يعترف الشاعر المصري أن قوة القصيدة تكمن في قدرتها الخلاقة على إقامة عالم شعري من الأنقاض. هنا، يكتفي الشاعر بـ«التكلم الأشبه بالدردشة» لعلها أيسر الطرق لـ«كتابة قصيدة» عارية بلا تكلف تبحث عن قارئ يقاسمها قيمها.

قصيدتان

البهاء حسين

 

1 ـ جدة

في يدي عشرة أصابع

بإمكانها أن تحمل عن جدتي الصدقات

تفتش في الفراغ

عن باب

أو جدار

 

عشرة أصابع

كافية

للندم

 

ما كان هذا الذي تفعله جدتي

في البيت دقيق وفرن

خبز

وأحزان

يا جدتي

 

لم يكن لخبز الصدقات طعم

لكن رائحته تسوقها من بيت إلى بيت

وأنا كان علىّ أن أخرجها

كل يوم

من حفرة

 

من بعيد

مغمضا ًعينىّ

أخمن قامتها النحيلة

الصرة فوق رأسها

وأنكمش في نفسي

وسط أصحابي

وكلما اقتربتْ

توسلتُ للطريق أن ينشق

أو تهب ريح

 

لم تكن تفعل شيئا ًغير الشحاذة والبكاء

لطالما نهرتها أمي

أنا وإخوتي

وأحيانا ًكنت أضربها بالعصا

فتتحشرج فى قامتها

مثل دودة

كأنها تستغيث بالجيران

 

أصابعي الآن كهلة

قبل أن تكفر حتى عن نهار واحد

 

كنت صغيرا ً

وأصابعي تساعد جدي في السقاية

أو تقلده ، وهو يرفع الآذان ،

إذ تحيط بفمي مثل قوسين

وأحيانا ًتجسّ معي الهاوية

أقول: يا جدتي

لا تبكى فوق البئر

كي لا تمسك

فيرن صوتى

في القاع

ويرتد لي، متشنجا ًأكثر

يا جدتي

خالي مات منذ وقت طويل

وفى البيت خبز

لا تشحذي

الأولاد يعيرونني بك

ثم أمسك بيديها، أرجوهما

فيختلط الخضار في عينيها بالبياض

تجهش عظام صدرها

وتوغل فى البكاء

بسبب البكاء، كادت تسقط مرة

في البئر

ومن حسن الحظ،

تشبثت بعماها

وأنا سقطت ثلاث مرات

ما الذى فى البئر

تشكو له

غير الصدى

لم يكن هناك سوى البكرة الخشبية

أديرها مع الجدة

حجر صقلته المياه

وصفيحة صدئة

كنت أتركها تسقط

على وجهها

لتدوي مثل مدفع

ما زلت أحتفظ بجرح منها

أسفل الصدر

ما زلت أسمع جدتي تبكى

رغم أنهم ردموا البئر

ما زلت أسمع صرير البكرة

وأندهش لما تكون عليه بئر

حجر يلمع

أو طريق

لا يتذمر من أقدام الجدة.

 

 

2 ـ قارئ الروايات

أنا قارئ الروايات

أسترسل فى مصير غيرى

كل مرة    

ولى أكثر من نهاية

أختار منها ما يناسب سحنتى

أو حالة الطقس

أحيانا ًأقعد فى انتظار مؤلف

وأحيانا ًأجتر نفسى

لست أكثر من ريشة

أو فاصل بين صفحتين

ومن حسن حظى أن الرواية تسع الجميع

الرجل وظله

القضاء والقدر

لكنّ أحدا ًلا يشاركنى الحزن

كلما انتهيت من القراءة

سألقى نظرة أخيرة على صياد " هيمنجواى " العجوز

الذى اصطاد البحر

على "ساحر الصحراء" ..

لا بأس بالأرواح المفبركة الخفيفة

سأترك " جرنوى " يقطر أرواح الجميلات

فى زجاجة

ما من شىء قد صار حقيقة كالزجاج

كم من مرة قلت :

لو كانت لى يدان قادرتان على إطلاق منديل

لكن يدى كانت عادية

فأنا محض قارىء

تسلمه الروايات واحدة إلى الأخرى

ومع الوقت اكتشفت أننى بلا شخصية

لست منديلا ً، فأطير

لا أحرف الموت

لست إلا قارئا ً

لم تحك لى أمى شيئا ً

كنا مشغولين بالبيع

لكننى عرفت كيف أذهب إلى حيث تقودنى أمى

الروائيون محظوظون

فالحياة بها الكثير من الثغرات

فى الحبكة

مع كل رواية أؤلف نسخة من نفسى

ثم أفقدها

متعللاً بالبحث عن زجاجة

أحفظ فيها رماد أبطالى

لا بد أن أحدهم كان يتقمصنى

حين ذهبت لخطبة شاهيناز

فى السابعة صباحا ً

لا بد أن إحداهن استعارت شخصية أمها

حين ظنت أننى الزبال

لا بد أن أحدهم أجبرنى على أن أردم المستقبل

هل تفهموننى

أو لعلها امى ، روايتى المفضلة

التى خرجت منها للتو

فى الفصل الرابع

دون أن أكمل القصة

 

صرت كهلا ً

فجأة، دون أن آتى لها بالمستقبل

من ذيله

مجرد كهل يستقبل يومه من غير ود

يخاف أن يتسرب الشيب إلى منطقة حساسة فى جسمه

لا يصدق أن قبرا ًواحدا ً

سيتسع له

ولهذا يفكر فى بناء قبر لأبطاله

 

لا أريد سوى قبرين

لأكتشف نفسى

من كل صوب

 

أنا فى قبرين يا أمى، كى لا أختلط عليك

أحكى لزملائى من الموتى

عن جلبابك  الأسود

أحكى لهم ببطء

كى لا تنتهى الرواية .

 

 

شاعر من مصر

 

 - (ساحر الصحراء)، رواية لـباولو كويلهو

 - " جان باتيست جرنوى " بطل رواية (العطر).