ترجمة عبد اللطيف الإدريسي
شكر خاص للشاعر المغربي محمد ميلود غرافي على ملاحظاته القيمة.
الراعي العاشق
1.
في ذلك الوقت الذي لم تكوني بَعْدُ فيه لي
كنتُ أحبّ الطبيعة مثلما يحبّ المسيحَ راهبٌ هادئ...
والآن أحبُّ الطبيعة
مثلما يحبّ راهبٌ هادئ مريمَ العذراءَ،
بخشوع، وبطريقتي، مثلما كان ذلك آنفاً،
ولكن بطريقة أخرى أكثر تأثّراً وأقرب...
تبدو لي الأنهار أوضح عندما أرافقكِ
عبر الحقول إلى حافة الأنهار؛
إن نظرتُ إلى الغيوم، وأنا جالس جنبكِ،
أراها واضحة -
إنك لم تَسْحبي منّي الطبيعة...
إنكِ غيّرتِ الطبيعة...
لقد جعلتِ الطبيعة تضمّ صدري،
بفضل وجودك أراها أحسن، لكن كما هيَ،
بفضل حبكِ، أُحبّها بنفس الطريقة، لكن أكثرَ،
لأنّكِ اخترتني لكي تكوني لي ولكي أحبّك،
تحدّق عيناي فيها وتتأنّيان طويلاً وهما تحدّقان في كلّ الأشياء.
لن أتوبَ من الذي كنتُه فيما مضى
لأني ما زلت على ذلك الذي كنتُه.
2.
عالياً في السماء يحلّق القمر الربيعي.
أفكّر فيك، وأحسّني كاملا.
يتسرّب عبر الحقول المكشوفة في اتّجاهي نسيم خفيف.
أفكّر فيك، أهمس باسمك؛ وأنا لست أنا؛ أنا سعيد.
غدا ستأتين، وتذهبين جنبي لقطف أزهار في الريف.
وسأذهب جنبك عبر الحقول لأراك تقطفين أزهاراً.
أراك منذ الآن تقطفين أزهاراً غداً جنبي عبر الحقول،
لأنّك عندما تأتين غداً وتذهبين معي لقطف الأزهار في الريف،
سيكون ذلك لي فرحاً وحقيقة.
3.
الحبّ أُنْس.
لم أعد أستطيع المشي وحدي في الطرقات،
لأنّني لم أعد أستطيع المشي وحدي إلى أيّ مكان.
فكرة جليّة تجعلني أمشي بسرعة
وأرى أقلّ، وفي نفس الوقت لي رغبة أن أرى كلّ شيء.
ليس ثمة، حتى غيابِها، من يصاحبني.
أحبّها كثيراً حتّى أنّي لا أعرف كيف أشتهيها.
إن لم أرها، أتخيّلها وأشعر أنّني قويّ مثل الأشجار العالية.
لكن، إن رأيتها أرتعش، لا أعرف ممّا يتكوّن ذلك الذي أشعر به عند غيابها.
إنّني أتبعُ قوّة ما تهجرني.
الواقع كلّه ينظر إليّ مثل عبّاد الشمس الذي يحمل وجهه في وسطه.
4.
أضاع الراعي العاشق عصاه،
وتفرّقت الشياه بين التلال،
وهو من كثرة التفكير، لم يعزف حتّى على الناي الذي جاء به.
لا أحد ظهر، بالنسبة له، ولا أحد اختفى. لم يعثر قطّ على عصاه.
بعضهم، أشدّ إهانة له، آووا شياهه.
في النهاية، لم يكن أحد قد أحبّه.
عندما انتصب فوق المنحدر وفوق الحقيقة الزائفة، رأى كلّ شيء :
الوديانَ الهائلة المملوءة بنفس ما اعتادته من ألوان خضراء يومية،
الجبالَ الشامخة البعيدة، أكثر حقيقة من أيّ إحساس،
الحقيقةَ في مجملها : السماءَ والهواءَ والحقول الموجودةَ والحاضرة.
(ومن جديد، الهواء الذي كان قد نقصه منذ مدة طويلة، اخترق انتعاشُه رئتيْه)
وأحسّ من جديد أنّ الهواء كان يهبه، عبر وجع، بعضاً من حرّية تملأ صدره.
5.
لقد قضيت ليلتي كلّها متأرّقاً، وأنا أرى هيئتها خارج المكان
وأراها من جوانب تختلف عن تلك التي تظهر في فيها شخصيتها الحقيقية.
أركّب أفكاراً عبر ذكرى حقيقتها حين تكلّمني،
وفي كلّ واحدة من هذه الأفكار تختلف هي حسب شبهها لنفسها.
أن تحبّ يعني أن تفكّر.
وأنا الذي أنسى الإحساس بها تقريبا لمجرّد التفكير فيها
لا أعرف بالضبط ما الذي أرغب فيه، حتّى منها، مع أنّي لا أفكّر إلاّ فيها.
يغمرني استجمام كبير ينبعث من أعماقي.
كلّما أرغب في لقياها،
وكأنني بشقّ النفْس أفضّل ألاّ ألقاها،
لكي لا أهجرها فيما بعد.
لا أعرف بالضبط ما أريده، ولا أريد أن أعرف ما أريده. أريد فقط
أن أفكّر فيها.
لا أطلب شيئا من أحد، ولا منها، أريد فقط أن أفكّر.
6.
أستيقظ كل يوم مغموراً بالفرحة والحزن.
فيما مضى كنت أستيقظ دون أيّ إحساس؛ كنت أستيقظ.
إنني مملوء بالفرحة والحزن لأنّي أُضَيِّعُ حُلمي الذي أحلمه
وأستطيع أن أكون في الواقع الذي يوجد فيه حُلمي.
لا أعرف ماذا يجب أن أفعل بمشاعري.
لا أعرف ما الذي أكونه وأنا وحيد مع نفسي.
أريد منها أن تقول لي أي شيء لأستيقظ من جديد.
أشعار متفكّكة
(أشعار 1915 – 1930)
****
لا يكفي أن تفتح النافذة
لترى الحقول والنهر.
لا يكفي ألاّ تكون أعمى
لترى الأشجار والأزهار.
يجب كذلك ألاّ تكون لديك أيّة فلسفة.
ليست هناك أشجار مع الفلسفة، هناك أفكار فقط.
ليس هناك إلاّ نحن، فرادى، في شكل كهف.
ليس هناك إلاّ نافذة مغلقة، والعالم بأكمله في الخارج؛
وكذلك الحلم بالأشياء التي يمكن رؤيتها إذا كان للنافذة أن تُفتح،
والذي أبداً ليس هو ما نراه عندما تُفتح النافذة.
