وهل هناك صحيفة تشبه "الديلي تلغراف"؟ إن القصد من السؤال واضح، وهو طلب تحديد وسائل الإعلام العراقية واسعة الانتشار، التي يلجأ إليها البرلمانيون والسياسيون والموظفون الحكوميون والمواطنون العراقيون، للحصول على المعلومات الموثوقة، وهو ينطوي ضمنا على مفهوم السلطة الرابعة. أما جوابي فكان الآتي: من السابق لأوانه، الآن، الحديث عن وسيلة إعلام عراقية تتمتّع بهذه المواصفات. ولكن لماذا لم تولد لدينا وسيلة إعلام كهذه، على الرغم من مرور ثلاث سنوات على سقوط الديكتاتورية؟ إنه سؤال السلطة الرابعة ثانية. في الحقيقة، ليس من السهل أن نعرف بالضبط متى اقترنت عبارة "السلطة الرابعة" بالصحافة. لكن بعض المعنيّين بتطوّر مفاهيم العملية الإعلامية يؤشّرون أنها (أي الصحافة) اكتسبت، على مرّ العصور، ألقابا كثيرة منها: الدّعامة الرابعة للديمقراطية، والطبقة الرابعة، والقوة السابعة. فإذا توقّفنا عند اللقب الأول، أي الدّعامة الرابعة للديمقراطية، وجدنا أن أصحابه أطلقوه على الصحافة التي صارت رقيبا على الدّعامات الثلاث الأخرى: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، حين كانت تراقب الفصل بين هذه السلطات، وتقدّم تقريرا عن أية إساءة في استعمال إحداها أو جميعها، لتكون عَيْن المواطن وأُذُنه المراقِبة والكاشفة. أما اصطلاح الطبقة الرابعة، فقد استعمل للحديث عن دور مشابه أدّته الصحافة في مراقبة سلوك الطبقات الاجتماعية الثلاث الرئيسية: رجال الدين والنبلاء والعَوَام، في الدول الأوربية المَلكية التي شهدها القرنان السابع عشر والثامن عشر، حين شكّل الصحفيون طبقة رابعة قامت بدور الرقيب والناقد، في حين نُسِب لقب "القوة السابعة" إلى نابوليون، وهو يصنّف القوى المختلفة التي انحازت ضدّه، قاصدا بذلك الصحافة طبعا. ولعل الجمع بين اللّقبين الأول والثاني هو الذي أنتج لقب "السلطة الرابعة"، إذ لم تكتفِ الصحافة بمراقبة السلطات الثلاث، بل اتسعت جهودها لتشمل المجتمع برمّته، بغية تقييم أداء الفاعلين الاجتماعيين فيه، أفرادا أو جماعات.

وأن تنجح المؤسسات الإعلامية في بلد ما في أن تصبح سلطة رابعة بشكل فعلي، فإن ذلك يعني أن النظام الذي تحيى فيه ذو مؤسسات ديمقراطية، تزدهر فيه الحريات بشتى أصنافها، ولا سيما حرية التعبير وحرية الصحافة. بكلام آخر: لا سلطة رابعة من غير دولة قانون. وحيث أن العراق ما زال في مرحلة "ما دون الدولة" أو "ما قبل الدولة"، لا نستطيع الكلام على دولة قانون، إذ ليس لدينا مؤسسات واضحة الملامح، وليس لدينا انتماء واضح لمفهوم تجريدي هو "الأمة العراقية"، وليس لدينا مدوّنة نظرية تتحدّث عن ملامح هذه الأمة وعناصرها المشتركة، في ظل واقع تسيطر فيه أزمة الثقة بين الجماعات العراقية، وكل ما فيه يهدّد وحدة هذه "الأمة". وحيث أن المؤسسات الإعلامية العراقية عاشت مع نظام صدام أسوأ التجارب الديكتاتورية، يبقى السؤال: هل نجحت تلك المؤسسات في أن تشكّل سلطة رابعة؟ سؤال فارغ من المضمون. لكن سقوط هذا النظام، وميلاد الأمل بنظام ديمقراطي جديد، جعل إعادة طرح هذا السؤال ثانية منطقيا، ولا سيما بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على سقوط الديكتاتورية. لنكرّر السؤال إذن: هل نجحت المؤسسات الإعلامية العراقية في أن تشكّل سلطة رابعة بعد سقوط نظام صدام؟ سأسارع إلى الجواب بأسف: لا، وسأبيّن الأسباب التي حالت دون هذا النجاح المرتجى. وهدفي سيكون طرح السؤال ومحاولة إيجاد الأجوبة، لكن طرح السؤال يبقى الأهمّ لدي، من هنا لن تكون أجوبتي نهائية قطعا.

