يا تُرى ماذا حدث لمجلة (كراسات السينما Cahiers du Cinéma)؟ لمدة عقود نشرت المجلة ـ التي انتهجت شكل صفحات المفكرة والتأملات ـ بعض أبرز المقالات النقدية الجدلية المؤثرة التي كان لها دور كبير في تفعيل الحياة السينمائية، حيث لعبت المجلة دوراً خطيراً في إثبات أن السينما هي "الفن السابع". وعند نشأة المجلة عام 1951 برئاسة تحرير أندريه بازان، قامت المجلة بتوظيف مجموعة متميزة من النقاد الشبان ـ أمثال تروفو وغودار وشابرول ـ الذين كرسوا أهمية المجلة وشهرتها الدولية، عندما اتبعوا أقوالهم بالفعل، وحملوا الكاميرا إلى شوارع باريس وأسسوا "الموجة الجديدة". وأدخلت أجيال المحررين المتلاحقة، من بينهم إيريك رومير وجاك ريفيت وفريق مشترك مكون أساسا من سيرج داني وسيرج توبيانا، تطورات متميزة في توجهات المجلة العامة وكذلك في البرنامج الخاص بها ـ أي فلسفة المجلة أو العوائق التي تواجهها وجماليات السينما التي تنتهجها والدلالات الفكرية لعملية التنقل بين القنوات التليفزيونية ـ وعلى الرغم من ذلك فكانت هذه الأجيال لا تزال تحتفظ بالشعور بالتحمس الشديد للسينما الطليعية والرغبة في ارتياد آفاق جمالية وتصورية جديدة.
ولا تزال "Cahiers du Cinéma" تصدر كل شهر، والآن تطبع على ورق مجلات فاخر، لا يمكن تمييزه عن مجموعة أدلة السينما أو مجلاتها السائدة. وهناك مطبوعات المهرجانات وتغطيات العروض التجارية والنواحي الثقافية أو التعليمية والأرشيفات التي تهدف إلىتغطية تتميز بالشمولية أكثر من ذي قبل. لكن هذه التغطية برغم انطلاقها من مصادرات طيبة النية، قد اتسع مجالها بحيث فقدت وجهتها وضيعت بوصلتها. وانتهجت أسلوباً مصطنعاً، حيث يتميز التأثير الكلي لهذه التغطية متعددة الاختيارات والتجليات بالضعف مما يجعلها في خطر الانحدار إلى وهاد التأثير المخدر الناجم عن الغرق في النزعة الاستهلاكية لمن يتمتع بمستوى دخل عال. فعلى مدار ثلاثين عاماً، ساعدت المداخلات التي نشرتها المجلة على تشكيل طريقة التفكير في السينما بصفة عامة وتصورها ومعايشتها من الناحيتين النظرية والشعبية على السواء. وقد جذبت مجلة "Cahiers du Cinéma" صناع الفيلم إلى تأمل أطروحاتها، وحفزتهم إلى وضع بعض تلك الأطروحات موضع التطبيق، بصورة ساهمت في إعادة صياغة ما قاله ألكسندر أستروك من أن "الكاميرا قلم". وتبدو المجلة اليوم وكأنها لاتختلف كثيرا عن المجلات الصقيلة التي توجد على متن الطائرات المتجهة إلى المهرجان السينمائي التالي. كيف وصل الأمر إلى ذلك الوضع؟
I- البوتقة
في مفهومها الأصلي، فإن "Cahiers du Cinéma" تعد نتاج الازدهار المتألق للثقافة الفكرية الراديكالية في باريس بعد الحرب العالمية. فقد حظي اليسار الفرنسي بمكانة كبيرة بسبب دوره البارز في المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي، وفي المقابل عانت نخب المحافظين التقليديين القدامى من الاستخفاف والازدراء بعد تعاون قطاعات منها مع الاحتلال. وكانت عملية التحرير عملية ثقافية وفكرية بقدر ما كانت عملية سياسية. وتفاعل الأدب والفلسفة مع السياسة والنظرية الاجتماعية مع السينما وموسيقى الجاز والمسرح التجريبي والفن الراقي والثقافة الشعبية وأثرت كل هذه الشاطات في بعضها البعض بصورة مذهلة. وقدم كل من سارتر وكامو ودو بوفوار ومالرو ودوراس وليفي ستروس أقوى أعمالهم. وأخذت المجلات الثقافية والفكرية ـ من طراز - "الأزمنة الحديثة Les Temps Modernes " و"الروح Esprit" و"النقد Critique"وغيرها الكثير - تتدافع وتتفاعل وتتنافس في ميدان يزدحم بالرؤى والأفكار، وتحركه المناظرات المتواصلة التي تتميز بالتنافس الحر والجدل الخلاق. إن اتساع الآفاق المفاجئ وانفساحها، بعد الحصر الخانق الذي كان يسببه الاحتلال النازي، انفتح على عصر ما قبل المكارثية "حركة اتهام المواطنين بالخيانة (الشيوعية) لقمح المعارضة" في أمريكا وظهور الواقعيين الجدد في إيطاليا. وفي نفس الوقت، كانت تقدم السينما الفرنسية أعمال رينوار وأوفولس وكوكتو وميلفيل ورينيه وبريسون.
وقد برهنت الثقافة السينمائية في فرنسا لزمن طويل ـ بعدما أعلن الأخوان لوميير أن السينما وسيط لا مستقبل له ـ أنها أرض خصبة لأساليب فيلمية مختلفة، كما أنها بالمثل أرض خصبة للتفاعل بين النقد والممارسة. وتم فتح أول ناد للسينما عام 1921 ونُشِر سيل من المجلات السينمائية في الفترة بين الحربين العالميتين. وفي شبه خلسة في ظل الاحتلال، ازدهرت هذه الثقافة بعد عام 1945. وتأسست في باريس شبكة للنوادي السينمائية الخاصة باليسار. وأعاد هنري لانجلوا تأسيس نادي السينما "السينماتيك" الفرنسي الذي أسسه من قبل وقام بعرض أفلام (غير مترجمة) لهوكس وهتشكوك وكذلك لعروض من جنس الأفلام البوليسية الغامض المعروفة باسم فيلم نوار أي "الفيلم الأسود" في شارع ميسين. [1] وكان من بين مجموعة المجلات السينمائية الجديدة التي انبثقت حينئذ مجلة "الشاشة الفرنسية L'Ecran français " التي ضمت كل من سارتر وكامو ومالرو وبيكر ولانجلوا في مجلس إدارة تحريرها. ونشرت المجلة نصوصاً أساسية مثل تلك الخاصة بأستروك حول فكرة "الكاميرا قلم" التي أثارت الفكرة التي تشبِّه مخرج الفيلم بفنان حر يمكن مقارنته بالرسام أو بالمؤلف الذي يستخدم أدوات أنتاج فيلمه كما يستخدم الروائي قلمه والحبر. كما نشرت المجلة دعوة روجيه لينهارت للاختيار بين المخرجين فورد ووايلر - اللذين كانا من أوائل الذين قاموا بصياغة "سياسة المؤلفين". [2] وقام موريس شيرير ( الذي سرعان ما غير اسمه فيما بعد بالاسم المستعار إيريك رومير، من الاسمين إيريك فون ستروهيم وساكس رومير، مخرج فيلم Fu Manchu) بتحرير "جريدة السينما Gazette du cinéma" ونشرة نادي السينما بالحي اللاتيني. وفي عام 1946 أعاد جان جورج أوريول تأسيس "Revue du ciném مجلة السينما" الخاصة به التي كان قد أصدرها قبل الحرب، وكان مهمتها تحدي العصر الذهبي للتقدم في السن في العهد الصامت ومحاربة الثناء الوطني الذي ينهال على "السينما ذات الجودة" لمارسيل كارنيه ورينيه كلير. وكان أوريول ينظر لمن هم في الطليعة، إلى إيطاليا، وإلى أعمال ويلز وستيرجز ووايلر في مجلة "US". كما نشر لنقاد صغار مثل جاك دونيول فالكروز (كان يعمل في مجلة Cinémonde) وأستروك وبيير كاست وبازان ورومير وظلت مقالات أوريول عن السينما هي النصوص الأصلية في المجلة.
وبحلول عام 1950، بدأ الحماس الشديد الذي أعقب عملية التحرير في الانحسار عندما بدأت الحرب الباردة. ومارس الحزب الشيوعي الفرنسي سيطرة أكثر صرامة على مجلة "الشاشة الفرنسية L'Ecran français" وبعض النواد السينمائية. وزادت الانقسامات. وكان جورج سادول المؤرخ السينمائي للحزب يمثل الرقابة المحافظة حيث كان لابد من احترام العهد الصامت ومعاملة هوليوود بازدراء، وتعزيز الأنتاج الوطني من (الأفلام) بلا منازع مهما كانت هذه المعاملة لا تتفق مع قواعد النقد النزيه. وعلى العكس من ذلك، فقد اتحدت المجموعة التي تجمعت حول ما سمي بعد ذلك بمشروع "Cahiers الكراسات" ليس فقط من منطلق عشقهم الشديد للسينما ـ حيث كان ينقد الفيلم ناقد يكون متحمساً جداً له ـ ولكن من منطلق إصرارهم على الفصل بين الممارسة السينمائية والنظرية السينمائية. وبالنسبة لهم، كما يقول بيتر وولن: "إن الإطاحة الكاملة بالذوق القائم كان شرطاً لانتصار صناع الفيلم الجدد الذين يطلبون تقييمهم بميزان قيم مختلف. ويمكن رؤية هذا التحول النموذجي كـ "آخر ثورة في سلسلة الثورات النقدية في القرن العشرين المسماه بـ "العصرية" في مقابل "النظام القديم" للتقليد الفني. [3] وفي خضم هذا الصراع، كان ينظر إلى العالم الجديد على أنه حليف ثقافي، أي مصور قوي للعصرية والطاقات المعروفة الفعالة التي تتميز بها. ويشير اسم "Cahiers كراسات" - الذي يعطي إيحاء بأن ما يكتب فيها مثل الملاحظات التي تكتب بلا عناية في كراسات التدريبات المدرسية ـ إلى الطبيعة الأولية، إذا تحدثنا بجدية شديدة، للمشروع.
وفي الوقت ذاته، كانت مجموعة "Cahiers كراسات" المتألقة مختلفة بصورة مميزة من حيث مجموعة الأذواق والمناهج التي يتم العمل بها فيها. وتأثر بازان بسارتر وبالكاثوليكية المناهضة للاستعمار التي كان يؤيدها إيمانويل مونييه في مجلة "Esprit" وكان رومير من المتمسكين بالشكل والجماليات بصورة كبيرة أما لو دوكا فكان يتمتع بخبرة عامة بصورة أكبر، وهو مؤلف "تاريخ السينما" في سلسلة "ماذا أعرف؟". وكان دونيول فالكروز من المعجبين بالمخرج السوريالي الكبير بونويل. وكان كاست هو اليساري الملتزم الوحيد في المجموعة. وأضيف بعد فترة قصيرة إلى السلسلة المكون الأخير ألا وهو الإصرار الجدلي الذي كانت تتمتع به مجموعة ثابتة من المخرجين الأصغر سناً مثل تروفو (الذي يرعاه بازان) وغودار وريفيت وشابرول. وكان يجتمع هؤلاء المخرجون الشبان المتمردون أمام شاشات العرض الموجودة بالنوادي السينمائية، أو كانوا يكتبون في جريدة شيرير ورومير. فقد ظهروا كقوة منظمة أمام شاشات عرض الأفلام الموجودة في Objectif 49 في بلدية بياريتز عام 1949، التي كان ينظمها كوكتو وبريسون وكوينو وغيرهم، حيث كانت تحدث صدامات بين الشبانوهم وقتها في العشرينات من العمر وسادول حول "السينما الراقية فنيا" وأفلام هوليوود.