****
تتكلّم عن الحضارة، وتقول لا يجب لها أن تكون،
أو يجب ألاّ تكون هكذا.
تقول إنّ الناس يعانون من الألم، أو ربّما أكثرهم،
لأنّ الأشياء الإنسانية مرتّبة بهذه الطريقة.
تقول إن كانت مُختلفة، سيعانون أقلّ.
تقول إن كانت مثلما تريدها أن تكون، سيكون ذلك أحسن بكثير.
أُنْصِتُ إليك ولا أسمعك.
لماذا إذن أريد أن أسمعك ؟
ولئن سمعتك فلن أكون أكثر حكمة.
إن كانت الأشياء مختلفة، كانت ستكون مختلفة، هذا كلّ ما في الأمر.
إن كانت الأشياء كما تريدها أنت، كانت ستكون مثلما تريدها، لا أقل ولا أكثر.
الويل لك ولأولئك الذين يقضون حياتهم يريدون ابتكار آلة لصنع السعادة !
****
بين ما أراه من حقل وبين ما أراه من حقل آخر
يمرّ، في لحظة، خيال رجل.
تسير خطواته "معه" في نفس الواقع،
ولكنّي أنتبه إليه كما أنتبه إلى خطواته، إنّهما شيئان مختلفان:
الـ"رجل" يرقى بأفكاره، وهو زائف وغريب،
والخطوات تتبع النظام القديم الذي يجعل الأقدام تمشي.
أنظر إليه عن بعد دون أيّ رأي.
كم هو كامل فيه ذلك الذي هو عليه - جسده،
واقعه الحقيقي الذي ليس له رغبات أكثر من الآمال،
ولكن له عضَلاتٌ وطريقة مُحكمة وغير شخصية في استعمالها...
****
أيّها الطفل المجهول المملوء بالوحل ! أنت الذي تلعب عند بابي،
لا أسألك إن جئتني برسالة رموز.
تبدو لي مثيراً ومُسلّياً رغم أنّني لم أرك قطّ من قبل،
وطبعاً لو كان باستطاعتك أن تكون نظيفاً، لكنت طفلاً آخر،
ولما أتيتَ إلى هنا.
هيّا العب في الغبار، العب !
أقدّر حضورك بعينيّ وحدهما.
من الأحسن أن ترى شيئاً للوهلة الأولى على أن تعرفه،
فأنْ تعرف يعني كأنّك لم تر قطّ للوهلة الأولى،
وأنْ لا ترى للوهلة الأولى ليس إلاّ عنعنة.
الطريقة التي توحّلَ بها الطفل ليست كتلك التي توحّلَ بها الأطفال الآخرون.
هيّا العب ! وخذ حجَرة تحتويها يدك،
تعرف أنّ يدك يمكن أن تحتويها.
ما هي الفلسفة التي تصل إلى يقين أعظم ؟
ليست موجودة، وليست هناك فلسفة واحدة تستطيع أن تأتي لتلعب عند بابي.
حقيقة، كذب، يقين، ارتياب...
ذلك الأعمى الذي يسلك دربه هو الآخر يعرف هذه الكلمات.
أنا جالس على درج عالٍ ويديّ تضمّان
أعلى ركبتي المتقاطعتين.
طيّب: حقيقة! كذب! يقين! ارتياب! ما معنى كل هذا ؟
يتوقّف الأعمى في الطريق،
وأنا سحبت يديّ من على ركبتي.
حقيقة! كذب! يقين! ارتياب! الكلّ مماثل ؟
شيء ما تغيّر في جزء من الواقع - ركبتيّ ويديّ.
ما هو العلم الذي بحوزته الجواب ؟
الأعمى يتابع سيره، وأنا لا أقوم بأية حركة.
الساعة ليست هي نفس الساعة، ولا الناس نفس الناس، ولا أي شيء مماثل.
هذا هو معنى أن تكون واقعياً.
****
قهقهة فتاةٍ شابّة تدوّي في أرجاء الطريق
لقد ضحكتْ من كلام شخص لا أراه.
أتذكّر على التوّ أنني سمعت.
ولكن إن كلّمني أحد الآن عن قهقهة فتاة الطريق
سأقول: لا، بل الجبال، والأراضي تحت الشمس، والشمس، والمنزل الذي هنا،
وأنا الذي لا يسمع إلاّ همس الدم الصامت الذي يدقّ في حياتي في كلّ من جهتي رأسي.
****
ليلة القديس يوحنا في الجهة الأخرى لجدار حديقتي.
في هذه الجهة، أنا من دون ليلة القديس يوحنا.
لأن للقديس يوحنا موضع الاحتفال به.
بالنسبة لي هناك خيال شرارة نار في الليل.
صخب قهقهة بعيد، واصطدام قفزات مخنوق،
وصياح عابر لمن لا يعرف أنّني موجود.
****
لقد جاءني البارحة الواعظ الذي يوعظ بحقائقه
جاءني ليحدّثني مرّة أخرى.
لقد حدّثني عن معاناة الطبقات المرهقة
(ليس عن طبقات الذين يعانون، أي أولئك الذين وحدهم يعانون).
تحدّث عن الظلم الذي يريد أن يكون المال لبعضهم،
وأن يجوع الآخرون، أن يحتاجوا إلى الأكل،
أو فقط إلى أطباق الآخرين الحلوة، لست أدري.
تحدّث عن كلّ ما يمكن أن يُغضبه ويثيره.
كم هو سعيد مَنْ يستطيع أن يفكّر في تعاسة الآخرين !
ويا له من غبيّ، لو غاب عنه أنّ تعاسة الآخرين تخصّهم،
ولا يمكن علاجها من الظاهر،
لأنّ المعاناة ليس معناها أن ينقصك الحِبْر
أو أن يكون لديك صندوق من غير مقابض حديديّة !
إن حقيقة الظلم مثل حقيقة الموت.
أنا لن أقوم أبداً بخطوة في سبيل تغيير
كلّ ما نسمّيه ظلم العالم.
ألف خطوة أخطوها في هذا الاتّجاه،
لن تكون أبداً إلاّ ألف خطوة.
أقبَلُ الظلم مثلما أقبَلُ حجَرةً غير مُكبّبة الشكل،
كما أقبل أن تكون شجرةُ فلّين غير شجرة صنوبر ولا شجرة بلّوط.