يمكن للبعض القول إن إمكانية الحديث عن سلطة رابعة غير معقول، في ظل عدم تكامل السلطات العراقية الثلاث الأخرى: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وقد يبدو هذا الاعتراض وجيها، من حيث شكل الدولة العراقية الحديثة، والخطوات التي تخطوها في المسيرة السياسية. لكننا ننبّه على أن هذا الاعتراض يأخذ الأدبيات السياسية بظواهرها، ويهمل وجود سلطة ما في العراق، تمثّلت أولا بمكتب إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية بقيادة جي غاردنر؛ ثم سلطة التحالف المؤقتة بقيادة السفير بول بريمر؛ ومجلس الحكم والحكومة المؤقتة برئاسة أياد علاوي؛ والحكومة الانتقالية برئاسة إبراهيم الجعفري؛ ثم الحكومة الحالية بقيادة نوري المالكي على التوالي. وما دامت هناك في العراق تشريعات تُسَنّ (أو ما يقوم مقامها)، مهما كان تقييمنا لهذه التشريعات، يمكن الحديث عن سلطة تشريعية متضمَّنة، حتى لو لم تكن عراقية أو لم تكن منتخبة، أي حتى إن لم تتوافر على الشروط النظرية الكاملة، وذلك بفعل أن هذه السلطة تمارس عملها واقعيا. وكذا هي الحال مع الجهات التي تنفّذ تلك التشريعات، والتي يمكن التعامل معها كما لو كانت سلطة تنفيذية. والحديث يمتدّ أيضا إلى الإجراءات العدلية والقضائية المعمول بها، تلك التي تسمح لنا بالحديث عن وجود سلطة قضائية، من حيث المضمون على الأقل. وإذا كان صحيحا القول إن العلاقة بين هذه السلطات لم تكن طبيعية، بمعنى أنها كانت غالبا مركّزة في يد واحدة، وأن الرقابة المتبادلة بين هذه السلطات غير موجودة، فهذا لا يلغي إمكانية نشوء معارضة ما لتلك "السلطات" الثلاث، كما لا يلغي دور الإعلام بوصفه الرقيب عليها.

مشكلة الإعلام في الديمقراطيات الناشئة:
في أعقاب انهيار نظام شمولي أو ديكتاتوري ما، يجد الإعلاميون أنفسهم في حالة أقرب إلى الفوضى. ولعل ذلك يتجلّى في العشوائية التي تتمّ بها إدارة العمل الصحفي، وفي كثرة المطبوعات التي لا تتوافر على الحد الأدنى من شروط العمل الإعلامي الحرّ والمسؤول، ولا شفافية التمويل، وانعدام الاستقلالية والمهنية والحيادية، وغياب أية خطط ترسم سياسات التحرير التي يمكن أن تنظّم وسيلة إعلام ما، فضلا عن الاختلاف الواضح بين المفاهيم أو النظريات الصحفية التي تحكم الأداء الإعلامي. لقد عصفت هذه الظواهر بالإعلام العراقي، حاله في ذلك حال معظم الأنظمة الديمقراطية الناشئة التي خرجت توّا من هيمنة الأنظمة الشمولية أو الديكتاتورية. ومن واقع تجربتي الإعلامية في السنوات الثلاث الماضية، يمكن أن أجمل أهم المشكلات التي يعانيها الإعلام العراقي، اليوم، بما يأتي:

1 ـ المشكلة السياسية:
حال نجاحها في إسقاط نظام صدام، خطّطت سلطة الاحتلال إلى تطبيق نموذج "الديمقراطية التحديثية" في العراق، بما يعنيه ذلك من عَلْمَنة للدستور العراقي، ونظام الحكم فيه، وتبنّي النموذج الحداثي للدولة. وعندما تمّ لها ذلك، شرعت في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإنجاح التجربة، لكنها سرعان ما اصطدمت بعقبات كثيرة أرغمتها، في النهاية، إلى تغيير خططها السابقة، لتشجّع هذه المرة نموذجا آخر هو "ديمقراطية التوافق"، حرصا منها على إرضاء الكتل السياسية المختلفة في العراق. ومع أن لديمقراطية التوافق إيجابياتها، نشأت عن محاولة تطبيقها في العراق، بشكل متسرّع ومرتجل يقوم على القياس الزائف (ما دامت ديمقراطية التوافق نجحت في بلدان تشبه العراق، فإنها ستنجح فيه بالتأكيد)، أزمات كثيرة يمكن تلخيصها بما نسمّيه هنا بـ "المشكلة السياسية". إن الحديث عن المشكلة السياسية في العراق يقودنا إلى تسليط الضوء على ثلاث ظواهر ما زالت تحكم عراق اليوم، أولاها تقول إن ما لدينا هو مجتمع محلي local society وليس مجتمع مدني civil society، وثانيتها تقول إن ما لدينا هو حركات movements وليس أحزاب parties، وثالثتها تقول إن ما لدينا هو حكومة government وليس دولة state.

وفي الحديث عن الظاهرة الأولى ننبّه على أن المجتمع المدني هو نتاج الدولة المركزية، فعماده عدد من المؤسسات التي تعضّد الدولة، حتى لو كان الأمر يتمّ عبر مراقبة أدائها ونقده. وتأتي عملية المراقبة والنقد من أجل أن تتطوّر الدولة إلى الحالة المثالية المتصوَّرة. المجتمع المدني إذن هو نتاج مدنيّة الدولة، وهو هنا مشروع تكاملي معها. أما المجتمع المحلي فهو نقيض للدولة، عبر تبنِّيه القيم غير المدنيّة لمجتمعات ما قبل الدولة، المحكومة بنمط مختلف من العلاقات (نمط العلاقات القبلية والقرابات العائلية مثلا). إنه إذن مُعيق لتطوّر الدولة إلى الحالة المثالية، وباحثو الأنثروبولوجيا السياسية الذين تحدّثوا عن مجتمعات مضادة للدولة (كلاوستر Klauster وغوشيه Gaucher مثلا)، إنما كانوا يتكلّمون على مجتمعات لا مركزية (يمكن أن تُعدّ شكلا من أشكال المجتمعات المحلية)، كانت قد وضعت ستراتيجيات دفاعية تحول دون ظهور الدولة، عبر مقاومة مركزة السلطة في يد واحدة. ومع ظهور الدولة تطوّرت مؤسسات المجتمع المدني التي لم تُرِد الحيلولة دون مركزة السلطة، بل أرادت مراقبة سوق السلطة، من حيث آليات حيازتها وستراتيجيات ممارستها، والوقوف بوجه احتكارها عبر ضمان التوزيع العادل لها.

هذا يقودنا إلى الحديث عن الظاهرتين الأخريين، وهما مترابطتان ومرتبطتان بالظاهرة الأولى. إن مضمون أكثر الأحزاب التي شكّلت السلطة أو الحكومة العراقية كان حركيّا. فالأحزاب لم تستطع التخلّص من أسْر التعبير عن رؤية الجماعات الفرعية، أو الهوية ما دون الوطنية، لأنها كانت ذات مضمون حركي، كما ذكرنا، بمعنى أنها تصدر عن مصالح جماعات دينية (الأحزاب المسيحية والصابئية مثلا)، أو قومية (الأحزاب الكردية مثلا)، أو طائفية (الأحزاب الشيعية والسنية مثلا)، أو سوى ذلك من الفروع. ومعظم الأحزاب فشلت في أن تعبّر عن الهوية العراقية، في ظل ظرف كان العراقيون فيه يحتاجون إلى لُحمة حقيقية تشدّهم إلى الدولة الوطنية الموحّدة، بعد سقوط الأب الذي كان يكبت كل المشاعر الهووية للثقافات الفرعية في العراق. إذن ما لدينا حركات لا أحزاب، وهذا النزوع الحركي جعلنا أمام سلطة أو حكومة، لا أمام دولة تتّسم بمؤسساتها الوطنية. فمؤسساتنا ظلّت "حزبية"، بما يعنيه ذلك من إمكانية هدم كل بناء، في أية لحظة تتبدّل فيها السلطة، لتؤول تلك المؤسسات إلى "أحزاب" أخرى، تحمل أفكارا مختلفة. وكانت سياسة التوافق والإرضاءات، التي حكمت الحكومات العراقية المتعاقبة، وشجّعتها سلطة الاحتلال، كفيلة بأن يتمّ السكوت عن أي هدم يمكن أن يحصل هنا أو هناك، لنعود في كل مرة إلى نقطة الصفر، ونحن نبني تلك المؤسسات.