وكان العنصر المحفز لإصدار الكراسات هو موت أوريول المفاجئ في حادث سيارة عام 1950 حيث توقف إصدار مجلة ""Revue. في إبريل عام 1951، فنُشِرت جريدة قليلة السمك ذات غلاف أصفر، "Cahiers du cinéma" و "Revue mensuelle du cinéma et du télécinéma" من حجرة ضيقة بالمنزل رقم 146 في شارع الشانزلزيه. وقد أعلن البيان الافتتاحي للمجلة 'سياسة الحيادية الحاقدة التي تتحمل السينما متوسطة الجودة والنقد المتعقل والعامة المذهولة." وكان من أمثلة السينمات الجديدة التي تؤيدها المجلة الجديدة "Diary of a Country Priest" لبريسون و" Give Us This Day" لدميتريك و "Sunset Boulevard" لويلدر و "Miracle in Milan" لدو سيكا _وكانت تنشر هذه الأعمال آنذاك في الطبعات التي تصدر مؤخراً في باريس.
II- الخمسينيات - شباب كراسات السينما
كانت المجلة الأنيقة المكونة من 30 صفحة تظهر كل شهر، مطبوعة على ورق حجمه أكبر من A5 وأقل من A4، حيث كان يزين غلافها ذي اللون الأصفر صور ساكنة من اللونين الأبيض والأسود تشيرمأخوذة من أحد الأفلام التي تحتل مكانا مركزيا في مقالات العدد. وكان يسيطر على محتوى المجلة أربع أو خمس مقالات بالإضافة إلى صور ساكنة تملأ المجلة تساهم في إبراز العناصر الجمالية في السينما. وقام بالدعم المالي للمجلة مؤسس دار النشر Editions de l'Etoile. وكان أول قراء للمجلة من العدد القليل للمشتركين في مجلة "Revue". وكان أول اثنين من محرري المجلة من الجيل الأكبر سناً. كان كل من بازان (قبل عام 1918) ورومير (قبل عام 1920) ينتمون إلى الكاثوليكية، وتدربوا للعمل كمعلمين في المدرسة، ولكن فيما عدا ذلك فكانوا مختلفين من حيث التكوين والمنهج الذي يسيرون عليه.
وكان لبازان تأثير تربوي وأبوي أكثر من كونه تأثير جدلي خلافي. وقد التحق بدار المعلمين العليا في سانت كلود في سن الثالثة والثلاثين عندما تم تأسيس مجلة "Cahiers" ولكن تم رفض تعيينه في وظيفة مدرس بسبب تلعثمه في الكلام. وفي عام 1941، انضم إلى "بيت الأدباء"، حيث كان يعمل مع الطلاب المشردين جراء الحرب، وقام بعرض أفلام ممنوعة تميزت بطابع التحدي للسلطات النازية. وكان مؤيداً لكاثوليكية مونييه الراديكالية الاجتماعية، حيث انضم إلى مجلس إدارة تحرير مجلة "Esprit" بعد التحرير، ولكنه كان يعمل في نفس الوقت في مجلة "Les Temps Modernes". وكان لفكرة سارتر الخاصة بـ "الصورة الذهنية" تأثيراً هاماً على بازان الذي كان مفتوناً بطبيعة الصورة المتحركة. ويقصد بفكرة سارتر الخاصة بـ "الصورة الذهنية" أن "الصورة تعد نوعاً من أنواع الوعي، فهي عمل وليس شيئاً ... إنها الوعي بشئ ما" [4]. وتكمن قوة الكاميرا "ليس فيما تضيفه إلى الحقيقة ولكن بما تكشفه عن الحقيقة" ـــ إنها سجل للعالم الذي بيَّن العناية الإلهية التي تحيط بالخلق. [5] فقد رأى بازان هذه "الواقعية" في أحد أعمال رينوار، مؤلفه المفضل، وروسيليني، وعلى حد قوله في مناظرة عقدتها مجلة "الأزمنة الحديثة Les Temps Modernes" مع سارتر، وويلز. [6] كما توسع في كتاباته للتليفزيون، مرحباً بالمزج بين الواقعية والتخيل في برنامج "مسرحيات تليفزيونية حية" المباشر ويعد بازان من الأوائل في مجال التصوير السريع في المراحل الأولية للموجة الجديدة.
كان اتجاه رومير الأولي اتجاهاً أدبياً بصورة واضحة. وبحلول عام 1951، نشر رواية وكتب العديد من السيناريوهات بالإضافة إلى عرض أفلام في النوادي السينمائية الفرنسية وتحرير الجريدة الرسمية التي لم تستمر طويلاً. وبالمقارنة مع بازان المؤيد للسلام، فكان يتميز رومير بالسلوك القويم والتحفظ بصورة أكبر؛ فكان على سبيل المثال يكتب عن هوليوود ما يلي:
بالنسبة لصانع الفيلم الموهوب الذي كرس حياته للسينما، ليس ساحل كاليفورنيا مركزاً للظلم كما يريدنا البعض تصديق ذلك. ولكنه بالأحرى تلك الأرض المختارة، إنه الملجأ الذي كانت تمثله مدينة فلورنس لرسامي "المنظورية الطبيعية" أو الذي كانت تمثله فيينا للموسيقيين في القرن التاسع عشر ... ينبغي علينا أن نحب أمريكا؛ وإذا جاز لي أن أضيف، خشية أن أعاتب على التحيز، ينبغي علينا أن نحب إيطاليا: إيطاليا الرومان والتراث الفلورنسي، ويعتبر خليج كاليفورنيا أيضاً عاصمة الفن المعماري الذي تتميز به الحركة المستقبلية وأيضاً سباق الدراجات الآلية. [7]
وتعد أكبر مساهمة لمجلة "Cahiers" هي السلسلة المكونة من خمسة أجزاء التي تتحدث عن نظرية السينما، "السينما والرخام Celluloid and Marble"، التي يوضح من خلالها منهج فيلم يقوم على المفاهيم الكلاسيكية للفن. أما الآن فإن السينما وحدها، على حد قوله، تزدهر بصورة إبداعية بينما كانت تمر الفنون الأخرى ( حيث يركز بصفة خاصة على الرسم) بفترة تدهور. [8] وعلى الرغم من ذلك ففي غضون بضع سنوات من إطلاق المجلة كان المتمردون الشبان الذين كانوا يتبعون منهج "الدخول في الحرب" هم الذين كانوا يكتبون البيانات الرسمية الخاصة بمجلة "Cahiers du cinéma". فمنذ البداية، اتخذ نقاد المجلة الحنين إلى الوطن هدف لكتاباتهم حيث وصف فرنسوا تشاليس الحرس القديم بـ "محبي الشمس الميتة ... يرون الرماد حيث يتجدد ميلاد ألف طائر من طيور العنقاء". [9] ولكن قد أعطى المقال الجدلي لتروفو" بعض أهداف السينما الفرنسية" طابعاً نقدياً جديداً عندما ظهر في يناير عام 1954 - حيث كان يتميز بالعدوانية والتصميم والشخصية. وقال تروفو، وهو يهاجم السينما التقليدية لصالح مجموعة مختارة من المؤلفين، إن المجلة السابقة، مع ولعها بالتكيف الأدبي، لم تستخدم أبداً المواد التي تضفي ميزة للفيلم ولكنها أخضعت الفيلم لـ "مبدأ التكافؤ"، مما أدى إلى إنتاج أعمال تناقض الواقعية. وكانت صور كل كاتب سيناريو أو مخرج، من بينهم جان أورنش وهنري جورج كلوزو وجان ديلانوي، تطبع بجانب النص كأنها صورة للوجه مما يضيف لمعنى الصورة. ويعترف تروفو أن هذا الهجوم كان هجوماً جريئاً، وربما كان فظاً، ولكن الأمر لم يكن كذلك أو جبناً وكان الوقت الذي استغنى فيه النقاد عن التفاصيل.
والآن صاغ كتاب "بعض أهداف السينما الفرنسية" "سياسة المؤلف الفيلمي" في منهج بديهي. وبخلاف كونه مجرد مخرج، كان المؤلف صانعاً للفيلم يتمتع برؤية خاصة تجاه العالم اتضحت من خلال منهج "التركيب المشهدي" حيث لم يكن الأمر الهام في الإخراج هو الموضوع بعينه ولكن الطريقة التي يختارها المؤلف لمعالجة هذا الموضوع؛ فكان من الممكن أن تصبح القصة البوليسية الضعيفة عملاً رائعاً بين أيدي مخرج بارع. ولذلك، فكان العرض لا يضم التركيز على المحتوى ولكن التركيز على هذا الإخراج السينمائي حيث يمكن إدراك "أسلوب"، أو سمة، المؤلف. وحتى - وربما بصفة خاصة ـ تُقَدَّر أسوأ أفلام أحد الروائيين بهذه الطريقة وهذا على عكس تحليل كل عمل على حدة. وكما قال دونيول فالكروز فيما بعد إن مقال تروفو يجعل "شيئاً ما يربط بيننا. ومنذ ذلك الوقت فصاعداً، عُرِف عنا أننا نؤيد رينوار وروسيليني وهتشكوك وغيرهم ... ونعارض X وY وZ".
[10] وعكست محتويات الأعمال طبيعة بناء قانون هذا المنهج حيث بحثت مقابلات هامة بالتفصيل في عمل محدد لأحد المخرجين، وأجريت أول مقابلة عام 1954. وظهرت قائمة تقييمات أعدها "مجلس العشرة" منذ عام 1955، حيث كان كل إصدار يقوم بالتقييم ابتداءً من نقطة واحدة (وتعني "لا تنزعج")، ثم نجمة واحدة (وتعني "ستشاهد عند الضرورة") ثم نجمتان (وتعني"ستشاهد") ثم ثلاث نجمات ("وتعني"لابد من مشاهدتها") وانتهاءً بأربع نجمات (وتعني "تحفة فنية"). وتم افتتاح قائمة سنوية تضم أفضل المخرجين والأفلام في ذلك العام. وفي البداية، كان بيرجمان وبريسون وميزوغوشي ونيكولاس راي وروسيليني على رأس أكثر المرشحين.