لقد شطرت البرتقالة إلى نصفين، ولا يمكن أن يكون النصفان متطابقين؛
في حقّ أيّةٍ منهما كنت غير عادل، أنا الذي سآكل الاثنين معاً ؟
****
أيها المتصوف، أنت ترى في كلّ شيء معنى.
في رأيك كلّ شيء له معنى خفيّ.
ثمة شيء باطنيّ في كلّ شيء تراه.
كلّ ما تراه، لا تراه إلاّ لكي ترى شيئاً آخر.
أمّا أنا، فبسبب عينيّ اللّتين جُعلتا للنظر فقط، أرى غياب المعنى في كلّ شيء؛
أعاين ذلك وأحبّ نفسي، لأنك أنْ تكون شيئاً هو ألاّ تعني شيئاً على الإطلاق.
أن تكون شيئاً هو ألاّ تكون قابلاً للتأويل.
****
يا راعي الجبل، أنت البعيد عني بغنمك –
ما هي هذه السعادة التي يبدو أنّك تملِكها – سعادتك أم سعادتي ؟
إنّ الطمأنينة التي أحسّ بها عندما أراك، هل هي لي أم لك ؟
لا، إنّها ليست لي وليست لك، أيّها الراعي.
إنّها مِلْكٌ للسعادة والطمأنينة لا غير.
أنت لا تستمتع بها، لأنّك تجهل أنّك تستمتع بها.
وأنا كذلك لا أستمتع بها لأنّني أعرف أنّي أستمتع بها.
هي هكذا، لا أقلّ ولا أكثر، تفاجئنا كالشمس،
التي تحطّ أشعّتها على ظهرك وتدفئك -وأنت تفكّر، غير مبالٍ، في أشياء أخرى-،
وتحطّ أشعتها على وجهي وتعميني –وأنا لا أفكّر إلاّ في الشمس...
****
نعم، أنا موجود داخل جسدي.
لا أحمل الشمس ولا القمر في جيبي.
لا أريد أن أستولي على عوالم بحكم أنّني لم أنم جيّداً،
العالم ليس غذائي بسبب معدتي.
غير مبال ؟
لا: ابن الأرض، الذي، إذا ما قفز، اعوجّت قفزته فعلاً
لفترة في الهواء الذي لم يخلق لهذه المهمّة.
ويفرح فقط عندما تطأ قدماه الأرض من جديد،
ها..! على الواقع الوافر الذي لا ينقصنا.
أنا لست مستعجلا: القمر والشمس ليسا مستعجلين.
لا أحد يمشي بسرعة تفوق سرعة ساقيه.
إن كان المكان الذي أريد أن أكون فيه بعيداً، فلن أكون فيه على التوّ.
****
أنا لست مستعجلا. أستعجل، لأي شيء ؟
القمر والشمس ليسا مستعجلين: إنهما مضبوطان.
أن تكون مستعجلاً، يعني أن تؤمن بأنك تمشي أمام ساقيك،
أو باندفاعك، تقفز فوق ظلّك.
لا: أنا لست مستعجلا.
إن مددت ذراعي، سأصل بالضبط إلى حيث تصل ذراعي.
لا أكثر.
ألمس حيث ألمس، لا حيث أفكّر.
لا أستطع الجلوس إلاّ حيث أنا.
وهذا مضحك مثل كلّ الحقائق التي هي قطعاً حقيقية،
ولكنّ الشيء المضحك بصورة دائمة هو أنّنا نحن الآخرين نفكّر دائماً في شيء آخر
ونهيم بعيدا عن الجسد.
****
تقول لي: أنت شيء أكثر
من حَجَرَة أو نَبْتَة.
تقول لي:أنت تحسّ، تفكّر وتعرف
أنك تفكّر وتحسّ.
لا ولكن، هل تكتب الأحجار أشعارا ؟
لا وهل للنباتات أفكار عن العالم ؟
صحيح هناك فرق.
ولكن ليس الفرق الذي تشير إليه؛
لأنّه، في آخر المطاف، أن يكون لدي وعي، فهذا لا يجبرني على أن تكون لدي
نظريات حول الأشياء؛
يجبرني هذا على أن أكون واعياًّ. هذا كل ما في الأمر.
تسألني إن كنت لا أزيد عن حجرة أو نبتة ؟ لست أدري.
أنا مختلف. إنّني أجهل معنى كلمتي "أكثر" و "أقلّ" .
أن تكون واعياً، هل يعني شيئا أكثر من امتلاك اللون؟
ربما نعم وربما لا.
أعرف أن ذلك مختلف فقط.
لا أحد يستطيع أن يبرهن على أنّ ذلك ليس فقط مختلفاً.
أعرف أنّ الحجَرة حقيقية، وأن النبتة موجودة.
أعرف ذلك لأنّهما موجودتان.
أعرف ذلك لأنّ حواسّي تُريني إيّاها.
أعرف أنّني حقيقي أنا كذلك.
أعرف ذلك لأنّ حواسّي تُبيّن لي ذلك،
وإن كان ذلك بوضوح أقلّ مما تبيّنه لي في الحجرة والنبتة.
لا أعرف شيئاً أكثر من هذا.
نعم، أكتب أشعارا، والحجَرة لا تكتب أشعارا.
نعم، عندي أفكار حول العالم، والنبتة ليست لها أفكار حول العالم.
وذلك لأنّ الأحجار ليست شاعرات، إنّها أحجار؛
وأن النباتات ليست سوى نباتات، وليست مفكّرات.
ويمكنني أن أقول كذلك، إننّي أعلى مرتبة منها،
على أن أقول إنّني أدنى منها.
ولكني لا أقول هذا. عن الحجَرة أقول: "هذه حجَرة"،
وعن النبتة أقول: "هذه نبتة"،
وعنّي أنا أقول: "هذا أنا".
لا أقول أكثر من هذا. هل هناك ما يجب قوله أكثر من هذا ؟
****
إن حقيقة الأشياء المربكة
هي اكتشافي في كلّ يوم.
كلّ شيء كما هو،
يصعب أن أشرح، لأيّ كان، إلى أيّ حدّ
هذا يبهجني،
وإلى أيّ حدّ يكفيني.
يكفي أن تكون موجوداً لتكون كاملاً.
لقد كتبت كثيراً من الأشعار.
وسأكتب، بطبيعة الحال، أشعاراً أكثر.
كلّ قصيدة من أشعاري تقول هذا،
وكلّ قصائدي مختلفة،
لأنّ كلّ شيء موجود هو وسيلة لقول هذا.
في بعض الأحيان أنظر إلى حَجَرة.
لا أفكّر إن كانت تحسّ.
