يركز الباحث العراقي على كل من مؤلفات ابو زيد: "الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة"، و"فلسفة التأويل"، و"إشكاليات القراءة وآليات التأويل". ويقدم منهجاً تعريفياً تحليلياً بالدرجة الأولى، ونقدياً تجاوزياً لها.

المفكر الراحل نصر أبو زيد في بواكير أعماله

المجاز والتأويل عند المعتزلة وابن عربي

علاء اللامي

سنبدأ عرضنا التحليلي هذا في بواكير أعمال المفكر العربي الراحل نصر حامد أبو زيد من كتابه "الاتجاه العقلي في التفسير/ دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة"، فهذا الكتاب هو أول احتكاك بحثي رسمي له، وهو بالمناسبة أطروحته لنيل شهادة الماجستير، ثم نواصل ما اتصل بحثياً بالتعرض التحليلي لكتابه "فلسفة التأويل" الذي هو أطروحته لنيل الدكتوراة لننتهي عند كتابه الأكثر نضجاً وتكريساً لجهازه المفهومي ومنظومته المنهجية "إشكاليات القراءة وآليات التأويل" مسجلين قبل البدء أن الهدف من مسعانا هذا هو تعريفي تحليلي بالدرجة الأولى، ونقدي تجاوزي، بما يسمح به المجال والمناسبة، إنما ليس على طريقة "اذكروا محاسن موتاكم" على ما في هذه الكلمات من شحنة نبل عاطفية، بل باحترام موتانا عبر تكريس وممارسة مناهجهم النقدية على نتاجاتهم ذاته.

عقلانية المعتزلة

لا تختلف التقنية البحثية التي يعتمدها أبو زيد في أطروحته للماجستير موضوع الحديث، عن تلك المعهودة والسائدة في الجامعات العربية والعالمية، ولكن وجود خصيصة أسلوبية شخصية تميز بها نثرُ أبو زيد حدَّت إلى درجة معينة من الجفاف والتخطيطية المبالغ فيها اللذين نلقاهما في النصوص والأطروحات الأكاديمية الرسمية المماثلة. ويخبرنا المؤلف بوضوح، ومنذ البداية، ونحن الآن في الصفحات الأولى من كتابة الأول، أن هدفه ومادته ومجاله البحثي هو أحد مباحث البلاغة وهو مبحث المجاز، والمجاز في القرآن الكريم تحديداً، وبتحديد أشد هو المجاز القرآني كما نضج واستوى وتأصل ثم تفرع وتشابك في تجربة المعتزلة الفكرية الغزيرة، وكشفُ العلاقات والتأثيرات والتمظهرات بين الفكر الاعتزالي في جانبه العقلاني وبين بحث المجاز في القرآن.

زمنياً، حصر الباحث دراسته عند نهايات القرن الرابع الهجري، آنَ بلغ الفكر الاعتزالي أوج نضجه. أما مرجعياً، فقد اعتمد الباحث على المصادر الأصلية للفكر الاعتزالي، ونأى عن تلك التي تؤرخ أو تترجم لهم أو تحكي آراءهم، ومن أهم تلك المصادر الأصلية مؤلفات القاضي عبد الجبار، وأهمها موسوعته الضخمة "المُغْني في أبواب التوحيد والعدل". وبما أن المجاز بشكل عام، والذي تنطوي تحت بنده صنوف وأغراض بلاغية كثيرة كالاستعارة والكناية والتشبيه والتمثيل والقلب.. الخ، هو وسيلة أداء لغوية، فقد تفطن الباحث إلى أن أي فهم لطبيعته لا ينفصل عن تصور ما لطبيعة اللغة ودلالاتها، وهو أمرٌ لا يتم إلا في سياق تصور أعمٍّ لنوع النشاط العقلي المستهدف المعرفة. وعلى هذا، وبهدفه، مهد الباحث لنشأة الفكر الاعتزالي بتفسير للظروف الاجتماعية للمجتمع الإسلامي آنذاك. وهو تمهيد "اجتماسي" تاريخي يجري مجرى العادة في الدراسات التي من هذا الغرار كما نعتقد، لذلك علينا ألا ننتظر أي جديد أو فرادة للبحث في إطاره التقني كخطة بحث، ومع أن الباحث يقرر بدايةً، أنه سيعتمد على المقارنة بين المعتزلة وخصومهم الأشاعرة بهدف كشف خصوصية الفكر الاعتزالي، ولكنه لا يجد أهمية خاصة -كما يبدو- لتقديم مبحث خاص لبيان أصول الفكر الأشعري وحيثياته التاريخية مثلما فعل مع المعتزلة، وهذا ما يجعل المقارنة البحثية التي شاءها أقل توازناً وإنتاجية من المأمول، فإن احتج - وقد فعل- بخروج الموضوع عن مقتضيات البحث، وهذا أمر ليس معلَلاً كفاية، فقد كان بوسعه تقديم عرض مختصر ومكثف بدلاً من مبحث خاص بهذا الشأن.