وعلى الرغم من وجود رابطة تضم مثل هذه الشخصيات القوية، إلا أن الاختلافات الكبيرة بين هذه الشخصيات استمرت. وبعد عقد من الزمان، كان رومير لا يزال يؤكد التزامه بـ "سياسة المؤلف الفيلمي" وبمنهج "التركيب المشهدي" الذي كان يفهم على أنه فن السينما. ولكن من خلال مسرحية "مهزلة عائلية" عام 1957، كان بازان يوبخ زملائه الأصغر سناً بالفعل على عيوب هذا المنهج (التركيب المشهدي) حيث كان يحفزه على ذلك مقال جان دو مارشي الحماسي عن أعمال فينسيت مينيلي الترفيهية التي لا تحمل قيمة مثل قصة حياة فان غوغ المصورة بالألوان تحت عنوان "Lust for Life". وقال بازان إن السينما كفن كانت رائجة كما إنها كانت صناعة وكانت تعني جميع هذه العوامل أن هناك حاجة إلى المزيد من التفسير النقدي. وبصورة أكثر توسعاً فإن أي فنان يمكنه إنتاج أعمال أفضل أو أسوأ فعلى سبيل المثال:" كان فولتير كاتباً مسرحياً فظيعاً في الوقت الذي كان يظن نفسه خليفة راسين وكاتب قصة عبقري عندما استخدم الحكاية الرمزية كوسيلة لعرض الأفكار التي قد تضر بأفكار القرن الثامن عشر". ومن المعادلة، "المؤلف + الموضوع = العمل الفني"، فقد احتفظت وجهة نظر"سياسة المؤلفين" بالمؤلف فقط. وقد حذر بازان من أخطار بدء "الولع بالشخصية الجمالية". [12]
قدم كل من المتمردين الشبان، أيضاً، أدواته وأفكاره النقدية الخاصة به لعرض الفيلم. كان ريفيت، "روح المجموعة"، فريداً في إدراك منهج التركيب المشهدي، هذا "التركيب في العلاقات، المؤثرة بل العابرة ... [مثل] الألماس يكون شفاف ولكنه يعطي انعكاسات غامضة ويتميز بالحواف الحادة القاطعة" الذي سمح للنقاد بالنظر فيما وراء قيود طلبات وسيناريوهات وموازنات الاستوديو لتمييز أحد المؤلفين عن الآخرين. [13] وكان المديح الذي يوجه إلى هتشكوك مثار الجدل مما ساعد على ترقيته من مجرد مخرج بارع في الإثارة إلى عبقري. [14] وكانت إسهامات غودار المبكرة تتمثل في نتاج "سياسة المؤلفين". وقد أظهر ذوقاً تجاه كل ما هو غريب ومتناقض وكان خبيراً بصفة خاصة في تحليل الأفلام "القصيرة" لأي من المخرجين، أي "أوجه القصور البارزة" في أعمالهم. وكان غودار أول من قام بكتابة مقال نقدي عن أعمال بيرجمان في المجلة عام 1958 في الوقت الذين كان يقوم فيه بكتابة إشادة بكتاب غربيين صغار فمثلاً:
ينجز الأمريكيون الأكثر غباءً، عندما يتطرق الأمر إلى التحليل، بصورة غريزية سيناريوهات معقدة للغاية. كما أنهم يتمتعون بملكة البساطة التي تحمل عمقاً - كما في عمل غربي صغير مثل "Ride the High Country". وإذا حاول أحد أن يفعل شيئاً مثل هذا في فرنسا، فإنه يبدو كمفكر. إن الأمريكيين حقيقيين وطبيعيين ولكن هذا التصرف يحمل معنى آخراً. فنحن في فرنسا ينبغي علينا أن نتوصل إلى شئ له معنى - أي التوصل إلى موقف فرنسي كما توصل الأمريكيون إلى موقف أمريكي. ومن أجل تحقيق ذلك، ينبغي أن نبدأ بالحديث عما نعرفه. [15]
وأظهرت إسهامات نيكولاس راي المبكرة تميزاً لكل ناقد على حدة. ووجه ريفيت كلمة لقراءه مصحوبة بإعطاء مجموعة من الأوامر بكياسة وهو أسلوب في النقد يراعي دائماً المشاهد الذي ينبغي على الكاتب أن يقنعه. بالنسبة لغودار، الذي كان مصاباً بداء العظمة المعدي، "إن فيلم "Bitter Victory"،مثل الشمس، يجعلك تغلق عينيك فالحقيقة عمياء." [16] كان تروفو عدواني وتقادمي وكوميدي بصورة حزينة:
سيضطر هؤلاء الذين [لم يشاهدوا أفلام راي] إلى تصديقي وستكون تلك هي عقوبتهم الصغيرة ... يمكنك دحض هوكس باسم راي، ولكن بالنسبة لأي شخص يعارض كلاً منهما سأقول ما يلي: "توقف عن الذهاب إلى السينما ولا تشاهد المزيد من الأفلام لأنك لن تستطيع إدراك المعنى ... الإطار واللقطة والفكرة ينتجوا فيلماً جيداً، أي السينما. [17]
وكان رومير دائماً أكثر رزانة، على الرغم من أنه لم يكن أقل سروراً. وسأل القراء: "هل تُغفَر لي رذيلتي المفضلة التي تتمثل في إثارة ذاكرة اليونانيين القدامى لقراءة "Rebel Without a Cause" كـ "مسرحية مكونة من خمسة فصول". [18] وكان التناقض توجيهي حيث احتفل غودار وريفيت بالأمر غير المسبوق الذي يتميز به راي وبذلك أطال رومير عمر القضايا الأخلاقية والمأساوية اللانهائية.
اليتامى المولعين بالسينما
في البداية، كانت المجلة بمثابة الأسرة البديلة لنقادها الشبان. وكما وصف سيرج داني الأمر أن المجلة تضم آباء وأجداد وأطفال بالتبني - إنها قصة "يتامى عنيدين وعائلات مختارة" حيث كان المشاهدون الشبان يربطون بين تاريخهم وما يرونه على الشاشة. [19] فقد تم القبض على تروفو، على سبيل المثال، الذي ولد عام 1932 لـ "أب مجهول" وتربى في البداية في ملجأ ثم تولت جدته تربيه فيما بعد، في سن الخامسة عشر بتهمة إدارة ناد للسينما بأموال مسروقة. وتدخل بازان، الذي كان قد قابل ذلك الولد في ليلة فتح مشروعه غير القانوني، لإنقاذه من إصلاحية الأحداث وتبناه فعلياً. وأنقذه مرة أخرى عام 1951 من السجن عندما تغيب تروفو عن الجيش بدون إذن وهو مراهق ليلة التوجه إلى فيتنام. ومن منطلق الضرورة أو لأي سبب آخر - مثل فقد الأب والأم في الحرب أو التشرد المبكر أو عدم حضور بعض الحصص الدراسية في الجامعة - فقد حلت السينما محل الأسرة أو محل الدراسات الأكاديمية. فقد وصل كل من ريفيت وغودار إلى باريس للدراسة في جامعة السوربون ولكنهما انجذبا نحو دار الأفلام "السينماتيك" والمجلات السينمائية وحصلا على تعليمهما من خلالهما بدلاً من الدراسة. إن ثقافة المولعين بالسينما لها أشكالاً للإطلاع ولها محاضراتها وتلاميذها وأساتذتها حيث " (نجد) في نواد السينما أن حصصنا الدراسية الليلة ..... كتبنا ... الحذر من المفكرين والجامعات والسياسات لا تتعرض لأي تدخل خارجي". [20] واحتفظ تروفو، الذي شاهد فيلم " La Règle du jeu "عشرين مرة على الأقل، بملفات تحمل تفاصيلاً دقيقة عن كل فيلم. وكانت المشاهدة عن كثب والمشاهدة المتكررة أمراً حيوياً لنقده. فكان واضحاً حيث كان يقول: " دعنا لا نحترم ولا نتبع ولا نقرأ ولا نهتم بأحد غير المتخصصين." [21]
يشمل تاريخ "Cahiers" نقاطاً غامضة كما يشمل نقاطاً يسلط عليها الضوء. ففي عقدها الأول، كانت هناك حركات فنية أخرى تعتبر غير هامة، إلى جانب إهمال المسرح وموجة "القصة الجديدة" على الرغم من أن بريخت كان اكتشافاً هاماً عام 1960. ودخلت سينما العالم الثالث وغيرها من أعمال الرواد المجلة متأخراً. إن العداوة تجاه تحليل النوع أدت أيضاً إلى إغفال جانب التخيل والكوميديا وأفلام الرسوم المتحركة، بخلاف نصوص أندريه مارتن وفريدون هويدا. وكان هناك غياب أكبر للمجال السياسي في المجلة. وتجاهلت مجلة "Cahiers" فعلياً كل من الحرب بين الهند والصين وحرب الجزائر. وقد لخص وصف غودار لنفسه موقف المجلة في ذلك الوقت حيث قال: "لدي أهداف أخلاقية ونفسية تتحدد من خلال المواقف التي تولدها الأحداث السياسية. هذا كل ما في الأمر." [22] ومثَّل هذا تناقضاً كبيراً للمجلة السينمائية Positif المناهضة للاستعمار بصورة واضحة التي تأسست عام 1952. وسرعان ما كان لهذه المجلة تأثيراً سريالياً حيث كانت في البداية شريكاً للحزب الشيوعي الفرنسي. [23] وعلى لسان محررها، فكانت مجلة Positif "ضد الجمال بصورة كبيرة ... إننا نريد سينما تعبر عن أفكار تقوم بتغير المجتمع، إننا نريد سينما تهتم بالشكل الفني". [24] ومقارنة بمجلة "Cahiers "، فكان هناك أخبار أقل من هوليوود وأخبار أكثر من أمريكا اللاتينية والعالم الثالث كما كان هناك تركيز أقل على المؤلفين واهتمام أكبر بالنوع بالإضافة إلى انفتاح على العمل السريالي وصناع الفيلم التجريبيين أمثال ماركر وريسنيه وفاردا. وتأرجحت كل من مجلة "Positif" و "Cahiers" بين العلاقات الودية ومشاركة المساهمين (هويدا وكاست) والمصالح المشتركة في "الحرب الصحفية" الصريحة. وأعتبر رومير الفريق "طائفة تحكم على السينما من خلال معايير مختلفة تماماً عن الفن السابع" ، [25] في الوقت الذي كان يصنف فيه المحررون في مجلة Positif نظرائهم برقباء أو نقاد تجريديين أو إمبرياليين أو صوفيين أو فاشيين.
وبموت بازان المأسوي بسبب مرض السرطان عام 1958، في سن الأربعين، تولى رومير دور رئيس التحرير للمجلة. وجاءت أحكامه بناءً على دراسة أكثر تعمقاً، ووصلت هذه الأحكام إلى أسوأ مراحلها بالنسبة للمراقبين النقديين عندما سمح لجماعة ماك ماهون بالتعبير عن شعيرة التأمل الخاصة بهم في سلسلة من المقالات بين عامي 1959 -61. واحتفل مؤيدو ماك ماهون بدار الأفلام "l'amour fou du cinéma"، التي سميت على اسم السينما الموجودة في باريس التي تعرض أفلام هوليوود فقط، وارتقوا بفكرة فتنة هذه السينما إلى أقصى درجة. وأصبح الإنسان إلهاً في منهج "التركيب المشهدي". وبالنسبة للكثيرين، من بينهم دونيول فالكروز، كان نشر هذه الأعمال يعد خطوة تجاه تسييس صفحات مجلة "Cahiers " للتحول إلى الجناح الأيمن. وعلى الرغم من ذلك، كان التأثير الوحيد لذلك هو إثارة مناقشة واعية سياسياً بصورة متزايدة حول السينما في أوائل الستينيات. كان هذا وقت طرأ فيه تغيير على المجلة. وأصبحت مجلة "Cahiers " مكاناً للعبور وتفرق أعضاؤها حيث رغبوا عن صناعة الأفلام. وفقدت المجلة مصدراً واضحاً للإلهام أيضاً. وأظهر مؤيدو ماك ماهون منطق الاقتراب بخضوع شديد نحو هوليوود وكان يبدو أن إعادة التقييم النقدي الواسع النطاق الذي قامت به مجلة "Cahiers"، من منبوذين إلى متمردين، قد أخذ مجراه الطبيعي. وبدأ التوجه إلى مصادر إبداعية بديلة، تشمل السينما الجديدة من أوروبا (بيرتولوتشي وفيسكونتي و"ورش العمل" البولندية) والسينما الجديدة البرازيلية والسينما المباشرة من جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من ذلك ، فقد تجمد الوضع الاقتصادي والمؤسسي لمجلة "Cahiers" بمجرد أن بدأ يضطرب برنامج عمل المجلة. وبحلول عام 1960، بيع 12.000 عدد من المجلة في الشهر إلى جانب الطلب الكبير للأعداد من 1 إلى 100 من المجلة. وتوقف عدد المشتركين المنتظمين عند 4000 مشترك، يشملون 500 جامعة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وبدأ يتردد صدى أفكار المجلة - التي كانت تهاجم - بين الشعوب الناطقة باللغة الإنجليزية.
ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى الإبداع المذهل في الأفلام التي كان يبتدعها المحررون. وكان غودار يقول عام 1962:" اعتقدنا جميعاً في مجلة "Cahiers" أننا سنكون مخرجين في المستقبل". " إن الكتابة كانت بالفعل طريقاً لصناعة الأفلام." بين عامي 1959 و1963 كان يتم إخراج روائع أعمال "الموجة الجديدة" بميزانيات ضئيلة - ومن أمثال هذه الأعمال "The 400 Blows" و "Jules and Jim" لتروفو و "Breathless"و "A Woman is a Woman" لغودار و "Paris Belongs to Us" لريفيت و "The Cousins"لشابرول. وجمعت هذه الأعمال بين الإبداع الشكلي المبهر في تأطير اللقطات والصوت مع دراسة ممتعة لعلم الأجناس البشرية في فرنسا المعاصرة في الوقت الذي كان يتم فيه تفعيل بيان مجلة "Cahiers" الذي يقول بـ "أن النقد الحقيقي لأي فيلم يعد فيلماً آخر". [26] بمعنى أن الراديكالية الحقيقية لهذه الأعمال تطلبت برنامج عمل جديد للمجلة. واصطدم مجموعة من الشبان الأصغر سناً مع وجهة نظر رومير التي تقول " إن العالم لا يتغير، على الأقل ليس بالكثير .... بينما الذي يتغير هو الفن". [27] وحيث إنهم كانوا يرفضون الولع المطلق بالسينما فأرادوا فتح المجلة أمام حركات فكرية أكثر شمولية. وبعد محاولات فاشلة قام بها كل من تروفو ودونيول فالكروز عام 1962 لتشجيع رومير على إعادة تقييم بعض مبادئ مجلة "Cahiers " القديمة شكَّل ريفيت فريقاً بديلاً. وكانت نهاية عهد رومير غير مشرفة إلى حد ما بالنسبة لرجل يتمتع بمثل هذا الرقي في الكتابة والإخراج. وأضاف رومير رقم 144 للمجلة مقارنة بفريق ريفيت المنافس ووضع العدد داخل جيب بيجامته بعد قضاء "ليلة بيضاء" في المكتب. ونشرت مقالة رومير ولكنها كانت آخر مقالة له. وأعلنت مجلة "Cahiers 145" التغيير الذي طرأ وأكد ريفيت على الخط التحريري الجديد للمجلة في أغسطس عام 1963.
III- الستينيات - الموجة الجديدة
وفي تلك الافتتاحية وغيرها من الافتتاحيات، أجاب ريفيت، في الواقع، على المسألة التي أثارها غودار في المقابلة التي أجراها عام 1962 وهي أن الذي أدى إلى ظهور مجلة "Cahiers" هو "موقعها على الخط الأمامي للمعركة"، ولكن باتفاق الجميع الآن، "لا يوجد الكثير لقوله". وكرر ريفيت القول إن الأوضاع التي كانت في أعلى منزلة في الخمسينيات أصبحت "مذهب ونظام". ينبغي أن يتطور النقد تدريجياً "من وجهة النظر التكتيكية" تاركاً الأوضاع المتبعة، التي أصبحت الآن قديمة - أي متهالكة. [28] ثم وصف ريفيت بعد ذلك كيف أن تجربته لمشاهدة فيلمه "Paris Belongs to Us" في سينما مزدحمة بالجمهور عام 1960 قد غيرت فكرته عن النقد السينمائي حيث ينبغي أن يراعي النقد البيئة التي يصنع فيها الفيلم ويشاهد. إن اقتراب الأفراد المولعين بالسينما، الذين ترعبهم الشاشة، قد حال دون تحقيق ذلك. هذه هي مخاطر موقف "التأمل المطلق" الذي يؤدي بالفرد إلى الإذعان الكامل قبل مشاهدة الفيلم ...كالأبقار التي تثبت في مكانها في الحقل عند رؤيتها للقطارات المارة بالحقل على أمل ضعيف لإدراكها سبب تحرك هذه القطارات. [29] إن الانشغال بالبيئة الاجتماعية المتغيرة التي يعد الفيلم جزءً منها، سواء من ناحية إنتاجه أو استقباله، كان يعني انفصالاً عن برنامج عمل المجلة القديم. لا يمكن فهم السينما بمعزل عن البيئة المحيطة بها، والأهم من ذلك، ليس هناك حاجة إلى فهمها بمعزل عن البيئة المحيطة. وقد وضعت العشرة أعوام الأولى من المجلة أساس للتفكير في الفيلم بجدية والآن ينبغي أن يشمل النقد نقاط التوتر الجديدة.
لقد فتحت الافتتاحية التي ميزت تحرير ريفيت بين عامي 1963-65 الطريق، أولاً، أمام أساليب أخرى وتيارات فكرية أخرى مثل علم الأجناس البشرية لليفي ستروس والنظرية الأدبية لبارثيز والتحليل النفسي، فيما بعد، للاكان والمفاهيم الأيديولوجية التي قام بتطويرها التوسير والتي ظهرت حتى تمكن من التأثير على إدراك طبيعة السينما على أنها الشكل الفني المناسب في القرن العشرين. وتم دراسة قول بازان "إن السينما لغة" مرة أخرى في إطار النماذج اللغوية الهيكلية. ووصف نص طويل نُشِر عام 1965 لبيير باولو باسوليني نشأة "السينما الشعرية" التي قد تعد مرحلة النضج للواقعية الجديدة. وقد جعل رفض "النثر" الروائي التقليدي واستخدام أسلوب الحذف في أعمال أنطونيوني أو ريسنيه الترجمة أمراً ضرورياً، لدرجة طمس مغزي المؤلف. وعند إجراء مقابلة مع بارثيز، أكد أن "الإنسان ملتزم بصورة كبيرة جداً بمعنى أن الحرية في الفن تبدو أنها تشمل ...ليس ابتكار المعنى بقدر تعليقه." [30] وكان الفيلم الذي أخرجه رينيه بعنوان "Last Year in Marienbad" عملاً نموذجياً بالنسبة لنقاد مجلة "Cahiers" فكما كان الحال بالنسبة للرسامين في العصر الحديث، حيث لم تعد مهمة الرسام هي تصوير الموضوع ولكن صنع لوحة زيتية"، كان الحال بالنسبة للكاميرا. "إن مهمة صانع الفيلم لم تعد رواية قصة ولكن مجرد صناعة فيلم يكتشف المشاهد من خلاله القصة". [31] فالجمهور أصبح الآن "بطل الفيلم". [32] وكان فيلم "Au Hasard Balthazar" لبريسون مشهوراً بسبب الاقتصاد في مغزاه وفي قيمته المطروحة:
فهو يريد أن تعبر كل صورة عما يريد هو أن يعبر عنه فقط بعد التخلص من ما نسميه "التشويش" ... فقد كان مجبراً على اللجوء إلى أسلوب يقضي حتمياً على تعبيرات الوجه الغامضة التي تحمل معاني كثيرة جداً ... وأصبح أسلوب الحذف أمراً أساسياً لأنه لا يستطيع التركيز طويلاً جداً على أي وجه من وجوه الشخصيات. [33] وكانت المقالة النقدية التي كتبت عن فيلم "Belle de jour" لبونويل مشبعة بلغة البنيويين حيث كانوا يقولون: "يتضح الفيلم من خلال سلسلتين من الثنائيات يجب قراءتهما مجردتين من أي "مستوى" أو "تسلسل اجتماعي". [34] وبلور جان لويس كوموللي، في أولى إسهاماته للمجلة، الانتقال من موقف التابعين لرومير إلى التابعين لريفيت. وبذكر بلانشوت وهايدغر وميرلو بونتي ويونج، فقد اقترح وجود علاقة بين الفلسفة والسينما، أي طريقة للإحساس بالفيلم عن طريق التفكير فيه. لا ينبغي أن يكون هدف نيويورك هو تهدئة مشاهديها من خلال الرفاهية المعتادة داخل القاعات المظلمة ولكن ينبغي عليها إثارة وتحفيز انعكاسات أكبر للفيلم. [35] ورحب ريفيت أيضاً بمثل هذه البلبلة حيث قال: " إن دور السينما هو هدم الخرافات .... والخروج بالناس من الشرنقة". [36]
ومع أوائل الستينيات، انضم جيل جديد من المولعين بالسينما إلى فلك مجلة "Cahiers"، حيث أدخلوا مجموعة أكبر من الاهتمامات النظرية. ففي الغالب كانت هذه الاهتمامات بين النقاد والنقاد في مقابل الاهتمامات بين النقاد وكتاب السيناريو. وكان من بين أكثر من كان لهم تأثير على مدار العقد التالي طالبا طب من الجزائر. واكتسب كل من كوموللي (قبل عام 1937) وجان ناربوني (قبل عام 1941) خبرتهما الأولى في نادي السينما بالجزائر قبل الوصول إلى باريس للدراسة عام 1961. وكان سيرج داني (قبل عام 1944) قارئاً لمجلة "Cahiers" منذ سن الخامسة عشر وعندما كان لا يزال مراهقاً بدأ في مجلته السينمائية "Visages du cinéma" التي لم تستمر طويلاً مع صديقه المولع بالسينما لويس سكوريكي. وكان كتاب مجلة "Cahiers"، على غير العادة، مسافرون مغامرون، حيث كانوا يقضون أوقاتاً في الهند وأفريقيا وأمريكا كنقاد رحالة. كان ميشيل ديلاهاي تلميذ ليفي ستروس وكان معجباً بسينما جان روش الخاصة بالأجناس البشرية. وتبنى كل من كلود أوليه مؤلف "القصة الجديدة" والناقد جان أندريه فيسكي أخلاقيات الرواد التي رفضت "التفسير الزائف للجمال" الخاص بمنهج "التركيب المشهدي" فقد حان الوقت للتفكير في "سينما مفتوحة" جديدة. [37]
وتميزت التحولات الفكرية بإعادة تصميم المرئيات، ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى شراء دانيال فيليباكي، المشهور بأنه المسئول عن سلسلة yéyé "أهلاً أيها الأصدقاء" لأسهم دار نشر مجلة "Cahiers" الجبري، Editions de l'Etoile، عام 1964. وكان يستبدل اللون الأصفر المشهور به المجلة بلون مختلف كل شهر وبحلول عام 1966 أصبح الغلاف الثابت للمجلة المكون من اللونين المفضلين الأبيض والأسود يطبع بالألوان. ومهما كان القلق حيال فيليباكي، فكان واضحاً أن الهدف المباشر لفريق المجلة الجديد كان المعرفة الكافية بـ Cahiers jaunes. وكان رفض السماح لقراء المجلة حمل الرمز المميز للمولعين بالسينما تعبيراً فعالاً عن النقد المتزايد للثقافة على صفحات المجلة، وكان هذا تطهيراً داخلياً للعصر الذهبي للتقدم في السن. وكانت سيطرة ريفيت على المجلة حاسمة ولكن أتبع كلاسيكية رومير سلسلة من التساؤلات غير الخط البديل الذي يمكن تحديده. وانعكس هذا إلى حد ما من خلال التنوع الكبير في فريق التحرير الجديد حيث كانوا مسافرين وأطباء وروائيين وعلماء في علم الإنسان. وأصبح شكل المجلة متغيراً وازداد حجم الإصدارات إلى 50 و70 و80 وحتى 200 صفحة في ديسمبر 1963. وعلى الرغم من ذلك ظلت المبيعات ثابتة عند 15.000 نسخة في الشهر خلال الستينيات.