ولا أزعم أن أُسمّيها أختي
ولكنّي أحبّها لأنّها حَجَرة،
أحبّها لأّنها لا تحسّ بأيّ شيء،
أحبّها لأّنه ليس بيننا أيّة قرابة.
في بعض الأحيان أسمع الريح تمرّ
فأعتبر أنّه جدير بنا أنّ نولد، فقط، لسماع الريح وهي تمّر.
لست أدري ماذا سيفكّر الآخرون عند قراءة هذا؛
ولكنّي أعتبر أنّ ذلك سيكون جيّداً لأنّي أفكّر فيه بدون عناء،
ومن دون أنْ أُدرك أنّ هناك أشخاص غرباء يُنصتون إليّ وأنا أفكّر:
لأنّني أفكّر فيه بدون أفكار،
لأنّني أقول ذلك مثلما تقوله كلماتي.
أطلقوا عليّ مرّة اسم الشاعر المادّي،
وقد تعجّبتُ لذلك، لأنّي كنت بعيداّ أيّما بعد أن أفكّر
أنهم استطاعوا أن يلبسوني اسما ما.
أنا لست حتّى شاعراً: أنا أرى.
إن كان ما أكتبه له قيمة، فلست أنا الذي أملكها:
القيمة توجد هنا، في أبياتي.
كلّ هذا بالضرورة خارج عن إرادتي.
****
عندما يعود فصل الربيع من جديد،
ربّما لن يجدني في هذا العالم.
أريد الآن حقّاً أن أعتقد أنّ فصل الربيع إنسان
لكي أستطيع أن أفترض أنّه قد يبكي،
عندما يرى أنّ صديقه الوحيد قد ضاع منه.
إلاّ أنّ فصل الربيع ليس حتّى شيئاً:
إنّه طريقة في الحديث.
حتّى الأزهار لا تعود، ولا الأوراق الخضراء.
إنّها أزهار جديدة، أوراق خضراء جديدة.
إنّها أيّام أخرى ناعمة.
لا شيء يعود، لا شيء يتكرّر، لأنّ الكلّ واقعي.
****
إذا ما مُتّ شاباً
ولم أستطع نشر أيّ كتاب،
ومن دون أن أرى شكل أبيات شعري وهي مكتوبة بحروف المطبعة،
أطلب، في حالة إذا ما أردتم أن تحزنوا بسببي،
ألاّ تكونوا حزينين.
وإن حصل ذلك، فلا مجال للكلام.
حتّى وإن لم تُطبع أبيات شعري بالمرّة،
ستظل جميلة، إن كانت فعلاً جميلة.
ولكن لا يمكن أن تكون جميلة وتظلّ غير منشورة،
لأنّ العروق يمكن أن تكون تحت الأرض
ولكنّ الأزهار تزهر في الهواء الطلق وعلى مرأى من الجميع.
لابدّ أن تكون الأشياء هكذا، رضينا أم كرهنا. وليس هناك ما يمكن أن يعترضها.
إن مُتُّ وأنا في مقتبل العمر، اسمعوا ما يلي:
لم أكن أبداً إلاّ طفلاً كان يلعب.
كنت وثنيّاً، على طريقة الشمس والماء،
لديانة كونية يفتقدها الإنسان وحده.
لقد كنت سعيداً، لأنّني لم أطلب أيّ شيء إطلاقاً،
لم أبحث سعياً في العثور على شيء ما،
ولم أجد أنّ ثمة تفسير ما
عدا أنّ كلمة تفسير هذه لا معنى لها على الإطلاق.
لم أرغب قطّ في شيء آخر غير أن أقف
تحت الشمس أو تحت المطر –
تحت الشمس عندما يكون الجو مشمساً
وتحت المطر عندما يُمطر
(وليس العكس أبداً)،
وأحسَّ بالحرارة والبرد والريح،
دون الذهاب إلى أبعد من ذلك.
لقد أحببت مرّة، طننتُ فيها أنّني سأُحَبُّ،
ولكني لم أُحَبَّ
لم أُحَبَّ لمجرد هذا السبب الوحيد –
كان لا يجب لذلك أن يكون.
لقد واسيت نفسي بالعودة تحت الشمس وتحت
المطر،
والجلوس من جديد على عتبة بابي.
الحقول، في نهاية الأمر، ليست خضراء إلى هذه الدرجة
بالنسبة للمحبوبين
كما هي بالنسبة لغير المحبوبين.
أن تحسّ يعني أن تكون غير مبالٍ.
****
عندما يأتي الربيع،
وكنت قد مُتُّ
فإنّ الأزهار ستزهر بنفس الطريقة
والأشجار لن تكون أقلّ خضرة مقارنة بالربيع الماضي.
إنّ الواقع لا حاجة له بي.
أحسّ بفرح عظيم
وأنا أفكّر أنّ موتي ليس مهمّاً إطلاقاً.
إن كنت أعلم أنّني سأموت غداً
وأنّ فصل الربيع سيحلّ بعد غد،
سأموت وأنا سعيد بما سيكون بعد غد.
إن كان ذاك وقته، فمتى تريدونه أن يحين عدا في وقته ؟
أحبّ أن يكون كلّ شيء حقيقياً ومضبوطاً؛
أحبّ هذا لأنّه سيكون كذلك، وإن كنت لا أحِبّ ذلك.
لذا، إن متّ الآن، سأموت فرحاناً،
لأنّ كلّ الأشياء حقيقية، وكلّ الأشياء مضبوطة.
يمكن لكم أن تصلّوا على نعْشي باللاتينية، إن شئتم.
يمكن لكم، إن شئتم أيضاً، أن ترقصوا وتغنّوا حوله.
ليس لي تفضيل في وقت لن يكون بمقدوري فيه قطّ أن أختار.
إن الذي سيكون، عندما سيكون، هذا هو الأمر الكائن الآن.
****
إن أردتم كتابة سيرتي، بعد مماتي،
فليس هناك ما هو أسهل.
إنها تحمل تاريخين فقط – تاريخ قدومي إلى العالم وتاريخ مماتي
وبين هذا وذاك فكلّ الأيام لي.
أنا سهل التعريف.
رأيت كالمحكوم عليه وهو ينظر إلى الفراغ.
أحببت الأشياء دون أية عاطفة.
لم يكن لي أبداً أية رغبة لم أحققها، لأن بصري لم يزغ قطّ.
حتى السمع لم يكن أبداً إلا شيئاً يرافق البصر.
فهمت أن الأشياء حقيقية وكلّها تختلف عن بعضها البعض؛
فهمت هذا عبر بصري، وليس عبر التفكير.
