بعد أن أعلن الغربُ موتَ الإله، ها هو الإنسان اليوم يموت شيئا فشيئا أمامنا، من بيننا وفينا، ونحن الذين نقتله ... فماذا سيبقى؟ هل سبق لكم أن سمعتم أو شاهدتم «طاكسي إلى الجحيم»؟ إن الأمر يتعلق بشريط وثائقي أنتِج في سنة 2007، مدّته ساعة و43 دقيقة، ومخرجه هو ألكس جيبني. ويمكن لكل من يرغب في رؤيته أن يقوم بذلك على موقع يوتوب.(1) يحكي هذا الشريط حدثا مؤلما جدا وذا دلالات نفسية وأخلاقية وأبعاد حضارية تجاوزت الحدود العادية المعروفة للمأساة الفردية: في 01 دسمبر 2002 أخذ " ديلاوار"، سائق طاكسي أفغاني، ثلاثة مسافرين في سيارته. ومنذ ذلك اليوم لم يرجع إلى منزله وأهله وأولاده. أوقِفَ من طرف جنود أمريكيين وقادوه في 05 دسمبر إلى سجن باكرام، معتقل المتهَمين بالإرهاب من الأفغانيين والباكستانيين. وبعد خمسة أيام، عُثِرَ عليه ميتا في زنزانته.
إذا حدث أن شاهدتم هذا الشريط أوكنتم من الذين يهمهم التفكير فيما وصل إليه إنسان زماننا واللعنة التي حلت به، فإن هذه السطور القليلة تتوجه إليكم بامتياز. وما أنا إلا واحد منكم، وهاكم المشهد بعد أن ألزمت نفسي المنقبضة المشمئزة على متابعة الشريط حتى النهاية. عند رؤية هذا الشريط يستبدّ بالإنسان خليط عنيف من الغضب والسخط، ويملك مشاعرَه نوعٌ مفرط من الحزن والأسى ... كيف لا، والحقيقة المرّة التي يستحيل تجاهلها واضحة وضوح الشمس في النهار: أمريكا التي تزعم أنها أكبر ديموقراطية في العالم تسمح لنفسها باعتقال رجل بريء وحبسه، ثم تعذيبه تعليقا وضربا، إلى قتله في النهاية. أمريكا العظيمة التي تقدّس الحرية وتتشدّق بتلفظها يوميا سلبت من إنسان عادي جدا ومن أبسط خلق الله، حريته وحياته، ظلما واستبدادا...
قمّة المأساة أن الجلادين الذين مارسوا مباشرة تعذيب "ديلاوار" البريء ونفذوا جريمة قتله، هم الذين يشهدون في هذا الشريط بالحقيقة المخجلة المخزية، الهمجية العمياء. " ديلاوار" البريء مكبّل ومعلق من قبضة يديه على شكل V، وعلى رأسه قناع أسود يمنعه من رؤية الضياء والتنفس بطريقة طبيعية، ويسلبه بتغطية وجهه انسانيته كما لو كان حيوانا ينتمي إلى عالم البهيمية ... تكسّرُ عظامُ فخذيه من كثرة الضرب ويُحْرَم من النوم ... يفقد ثقته من كثرة آلامه بأخيه الانسان ويعرف أنه هالك ولا أمل له في الخلاص من جحيم الظلم الذي نزل به، فيتخلى فجأة عنه عقلُه ويجنّ ويهذي، ... يصرخ فيرتفع صوته القوي في أرجاء الزنزانة الملعونة، وتخرج منزوعةً مدمّاةً من أعماق قلبه النكد الحزين المقتول كلماتٌ " إنسانية كونية " يعرف معناها النفسي والعاطفي والرمزي والوجودي كل " مخلوق " على وجه الأرض: بابا، بابا ... ماما، ماما ... زوجتي الحبيبة ... إلهي، إلهي ... خلصني من العذاب ... أنقذني من الموت... وحتى بعد أن نُهِبت منه روحُه وظل جسده ساكنا، ظنّ الساهرون على استنطاقه تعذيباً أنّه يمثل دورا كوميديا بافتعاله الموت...
ومن المفارقة الغريبة في قمّة هذه المأساة أن الجلادين – الذين لم يكونوا، حسب ما صرحوا به، سوى أداة تطبيق أوامر صدرت من هيئات عليا في جيش وإدارة المؤسسة الحاكمة – يبدون أمام عيون الكاميرا وكأنهم الضحية، فيتعاطف المشاهد على الرغم منه معهم. فهم يعبرون عن ندمهم في هدوء ودون انفعال كبيرملحوظ . لكنّ منهم من أكدّ أنّه إن كان من الممكن إعادة ما سبق فإنّه لن يفعله وسوف يعلن العصيان وعدم اتباع أوامر رؤساءه والمسؤولين عنه في عمله. إنّهم يشهدون بأنهم شاركوا بل نفذوا جريمة تعذيب وقتل لا تغتفر...لكنّهم يقدمون ما حدث بطريقة تكاد تجعل منهم في النهاية أبرياء قد تعرّضوا للإستغلال والخديعة من طرف رؤساءهم ... وكأنّ لسان حالهم وهم يشهدون يقول: " نحن لسنا الجلادين المعذبين، نحن أبرياء، بل نحن مظلومون ...".