وكانت تمر السينما أيضاً بمرحلة تغيير. وكان المؤلفون التي سلطت مجلة "Cahiers " الضوء عليهم في ظل نظام هوليوود يتقدمون في السن وكانت الاستوديوهات تتحول بصورة متزايدة إلى ملاحم إنجيلية وما شابه ذلك في محاولة للإبقاء على المشاهدين في عهد التليفزيون. وكانت تظهر أعمال أكثر إمتاعاً، أو التي بدأ الاعتراف بها، من الهند (ساتياجيت راي) واليابان (كوروساوا) والبرازيل (جلوبر روشا) ومن تشيكوسلوفاكيا (فورمان و سفانكماجير) وبولندا (بولانسكي وفايدا) والاتحاد السوفيتي (تاركوفسكي) ومن ألمانيا (جان ماري ستراوب) والسويد (بيرجمان) وإيطاليا (أنطونيوني وفيليني وبازوليني) ومن فرنسا نفسها (بونويل وماركر ورينيه وروش). وبالعمل مع نوادي السينما، أدخلت المجلة عام 1966 قسماً جديداً للشئون الدولية، حيث كانت تغطي آخر الأخبار حول العالم. ورحب كوموللي ببدء عهد سينما سياسية جديدة حيث يمكن أن يرى الفرد "النقطة الفاصلة من الصراع ليس فقط الصراع الفني ولكن أيضاً ذلك الذي يشمل المجتمع والأخلاق والحضارة". [38] كتبت سيلفي بيير، أول ناقدة سينمائية نسائية في مجلة "Cahiers"، عن السينما الجديدة البرازيلية وما أسمته المجلة "السينما المباشرة" مستلهمة كلامها بصورة مبدأية من "L'Amour fou" لريفيت و "Faces" لكاسافيت. وبوصف هذه الأنواع بالأفلام "بدون سيد"، فقد رأت بيير نوعاً جديداً من محو هوية المؤلف حيث " لم يطمح المخرج لأن يكون إلهاً" وبدلاً من ذلك فقد حاول أن يقدم الواقع أو بالأحرى أن يقدم خيالاً يهدف إلى تقديم وصف أمين للأوضاع الخيالية الذي يتناسب في النهاية مع هذه الأوضاع". [39]
وكان عام 1966 نقطة تحول سياسية. ومع التأثير المتزايد لحرب فيتنام، لم تعد تبدو أمريكا حليفاً بسيطاً في تصوير أضواء وخيالات "العصرية". وقد أطلق كل من الصراعات من أجل التحرر الوطني في الحرب بين الهند والصين وبين أفريقيا وأمريكا اللاتينية وفترة الاسترخاء العسكري بين أمريكا والاتحاد السوفيتي في أوروبا الشرقية والنشاط المفاجئ الشامل للثورة الثقافية في الصين حيث كان يلتمس أي زعيم شيوعي من النقاد الشبان أن يمطروا المقار الحكومية بوابل من النقد وأن يقضوا على الاختلافات بين العمل اليدوي والفكري وبين الفلاح وقاطن المدينة وأن يعملوا على بعث الحياة من جديد في الثورة - فقد أطلقت جميع هذه العوامل طاقات شعبية هائلة. ومع انحناءة احترام لتشي جيفارا، لخص غودار العلاقة السينمائية الجديدة في بيانه الصحفي عن فيلم "La Chinoise" في العام التالي: وسيطرت الصناعة الأمريكية على السينما في جميع أنحاء العالم. لا يوجد الكثير لنضيفه إلى هذه الحقيقة غير أنه ينبغي علينا في مستوانا المتواضع أن ندفع باثنين أو ثلاثة من الفيتناميين في قلب إمبراطورية استوديوهات سينسيتا - موسفيلم - باينوود الضخمة في هوليوود وقد أوجد الصراع على جبهتين، على كل من المستوى الاقتصادي والجمالي، سينما تتميز بالطابع الوطني والحر والأخوي والودود ترتبط بروح الصداقة. [40]
وفي داخل البلاد، أصبح السخط الذي سببته دولة شارل ديجول المتغطرس والمتسلط لا يحتمل. وقد قامت الرقابة الفرنسية بدورها تجاه أفلام "الموجة الجديدة" من قبل وكان لابد من مسح اللقطات المصورة لأيزنهاور وديجول من فيلم "Breathless" على سبيل المثال. ولكن منع فيلم ريفيت "La Religieuse" عام 1966 بسبب مناهضته للإكليروسية كان يعد إفاقة قاسية بالنسبة لفريق مجلة "Cahiers" - كما يظهر وجه الممثلة أنا كارينا البائس على غلاف العدد رقم 177 للمجلة. وقد مال كل من كوموللي وناربوني، اللذان تولا الاتجاه التحريري عندما ترك ريفيت المجلة لصنع فيلم "La Religieuse" عام 1965، من الهيكلية نحو روح قتالية أكثر حماسية. ويجب أن يقضي النقاد على التبجيل المبالغ فيه للأساتذة السابقين أو الأفكار التقليدية الخاصة بالسينما وأن "ينزلوا إلى الساحة". وينبغي أن تكون كتاباتهم "متساهلة ومنشغلة بالعمل الحالي" " فلم تكن مهمتهم "جعل الميت يتكلم" أو "سرقة جيوب الجثث" ولكن بالأحرى "أن يتوقف الموت على أرض المعركة". ونتيجة لذلك، قد يصبح النقد "أكثر خطورة .... وأكثر حضوراً". [41] وقد ميز بالفعل عدد خاص حول السينما الفرنسية عام 1965 معارضة المجلة للسياسات مثل "دفع سلفة مقدمة بدون فوائد" التي بدأها أندريه مالرو في "المركز القومي للسينما". وفي أبريل عام 1966، تم إطلاق مجلة "Cahiers Week" للعرض السينمائي في محاولة للتحرر من سيطرة "المركز القومي للسينما" على توزيع المجلة. وجذب هذا الحدث، عندما أقيم في اثنين من السينمات الفرنسية، جمهور يتكون من 10.000 فرد. وأتبع إطلاق هذه المجلة ظهور مجلة "Cahiers Days" في غرينوبل وليون ومارسيل. وفي ليلة مايو عام 1968، أثارت محاولة "المركز القومي للسينما" طرد هنري لانجلوا المخضرم، في محاولة للسيطرة على دار الأفلام "السينماتيك" المستقلة قضائياً مظاهرات كبيرة وغاضبة في باريسالتي طالبت - بنجاح - بعودته. ولعب محررو مجلة "Cahiers du cinéma" دوراً رائداً في مجلة "Estates General of French Cinema" التي لم تستمر طويلاً والتي تأسست في 17 مايو عام 1968 واقترحت إلغاء " المركز القومي للسينما" وجمعت أكثر من 5000 طالب ومتخصصين في الصناعة السينمائية لمناقشة الإصلاح الشامل لآليات التوزيع والتنظيم والتمويل الوطني. وبعد عام 1968، كما قال داني: "لم يعد يستطيع أحد أن يصنع سينما ويكتب عنها بنفس الطريقة". [43] وأعلن بيان تحريري صادر في أغسطس نهاية تقييمات "مجلس العشرة" لأعداد جديدة حيث إن "السينما أصبحت أقل تشابهاً بصورة مستمرة بالصور التي أوجدتها أنواع الأفلام التي تُعرَض في الشانزلزيه أو حتى في الحي اللاتيني." ومنذ ذلك الوقت فصاعداً، ومن بين الأفلام المعروضة في باريس، "نحن نعتزم مناقشة الأفلام التي تستحق الاهتمام - أو النقد فقط."
VI. السبعينيات ـ الحقبة الشيوعية في تاريخ المجلة
لقد ظهرت حركة استكشاف ثقافي مكثفة بحلول عام 1968 أدت في البداية إلى لويس ألتوسار ، على الرغم من أن أغلب المحررين الذين علموا مع رائعته "à la sauvage" كان لهم بنية أكاديمية سابقة محدودة. [44] وقد عرضت المقالة الافتتاحية التي كتبها كومولي وناربوني في أكتوبر 1969 نتائجهما الأولية بوضوح تصويري: يتحمل النقد العلمي التزاماً بتحديد مجاله وطرقه. ويعكس هذا وعياً بموقفه التاريخي والاجتماعي، والتحليل الدقيق لمجال الدراسة المقترح والظروف التي تفرض العمل والظروف التي تجعله ممكناً والوظيفة الخاصة التي تنتوي الدراسة تحقيقها. وباعتبارها مجلة سينمائية "تعمل في ظل موقف فيه تنتج أغلبية الأفلام في إطار النظام الرأسمالي وأيدولوجيته المهيمنة" فإن أول سؤال يتمثل في معرفة أي الأفلام التي عُرضت ببساطة لتنقل هذه الأيدلوجية، وأيها عُرض ليعترضها ويُظهر آلياتها. وقد حددا سبع فئات. وتمثلت أولى الفئات وأكبرها في الأفلام التي "تشبعت تماماً بالأيدلوجية المهيمنة"، ولم يقدما أي دلالة تشير إلى أن مبدعي هذه الأفلام كانوا حتى على دراية بهذه الحقيقة، وذلك سواء كانت هذه الأفلام أفلاماً "تجارية أو "من إنتاج شركات صغيرة" أو "عصرية" أو "تقليدية". وهذه الأفلام في شكلها "ارتضت تماماً نظام تصوير الحقيقة الراسخ: أي الواقعية البورجوازية... فهذه الأفلام لا تتضمن ما يعارض الأيدلوجية". أما الفئة الثانية فتضم الأفلام التي تحدت النظام بشكل مباشر من خلال شكلها وموضوعها مثل فيلم (Not Reconciled) للمخرج جان-ماري سترواب وفيلم (Terra em Transe) للمخرج جلاوبر روتشا، وتضم الفئة الثالثة الأفلام التي تحدت النظام بشكل غير مباشر مثل فيلم (Persona) للمخرج إينجمار برجمان. والفئة الرابعة هي الأفلام التي تبدو ظاهرياً أفلاماً سياسية ولكنها في الحقيقة أفلام أيدلوجية، وقد تم اختيار أفلام كوستا-جفراس لنقدها. أما الفئة الخامسة فهي الأفلام التي تبدو ظاهرياً أفلاماً أيدلوجية ولكنها في الحقيقة تظهر تصدع الأيدلوجية تحت وطأة التوترات الداخلية (مثل أفلام جون فورد، وكارل ثيودور درير وروبرتو روسيليني. في حين تشكل الأفلام الجيدة (التي تعرف رسمياً بالتأملية) والأفلام الرديئة (الواقعية الزائفة) من بين عموم إنتاجات السينما المباشرة الفئتين السادسة والسابعة. [45]
وبالنظر إلى هذه المهام فقد زاد حجم مقالات المجلة زيادة واضحة. فقد وصلت مقالتان نقديتان هامتان إلى ما يزيد عن 6000 كلمة. وقد ناقشت المقالتان فلمين من أفلام الفئة الخامسة وهما فيلم "Young Mr Lincoln" (ممثلاً الوجه الأخلاقي السياسي للرأسمالية والمجال اللاهوتي لسينما هوليوود) للمخرج جون فورد وفيلم "Morocco" ( ممثلاً الوجه الشهواني لها) للمخرج جان-ماري سترواب. وكانت دراسة السينما السوفيتية المبكرة ولا سيما أفلام المخرج سيرجي إينشتين أحد الشواغل الأساسية على مدار العامين التاليين. واسُتشعر أيضا تأثيراً قوياً ينبع من أفكار لويس ألتوسار وجان لاكان، وكلما تعمق المنهج المحمل بالنظرية أو تعقد تزايد انعكاس هذا على أسلوب الكتابة في المجلة.