ذلك كله أدّى بخطاب السلطة إلى أن يكون متنوّعا ومتضاربا، في أحيان كثيرة. من هنا، استعصى على الإعلام أن يتعامل مع خطاب رسمي مؤتلف يصدر عن كتل الموالاة، وآخر مختلف يعبّر عن كتل المعارضة. من هنا كان أمام الإعلام سيل جارف من التصريحات والمواقف المتباينة التي تعبّر عن مصالح الهويات الفرعية، مما أصاب المؤسسات الإعلامية بحالة من الارتباك والتشتت. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل انعكس على ولاءات المؤسسات الإعلامية نفسها، حتى صارت ظاهرة الإعلام الجهوي هي السائدة في العراق، فهناك مؤسسات إعلامية سنية وأخرى شيعية وثالثة كردية، وسوى ذلك.

2 ـ المشكلة الأمنية:
تسلّمتُ اليوم تقريرا أصدرته منظمة عراقية غير حكومية هي "مرصد الحريات الصحفية"، بالتعاون مع منظمات غير حكومية عراقية وأجنبية، تعنى برصد الاعتداءات على الصحفيين العراقيين. التقرير صدر بمناسبة "اليوم العالمي لحرية الصحافة"، وقد أحصى 109 حالات قتل تعرّض لها الصحفيون العراقيون، ابتداء من بدء الحملة العسكرية لإسقاط نظام صدام. وتشير هذه الإحصائية الجديدة إلى رقم مرعب بكل المقاييس، إذ لم يسقط هذا العدد من شهداء الصحافة سابقا، في أي صراع عرفه التاريخ الحديث، وذلك بسبب ما سأسميه هنا بـ "المشكلة الأمنية". ترتبط المشكلة الأمنية في العراق بالمشكلة السياسية ووضعها العام المبيّن أعلاه. لقد كان للحالة الأمنية المتردية أثرها الواضح في الإعلاميين، حالهم حال العراقيين كافة. وعملت القوات الأجنبية، والسلطات والأحزاب العراقية، والمليشيات، والجماعات المسلحة، وعصابات الجريمة المنظَّمة، على تفاقم ذلك التردّي الأمني. وما زال الإعلاميون العراقيون، بسبب ذلك، يتعرّضون إلى مخاطر القتل والإصابة والاختطاف والاعتقال، من دون إيجاد أية إجراءات جديّة لحمايتهم، مما أثّر سلبا في حرية التعبير وحرية الصحافة في العراق.

ويجد الكثير من المهتمّين بدراسة المجتمعات المحلية علاقة بينها وبين التمرّد، إذ يرون أن تلك الجماعات تهدّد مشروعية الدولة باستمرار، مشكّلة أحد المصادر المهمة في تصدير المتمردّين. كما أن الجماعات المسلحة الفاعلة في العراق يحكمها تكتيك قصير المدى يتسم بالارتجال، وهي تغيّر هذا التكتيك مرارا، وتجعل من الصحفيين أهدافا لها، إما لأنهم يعارضون أجنداتها السياسية، وإما لإثارة الفوضى، أو لأسباب أخرى لا مجال لاستعراضها هنا. كما أن ما يعانيه الصحفيون هو جزء من فقدان سيطرة الحكومات أو السلطات العراقية المتعاقبة على زمام الوضع الأمني، وعجزها عن توفير الحماية اللازمة للإعلاميين كافة.

فضلا عن ذلك، يشكّل العدد الهائل من المؤسسات الإعلامية العراقية التي أُنشئت بعد سقوط نظام صدام، عائقا جديدا أمام أية رغبة صادقة في توفير هذه الحماية، إذ يمكن لأي شخص أن ينشئ وسيلة إعلام ويضمّ إليها ما يشاء من العاملين، بشكل أدى إلى زيادة كبيرة لا تتناسب مع ما يحتاجه القطاع الإعلامي في العراق حقا. ولهاتين المشكلتين علاقة واضحة بالمشكلات الثلاثة الباقية: المشكلة الاقتصادية والمشكلة القانونية والمشكلة المهنية. إن هذه المشكلات الثلاثة لا يمكن حلّها، إن لم نجد حلا للمشكلتين السياسية والأمنية، لأن المشكلات جميعا متلازمة منطقيا (العلاقة هنا بلغة المنطق هي علاقة لزوم).

