عند المغيب تقريبا كان يفترش بلكونة أرضية، تكاد تلامس الشارع؛ كسنوات عمره المهدرة،
كان يدرك أن الصندوق الحديدى الذى يتكور فيه ـ الآن ـ قد أوشك أن يفـرَّ بعمره الفائت.
"فايزة أحمد" تسرب غناءها الشجى إلى مسامات روحه " ومعايا.. وانت معايا "
وتأخذ الآلة الجهنمية عملها على استحياء.. للموسيقى سحر يجر الزمن والمواقف إلى ساحة الحياة ؛ بدأ يشعر أن الفوتيه الذى يحتويه تماما، يطير الآن مع دنو انتهاء الأغنية، كانت كل سنوات عمره تغوص فى رماد الحاضر.
لو تمكن من إشعال ضوء واهن فى السبرتاية، ليصنع شايا، صورة ابنه الذى انتحر تجسدت أمامه.. تغلغلت فى مسامه ملامح متعددة ؛ رأى القهر ثعلبا جبانا يتخفى وراء الأيام والولد لما آلمته كرابيج التكرار أصرَّ أن يرمى للبحر ما تبقى من جسده
آه للأسماك شهوة قاتلة.
رآه يشير بيده
( ها أنت قادم
لامحالة
أنهكتك الحروب
والشاشات
ومرارة الانتظار
استرح
يا حبيبى
ـ كان الشاى داخلا بقوة فى الغليان ـ
يضع الولد يده ملاطفا كتف أبيه
الصور لم تفارقه على قدر ما مر من سنوات....
للشاى مذاق مـرٌ
صار غير قادر على تحديد الزمن الذى قرر فيه أن يشرب شايا ويعتاد عليه.
بملعقة واحدة.
كان فى البدء يستطعم المرارة.
سمع زوجته تقول: أنت لست قصيرا إلى الحد الذى تلوم فيه والديك.
تلفت؛ لم تكن سوى الوحدة ووحشة المغيب تتفشى تماما فى المكان.
فى ذلك الآن كان لا يعلم شيئا عن تأثير الجينات، ربما لم يسمع بالكلمة إلا قبل إحالته للمعاش.
الأولاد الآن يتقاذفون الكرة، فينهض الغبار.
قال عندما يكبرون عادة ما يفتحون للأهل بوابة خضراء.
قبل أن تسافر ابنته مع زوجها، همست فى أذنه ـ والطائرات كالقطارات تئز أزيزا قبيل الانطلاق ـ خلِّ بالك من نفسك.. ثم برقت فى عينيها دمعة ( أوهكذا كان يظن ) لأنها حادثته فى السنة الأولى مرة كل شهر، بشكل منتظم ؛ ولأن بحر المشاعر دوما إلى انحسار.. كان صوتها يخفت ويبتعد.. يبتعد إلى أن صار حلما بعيدا لم يعد يراوده.
..... آآآآآآه ه ه يا فايزه أحمد.. فكر كثيرا أن يقطع الخيط الذى يشد المواقف ويرصها بجوار بعضها.. لايرغب حقا فى قراءة عوامل الزمن وأفاعيله.. فقط عليه أن يستطعم الشاى على هذا الشكل.. ربما تكون قد برقت فى عينيها دمعة.. يراها الآن تسقط على خده.. نعم.
لامست أصابع قدمه الشبشب البلاستيك، فقام إلى الحمام.. لم يتمكن من الانفلات من المقعد.. جلس قليلا وتذكر الأصحاب، عندما ارتفعت يده بالكنكة الصغيرة التى تكفى كوبين انهمر الماء فى الكوب محدثا صوتا هو الصوت الوحيد تقريبا فى ذلك النهار.
قبل أن تعمل الملعقة فى الكوب، وتصدر أصواتا أخرى ؛
حاول ثانية أن ينهض ليصل إلى الحمام
فى الشارع ارتفعت الكرة، رآها تثير نزق وهرج العيال.
ظن أنه لم يزل قادرا على مـد يده للكرة
فكر للحظات أن يمسك بها فى المرة القادمة..
بعد ثوانٍ هـزّ رأسه وهمس لنفسه.. فات الميعاد.
ثم أضاف: للحزن جلال يا ولد.
توقف الشريط اللحنى.
ورحلت فايزة.
وآلة التذكر ـ لم تزل ـ تنهض باحثة عن وجوه تباعدت ؛ لذلك فقد هرب من الجلوس فى الصالة واستكان فى القفص الحديدى القائم فى الشارع؛ دائما الغبار يغطى الطابق الأرضى
طوال عمره يشعر بحميمية وسط الأماكن والناس
كان يقول الحميمية تتولد بحق حين تعيش فى وسط الناس
ها هو
يمسك بكوب الشاى.
الأولاد يتصايحون، يسعون بجدية وراء الكرة.
لا أحد منهم يراه
ارتفعت يد أحد المارة بالسلام، هـمّ أن برفع يده، واحتجز كمية من الهواء تمكنه من إصدار صوت.. أى صوت.
إذا تطور الأمر
لما كان العابر لا يرى أحدا، أشاح بيده للوراء، واستمر فى طريقه.
عندئذ قال للعابر: تفضل.
تلفت الرجل محاولا معرفة مصدر الصوت الواهن ـ للحظات ـ ثم مضى كمن خدعته أذناه.
بتكرار الصوت ثانية أحس الرجل ببعض الحروف التى تهمهم بالتحية.
لم يلتفت هذه المرة، فقط استمر فى سيره المعتاد، وبذات الجدية أشاح بيده وهو يقول دون أدنى التفاتة: شكرا.