سنضرب صفحاً عن التمهيد الخاص بالإطار التاريخي لنشأة الفكر الاعتزالي، والممتد على أكثر من ثلاثين صفحة، لبعدها عن انشغالاتنا، ومشابهته للعروض التاريخ/ اجتماسية المألوفة والمكررة، وحتى عن تقديم عروض مبتسرة لفصول البحث، مفضلين إلقاء الضوء على ما بدا لنا الأكثر أهمية والأقرب مدارا لموضوع التفسير والتأويل الهرمنيوطيقي، فلننتقل إلى الفصل الأول الذي يحمل عنواناً فرعياً هو "المعرفة والدلالة الغوية": يستعرض الباحث في هذا الفصل بدايات نشوء الفكر الاعتزالي مع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومن ثم العلّاف والنَظّام، ويرصد محاولات التمييز بين أدلة العقل وأدلة الشرع، أي بين ما هو عقلي وما هو نقلي. ملاحظا في نهاية بحثه لقضية الدلالة اللغوية عند المعتزلة وجود (تداخل كامل بين وظيفة اللغة من جانب، وبين شرطَيْ دلالتها من جانب آخر، وهما المواضعة والقصد. وإذا كانت العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة انفصام لا يربطها سوى قصد الجماعة، فإن العلاقة بين العبارة – التركيب- وما تدل عليه من المعنى النفسي على المستوى البشري، ومن القصد على المستوى الإلهي، هي أيضا علاقة انفصام/ ص90 الاتجاه العقلي) ومعنى هذه الخلاصة، أو مؤداها المباشر هو أن المعتزلة انتهوا إلى الفصل بين المعنى واللفظ فرديا، وبين العبارة والمعنى تركيبياً. في الفصل التالي "الثاني" يلاحق الباحث الكيفية التاريخية التي انتقلت بها الدلالة اللغوية من مستوى الحقيقة (بوصفها الوجود الأول؟) إلى مستوى المجاز، وكيف يمكن أن تُعَبِّر عن قصد المتكلم ومعانيه. وضمن العديد من مفكري ومؤسسي الاعتزال الذين تعرض الباحث بالرصد والتحليل والاستقراء لأعمالهم أو أفكارهم نقف عند الجاحظ بوصفه أو من استعمل مصطلح " المجاز " استعمالاً ناضجاً بدلالاته التي ستتكرس في ما بعد كلامياً وفلسفياً. كما يرد اسم القاضي عبد الجبار الذي وضع الأسس والقواعد التي يجب أن تحكم عملية التأويل وتضبطها وخصوصا في آيات التوحيد والعدل القرآنية.