وكان من الممكن أن تكون التحاليل خانقة في ملخصاتها. فعلى سبيل المثال عند النظر إلى السينما اليابانية في 1970 يوضح كومولي و ناربوني قائلين: يتمثل مشروعنا في تحديد ودراسة (1) فكرة الموضوع كفكرة "تم إخراجها من المركز" أو "تم إضعافها"، (2) فكرة المجازية باعتبارها شكل مختلف من الترميز لا كتمثيل من خلال التشابه، (3) التعبير الصريح عن المجال الرمزي. [46] وقد قام جان-بيير أودارت متأثراً بأفكار لاكان بتحليل محاولة أن تخلق السينما عن طريق الرتق "وهم المرئي" الذي فيه يتخيل المشاهد ظاهرة الغائب."ويعتبر إظهار هذا الغائب لحظة هامة في مصير الصورة، لأنها تقدم الصورة حسب ترتيب الدليل و... السينما حسب ترتيب الإظهار". [47] وقد جرت العادة على أن اللقطة المقابلة تبدد لحظة الرعب هذه وتحولها إلى لحظة ابتهاج
وعلى الصعيد العالمي كان تأثير المجلة أقوى من أي وقت مضى. وتم إنشاء مجلة (Screen) في بريطانيا لتكون انعكاساً فعلياً لنظيرتها الفرنسية في كلا من الشكل والمحتوى. وقد اتبع محررو هذه المجلة بحرص أسلوب مجلة (Cahiers)، وقاموا بترجمة العديد من مقالاتها ومن بينها مقالة أودارت عن الرتق والتفكيكية الجماعية لفيلم (Young Mr Lincoln) التي تعتبر الآن أحد أشهر مقالات مجلة (Cahiers) وتدرج ضمن ملخصات دراسات السينما في جميع أنحاء العالم وامتدح كومولي و ناربوني لمحاولاتهما تطوير منهج "سياسي لا شعري للتصوير". [48] إلا أن الموقف في فرنسا تفاقم، ففي أعقاب عام 1986 تصاعدت أعمال قمع الدولة لمسلحين اليسار المتطرف ولا سيما في المصانع. وتم حظر جماعة اليسار البروليتارية الماوية (Maoist Gauche Prolétarienne) في 1970، كما تم في خلال سنتين الحكم على ما يزيد عن ألف نشط بالسجن. وفي الوقت الذي نأى فيه الحزب الشيوعي الفرنسي المنتمي له لويس ألتوسار بنفسه عما يحدث منخرطاً في مفاوضات مع الاشتراكيين حول برنامج مشترك ليسار موحد، هب مثقفون يساريون آخرين أمثال سارتر وسيمون دو بوفوار وميشيل فوكو بل وحتى تروفو الذي بالكاد كان له توجه سياسي مدافعين عن أعضاء تلك الحركة الماوية وموزعين "La Cause du peuple" أو قضية الشعب في الشوارع.
ولقد سمح ما للويس ألتوسار من انفتاح شخصي على الثورة الثقافية بوجود جبهة ثقافية مشتركة بين أتباعه وعناصر الحركة، إلا أن هذا تعرض الآن تحت ضغوط متزايدة. ففي يناير 1971 تعاونت مجلة "Cahiers" مع جريدة "Cinéthique" وجريدة "Tel Quel" وذلك عند تعرض ثلاثتهم للهجوم في الافتتاحية المعادية لفكر لويس ألوتسار التي نشرت في جريدة "Positif" تحت عنوان "Les Enfants du paradigm". وأعلنت مجلة "Cahiers" مع الجريدتين أن "ما يخوضونه من نضال يتحدد بإدراك التناقضات العدائية ما بين البرجوازية والبروليتاريا" والتي ينبغي أن "تمثل نقطة بداية للنظر في كافة التناقضات التي تعبئ العمليات الاجتماعية في فرنسا اليوم. [49] وبحلول ديسمبر 1971 كانت مجلة "Cahiers" تنشر نقداً ذاتياً ناضجاً لمواقفها السابقة: لقد قمعنا التناقض الاجتماعي تحت مسمى دعم طليعة الحزب الشيوعي الفرنسي، وقمعنا التناقض السياسي برفضنا إدراك تعارض أساسي بين موافقتنا السلبية على سياسات الحزب وتفهمنا للوضع الصيني. [50] وأصدرت ندوة نظمتها المجلة في يوليو 1972 في مهرجان أفينيون المسرحي بياناً يوضح "المهام على الجبهة الثقافية". وتقلص عدد أعضاء اللجنة المسئولة عن المقالة الافتتاحية بعد طرد برنارد إيسينسكيتز الشيوعي من المجلس وطلب دونيول فالكروز وتروفو وكست رفع أسمائهم من بيانات المجلة المنشورة في الصفحة الأولى. واستقال بيير في 1973 بسبب خلاف حول المنعطف الماوي الذي سلكته المجلة.
وحل محلهم سيرجي توبيانا وهو مسلح ينتمي لجماعة " Lou Sin " وطالباً بجامعة سينسيار التي كان يُدرس فيها باسكال بونيتزر وداني وغيرهم السينما، ولحق به أحد معارف ناربوني يُسمى فيليب بكرادوني الذي رأى في المجلة "قاعدة حمراء للبدء في انتقاد العموم" و"أداة للنضال الثقافي الأيدلوجي". [51] وتم إرسال المحررين في جميع أنحاء البلاد لمتابعة أفلام الجماعات المسلحة وإحياء المناقشات. وامتلأت صفحات الجريدة بتقارير عن هذه المبادرات بدلا من أن تحمل بين طياتها تحليل نقدي للأفلام. وتعين تقليص تكاليف الإنتاج لانخفاض المبيعات من 14000 في 1969 إلى 3000 في 1973 (وقد استمر المشتركون بالمجلة والجامعات عموماً على وفائهم للمجلة، ولكن الانخفاض الكبير كان في مبيعات الشارع). وفي نوفمبر 1974 صدر العدد رقم 241 من المجلة خالياً من الصور ومطبوعاً على ورق رخيص. وقد شهد إنتاج المجلة أقوى مراحل التذبذب في هذه الفترة، فلم يصدر إلا سبعة أعداد في 1971 وخمسة أعداد في 1972 و1973 وأربعة أعداد في 1974.
وفي الحقيقة انتهت الحركة الماوية فعلياً من فرنسا حتى قبل أن تنضم إليها المجلة. وقد اعتزم بكرادوني ومحررو المجلة إطلاق "جبهة ثقافية ثورية" في مهرجان أفينيون المسرحي عام 1973، ولكن المهرجان تحول إلى كارثة فما كان إلا أربعة أيام من الشجار الطائفي مع حضور ضعيف جداً. وعن هذا المهرجان يقول داني "لقد شعر الفنانون بالخوف والتقييد بسبب حجم الأخطاء التي ينبغي تجنبها والمهام التي ينبغي القيام بها، في حين أخفى المسلحون عوزهم للأفكار وراء التعميم". وتتمثل حقيقة هذه الجبهة في ترتيب لقاء بين "أشخاص مثلنا من الراغبين في تأسيس الثقافة" وانفصاليين من مسلحين اليسار المتطرف السابقين يدركون حقيقة هزيمتهم سياسياً ويبحثون الآن عن جبهة ثانية يمكنهم منها :الاستمرار في تخويف الشعب في الوقت الذي يتفاوضون فيه على نجاتهم ". وقد تمكن هؤلاء من إعادة اكتشاف أنفسهم خلال سنوات قليلة في صورة (الليبراليين الريجانيين) والفلاسفة الجدد لمعاداة الشمولية [52] وكان أندريا جلوكسمان أبرعهم.
إعادة التوجه
وتولى سيرجي داني وسيرجي توبيانا توجيه المجلة في هذه المرحلة. ومقالاتهما الافتتاحية المنشورة في مايو 1974 اعترفت دون التهرب من الالتزامات السابقة بأن المجلة أصبحت "مدرسة للكوادر" و"هيئة سياسية" متجاهلةً شخصيتها الضرورية باعتبارها جريدة سينمائية: "لخدمة التأسيس النظري، تعرضنا لخطر إبعاد أنفسنا عن نطاق دائرة السينما... وفي النهاية أصبح 'حقنا في أن نُسمع' حقاً مبهماً". [53] وقد اقترح داني في مقاله "الوظيفية النقدية" المكون من ثلاثة أجزاء نقداً لا هو نموذجاً لما هو جيد (الأسلوب القديم العاشق للسينما) ولا هو تعبيراً عن ما هو غير صحيح (الأسلوب الجديد الدوجمائي) بل "شيئاً أكثر تنوعاً في تركيبه ...وأقل استقراراً- تحت مسمى 'شيء لم يمنح وفي مراحل النمو الأولى وفي صيغة عناصر مفرقة". وتألفت أحد المقالات الأساسية لعام 1975 فعلياً من ملاحظات ومقاطع بأقلام أربعة من كتاب المجلة. ومما يذكر أن هذه المقالة نشرت تحت عنوان "نزعة أكيدة في السينما الفرنسية" مكررةً ما جاء في بيان تروفو قبل أكثر من عشرين عام. [54] وهذه التنوعية المتقدة هددت لا محالة بحالة من عدم الترابط حيث كان هناك ميل إلى الأسلوب الكرنفالي مصحوباً بالتزام مستمر تجاه السينما المسلحة وتنظير مدفوع لغوياً، إذ عمل داني على رسم العلاقة ما بين الجملة الخبرية ونطقها، ودراسة العنصرية والإباحية وكوميديا دي لارتي الراديكالية للمخرج داريو فو. وأجرت المجلة حواراً مع ميشيل فوكو حول "الدراسة الآثارية المغلوطة" للاحتلال النازي في أفلام مثل "The Sorrow and the Pity" و "Lacombe Lucien" وأجرت أيضا لقاء مع جيل دولوز حول فيلم "Six Times Two" للمخرج جان لوك جودار. [55] وكتب جاك رانسيار عن لويس ألوتسار وعن الآثار التاريخية والأيدلوجية وراء صور الأفلام التسجيلية وأفلام الخيال. وتم استكشاف السينما المغربية وسينما أفريقيا جنوب الصحراء. وتطلب التغيير النموذجي في عالم الصورة الذي طرأ بسبب انتصار التلفاز لغة جديدة لتسجيل العلاقات ما بين وسائل الإعلام. [56]
وعلى الرغم من سياسة المجلة الانتقائية، لا يزال تلخيص دونيول فالكروز ينطبق على المجلة في منتصف السبعينيات حيث قال "إننا نؤيد أ، ب، وج، ونعارض س، ص وع". ...وبالنسبة لجودارد لم يؤدي تركه لمجلس المجلة في 1968 احتجاجاً على ملكية مجموعة فيليباكي للمجلة إلى أي نقص في التغطية [57] وفي الحقيقة وعلى مدار الحقبة الشيوعية في تاريخ المجلة كان جان لوك جودار أحد المخرجين القلائل الذين حظوا باهتمام مستمر ويلحق به جان-ماري سترواب وبعض كبار المخرجين السوفيتيين الأوائل. فقد درست المجلة عن كثب انغماسه في التجريبية المتشددة لجماعة المخرج دزيجا فيرتوف، مستكشفاً احتمالات الشكل الفني. وقد طرحت المجلة سؤال "هل يمكن أن نتمرس/ هل نقدر على استيعاب سينما نقدية سياسية في المقام الأول؟ "لقد جعلتنا الأيدلوجية البرجوازية في الفن معتادين على نوع محدد من النقد وهو النقد الواقعي الذي فيه ... يمارس الواقع نفسه "النقد". [58] وفي 1976 وفي إطار حلقة من سلسلة مناقشات تجريها المجلة مع مخرجي الموجة الجديدة، أجرى داني وتوبيانا لقاء مع جان لوك جودار في مدينة غرونوبل الفرنسية مما مهد الطريق أمام العدد الخاص رقم 300 والذي تولى جودار مع آنا ماريا ميفيل تحريره.