أن تفهم هذا بالتفكير هو أن تجد الأشياء كلّها متشابهة.
أخذني النوم مرّة مثل أي طفل.
أغمضت عيني ونمت.
عدا هذا فلقد كنت شاعر الطبيعة الوحيد.
****
أسدل الليل ستائره. الليلة حالكة. في منزل مسافته بعيدة
ضوء نافذة يُنير المكان.
أراه وأحسّ من رأسي إلى قدميّ أنّني إنسان.
غريب أنّ حياة الشخص الذي يقيم فيه، والذي لا أعرف هُويته،
لا تجلبني إلاّ عبر هذا الضوء الذي يُرى عن بعد.
من دون أيّ شكّ أنّ حياته حقيقية، وله وجه وحركات وأُسْرة ومِهْنة.
لكن كلّ ما يهمّني اللحظة هو ضوء نافذته.
فرغم أنّ الضوء متواجد هناك لأنّه هو الذي أشعلَه،
فإن ذلك الضوء عندي الحقيقة المباشرة.
من الجانب الآخر لهذه الحقيقة المباشرة ليس هناك أيّ شيء.
إن كنت لا أرى، من المكان الذي أوجد فيه، إلاّ ذلك الضوء،
فبين المسافة التي تفرقني عنه لا أرى إلاّ ذلك الضوء،
أمّا الرجل وأسرته فإنّهم حقيقيون ما رواء النافذة.
وأنا أجد نفسي من ناحيتي على مسافة بعيدة.
انطفأ الضوء.
ما الذي يهمّني إن استمر الرجل في الحياة ؟
****
لا أفهم كيف نستطيع أن نجد المغيب حزيناً
ما عدا إذا لم يكن المغيب شروقاً.
ولكن إن كان مغيباً، فكيف يمكن له أن يكون شروقاً ؟
****
اليوم الممطر جميل مثله مثل اليوم المشمس.
كلاهما موجود؛ كلّ بطريقته.
****
عندما ينبت العشب فوق قبري،
ليكن ذلك بمثابة إشعار بأنْ تنسوني تماماً.
إن الطبيعة لا تتذكّر أبداً، ولهذا هي جميلة.
وإن أحسستم أنكم في حاجة مرهفة إلى "تأويل" عشب قبري الأخضر،
قولوا إنني أنا الذي أستمرّ في الاخضرار وفي أن أكون طبيعياً.
****
إن كان الإنسان مثلما كان يجب عليه أن يكون،
أي: ليس حيواناً مريضاً، وإنما أكمل الحيوانات،
حيوان مباشر وليس العكس،
يجب أن يعثر على طريقة أخرى في أيجاد معان للأشياء،
طريقة أخرى وأن يكون حقيقيا.
يجب عليه أن يكون قد اكتسب معنى "مجموعا" للأشياء،
معنى، مثل أن ترى وتسمع، الأشياء في كُلّيّتها
وليس، مثلما لدينا، يعني فكرة عن "الكلّيّة"؛
وليس، مثلما لدينا، يعني "فكرة" عن كلّية الأشياء.
ومن هنا – سنرى – أنه ليس لنا مفهوم "المجموع" أو "الكلّ؛
لأن معنى "الكلّ" أو "العامّ" لا يأتي ممّا هو كلّ أو عامّ
ولكن من الطبيعة الحقيقية التي ربمّا ليست شيئاً كليّاً أكثر منها أجزاء.
إن سرّ الكون الوحيد يكمن في الزائد وليس في الناقص.
نفهم الأشياء أكثر ممّا يجب – هذا هو الخطأ، الشكّ.
الوجود يتجاوز، بالنسبة لي، ما أظنّه موجودا.
الحقيقة حقيقية فقط، وليس مفكّرا فيها.
****
ليس الكون فكرة بالنسبة لي.
إن رأيي في الكون هو ما يمثّل الفكرة بالنسبة لي.
إن الليل لا يصير ليلاً من خلال عينيّ،
إنّ فكرتي عن الليل هي التي تصير ليلاً في عينيّ.
فما عداني، أنْ أفكّر أو أن يكون الفكر موجوداً،
فإنّ الليل ليل على نحو ملموس
وضوء النجوم موجود بقدر ما لو كان له وزن.
****
كما تفشل الكلمات حين تريد التعبير عن أيّة فكرة كانت،
تفشل الأفكار حين تريد التعبير عن أيّ واقع كان.
ولكن، بما أن الواقع المفكّر فيه ليس هو الذي نتلفّظ به، وإنّما المفكّر فيه،
فإن الواقع الذي نتلفّظ به موجود فعلاً، وليس لأنّه مفكّر فيه.
وهكذا فكلّ ما هو موجود، موجود ببساطة.
أما الباقي فهو عبارة عن نوم يشدنا إليه،
شيخوخة ترافقنا منذ طفولة المرض.
****
تعكس المرآة الأشياء بصدق؛ إنّها لا تخطئ لأنّها لا تفكّر.
أن نفكّر يعني جوهرياً أن نخطئ.
أن نخطئ يعني جوهرياً أن نكون عُمياً وصُمّاً.
****
مثل هذه الحقائق ليست في منتهى الكمال لأننا نتلفظ بها
وقبل التلفّظ بها تمّ التفكير فيها.
ولكن في العمق فإنّ الصحيح هو أنّها تنفي نفسها بنفسها
في النفي الذي هو عكس إثبات أي شيء.
الإثبات الوحيد هو أن نكون.
وأن نكون العكس، هذا هو الشيء الذي لا أريده لي.
****
الطفل الذي يفكّر في الساحرات ويؤمن بالساحرات
يتصرّف وكأنّه إله مريض، ولكن يتصرّف كإله.
لأنّه رغم أنّه يؤكّد أنّ الذي غير موجود موجود،
يعرف جيّداً الطريقة التي توجد بها الأشياء ، أي:
بما أنّه موجود،
يعرف جيّداً أنّ الوجود موجود ولا يُفسّر،
يعرف جيّداً أنّ ليس هناك ما يبرّر أن تكون الأشياء غير موجودة،
يعرف جيّداً أن تكون موجوداً يعني أن توجد في مكان ما.
إن ما لا يعرفه، هو أنّ الفكرة ليست مكاناً ما.
****
من بعيد أرى سفينة تشقّ طريقها...
عابرة نهر التاج غير مبالية.
غير مبالية ليست لأنّها لا تعيرني أيّ اهتمام
ولا أشعر لذلك، بأي أسى.