3 ـ المشكلة الاقتصادية:
ونقصد بهذه المشكلة تسليط الضوء على الشؤون المالية للإعلاميين، من حيث تبعات البطالة ومن حيث الرواتب، فضلا عن مناقشة مشكلة تعدّد مصادر التمويل للمؤسسات الإعلامية، والتي تؤثّر في درجة استقلاليتها. فعلى المستوى الأول نشهد ما يأتي:

أ ـ مشكلة البطالة في القطاع الإعلامي ما زالت مستمرة، على الرغم من الحلول التي وُضعت لها، والتي أسهمت في التخفيف منها نسبيا. فبعد إلغاء وزارة الإعلام بأمر من بريمر، تم تسريح نحو 6800 إعلامي وعامل في مجال الإعلام. واليوم تمّ إعادة نسبة عالية من هؤلاء إلى وزارة الثقافة، وإحالة آخرين على التقاعد.

ب ـ حقوق الصحفيين المهنية، ولا سيما أولئك الذين يعملون في مؤسسات القطاع الخاص، وضماناتهم على صعيد الرواتب ومستحقاتهم الصحية والاجتماعية وسوى ذلك، غائبة تماما. ويعاني الصحفيون الأمَرَّين في هذا المجال، إذ يمكن أن يتعرَّضوا للطّرد أو إنهاء الخدمات في مؤسساتهم، من غير أي إنذار مسبق، ومن دون الحصول على أية حقوق.

أما على مستوى التمويل فنجد أن مصادره متنوّعة في العراق، وهو يخضع بهذا إلى أجندات متباينة، سياسية واقتصادية وفكرية وثقافية وسوى ذلك. فهناك تمويل أجنبي، وتمويل حكومي، وتمويل حزبي، فضلا عن التمويل الصادر عن الهويات الفرعية. إن هذا التعدّد في مصادر التمويل يهدّد، باستمرار، استقلالية المؤسسات الإعلامية التي باتت زائفة في العراق، إذ أن أغلب هذه المؤسسات بقيت غير مستقلة، بشكل فعلي، على المستويين السياسي والاقتصادي في الأقل.

4 ـ المشكلة القانونية:
مهما كانت درجة الحرية التي يتمتع بها الإعلامي، فإنه لا يمكن أن يعمل في ظل حالة فقدان الجاذبية، بل يجب أن يعمل ضمن قوانين وتشريعات تنظّم عمله هذا، وإلا تحوّلت الحرية إلى فوضى. لكن الإعلام العراقي ظل، إلى الآن، يعاني مشكلة قانونية حادة، تتجلّى بعض وجوهها فيما يأتي:

أ ـ غياب أي إطار قانوني ينظّم العمل الإعلامي في العراق. وما زال قانونا المطبوعات والعقوبات القديمان ساريين، على الرغم من احتوائهما على مواد تخالف الدستور.

ب ـ ليس هناك ميثاق عراقي للشرف الصحفي، والمحاولات التي أنجزت مسوّدة للميثاق لم تحْظَ بالاهتمام اللازم، لأنها لا تمثّل الأغلبية العظمى من الإعلاميين العراقيين، على وفق ما يرون.

ج ـ ظلّت المعلومات حكرا على القوات الأجنبية وأجهزة الحكومة المتخصّصة، وليس من السهل حصول الصحفيين العراقيين على تلك المعلومات. كما أن الإعلاميين العراقيين يفتقرون إلى أي إطار قانوني يتعلّق بحريّتهم في الحصول على المعلومات، وبثّها بالطريقة التي يشاؤون.

د ـ أدى احتكار المعلومات إلى انعدام الشفافية، مما تسبب في تحجيم دور الإعلام في التصدّي للكثير من الظواهر السلبية، ولا سيما مشكلة الفساد.

هـ ـ ما زالت المؤسسات النقابية الثلاث: نقابة الصحفيين، واتحاد الصحفيين، ونقابة صحفيي كردستان، تعاني انقساما واضحا، وليس هناك تطوّر ملموس نحو التنسيق فيما بينها، كما أن قوانينها ليست موحّدة، بسبب أزمة الثقة المتبادلة بين قياداتها، وهيمنة إرث الماضي عليها.