قضية رؤية الله

يتوقف الباحث عند واحدة من القضايا المهمة التي أثارها المعتزلة وهي المعروفة بقضية "رؤية الله" وجوازها أو امتناعها عليه، وهي مرتبطة بقضية أخرى أثارها المعتزلة أيضاً هي قضية التوحيد والعدل ونفي الجسمانية عن الله تعالى، ذلك أن إثبات الله مرئياً يقتضي كونه في جهة ومتحيزاً في المكان، وهذا فهمٌ يجعله تعالى محدوداً و متناهياً فيما هو، كما ينبغي أن نفهم بدلالة السياق، لامتناهياً ومطلقاً. ولذلك، سعى المعتزلة إلى نفي أن يكون الله مرئيا بأية صورة من الصور، في الدنيا والآخرة على السواء، وفي السبيل إلى إثبات هذا النفي حشدوا آيات قرآنية تثبت رأيهم، و لكن اعترضتهم آيات أخرى ساقها خصومهم ترد دعواهم هذه، ومن ثم – يقول باحثنا/ ص190م س – لم يكن أمامهم مناص من حلِّ هذا التعارض إلا تأويل هذه الآيات – الرّادة لدعواهم - تأويلاً يتفق ووجهة نظرهم في التوحيد، وفيما يجوز على الله وما لا يجوز عليه. و لكي يستكملوا مهمتهم وفق هذا السياق الذي لم يشر أبو زيد قط إلى ما لابسه من محتوىً أيديولوجيٍّ، نظروا إلى الآيات التي استشهد بها خصومهم على أنها من "المتشابه" الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. أما الآيات التي تسند وجهة نظرهم، فاعتبروها من "المُحْكَم" الذي تُرَدُ إليه آيات الخصوم المعتبرة من المتشابه. والمحكم في أبسط تعريف له هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس أمره، وهذا هو الغالب في القرآن، أما المتشابه، فهو ما اشتبهَ أمرُهُ على بعض الناس دون بعض، فيعلمه العلماء ولا يعلمه غيرهم. وحين نعلم أن خصوم المعتزلة كانوا يلجأون إلى الطريقة "يسميها أبو زيد وهو مصيب: الحيلة " ذاتها في الردِّ والمحاججة، ويعتبرون آياتهم من المحكم والآيات التي يستند إليها خصومهم من المتشابه، نفهم أن السجال الدائر بين الطرفين – المعتزلة والأشاعرة - ليس إلا نوعاً من الجدل الخطابي ذي الجوهر الأيديولوجي السجالي والغرضي البحت، وإذا ما علمنا بأن المضامين الدينية التي يتبناها المعتزلة لا تختلف من حيث المعاني العامة - وليس من حيث الآفاق والمآلات - عن تلك التي يتبناها خصومهم، صَعُبَ علينا احتساب الفكر الاعتزالي، أقلها في هذا التفصيل المتعلق بالتأويل، أكثر عقلانية من فكر خصومهم، طالما اعتمد الخصوم ذات الأساليب في التفكير والتحليل وبناء المنظومات المفهومية الخاصة بهم. لتوضيح كلامنا هذا، نعود إلى المثال الذي ساقه الباحث، والخاص بقضية رؤية الله: فالمعتزلة بنفيهم إمكانية هذه الرؤية، لا يتقدمون نحو أفق عقلاني أو ينتجون جوهرا عقلانيا مناقضا للأفق أو الجوهر الذي يدافع عنه خصومهم، بل ينتهون إلى تأكيد مجموعة من المقولات والتأويلات التي ساقهم إليها التفكير المنطقي الشكلاني، وهذا ما لامسه الباحث نفسه مجرد ملامسة ولكنه لم يخرج منه بالاستنتاجات المتسقة حين يسجل (غير أن قضية نفي الرؤية عن الله، إلى جانب اتصالها بأصل التوحيد،وهو الأصل الأول للمذهب الاعتزالي، تتصل من جانب آخر بصفات المدح التي لا يجب نفيها عن الله. بمعنى أن الله تعالى إذا كان قد تمدَّح نفسه بأنه لا يرى، فإن الزعم بأنه يرى هو نفي للمدح الذي مدح به ذاته... ص192م س) وهذا مجرد مثال، إلى جانب أمثلة أخرى كثيرة يمكن الإتيان بها للتأكيد على صعوبة إعطاء المعتزلة بشتى تنظيراتهم وتلاوينهم الفكرية بُعداً أو جوهراً عقلانياً ماكناً وشاملاً بما يجعلهم مدرسة أو تياراً عقلانياً بحتاً ومنسجماً وناضجاً، الأمرُ الذي لا وجود له في الواقع التاريخي، غير أن ذلك لا ينفي الوجود والتلابس العقلاني الشبيه بالجزر المتناثرة وغير المترابطة في بحر التراث الفقهي والكلامي المنسوب إليهم الأمر الذي لا نعدم وجوده لدى تيارات أخرى قد تكون اتخذت مواقف معاكسة لمواقفهم في قضايا تفصيلية معينة. ولعل من أهم تلك الجزر "العقلانية" قضية ترتيبهم لأدلة العقل قبل أدلة الشرع، أي منح الأولوية للمعقول على حساب المنقول، واعتبارهم كلام الله تعالى دالا بمفرده على ما يدل عليه. وأيضاً، في اعتمادهم للقرينة العقلية التي اعتبروها أشد دلالة من القرينة اللفظية المتصلة بالكلام حين يعجز التحليل اللغوي عن بيان وجه التجاوز في العبارة، وغير ذلك كثير.