تمرّ غير مبالية لأنه ليس لها أيّ معنى
خارج عن أنّها فقط تشقّ طريقها كسفينة في اتجاه المنفى
وهي عابرة النهر من دون أيّة ميتافيزيقا،
في اتّجاه حقيقة البحر.
****
أعتقد أنّني سأموت عن قريب.
ولكن معنى الموت لا يثير مشاعري،
أُقنع نفسي بأنّ الموت يجب ألاّ يكون له معنى.
إنّ كَلِمتيْ الموت والحياة عبارة عن تصنيفات، مثل النباتات.
ما هي الأوراق أو ما هي الأزهار التي لها تصنيف ؟
أيّة حياة تحتوي على الحياة وأيّ موت يحتوي على الموت ؟
ليست هذه إلا كلمات نعرّف عبرها الأشياء.
التعريف الحسن هو أن تقول: أستمرّ.
****
يسدل الليل أستاره، وتنخفض الحرارة شيئاً ما،
وأنا صافٍ كأنّي لم أفكّر أبداً.
وكأنّ عروقي في علاقة مباشرة بالأرض،
ليست تلك العلاقة الثانوية التي نلاحظها عند قدوم الليل.
في الليل، عندما أنفصل عن الأشياء،
وأقترب من النجوم والمجرّات البعيدة –
أقع في الخطأ. لأن البعيد ليس هو القريب،
وأن أجعله قريباً، يعني أن أخدع نفسي بنفسي.
****
إنّني مريض، وأفكاري بدأت ترتبك
لكن جسدي الممتدّ نحو الأشياء يخترقها.
أحسّ وكأنّي جزء لا يتجزّأ من الأشياء
أحسّ بتحرّر كبير بدأ يتحقّق في داخلي،
ببهجة كبرى مَهيبة كتلك التي أحسّ بها وأنا معافى.
****
عندما يشتدّ البرد في وقت البرد، فإنّ ذلك بالنسبة لي وكأنّه جوّ صحو،
لأنّ بالنسبة لذاتي التي تلائم وجود الأشياء،
فالطبيعي هو الأحسن وذلك لسبب واحد هو أنّه طبيعي.
أحتمل صعوبات الحياة المصيرية لأنّها حتميّة،
مثلما أحتمل البرد القارص المفرط في عزّ فصل الشتاء -
بهدوء، ومن غير شكوى، مثل أيّ شخص يحتمل الأشياء
ويجد البهجة في الاحتمال ـ
وذلك في احتمال الطبيعي الذي لا مفرّ منه بطريقة علمية وصعبة عالية
ماذا تعني الأمراض التي تمكّنت منّي والألم الذي يعتصرني
إن لم تكن تعني فصل شتاء لكلّ من ذاتي وحياتي ؟
فصل الشتاء المتفاوت، الذي أجهلُ القوانين التي تتحكّم في قدومه،
والذي هو، بالنسبة لي، موجود حسب نفس الحتمية المهيبة،
وبنفس الخروج الحتمي عن ذاتي،
كحرارة الأرض في عزّ فصل الصيف
أو برد الأرض ملء فصل الشتاء.
طبيعتي تجعلني أحتمل.
لقد وُلدت مثل الآخرين عرضة ً للأخطاء والعيوب،
ولكن لا عرضةً لخطأ إرادة الفهم أكثر من اللازم
ولا عرضةً لخطأ إرادة الفهم بالذكاء وحده،
ولا عرضةً أبداً لعيبِ أن أطلب من العالم
شيئاً ليس هو العالم.
****
أيّا كان ذلك الذي يوجد في مركز العالم،
لم أوهَب كمثال للحقيقة إلا العالم الخارجي ،
وعندما أقول "هذا حقيقي"، حتّى انطلاقا من إحساس ما،
أراه رغماً عنّي في نوع من فضاء خارجي،
أراه برؤية خارجة عنّي وغريباً.
أن أكون حقيقياً يعني ألاّ أكون في داخلي.
لأنّني من داخلي ليست لي أيّة فكرة عن الحقيقة.
أعرف أنّ العالم موجود، ولكن لا أعرف إن كنتُ أنا موجوداً.
أنا متأكّد من وجود منزلي الأبيض
أكثر من الوجود الداخلي لصاحب المنزل الأبيض.
أؤمن بجسدي أكثر من روحي،
لأنّ جسدي يوجد في وسط الحقيقة،
يمكن للآخرين أن يروه،
يمكن له أن يلمس الآخرين،
يمكن له أن يجلس ويقف،
لكن روحي لا يمكن تحديدها إلاّ عبر كلمات خارجية.
إنّها موجودة بالنسبة لي –عندما أؤمن بأنها موجودة فعلاً-
عبر استعارة للحقيقة الخارجية للعالم.
إن كانت الروح أكثر حقيقة
من العالم الخارجي، مثلما تُثبت ذلك، أيها الفيلسوف،
لماذا إذن أُعطيَ لي العالم الخارجي كنموذج للحقيقة ؟
إن كان عندي إدراك الأشياء
أكثر وضوحاً من وجود الشيء الذي أحسّه
لماذا إذن أحسّ ؟
ولماذا ينبثق هذا الشيء مستقلاّ عني
من دون أن يحتاج إليّ ليكون
وأنا دائماً معلق بنفسي، دائماً شخصيّ وغير قابل للانتقال ؟
لماذا أتحرك والآخرين
في هذا العالم الذي هو بالنسبة لنا للفهم والصدفة،
إن كان هذا العالم صدفةً خطأ وإن كنت أنا الذي على حقّ ؟
إن كان العالم خطأ، فسيكون خطأ الجميع.
وكلّ واحد منّا خطأ الآخر مأخوذا على حدة.
الشيء بالشيء ويصير العالم أكثر وضوحاً وحقيقة.
ولكن لماذا أتساءل، عدا أنّي مريض ؟
بالنسبة للأيام الحقيقية، أيام حياتي الخارجية،
الأيام التي أعرف فيها صفاء طبيعياً كاملاً،
أحسّ ولا أحسّ بأنّني أحسّ،
أرى ولا أرى بأنّني أرى،
ليس الكون (لا قريبا ولا بعيدا مني ولكن) أبدا بهذا القدر من السمو
كونَ غيري
عندما أقول: " هذا واضح"،
هل أريد بمحض الصدفة أن أقول: "أنا الوحيد الذي أراه" ؟
عندما أقول: "هذا حقيقي"،
هل أريد بمحض الصدفة أن أقول : "هذا هو رأيي" ؟
عندما أقول: "هذا الشيء هنا"،
هل أريد بمحض الصدفة أن أقول : "هذا الشيء ليس هنا" ؟
فإن كان الأمر هكذا في الحياة، لماذا تريد الفلسفةُ أن تكون الأشياء بطريقة أخرى؟
نحن نعيش ونحيى قبل أن نتفلسف، ونحن موجودون قبل أن نعرف ذلك،
وأوّل هذه الحقائق تستحق، على الأقلّ، أسبقية وتبجيلاً.