ولعل القانون المنتظر الذي سينظّم المادة 36 من الدستور العراقي، يتكفّل بحلّ هذه المسائل العالقة، أو بعضها في الأقل.

5 ـ المشكلة المهنية:
ولهذه المشكلة وجوه مختلفة، لعل أهمها:

أ ـ على الرغم من العدد المهول من الإعلاميين العراقيين، فإن النسبة التي تتمتع بالكفاءة فيهم متدنية بشكل مخيف. وتتّسم مشاريع التدريب والتنمية والتطوير بالبدائية، وليس هناك مشروع متكامل يلبّي هذه الحاجة الملحّة والعاجلة، الأمر الذي يدعو إلى إنشاء معهد عراقي للتنمية الإعلامية، تُموّله جهة مانحة تحرص على استقلاليته ومهنيّته، عسى أن يكون كفيلا بدفع العملية الإعلامية الديمقراطية إلى الأمام.

ب ـ المفاهيم أو النظريات الصحفية التي تعمل بها معظم وسائل الإعلام العراقية ذات مضمون ثوري، على الرغم من أن عدد المؤسسات التي تعلن تبنّيها للمفهوم الليبرالي ليست قليلة. فمعظم الإعلاميين العراقيين ما زالوا يتصرّفون بوصفهم "مفكري الأمة" الذين يحتكرون المعرفة والحقيقة، مما يمنحهم الحق في توجيه الرأي العام نحو اتخاذ قرارات محدّدة، من غير أن يعرضوا على الجمهور خيارات متعدّدة، ويتركوا لهم حرية الاختيار. وإذا كان يمكن إيجاد مسوّغ لهذا السلوك في المراحل الأولى لبناء أية دولة، فمن المفروض أن تعدّ المؤسسات الليبرالية خطة للتحوّل التدريجي إلى المفهوم الليبرالي في العمل الإعلامي، توازي التطوّر الحاصل في بناء الدولة.

ج ـ هناك تخلّف واضح في صناعة الإعلام العراقية، فضلا عن الصناعات المرتبطة بها، من نحو صناعة الطباعة والتوزيع والإعلان.

د ـ يسيطر الارتجال على إدارة أغلب المؤسسات الإعلامية العراقية، ويبقى عدد الإداريين المبدعين لتلك المؤسسات قليلا. لذا، هناك حاجة ملحّة لدورات تدريبية متخصّصة في هذا المجال.

خاتمـة:
يمكن القول إن التطبيق السيئ والمرتجل لديمقراطية التوافق أخضع المجتمع العراقي إلى هيمنة القيم الدينية والقومية والطائفية والعشائرية، فصار شكلا جديدا من المجتمعات المضادّة للدولة. فلكي تنجح ديمقراطية التوافق ينبغي أن يكون الفاعل في الحياة السياسية هو الأحزاب لا الحركات، وهذا ما غاب عن الأذهان عند تطبيق النموذج في العراق، مما أفقد الحياة السياسية سمتين رئيسيتين هما "المعارضة" و"المراقبة المتبادلة بين السلطات". فالتوافق بين الحركات كان يؤدي دائما إلى برلمان يقوم على توافق الكتل الرئيسية، يتولّد عنه مجلس رئاسي ومجلس للوزراء من الكتل المتوافقة نفسها، فغابت بذلك المعارضة في البرلمان، وفقدت آلية المراقبة المتبادلة بين السلطات الثلاث معناها. من هنا ظلّت التجربة الديمقراطية العراقية زائفة، فقد خُلقت مؤسسات ديمقراطية شكلية، ذات مضمون فارغ. وهذا انعكس سلبيا على مشروع السلطة الرابعة المتمثلة بالصحافة، إذ لا يمكن لهذا المشروع أن ينجح إلا في ظل حياة سياسية صحية، فيها معارضة واضحة، ورقابة متبادلة بين السلطات، تؤدّي دورها بشكل صحيح.