والوجه الآخر لقمّة المأساة أمام هذه الواقعة الهاوية بالإنسان لا محالة إلى أسفل الحضيض، أن المتفرج على الشريط يقف مكتوف الايدي لا يستطيع فعل شيء. ماذا بوسعه أن يفعل إلا أن يبكي أو يتنهد أو يرسل عبارات من نوع "لا حول ولا قوة إلا بالله" أو يدعو الله خالق كل شيء أن يأخذ حق المظلومين ويسحق الظالمين أينما وُجدوا ...؟ ولا شيء من بعد هذا سوى أن يحاول إقناع نفسه بأنه لابد من نسيان هذا حتى يتسنى له أن يتحرر ولو مرحليا من الشعور بالذنب وعدم القدرة على التحرك فعليا لنجدة ما تبقى من ضحايا الفتن والحروب والوقوف إلى جانب الضعفاء المعرضين في كل لحظة من حياتهم إلى استغلال أو استبداد أو نوع من أنواع الظلم ... فيحاول. لكن حادثة أخرى مثل الأولى أو أكثر مأساوية وفجاعة منها تلحق به فتذكره بها... وهكذا تتراكم عليه أخبار يومية ذات نفس المحتوى الماساوي تعرض عليه نفس العناصر من انتهاكات لحقوق الانسان واعتقالات وتعذيب وقتل وتنكيل وهدم بيوت ومساجد وارتكاب جرائم داخل الكنائس وتشتيت عائلات و..و..و... فينتهي به الحال إلى أن يقبل بكل هذا ويعتبره شيئا عاديا ويتعامل معه بنوع من الهروب الذي يجد الانسان نفسه فيه دائما يرجع إلى نقطة البداية، فيضطر إلى البحث عن مبررات تشفع له باتخاذ موقف المتفرج الساخط لكن غير القادر على فعل شيء من أجل استرجاع حقوق الضحايا والدفاع عن المظلومين.
من هنا كمّ هائل من العلل أو التفسيرات التي يلجأ إليها الانسان المهزوم القابع في وكر أنانيّته وجبنه، كي يبرّر موقفه السلبي وعدم القيام ببعض من مسؤولياته لرذع ما حلّ بأخيه الانسان من دمار والتصدي لزحف الوحش الذي ما فتأ يروض بالبشرية في قرارات نفسها. ومن عجب العجاب أن هذه الذرائع الوهمية يحسبها الكثير منا نوعا من اللحظات التأملية في الوجود، والتفكير الفلسفي حول معنى الحياة. لكنّها في الحقيقة أحد الأسباب الرئيسية لما يمكن تسميته " ثقافة التخلف " الميّالة إلى التفسيرات التي تبرر الواقع المستبد الظلوم، وتساهم هكذا في تكريسه وتمنحه، أحبّت أم كرهت، نوعا من القوة والمنا عة فيفرض نفسه دون معارض. فلنتأمّل إذن، بعضا من عناصر " ثقافة التخلف " هاته ولنتساءل ونعالج الأمور بالنقد حتى لا يصبح التأمل ترفا فكريا:
- " هذه هي الدنيا، دائما هي هي ! نوع من اللغز المحيّر في تناوب مستمر بين الموت والحياة، فكلما ماتت نفوس إلا وحلت مكانها أخرى تجيء مستبشرة ومبشرة بالحياة. وفي هذا يكمن سرالتحكم في ديموغرافية الأرض التي لابد وأن تكون متوازنة وإلا وقع الانفجار الكوني المنذر بالفناء النهائي!".
ينسى أصحاب هذا التبرير أو يتجاهلون أن الأمر يتعلق فيما يخص هذه الفكرة بالموت الطبيعي الناتج عن شيخوخة أو مرض أو كارثة طبيعية أو شيئا من هذا القبيل، أما الموت الذي ذاق مرارت آلامه " ديلاوار" الأفغاني وأمثاله كثيرون فهو ناتج عن قتل وتعذيب وسلب لحق الحرية وحق الحياة. وهذا ظلم وليس طبيعة أي أنه شكل من أشكال ثقافة الاستبداد والتسلط على البشر.