نعم، كيف نكون "باطناً" ونحن "ظاهر".
لهذا فنحن أساساً "ظاهر".
تقول أيها الفيلسوف المريض، أيّها الفيلسوف باختصار، إنّ هنا تكمن الماديّة.
لكن كيف يمكن أن يكون ذلك مادّية، إن كانت المادّية فلسفة،
إن كانت فلسفة جدّية، على الأقلّ فلسفتي، فلسفتي أنا،
وإن كان هذا ليس ملكي، إن لم أكن حتى أنا نفسي ؟
****
لا يهمني.
لا يهمّني ماذا ؟ لا أعرف : لا يهمّني.
****
إن الحرب التي تسبب الحزن والأسى عبر سراياها في العالم
هي نوع من أخطاء الفلسفة الخالص.
الحرب، مثلها مثل أيّ شيء إنساني، تبحث عن التغيّر.
ولكن الحرب، أكثر من كلّ شيء، تريد أن تغيّر وأن تغيّر كثيراً
وبسرعة.
لكن الحرب تفرض الموت.
والموت هو ذلك الاحتقار الذي يحبسنا فيه الكون.
بما أن الحرب نتيجتها الموت، فإنّها تبرهن على أنها على خطأ.
بما أنّها على خطأ، فإنها تبرهن على خطأ من يريد تغيير كل شيء.
لنترك العالم الخارجي والناس الآخرين حيث وضعتهم الطبيعة.
الكلّ تفاخر ولا وعي.
الكلّ رغبة في الإثارة، في القيام بأي شيء، في ترك أثر.
في القلب كما في قيادة السرايا
وبدون اكتراث
يصير العالم الخارجي مجددا مكشوفا
الكيمياء المباشرة للطبيعة
لا تترك أيّ فراغ للفكر.
إن الإنسانية ثورة العبيد.
إن الإنسانية حكومة اغتصبها الشعب.
إنها موجودة لأنها اغتصبت،
ولكنها على خطأ لأن الاغتصاب يجعلها مُذنبة.
اتركوا العالم الخارجي يحيى متواجدا والإنسانية طبيعية !
سلام على كل شيء ما قبل ـ إنساني، حتى ذاك الذي في الإنسان،
سلام على الجوهر الخارج تماماً عن الكون !
****
كل الآراء حول الطبيعة
لم تجعل ولا مرّة عشبا ينبت ولا النهر ينبع.
كلّ معرفة تتعلّق بالأشياء
لم تكن أبداً شيئاً يمكن أن أفهمه، مثل الأشياء؛
إذا كان العلم يريد أن يكون حقيقة،
فأيّ علم أكثر حقيقة من حقيقة الأشياء بدون علم ؟
أغمض عينيّ والأرض الصلبة التي أستلقي عليها
لها حقيقة حقيقية إلى درجة أن ظهري نفسه يحسّ بها.
لست في حاجة إلى تفكير حيث تكون لي سواعد.
****
أيتها السفينة التي تتهيّأ للرحيل بعيداً،
لماذا إذن، على عكس الآخرين،
لا أحسّ عندما تختفي
بأيّ افتقاد لك ؟
هذا يعني أني بمجردّ أنّي لم أعد أراك، تصبحين غير موجودة.
وإن أحسست بافتقاد للأشياء التي لا وجود لها،
فإن إحساسي هذا يعود نوعاً ما إلى لا شيء
إننا نحسّ بالافتقاد لأنفسنا وليس للسفينة.
****
يتنفّس الريف شيئا فشيئا ويتشمّس.
يضيع الصباح في تفاوتات السهل.
أنا غريب عن هذا المشهد الذي أراه : أراه،
إنه خارج عنّي. ليس هناك إحساس يربطني به
وهذا هو الإحساس الذي يربطني بالصباح الذي يتنفّس.
****
أيتها النجمة الأخيرة التي تختفي قبل طلوع النهار،
أضع على بياضك وزرقتك المتلألئة عينيّ الهادئتين،
وأراك مستقلة عنّي؛
مبتهج بهذه البصيرة التي تجعلني أستطيع أن أراك
من دون أيّة "حالة مزاجية"، أحلم بأن أراك.
جمالك بالنسبة لي يكمن في كون أنّك موجودة،
وروعتك في أنّك موجودة تماماً خارجاً عنّي.
****
يهسهس الماء داخل الإبريق الذي أحمله إلى شفتيّ.
"إنه صوت منعش" يقول شخص لا يشرب.
أبتسم. الصوت ليس إلا صوت هسهسة.
أشرب الماء من غير أن أسمع أيّ شيء عبر حنجرتي.
****
ذاك الذي استمع إلى قصيدتي قال لي: "ما هو الجديد فيها ؟
الكلّ يعلم أن الزهرة زهرة وأن الشجرة شجرة".
أجبت: "كلاّ، ليس الكلّ، لا أحد".
لأنّ الكلّ يحبّ الأزهار لأنها جميلة، وأنا على خلاف ذلك.
الكلّ يحبّ الأشجار لأنها تمنح الظلّ، ولكن ليس أنا.
أنا أحبّ الأزهار لأنها أزهار، مباشرة.
أنا أحبّ الأشجار لأنها أشجار، من دون أن أفكّر فيها.
****
تريدون ضوءا أحسن من ضوء الشمس !
تريدون حقولا أكثر خضرة من هذه !
تريدون أزهاراً أجمل من هذه التي أنظر إليها !
فيما يخصّني، إنّ هذه الشمس والحقول والأزهار ترضيني.
ولكن في حالة إذا ما لم تعد ترضيني،
أرغب في شمس أكثر شمساً من الشمس،
أرغب في حقول أكثر حقولا من هذه الحقول،
أرغب في أزهار تكون هذه الأزهار عوض تلك الأزهار -
أرغب في كل شيء هو أكثر مثالية مما هو عليه وبنفس الطريقة !
****
أستمتع بالحقول من دون أن أعيرها أي اهتمام.
تسألني لماذا تستمتع بالحقول.
لأنني أستمتع فقط، هذه إجابتي.
أن تستمتع بزهرة، هو أن تجد نفسك بالقرب منها بدون وعي.
