ترجمة سعيد بوخليط
ولد تزفيتان تودوروف سنة 1939 بمدينة صوفيا، وهو مدير شرفي للمركز الوطني للبحث العلمي. سنة 2008، تُوِّجت أعماله بجائزة : Prince des Asturies. أما، مؤلفه الأخير: [la signature humaine] فيعرض لمساره الفكري الخاص، باختياره لدراسات ومقالات تكشف عن نزعة إنسانية في الزمن الحاضر. الدعوة، اليوم ملحة؟ من أجل الدفاع عن الحريات الفردية في مواجهة الدولة، وهي تمارس السلطة بشكل استبدادي وكذا خلطها بين الأساليب. انتصر الديموقراطيون على التوتاليتارية، ولم يعانوا حقاً من تهديد التيوقراطيين المتواجدين هنا أو هناك. في المقابل، هم عرضة للخطر نتيجة الانحرافات الصادرة عن الديموقراطيين أنفسهم.
تقوم الديموقراطية الليبرالية على مبدأين وصيغتين للسيادة. من جهة، سيادة الشعب وضمان المساواة بين جميع المواطنين وحماية الصالح العام. ثم، من ناحية ثانية، حرية الأفراد داخل دائرة تتخلص من كل ضبط جماعي. إذا لم تتعارض هاتان القاعدتان بطريقة مباشرة، تنشأ أحياناً توترات بينهما: يعهد الشعب بسلطته إلى مسؤولين، والحالة هاته أن هؤلاء يظلون كائنات إنسانية مثل الجميع. في هذا السياق، يأتي تحذير مونتسكيو أول ممثل للفكر الليبرالي في فرنسا، حينما قال: «كل شخص يملك السلطة، ينزع نحو التعسف، إنها تجربة أبدية». ومن أجل تجنب عدم الوقوع في المأزق، سعى الديمقراطيون نحو ثنائية متعددة، سواء عبر أحزاب تكفل تنوع الرؤى السياسية أو بناء سلطات تجسدها مؤسسات مستقلة، تتحدد كل واحدة منها. لكن فساد السلطة، ينطلق من مبدأ احتكارها. لقد رأينا توضيحاً لهذه الصيغة، مع الإدارة الأمريكية السابقة والتي باسم المصلحة العامة أضفت شرعية على التعذيب. أما في فرنسا، فالتهديدات التي تتوعد الديمقراطية اكتست مظهراً آخر.
المثال الكلاسيكي عن الشطط، يشير إلى محاولة توجيه عمل القضاء من طرف السلطة التنفيذية. هكذا، تابعنا المتابعات القضائية لرئيس الجمهورية في إطار قضية (clearstream)(1) تحول معها في الآن ذاته، إلى قاضي وخصم، ثم يصرح: (إنني أثق في القضاء) قصد تقديم الدليل عن حياديته. لكن، كان بإمكانه إضافة ما يلي: بقدر ما ترتبط مباشرة مهنة القضاة بشخصي! محاكمة ثانية، أثناء فصل الصيف (ما سمي بـ"عصابة المتوحشين") جذبت الانتباه. غداة الحُكم، طلب الممثلون الرسميون للطائفة اليهودية، بالتشديد في العقوبات التي سيتم النطق بها، وعلى الفور سيشاطرهم وزير العدل الرأي، فامتثل القضاة لرغبة مجموعات الضغط وكذا ملاحظات المشايعين لهم، ولم يكن بوسع رئيس الاتحاد النقابي للقضاء، غير أن يلاحظ بنوع من التحسّر: (سطو السياسة على حقوق القضاء).
لا تقل أهمية أيضاً، استقلالية وسائل الإعلام الكبرى عن السلطة التنفيذية. لم تصل فرنسا بعد إلى درجة تداخل السلطات، كما هو الوضع مثلاً في إيطاليا، حيث رئيس الحكومة، يسيطر على عدة قنوات تلفزية عمومية وكذا امتلاكه لقنوات أخرى خاصة. بمقتضى تعديل حديث لمنظومة القوانين، فإن الحكومة بدلاً عن هيئة مستقلة، هي من تختار المشرفين على وسائل الإعلام العمومية. تسويغ الأمر، يثير الضحك: يقولون، تجنباً للخداع، لأنه في جميع الأحوال ستذعن، الهيئة "المستقلة" للأوامر! نعلم جيداً، بأن الخداع تحية توجهها الرذيلة للفضيلة، لكن يمكننا تجنبه بطريقتين مختلفتين: إما نجيز للرذيلة تأكيد وجودها، أو نسعى لإزاحتها. أما التعيينات، التي تلت القرار، فقد فُهمت من زاوية ارتباطها بمصالح شخصية.
نستحض أيضا في نفس الاتجاه، الاستفزاز الذي عاناه بعض الصحافيين: اعتقلت الشرطة لفترة، صحافيا يعمل بجريدة "libération"، بدعوى القذف. وآخر، من هيئة تحرير جريدة "le monde"، بعد أن وجهت له تهمة تغطيته لتظاهرة، لا ترغب فيها السلطة. لاستمرارية الحفاظ على أسس الديموقراطية، يتحتم على السلطة التنفيذية ضمان، ليس فقط استقلالية السلط، لكن إلى جانبه أنشطة أخرى مثل البحث العلمي. ضرورة، سيعمل "كوندورسي" رمز للفكر الليبرالي، على صياغتها فترة الثورة، قائلاً: ( ليس من حق السلطة العمومية، أن تقرر. أينما تقوم الحقيقة يكمن الخطأ). لقد انتُهك هذا المنع، بمناسبة "قضية غيسر Geisser" خلال فصل الصيف.