- " لابد من التحلي بالقدر الكافي من العقلانية التي تتطلبها وضعيات كهذه، والتسليم في نفس الوقت بالأمر الواقع باعتباره قدرا من الله ولا يمكن تغيير ما يحدث لأنه يقع بمشيئة الله ... ". هذا الادعاء يعيد التاريخ، ويذكرنا بصفحاته السوداء، فكلنا يحفظ عن ظهر قلب جواب الحسن البصري لما سأله معيد وعطاء بن ياسر عن الملوك الذين يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويفعلون ويفعلون ثم يقولون إنما تجري أعمالهم على قدر الله، فقال: " كذب أعداء الله ".(2) فبالاضافة إلى تسييس الدين وفكرة الله، يجد الواقع نفسه هنا أمام ذرائعية يخاف أصحابُها مواجهة الحقيقة العارية فيسعون لحجبها وإبعادها عن الأنظار والذاكرة بالكذب على أنفسهم، وهم موقنون بفساد وعبثية تخطيطهم النابع عن الجحود.
- " كل ما يحصل للناس من شرور ومصائب هوحصيلة أعمالهم ولو كانوا خيرين وطيبين لما نزل عليهم غضب الله وحلّ بهم سخطه ". لكن على من يمكِن تطبيقُ هذا المنطق، أعلى الشرّيرين الخبيثين الحقيقيّين الذين يُذيقون الآخرين مرارة العذاب اعتداءً وتسلطاً عليهم، أم على ضحاياهم من الضعفاء والابرياء؟ ينسى أصحاب هذا الرأي الانهزامي أيضاً أن تجربة الانسان في الحياة تعني بالضرورة ارتكاب الأخطاء لكن الذي يرفع من مستواه هو أولا اعترافه بمسؤوليته، وثانيا محاولة تصحيح هذه الأخطاء، وهو شيء يتهرّب منه اليوم كل المتّجرين بحقوق الانسان والمتلاعبين بحياة العرب والمسلمين من المسؤولين السياسيين والعسكريين الكبار في العالم . بل إنهم مصرّون على أخطاءهم كما أكد ذلك مثلا كل من طوني بلير وجورج بوش الصغير في يومياتهما المنشورة مؤخراً، ومتيقنون أن يد القانون والعدالة لن تصل إليهم أبداً... هؤلاء الجناة الظلمة هم في الواقع من يستحق العقابَ المناسب والغضبَ الالهي!
- "المسؤولية تقع على عاتق من له القدرة في التغيير أما نحن فلا دخل لنا به" . هذه المقولة المستهلكة كثيرا في زماننا تشبه مقولة أخرى يُلقي مُتبَنوها دائما أخطاءهم على الآخرين. أصحاب هذا الموقف يعيشون كمّن يولي العدوّ دبره ساعة الحرب، أو كالذي يقف متفرجا على غارق يستنجده فلا يمدّ له يده ولا يرمي له بحبل.
حين تصبح مأساة حقوق الانسان الكارثية واقعا عاديا يزداد قبولنا به - في لاوعينا على الأقل - كلما تكرر ... تحدث لنا الطامّة الكبرى التي تعلن موتنا ونحن ما زلنا على قيد الحياة، فنعيش كأولئك الأموات الذين يمشون بين الأحياء كما جاء ذلك في شعرالفيلسوف محمّد إقبال... هكذا تخور قِوانا وتنفذ طاقاتنا، ونقف في حالة انتظار طويلة نتطلع إلى من يقوم بمهمتنا في مكاننا ونتساءل: متى سيظهر المخلص؟ ومن سيكون؟ ومن أي أرض سينطلق، أمن دار الاسلام أم من دار الغرب؟ وماذا ستكون لغته؟ وبأي سلاح سيحارب الظالمين الفاسدين؟ ومن هم الذين سينْظمّون إليه ويلحقون بالقضية التي سيدافع عنها؟ وكما اعتقد البعض في الشرق أن بن لادن بأفكاره والتنظيمات التي تعمل تحت رايته هو المخلص مما حلّ بالبشر من هوان وظلم، فإن حشودا غفيرة وجماعات كثيرة، في الشرق والغرب معا، تعتقد في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور أن المنقذ الحقيقي هو جوليان أسانغ وموقع ويكيليكس... وكما يقول المثل الشعبي السائر: "عِش تسمع خبر"! والحالة هذه، من القادر على أن يغيرَ مجرى التاريخ إلى أحسن مما هو عليه الآن، ويعيدَ للمظلومين والمسجونين والمعذبين والمقتولين من أمثال ديلاوار الأفغاني، وعددهم يرتفع كلّ يوم بسرعة مذهلة، حريتهم وكرامتهم؟ من الذي يستطيع اليوم أن يرجعَ الروح إلى هذا العازر الجديد الراقد في قبر أنانيتنا المظلم ؟
أستاذ وباحث مغربي مقيم في فرنسا
(1) http://www.youtube.com/watch?v=2_YRiBGWOL0
(2) ابن قتيبة، الامامة والسياسة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، 1969، ج 2، ص 27 .