وألاّ تشعر بأريجها إلاّ في أفكارك الأكثر غموضاً.
عندما أعير الاهتمام، فإنّني لا أستمتع: أرى.
أغمض عينيّ، وجسدي هذا الذي هو بين الأعشاب
والذي يوجد بكامله خارج هذا الكائن الذي يغمض عينيه –
ينتمي لصلابة الأرض المنعشة والعطرة والمتفاوتة؛
وبعض من هذا الصخب الملتبس الذي تحدثه الأشياء لكي تحيى،
وحده الظلّ المحمّر بالضوء يضغط بلطف على مداراتي،
ولا تنصت إليه إلاّ أطلال الحياة.
****
تقول: عش في الحاضر؛
عش فقط في الحاضر.
لكني لا أريد الحاضر، أريد الواقع؛
أريد الأشياء الموجودة، وليس الزمن الذي يقدّرها.
ما الحاضر ؟
إنّه شيء متعلّق بالماضي والمستقبل.
إنّه شيء موجود بوجود أشياء أخرى.
أنا أريد فقط الواقع، أريد الأشياء من دون حاضر.
لا أريد أن أُدخِل الزمن في مُخطّطي.
لا أريد أن أفكّر في الأشياء على أنّها حاضرة؛
أريد أن أفكّر فيها على أنّها أشياء.
لا أريد أن أفرقها عن نفسها، بمعاملتها كأنها حاضرة.
لا يجب أن أعاملها على أنّها حقيقيّة.
لا يجب أن أعاملها بأيّ شيء.
يجب أن أراها، أراها فقط؛
أراها وهي خارج الزمان، خارج المكان،
أراها وأنا أحاول أن أتخلّص من كلّ شيء إلاّ من الأشياء التي أراها.
هذا هو عِلْم أن تَرى، الذي ليس عِلْماً.
****
لقد خرجت هذا الصباح مبكّراً
لأنّي استيقظت قبل ذلك مبكّراً
ولم تكن لديّ رغبة أن أقوم بأيّ عمل...
لم أكن أعرف أيّ الطرق أستعير
لكنّ الريح كانت تهبّ بقوّة، تهبّ في اتّجاه واحد،
وتبعت الطريق الذي كانت الريح تدفعني إليه.
كانت حياتي دائماً هكذا،
وأريدها أن تكون دائماً هكذا –
أمشي حيث تأخذني الرياح ولا أحسّ
بأنني أفكّر.
****
أول علامة تنبئ بعاصفة بعد غد
السحب البيضاء الأولى، تحلّق منخفضة في سماء شاحبة،
عاصفة بعد غد ؟
إنني متيقّن منها، لكنّ اليقين كذب.
أن تكون متيقّناً، يعني ألاّ تكون مرئياً.
بعد غد لا وجود له.
هذا هو الذي يوجد:
سماء زرقاء، قليل من الكآبة، بعض السحب البيضاء في الأفق،
بقعة صغيرة وكأنها ستميل إلى السواد.
هذا هو نهار اليوم،
وبما أن اليوم، وحتّى إشعار آخر، هو كلّ شيء، فإنّه كذلك.
من يعلم إن كنت سأكون ميّتاً بعد غد ؟
إن متّ بعد غد، فإنّ عاصفة بعد غد
ستكون عاصفة أخرى غير تلك التي كانت ستكون عليه إن لم أكن قد متّ.
أعرف أنّ نبع العاصفة ليس من عينيّ،
ولكن إن لم أعد من هذا العالم،
سيكون العالم مختلفاً –
- لأنّني سأكون ناقصاً –
والعاصفة ستحدث في عالم مختلف ولن تكون نفس العاصفة.
****
أنا كذلك أعرف كيف أصنع الافتراضات.
في كلّ شيء هناك شيء ما يحرّكه.
في النبات ذلك الشيء يوجد في الخارج، إنّها شرنقة صغيرة.
في الحيوان إنّه كائن داخلي بعيد جداً.
في الإنسان إنّها الروح التي تعيش معه والتي هي هو.
في الآلهة هي بنفس المقاس
وفي نفس الفضاء الذي فيه أجسادهم
وهي نفسها أجسادهم.
لهذا نقول إن الآلهة لا تموت أبداً.
لهذا ليس للآلهة جسد وروح،
لهم فقط جسد، وإنّهم كاملون.
وإنّ أجسادهم تقوم مقام أرواحهم
وإنّ وعيهم يوجد داخل أجسادهم الإلهية.
****
من الممكن أنّ ما بعد منعطف الطريق
هنالك هوّة، أو ربّما حصن منيع،
أو فقط استمرار الطريق.
لست أدري، ولا أطرح أسئلة.
ما دمت أسير في الطريق قبل المنعطف،
أكتفي بمشاهدة الطريق قبل المنعطف،
بما أنّي لا أستطيع مشاهدة شيء آخر.
إن نظرت إلى الجهة الأخرى
والجهة التي لا أراها،
هل سأكون بذلك أكثر تقدّماً ؟
فلنعر اهتمامنا للمكان الذي نحن فيه.
إنّه لمن الجمال أن تكون هنا ولا في أي مكان في الآن معاً.
إن كان هناك أحد فيما بعد منعطف الطريق،
فأولئك الذين يخافون من الذي يوجد ما بعد منعطف الطريق،
ذلك هو طريقهم.
إن كان علينا أن نصل إليه، إننا بوصولنا إليه سنعرف.
أمّا الآن فكلّ ما نعرفه هو أنّنا لسنا هناك.
وليس هنا إلاّ ذلك الطريق قبل المنعطف؛ وقبل المنعطف
هناك طريق من دون منعطف.
****
لقد وضع الثلج غطاء صامتاً على كلّ الأشياء.
لا نرى شيئاً آخر إلاّ ما يحدث داخل المنزل.
أتدثّر بلحاف، ولا أفكّر، ولئن كان هناك ما يوجب التفكير.
أحسّ برغبة حيوانية وأفكّر بغموض، وأنام وأنا لست أقلّ منفعة عن باقي أحداث العالم.
****
هذا ربّما آخر يوم في حياتي.
لقد قدّمت تحية للشمس، رافعاً يدي اليمنى،
لم أحيّها لأودّعها،
أشرت إليها لأبيّن لها بأنّني ما زلت أحبّ أن أراها: لا أقلّ ولا أكثر.
بيزوس المحروسة – ديسمبر 2010
* من مجموعته التي تحمل عنوان "أشعار وثنية" الصادرة عن كل من دار كريستان بورغوا وغاليمار