الخلاصة التي ينتهي إليها الباحث في الأسطر الأخيرة من أطروحته مدعاة للتأمل العميق هي الأخرى، لأنها تفصح عن الكثير مما لم يُقَلْ في البحث، وتومئ إلى واقع الحال الخاص بمدى وعمق عقلانية المعتزلة، أكثر مما تطرحه على منصة البحث المعرفي فهو يختم بالقول (وأيا كان تقويمنا لجهود المعتزلة، فالذي لا شك فيه أنهم حاولوا مخلصين رفع التناقض بين العقل والشرع من جانب، وبين النصوص المتعارضة ظاهريا في القرآن من جانب آخر. وكانت جهودهم في مجالات المعرفة واللغة والمجاز إنجازا له آثاره العديدة على هذه المجالات وعلى المتخصصين في تراثنا العربية 246م س) وإذا شئنا أن نترجم "نعوض؟" هذه الخلاصة المركبة بكلمات أكثر بساطة، فلن نجد سوى القول: لقد حاول المعتزلة رفع التناقض بين العقل والشرع، وبين النصوص المتعارضة ظاهريا في القرآن، فكانت محاولتهم طريقاً لإنتاج هذا التراث الذي ننسبه إليهم. ونضيف نحن من جانبنا: أما النظر والبحث المعرفي في واقع ومدى و عميق وتأثير تلك العقلانية فشأن آخر تماماً.

يمكن لنا أن نطور هذه الفكرة المتحفظة بتحويلها إلى تساؤل يقول: هل أفضت الميزات العقلانية المفترضة التي انطوت عليها التجربة المعتزلية التي سعت إلى (رفع التناقض المتوَهم بين آيات القرآن من جهة وبين القرآن وأدلة العقل من جهة أخرى) إلى ترسيخ العقلانية كخيار مهيمن، أو أقلها رئيسي، في التجربة الفكرية الإسلامية ككل، فصار لها من التأثير والحضور ما يجعلها مقابلاً تاريخياً نقيضاً للأشعرية أم أنها انقرضت كما انقرض سواها من نزعات عقلانية في تراثنا؟ وهل يترتب على هذا – إن كانت الإجابة بنعم على الاحتمال الأول- وصم هذه الأخيرة باللاعقلانية؟ نطرح هذا التساؤل الذي يحتوي على نواة إجابته على سبيل التحفيز لطرح تساؤلات أكثر وأعمق في هذا الشأن، غير ناسين أن الدولة العثمانية - على سبيل المثال والمقارنة - و التي تبنت المذهب الحنفي استأصلت فيما بعد بقايا المعتزلة والأشاعرة معا، بل وطال اضطهادها حتى الحنابلة الذين اختفوا من بيئاتهم الأصلية كالعراق والشام والذين سبق للمعتزلة في أيام عزهم " المأمونية" أن اضطهدوهم وبلغ الاضطهاد ذروته في محنة الشيخ ابن حنبل ذاته المشهورة.