وفي هذه المرحلة أيضا اتسمت المجلة بالصلابة في موقفها مما تعارضه. فقد قيل عن روبرت التمان "يتمثل العنصر الكريه في أفلامه في كون ذكاء المخرج هو الشيء الوحيد المطلوب منا الإعجاب به". وقد انتقد داني أفلاماً من عينة "1900" و "Z or Illustrious Corpses" التي يرى أنها حاولت توحيد جمهور "اليسار المعتدلين" حول "موضوعات مفرغة من التاريخ الملموس" حتى لا تثير حفيظة أي الأطراف- فثورات الفلاحين الفوضويين في إقليم إيميليا رومانيا بإيطاليا في فيلم "1900" أصبحت "نوع من توقع التنازل التاريخي للحزب الشيوعي الإيطالي".وقد اعتمدت العملية على " فقدان ذاكرة عنيد تم تغذيته بصور جمالية" مثل الأعلام الحمراء للفلاحين الذين يتضورون جوعاً. وقد أنتجت أفلاماً "مبهمة وإصلاحية وغامضة ومُوحدة وحسنة النية"- 'ولكن السينما يلزم أن تُفرق "فالمهم كان 'فكرة الخطر". وبدلاً من هذا فإن نوعاً أوربياً جديداً من "سينما الجودة" سيحرض فولكر سكلندورف على ميشيل بروست أو جوزيف لوزي على موزارت وأعتقد أن هذا يكفي. [59] ولكن بحلول 1977 سعى أغلب من لهم دور مركزي بالمجلة وراء نموذجاً أكثر راحة وكان من بين هؤلاء توبيانا وناربوني وبونيتزر وآلان بيرجالا وغيرهم. وتساءل بونيتزر قائلاً " لماذا نصعب الأمور على أنفسنا؟". "يبدو أن هناك شبهة سرد تشبه السرد في الروايات الطويلة...وفي هذه الأيام اسٌتشعر نقص القصص الجيدة وذلك إذا ما اسُتشعر وجود عوامل سلبية". ويرى آلان أن على المجلة أن تمحو سمعتها كمجلة نظرية أي "ذكية ولكن صارمة أو على الأقل غير ممتعة". [60] وأخذ توبيانا على عاتقه الارتقاء بتجهيزات المجلة إلى مستوى احترافي مما أدى إلى تزايد أعداد الاشتراكات.وتمت مناقشة انضمام عملاق الإعلام جومونت إلى المجلة كمستثمر، وإن لم يتم إتمام الصفقة. [61]
وكانت المقالة الافتتاحية المنشورة في فبراير 1978 بمثابة علامة على الابتعاد عن المقالات النظرية. فالعصر الجديد "للمستهلك الثقافي" ،الذي تم فيه استبدال احتكار السينما للتخيل الجماعي باحتكار الصور الدعائية لكبرى شركات الإعلام والإعلانات، يتطلب خطاب لا يهدف ببساطة إلى إصدار الآراء والتحاليل بل إلى مفهوم "التقسيم بشكل مختلف" أو "découper différemment le cinéma". ويتضح التنازل المقدم في غموض التركيبة. [62] وقد يتضمن هذا عشق سينمائي معدل أو دراسة صناعة الأفلام أو زيادة المعلومات والتحقيقات الصحفية. وفي هذه الأحيان أدت عملية إعادة تصميم المجلة إلى زيادة عدد صفحاتها إلى 72 صفحة وأفسحت المجال أمام إدراج صور ملونة داخل المجلة. ويذكر أنطونيو دي بايك كاتب السيرة الرسمي للمجلة وقوع خلافات حادة في "مقر" المجلة الذي يغطيه دخان السجائر حول إخراج المجلة في ذلك الوقت. [63] وابتداء من 1978 تم نشر مقال منتظم تحت عنوان "خطاب من هوليوود". أما عدد أغسطس 1979 فقد استهل بصورة غلاف للممثل مارتن شين من فيلمه "Apocalypse Now"، في حين قدمت افتتاحية توبيانا -بشيء من الخجل- "سبقاً" متمثلاً في حوار سخيف جداً مع المخرج فرانسيس فورد كوبالا (حول جوائز أوسكار التي حصل عليها وما شابه). [64] وابتداء من يناير 1980تم إدراج جريدة مصغرة بالمجلة وكانت بعنوان "Journal des Cahiersdu cinéma". ويهدف هذا القسم الجديد إلى تغطية "مجموعة أكبر وأكثر تنوعاً من المواد السينمائية" بشكل أكثر إيجازاً ويضم عمود لكلا من بيت وسكوريكي يؤرخان فيه عرض الأفلام على شاشات التلفاز. [65]
ولا يمكن فهم تحول المجلة إلى الموجة السائدة إلا في سياق الأنماط الأوسع نطاقاً للثقافة الفكرية الفرنسية في ذلك الوقت. وقد قام بيري أندرسون في مقاله المنشور في "London Review of Books" بتجزئة الحملة الأيدولوجية والمؤسسية التي تم تعبئتها في البداية ضد خطر فوز اليسار الموحد وتزعمتها مجموعة كبيرة من المثقفين الليبراليين في ذلك الوقت (مثل فرانسيس فريت وبيير نورا وبيير روسانفالون). وبالعمل من خلال وسائل الإعلام والجهات الأكاديمية وبالأخص معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية الذي تموله عائلة روكفلر ومؤسسة القديس سيمون التي تعتبر ملتقى النخب التجارية والسياسية، أعاد هذا صياغة المشهد الأيدلوجي للبلاد في الفترة ما بين منتصف السبعينيات والذكرى المئوية الثانية لعام 1789. [66] ويمكن لعملية "تطبيع" الثقافة الفرنسية لتتماشى مع الرياح الأطلنطية السائدة أن تستقي الإلهام جزئيا من معاداة مبادئ الجولاج للماوية السابقة، وقد أصبحت هذه المعاداة حديثة العهد ذات تأثير في وسائل الإعلام مثل مجلة "Libération" التي أساسها المخرج سيرجي جولاي. وقد أسهم أصحاب النفوذ فيما بعد الستينيات بأسلوبهم الترفيهي الشخصي في المشروع-وهو إحساس بأن إتباعهم نظام السوق الحر إنما هو راديكالية المرحلة الحالية. فلم يعد "اليسار" يُعرف بانتقاده للرأسمالية، ولكن بالقيم المسالمة مثل العدل والكرم.
وتولت مجلة "Libération" ريادة نغمة "التحررية-الليبرالية الجديدة" الجديدة، فالمجلة منغمسة في قلب الأحدث وهزلية وفي ريعان شبابها، ومع تولي فرانسوا ميتران الرئاسة في 1981 أصبحت المجلة الناطق باسم chic et choc فيما بعد الاشتراكية [67]
V. الثمانينيات والتسعينيات ـ حقبة الاتجاه السائد
لقد كان هذا هو المنطق المعمول به في كواليس السنوات التي قضاها توبيانا في المجلة. وفيما يتعلق بالثقافة السينمائية كانت النتائج بمثابة الكارثة. فقد كان قبول نموذج هوليوود في أسواء مراحل عصر ريجان مصحوباً بالتخلي عن أي حدة نقدية. فبعد الحوار الذي أجري مع فورد كوبالا جاء الدور على أودارت ليحتفي بفيلم "The Shining" للمخرج ستانلي كوبريك في 1980 باعتباره "عمل عالي الثقافة- وثقافة ليست ميتة". أما بونيتزر فقد انبهر بـ "الحساسية الديستوفيسكية" للمخرج مارتن سكورسيز في فيلمه "Raging Bull" لعام 1981.في حين عبر ناربوني عن حماسته تجاه "النضوج" في فيلم "E.T." في 1982، فهو فيلم "ذكي وإبداعي ومحرك للمشاعر وعابث ... وينبغي أن يؤهل هذا الفيلم مخرجه سبيلبرج لترشيح جائزة نوبل للسلام. [68] ولطالما خلطت المجلة بين الشعبية والنخبة ومن البداية تم معاقبتها على ترقية "العاملين في الترفيه" إلى مصاف العبقرية. إلا أن الثروات التي ترى الآن في الحبكات المتوقعة وتلال الأفلام التجارية مثل فيلم " E.T" تختلف في طبيعتها عن تحاليل مخرجين من عينة هيتشكوك و هاورد هوكس.
وكان الاتجاه الشعبي الجديد محاولة للتواصل مع الجمهور الأوسع نطاقاً الذي أصبحت المجلة تتطلع للوصول إليه. وبدلا من أن اختصار الطريق من خلال استخدام لغة الإعلانات، عملت المجلة على إعادة صياغتها بأسلوب أرقى أو استبدلت النقد بالتعليق في قالب الدراسات الثقافية. ولم تخلو المقالات النقدية من التبصر، إلا أنه لم يعد هناك أي إحساس بالإلحاحية التي أفعمت المجلة بالحياة منذ بدايتها، ولم يعد هناك أي إحساس بالنضال الوجداني ضد الحالة القائمة للأشياء. وكان الهدف هو التوحيد والاندماج: أي دراسة معلوماتية محضة للعالم كما هو.
ومع بداية هذه المرحلة كان داني قد استقال من المجلة ليكتب مقالات قصيرة في مجلة "Libération" وغيرها من المجلات. أما توبيانا "فيمتلك فكرة دقيقة للغاية عن ما يرغب في فعله في الجريدة، فهو يريد نقلها إلى المركز السينمائي. أما فكرتي فهي أقل وضوحاً في تحديدها وأكثر تغيراً- ولكن لفكرته مستقبل". [69] وقد تحلى داني في الحوار الذي دار مع مجلة "Esprit" بمقدار أكبر من الدبلوماسية حين قال: لقد انتقد البعض توبيانا بسبب "إضعاف أسلوب المجلة" إذ عمل على وضعها على أساس ذو صبغة تجارية أكبر، فأسلوبها الحالي تراجع ملحوظ عن الطموحات النظرية التي وجدت في السنوات السابقة. ولكن " الزمان نفسه أصبح أكثر ضعفاً فيما يتعلق بالفكر" [70] وفي ظل إشراف توبيانا أرسيت مبادئ الكثير مما أدى بالمجلة إلى أن تصبح على حالها اليوم أي مجلة سينمائية منفتحة ومستقلة وتتبع الاتجاه السائد وبالألوان. وحظي نجوم السينما الأمريكية بتغطية كاملة، فظهور باتمان على غلاف العدد رقم 423 من المجلة الصادر في سبتمبر 1989 كان له دلالة رمزية. أما اختيارات المقالات الافتتاحية فقد تزايدات عمليتها وارتباطها بالسوق..
ولقد تم "تلطيف" التصميم في 1989 لجعل المقالات أكثر "وضوحاً" و"أسهل في قرأتها"، مما عنى المزيد من المساحات الفارغة في صفحات المجلة والمزيد من صور الأفلام وعناوين جانبية أكبر. وقد عكس هذه الأسلوب مفهوم القارئ الفرنسي المشغول الذي يستقل مترو الأنفاق والراغب في أسلوب سريع ولا يمتلك سعة الوقت للتعمق في نوعية المقالات التي تتطلب "القراءة بسرعة سفن الرحلات البحرية" على حد انتقاد توبيانا. [71]وفي ظل تحول المجلة في نوفمبر 1989 إلى البنية القياسية للمجلات، أقرت المجلة أهدافاً منفصلة عن السينما وبالتحديد هدف اجتذاب 50000 قارئ لكل عدد والذي يعتبر معياراً للمجالات الفخمة الناجحة. وكان توبيانا يصوغ المقالات النقدية لتتناسب مع مفهوم إدارة التسويق عن الجمهور آلا وهو السعي وراء الإمتاع بدلاً من الإقناع أو تكوين آراء عن الفيلم.