السيد فانسان غيسرVincent Geisser، باث بالمركز الوطني للبحث العلمي، شرع في إنجاز دراسة حول المُدرسين الذين ينحدرون من الهجرات المغاربية. سنة 2007، طلبت منه الإدارة وقف أبحاثه. موقف، مكننا من أن نكتشف مع المركز الوطني للبحث العلمي، وجود هذا الموظف المكلف بـ "الأمن والدفاع" ومراقبة كل الدراسات السوسيولوجية والسوسيوـ سياسية، التي تتبيّن له "حساسيتها" ولاسيما ما يتعلق منها بالإسلام. لكن، اعتدنا أيضاً على أن هذا النوع من التدخل، ليس استثنائياً، فقد توجه نفس الموظف إلى باحثين آخرين كي يعبر عن استهجانه لآرائهم وتصوراتهم. في العمق، قرار المركز الوطني، ينطوي على نوع من الحيرة: هل يجب حظر بحث ما، لأن نتائجه قد تزعج السلطة؟ بالتالي، تكسير كل الترمومترات كي لا ترتفع درجات الحرارة.
المبادئ المعنوية التي يقبل بها الجميع، ترسم بدورها نطاقاً لممارسة السلطة السياسية. مع بداية القرن19، كتب بنيامين كونسطان، رائد آخر للفكر الليبرالي، الشيء التالي: "كل قانون يأمر بالوشاية، لا يعتبر قانوناً. كذلك، ينتفي بُعد القانونية عن كل شريعة تعاقب الاتجاه الذي يحث كل واحد على تقديم الملاذ، لأي شخص التمس منه ملجأ". غير، أن الفصل1-622 من قانون الأجانب، يمنع منح يد العون للأجنبي الذي تتميز وضعيته القانونية بالاختلال. هكذا، تنتظرك عقوبة سجنية تمتد إلى خمس سنوات وغرامة مالية تقدر بـ30.000 أورو، إذا استدعيته لتناول وجبة غذاء. وبالرغم، من تكذيب وزير الهوية الوطنية، فقد نُفذ التهديد بحذافيره، في أفق تثبيط همة كل من يحاول مساعدة هؤلاء الغرباء، كما أن التظاهرات الجماهيرية المساندة لحقوقهم، تعرضت لقمع شديد (أحد المناصرين فقد مؤخراً عينه). ربما، التعددية الأكثر أهمية للتطبيق الديمقراطي الجيد، تلك القائمة على استقلال لطرفي السياسة والاقتصاد. حاجة، تفرض أولاً على المسؤولين السياسيين وقاية أخلاقية. فسلطتهم ورؤيتهم بمثابة نسخة بديلة عن التزامات صارمة جداً، قياساً لباقي المواطنين العاديين: يجب أن يكون تصرفهم مثالياً، يتلافون كل مصادر الشكوك والمحاباة والتواطؤ مع القوى الاقتصادية، أو العمل هنا وهناك، كما يُمنع على المقربين من أفراد عائلاتهم، استغلال امتيازاتهم كي يحتكروا لأنفسهم حقوق الآخر. إن المحسوبية، ارتماء الموظفين في أحضان القطاع الخاص والفساد، تشكل معطيات قديمة، لكنها بقيت دوماً مرفوضة. استقلالية الاشتغال الاقتصادي، أعيد فيه النظر من قبل السلطة التوتاليتارية والتي فضلت الاختيارات السياسية (مخازن تجارية فارغة، العوز الشديد). اليوم، فالاستقلال السياسي يرتج جراء ضغوط تتأتى من رؤى مختلفة. العولمة، تعطي إمكانية للفاعلين الاقتصاديين، كي يفلتوا من مراقبة الحكومات المحلية: العائق الأول، أن المقاولة متعددة الجنسيات، تنتقل بمصانعها إلى بلد يظهر ترحيباً زائداً. من ناحية ثانية، إيديولوجية الليبرالية المتوحشة، لا تبقي على مجال مناسب للعمل السياسي داخل أي بلد، لذلك من الضروري وضع حد بينها والفكر الليبرالي الكلاسيكي. بينما يدافع هذا الأخير، عن تعددية القوى ومقومات البلد. تتغيا الليبرالية المتوحشة الواحدية، وتمدح خضوع المجتمع إلى قوة مطلقة كما تجسدها معطيات سوق لا متناه، بناء على فرضية أنثروبولوجية وهمية، مضمونها أن الفرد يكفي نفسه بنفسه، ثم تختزل المسمى إنساناً، إلى حيوان، يتعجل فقط احتياجات محض اقتصادية. تعمل الليبرالية المتوحشة، على تقويض كل حيز للسلطة السياسية، وهي صاحبة المسؤولية عن الصالح العام.
أيضاً، حتى المَلكية الانتخابية ليست ديمقراطية. نظرياً، تحافظ مؤسساتنا على أسس الديمقراطية، إلا أنها عملياً فقد تحولت إلى مجرد واجهات لسلطة كليانية ومُشخصنة. فكيف، ندعو المواطنين إلى تبني نمط عجز مسؤولو البلد على بلورته؟ تنهض، الديمقراطية على تحقيق التوازن بين مكونات المجتمع، لكننا حالياً نلاحظ إشارات عديدة تدل على الخطر المتربص بهذا التوازن.
مراكش/ المغرب
الهامش
أخطار تهدد الديموقراطية le monde 15-16 Novembre 2009.
[1] ـ يشير تودوروف إلى ما وقع سنة 2004، حينما حاول بعض الساسة وأرباب الصناعة(2) الفرنسيين، التلاعب بالقضاء قصد إبعاد شخصيات أخرى من مجال التنافس على صفقة بيع سفن عسكرية إلى تايوان (المترجم)