الملاحظة الأخيرة تستبطن كما هو واضح سؤالا نحسبه مهما ويتعلق بما يمكن تسميته جدل الانقطاع والاستمرارية في مضامين النزعات التراثية عقلانية كانت أم غير عقلانية وهذا ما يستأهل بحثاً خاصاً ومسهباً يخرج عن نطاق هذا العرض.

من المعتزلة إلى ابن عربي

في مقدمة كتابه الثاني، وهو أطروحته لنيل شهادة الدكتوراة، والموسوم " فلسفة التأويل/ دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي"، يسجل الباحث أن الكثير من الأفكار والمفاهيم التي انطلق منها في تجربته البحثية الأولى، قد تم تعديلها، وخصوصاً مفهوم التأويل باتجاه عدم إغفال دور النص وما يرتبط به من تراث تفسيري، وتأثيره على المفسِّر ذاته، وعدم الاقتصار على النظر إلى التأويل كجهد عقلي ذاتي هدفه إخضاع النص الديني لتصورات المفسِّر ومفاهيمه. يخبرنا الباحث، أن محاولته الجديدة، المتطورة عن، والمتساوقة مع محاولته البحثية السابقة لا تنظر إلى العلاقة بين المفسِّر والنص كعلاقة إخضاع وخضوع، وبالتالي – نضيف نحن مستنتجين - سيتم تجمدها لاحقاً في تفسيرات دوغمائية ساكنة على شكل مقولات أرثوذوكسية مذهبية، بل هي علاقة جديلة قائمة على التفاعل المتبادل/ ص 6 مقدمة فلسفة التأويل. ولتحقيق هدفه هذا، يختار الباحث تراث وتجربة الشيخ محيي الدين بن عربي في دراسة التأويل وتطبيقه على النص القرآني. هذا التراث، وفَّر للباحث فرصة نادرة وثرية لدراسة متشعبة تحيط وتحايث وتخترق المنظومة المفهومية التي تحتويها فلسفة ابن عربي في جوانبها الوجودية والمعرفية، إلى جانب مفاهيمه الخاصة بماهية النص الديني ودوره الوجودي والمعرفي، ومفهوم اللغة بمستوياتها المتعددة، باعتبارها الوسيط الذي يتجلى من خلاله النص.

التفريق بين التفسير التأويل

يتصدى الباحث في بداية بحثه، لإشكالية التفريق بين التفسير والتأويل، التي كانت شائعة قديماً، وبما يُعلي من شأن التفسير على اعتبار موضوعيته التي تفترض إمكانية تجاوز المفسِّر لظرفه الموضوعي وواقعه التاريخي، ليتبنى موقف معاصري النص، ليفهمه كما فهموه، على حساب التأويل، وبحساب ذاتيته التي تمنح المفسِّر حرية أوسع تمكنه من تقديم تأويلات تناسب عصره، وتنطلق منه، ومن همومه، لفهم النص. ويعتقد الباحث، أن الحالة الأولى، رغم انطلاقها من الموقف التفسيري المحض، لا تخلو من بذور التأويلية، وخصوصاً حين يجري اعتماد الترجيح. هنا، يوحد الباحث بين أسلوبين لا جامع بينهما من حيث التقنيات و البعد العملي، فالتأويل يعني إخراج حال النص من حقيقته الأولى إلى تصور جديد له يطمح ليكون حقيقته الثانية مع التأكيد على أن الحقيقتين الأولى والثانية، ليستا إلا صورتين لذات الحقيقة مع أخذ الزمن والتطور الحتمي بالاعتبار. أما الترجيح، فهو لا يعني سوى اختيار صورة واحدة من صورتين لحقيقة واحدة لنسمها الحقيقة الأولى للنص، مع وجوب عدم إهدار معنى الرجوح والترجيح القاضي بأن المعنى المرجَّح لا يعني أنه عكس أو نقيض المعنى الآخر "المرجَّح عليه" أو أنه سلبي بشكل قاطع. ولعل المثال الذي ساقه الباحث، لتأييد فكرته تلك، وهو مثال ابن عباس في موقفه من الخوارج وتأويلاتهم، والرد على تأويلاتهم تلك بتأويلات تخصه هو، يمكن ان ينقلب ليكون مؤداه عكس ما أراده الباحث، لسبب بسيط هو أن ابن عباس لم يقدم تأويلات جديدة ولم يؤل تأويلات الطرف الآخر، بقدر ما مارس طريقته التفسيرية باتجاه دحض التأويلات الخوارجية. ومع ذلك، فإن التفرقة بزيها الجديد، التي يجريها الباحث بن التفسير والتأويل تظل أقل مردودية وإقناعا على طريق إثبات عقلانية ما في هذا السياق تحديداً.