إن هذه المشكلة تقتضي تفكيرا جديّا يهتمّ بصورة الدولة لدى المجتمع المحلي العراقي، ويدرس أسباب "آخرية الدولة" عنده، وإدماج الثقافات المحلية بالثقافة الوطنية، من أجل القضاء على تهديدات المجتمع المحلي للدولة، لا بمعالجة أشكاله وهياكله، بل بالتعامل معه بوصفه مضمونا ذهنيا، تعجّ به المدن نفسها. هكذا كان الاستمرار في الاعتراف بالشخصية المدنية للجماعات غير المدينية، والسماح لها بتكوين مجالس منتخبة تدير شؤونها، وبالا على مساعي بناء الدولة. وكذا هي الحال مع ظواهر أخرى كثيرة، لعل من بينها اعتماد مبدأ الإرضاءات السياسية للجماعات الدينية والقومية والطائفية والعشائرية، وتقديم الوعود لها بالحصول على المناصب الإدارية والسياسية، ولا سيما في أثناء الحملات الانتخابية للأحزاب، فضلا عن اعتماد سياسيي تلك الأحزاب على الانتماء المناطقي والعشائري والطائفي والديني، في خطابهم الإعلامي وحملاتهم الانتخابية.

وتأسيسا على ذلك، نحتاج إلى دراسة معمّقة لمعرفة حدود مشكلة "الآخر غير المديني" و"الآخر غير المركزي"، في المجتمع العراقي، ووضع خطة شاملة لتنميته، تنصّ على مراحل التنفيذ ونقطة الشروع بشكل واضح. ولعل تلك الخطة تسهم بتهدئة مخاوف الجماعات المحلية من الدولة الوطنية، وتعمّق العلاقة بينهما، وتعضّد الطموح بنجاح عملية الإدماج الوطني، بشكل يؤدّي إلى الحدّ من مشكلات تلك الجماعات، المتمثّلة بالنزوح والهجرة والبطالة وتدنّي مستوى الخدمات. إن مكوّنات المجتمع العراقي، ما لم تؤمن بالقيم المدنيّة، وتضع السبل الكفيلة بتجاوز سلبيات المرحلة الحالية، فإن أي أمل بظهور الدولة العراقية الحديثة يبقى محض تصوّرات تجريدية حالمة ليس غير.

قلت، في البدء، إن الصحافة اكتسبت على مرّ العصور ألقابا كثيرة، وذكرت من بينها الدّعامة الرابعة للديمقراطية، والطبقة الرابعة، والقوة السابعة، وأضيف إليها الآن لقب "صاحبة الجلالة". لكنني، شخصيا، أفضّل لقبا آخر أراه أكثر ملاءمة للإعلاميين العراقيين الآن، هو: "مهنة المتاعب"!

بعض وسائل الإعلام العراقية الناطقة بالعربية:
الصحف:
صحيفة البصائر/ هيئة علماء المسلمين.
صحيفة دار السلام/ الحزب الإسلامي العراقي.
صحيفتا الحوزة، وإشراقات الصدر/ التيار الصدري.
صحيفة العدالة/ المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.
صحيفة البيان/ حزب الدعوة الإسلامية.
صحيفة البينة/ حركة حزب الله في العراق.
صحيفة التآخي/ الحزب الديمقراطي الكردستاني.
صحيفة الاتحاد/ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
صحيفة الصباح/ شبكة الإعلام العراقية المدعومة حكوميا.
صحيفة المدى/ مستقلة.
صحيفة الزمان/ مستقلة.
صحيفة الصباح الجديد/ مستقلة.
صحيفة المشرق/ مستقلة.

الإذاعات:
راديو دار السلام/ الحزب الإسلامي العراقي.
راديو نوا/ تمويل أمريكي، مقره إقليم كردستان.
صوت العراق الحر/ تمويل أمريكي، مقره براغ.
إذاعة بغداد/ شبكة الإعلام العراقية المدعومة حكوميا.
أما معظم الإذاعات الأخرى فهي مستقلة، ومنها:
راديو دجلة، وراديو الناس، وراديو المحبة.

القنوات الفضائية:
قناة الفرات/ المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.
قناة بلادي/ حزب الدعوة الإسلامية.
قناة الأنوار/ قناة شيعية تابعة لمرجعية الشيرازي، مقرها المنامة.
قناة بغداد/ الحزب الإسلامي العراقي.
قناة الرافدين/ هيئة علماء المسلمين.
قناة كردسات/ قناة رسمية كردية ناطقة العربية.
قناة آشور/ الحركة الكلدوآشورية.
قناة العراقية/ شبكة الإعلام العراقية المدعومة عراقيا.
قناة الحرة عراق/ تمويل أمريكي، مقرها بغداد.
قناة الشرقية/ مستقلة، مقرها دبي.
قناة الفيحاء/ مستقلة، مقرها دبي.

بغداد