أما مفهوم التجاوز التأويلي، الذي يقول به الباحث لثنائية النقل والعقل و تعبيرها الآخر في ثنائية التفسير والتأويل، فهو وإن كان مفيداً ومثمراً في مجال التصحيح وإزالة ما ينعته بالأفكار المستفزة في التراث العربسلامي وإعادة الترميم واستكشاف مواطن أصالة غابت أو غُيِّبت، لكنه يظل يدور داخل إطار النفعية المحدودة بمبرراتها السجالية وقد لا يرقى لتكوين منظومة مفهومية عقلانية متماسكة وأكثر فعالية في التعاطي مع ذلك التراث. وفي تعليل اختياره لابن عربي دون غيره من متصوفة وفلاسفة العصر الإسلامي ليكون مدار بحثه لقضية التأويل، يسرد الباحث ثلاثة أسباب يلخصها بأهمية الاسم المدروس، ولكونه يثير الموضوع "التأويل" بشكل واسع، ولإحساسه بأن ابن عربي لم يأخذ بالتأويل كمجرد وسيلة لمواجهة النص بل كاستراتيجية فلسفية متكاملة. غير أن القول بوجود استراتيجية فلسفية متكاملة أنتجها ابن عربي واعتمدها، لا يخلو من التسرع والتبريرية – لنتذكر أنه استعمل كلمة "إحساسي" تحديداً وهي كلمة لها دلالاتها الخاصة - فهو يصطدم بمشكلة الخلاف العميق والجذري بين من قاربوا تراثه، حيث اعتبره البعض قديساً ومؤمناً وولياً ومُحيياً للدين فيما حسبه البعض الآخر زنديقاً وملحداً ومميتاً للدين. هذا الخلاف بحد ذاته لا ينفي تماما وجود استراتيجية من هذا النوع بقدر ما يؤكد التأويلات المتضاربة والمختلفة التي توصل إليها ابن عربي، و قد تصلح آراؤه في قضية "وحدة الوجود" التي دفع الحلاج حياته ثمن الإيمان بها، مثالاً جلياً على ذلك. ولعل قول الباحث، في مقدمة الفصل الخاص بالقرآن والتأويل، يؤيد ما ذهبناً إليه بقوة فهو يقول (ومن الطبيعي والحالة هذه، أن الآية الواحدة يمكن أن تثير في ذهن ابن عربي دلالات عديدة، وجودية ومعرفية، في سياق محدد، ويمكن أن تثير نفس الآية، دلالات مغايرة في سياق آخر، الأمر الذي يحيط مؤلفات ابن عربي – خاصة فيما يرتبط بتأويل النص القرآني – بصعوبات جمة، تجعل من العسير فهمها إلا بعد كثير من التأمل والربط بين الأفكار المتناثرة ومحاولة جمعها في نسق واحد. ص257/ فلسفة التأويل) ونعتقد أن المشكلة الحقيقية هنا، ليست في تعدد الأنساق التي تتوزع عليها المفاهيم، فهذا أمر طبيعي طالما كان كل نسق مستند إلى ذات الجهاز المعرفي والتأويلي وقاعدته الفلسفية الماكنة، ولكنها في مكان آخر، ربما نعبر عنه بانعدام أو عدم اكتمال وجود جهاز كذاك أو قاعدة كتلك، بما يسمح لنا بالكلام عن وجود طريقة خاصة في التناول والتأويل والتفسير تخص ابن عربي، وهذا لا يقلل من قيمتها، ولا من شأن المكتشفات المعرفية والشذرات العبقرية المضيئة في تراثه الضخم والمتفرد.

 

باحث عراقي