ومن واقع التاريخ تتجدد أجيال المحررين كل خمس أو ست سنوات وقد سار داني على هذا الدرب، إلا أن توبيانا بقي في المجلة لقرابة عقدين من الزمان وحل محله تييري جوس لفترة بسيطة من 1992 إلى 1995. وقد أظهر هذا نوعاً أكيداً من الجمود بمثابة انحسار للموجة النقدية التي انحسر معها الجدل الاستقطابي الذي تسبب في انقسام آراء هيئات التحرير وائتلافها في الماضي. ولقد انضم توبيانا للمجلة وهو مسلح منتمي للحركة الماوية لا عاشقاً كلاسيكياً للسينما واتسم الفريق الذي عمل تحت إدارته عند توليه المسئولية الكاملة عن المجلة في 1980 بالتنوع. وكان من بين أفراد هذا الفريق كلا من آلان بيرجالا وباسكال كان وأوليفييه أسياس ولوران بيرين وليوس كاراكس وتشارلز تيسون. ولكن الآن ينتمي أغلب المساهمين في المجلة إلى الجامعات فمثلاً سيرجي لآ بيرون من جامعة فينسينز وكاراكس وتيسون من جامعة سينسيار أو إلى جرائد الأحداث الجارية ومنهم آلان بيرجالا وإيجناسيو راموند من "Le Monde diplomatique"، وجان بول فارجيه من "Tribune socialiste" و "Cinéthique".
ولدى مغادرة توبيانا للمجلة رسمياً في 2000، كانت المجلة تكافح لتحقق مبيعات في مواجهة مجلات مثل " Première" و" Studio" اللتين احتلتا مكانة متماثلة في السوق. وتم تنفيذ صفقة مع مجموعة نشر لو موند في 1999 وذلك بعد تولي كلاً من فرانك نوتشي وتشارلز تيسون المسئولية على الجانبين. وقد وصف نوتشي رئيس تحرير "Le Monde" هذه الصفقة بتحرك يهدف إلى "إنقاذ أكبر مجلة سينمائية في العالم" وهو توضيح صارخ لبلاهته وانفصاله عن أي مشروع نقدي. وقد تغير شكل المجلة مرة أخرى في 2000 مع إدراج تغطية أوسع نطاقاً للتلفاز والفيديو وأفلام الدي في دي وأخبار صناعة السينما. واستمر مسلسل تدهور المبيعات مع انخفاضها إلى 12000 نسخة في 2002 مسجلة هبوط بمعدل 13% مقارنة بالسنة السابقة، وأعقب هذا انخفاض أخر بمعدل 11% في 2003. وقد بحثت المجموعة مسألة إغلاق المجلة النقدية، ولكنها فضلت بدلاً من ذلك تغيير رئاسة التحرير وتعيين من يتبع المجموعة وتولى جان ميشيل فرودون رئاسة التحرير.
ويصل اليوم عدد صفحات العدد العادي للمجلة إلى قرابة المائة صفحة. وينقسم العدد إلى أربعة أقسام وهي "الحدث" الشهري وغالبا ما يكون له علاقة بالماضي أو عن أحد المهرجانات السينمائية، و"المقالات النقدية" وهو عبارة عن مقالات نقدية مختلفة الطول عن أحدث الإصدارات الفنية. أما القسم الثالث فهو "الجريدة" الذي لم يعد صحيفة مصغرة بل قائمة فعالة بالأحداث، في حين يتألف القسم الرابع "الردود" من مجموعة عشوائية من المقالات القصيرة التي تدور عن السينما أو تتعلق بها في الماضي أو الحاضر وتكتبها مجموعة من المنظرين أو النقاد أو المتخصصين في السينما. وينبغي القول باستمرار بعض الكتاب من أصحاب الأسلوب الشيق في تقديم إسهامات بين الحين والأخر. ولكن عند النظر للمجلة كمشروع فكري نرى أنها انتهت- وتعتبر ضحية لنفس واقعية السوق المتبلدة التي تم عرضها في حوار تروبيانا مع "Débat" في 2000. ويصر توبيانا على أنه لم يقدر على مواكبة الطبيعة المتغيرة للمشاهد إلا صناعة السينما الأمريكية، فهي تمتلك موارد مالية أضخم بكثير وتجيد إعادة ابتكار الأنماط السينمائية. أما عن أوربا "فما يمكن قوله؟". [72]وبدا أن احتفاء المجلة بفيلم "Amélie" بعد وقت قريب من تصريحات توبيانا أكد وجهة نظره المستقبلية إذ أن أبرز المقارنات النقدية كانت مع فيلمي "Shrek" و "Tomb Raider". [73]
IV. ما هي البدائل؟
يتمثل السؤال في هل يلزم أن تكون الأمور بهذا الشكل؟ لقد قام داني في 1991 بتنفيذ مشروع عكف على تخطيطه لمدة عشر سنوات وأجبره تشخيص معاونيه على أما أن ينفذه الآن أو يتغاضى عنه للأبد. وهذا المشروع إنما هو جريدة صغيرة تسمى " Trafic " وتتألف من 141 صفحة وبلا صور ولها غلاف بسيط من الورق المقوى وتنتجها دار نشر أدبية صغيرة. وترتبط هذه المجلة هي الأخرى ارتباطاً وثيقاً بالأدب حيث تتضمن عددها الأول عبارة مقتبسة عن عزرا باوند وقصيدة لجودارد وخطاب من روزليني. [74] وقد وفرت هذه المجلة متسعاً للتدبر في السينما بعيداً عن إطار ضروريات السوق أو الأعراف الأكاديمية، ووفرت وقتاً لمراقبة حركة مرور الصور إيابا وذهاباً على مدار القرن الماضي أو حركتها بين وسائل الأفلام والفيديو والدي في دي. وقد قدمت مجلة "Cinéma" التي أسسها برنارد إيسينسكيتز في 2001 دليلاً آخر على أن الكتابة التخيلية والمتيقظة عن السينما لم تختفي قط من فرنسا. وبالمثل تتمثل المفارقة في أن "المنعطف الأمريكي" الذي سلكته مجلة "Cahiers" بداية من 1980 أدى إلى منع الكثير من الكتابات الراديكالية عن السينما الأمريكية في الثمانينيات والتسعينيات. فعلى سبيل المثال قدم فردريك جيمسون في كتابه "الجمالية السياسية الجغرافية: السينما والفضاء في النظام العالمي" المنشور في 1992 قراءات مقارنة هامة لفيلم "Terrorizer" للمخرج إدوارد يانج وفيلم "Days of Eclipse" للمخرج أليكسندر سوكروف وفيلم "Passion" للمخرج وأفلام نظرية المؤامرة الأمريكية في السياق العالمي للتباينات الثقافية والسياسية المعقدة. وفي نفس الفترة كتب روبيرتو شفارتس كتابات مؤثرة عن تجربة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل في بيئة قصة "A Man Marked Out to Die" للكاتب إدواردو كوتينهو.
ومما لا شك فيه أن المشهد الثقافي الذي تخرج فيه مثل هذه الكتابات للنور يختلف اختلافاً كبيراً عن ذلك المشهد الذي أخرج "أخر ثورة عصرية" للمجلة ضد نظام الذوق القديم منذ نصف قرن مضى. وقد كانت أفلام الموجة الجديدة بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على جدول الأعمال المحافظ الذي تجادل حوله تروفو وزملائه. وقلت أهمية دور السينما بفعل هيمنة التلفاز وتحكم وسائل الإعلام وشركات الإعلانات المتزايد فيما يعرض. ويوجد الآن نظام جديد وعالمي للصور يزيد من الاعتقاد في صلة جميع صناعات السينما القومية الأخرى فيما يتعلق بصناعة السينما الأمريكية، بينما يعتبر تيار هوليوود السائد أكثر من مجرد مصنع تعليب للمشاهد. ومن الناحية التقنية لقد تم تحرير صناعة السينما ومشاهدتها مع توافر كاميرات الدي في دي رخيصة الثمن وبث ملفات الصوت والصورة عن طريق الإنترنت وما شابه، إلا أن هذا تم على حساب توسيع احتكارات التوزيع وتفكيك جمهور السينما إلى مجموعات صغيرة. وتسقط أغلب الكتابات المعاصرة عن السينما ضحية لهذا الموقف، فهذه الكتابات "مشتقة من الالتزامات الجمالية وغير واضحة فيما يتعلق بها" [75] وترضي رغبات كل ما هو غريب تحت مسمى "السينما المستقلة" أو تقدم قراءات سلبية أو في أحسن الأحوال دلالية لهوليود كما لو أن هذا هو النقد الراديكالي. وقد أدى انتقال العديدين من عشاق السينما إلى الجامعة إلى تمزق أوصال الصلة ما بين الكتابة عن السينما وصناعتها بدلاً من تدعيمها. فالنقد السلبي يندر وجوده، أما نغمة الموافقة على شيء ما في السينما أو معارضته فيبدو أنها في غير زمانها.
وعلى الرغم مما سبق، عند النظر في صناعات السينما في الدول الواقعة خارج هذه الدائرة مثل إيران وكوريا والصين وتايوان نرى أن النضال المعاصر ضد متناقضات الحداثة المتأخرة لا يزال يجد في السينما أكثر تجلياته تأثيراً. ومن المحتمل أن ذات احتكار النظام العالمي الجديد للأخبار والأحداث الجارية على شاشات التلفاز هو ما يؤدي إلى حركات تسجيلية معادلة تنتج أعمالاً ذات جودة لافتة للانتباه في أمريكا اللاتينية والصين والشرق الأوسط فيها يُنتزع الاتجاه السائد ويخضع للتمحيص. ويوجد مخرجون يتشبثون بالتغييرات ويقدمون صوراً نفكر بها وتختلف نوعياً عن تقاليد صناعة السينما. وبأيدي هؤلاء المخرجون تستمر السينما في إعادة اكتشاف نفسها. وفي العرض الذي قدمه جودار على ثلاث أجزاء في مركز بومبيدو عام 2006، كان مجسم قطار "السينما" يدور بين حجرتين يسميا "الأمس" و"أول أمس" دون أن يدخل القطار الغرفة الثالثة المسماة "اليوم" حيث أعاقت شاشات التلفاز المسطحة الأفقية تقدم الزوار. ولا يوجد في هذا أي إساءة فهم. فقد دخلت السينما قرنها الثاني، ولكن حتى تزدهر تحتاج من حولها إلى ثقافة نقدية أوسع نطاقاً، ثقافة تجادلها وتدفعها وتطلب منها المزيد. وغالبا ما تكون جماعات المصلحة السينمائية في عزلة عن بعضها وقد تأخذ هيئة مبادرة تجريبية تنطلق من هنا أو مهرجان مبتكر هناك. وبدون جمهور متجاوب يحيط به، لا يمكن لأي فيلم أن يستمر إلا لمدة عرضه المؤقتة. لقد كان ما ساند مجلة "Cahiers" هو استغلالها للكتابة (بالقلم والكاميرا) وفيما بعد استغلالها للنظرية باعتبارها وسيلة لفهم ما للسينما من قدرات وإنجازات غير معبر هنا. ولا تزال هذه الأدوات عناصر أساسية للنقد السينمائي اليوم. ولقد كتب داني إذ تذكر أندريا بازين قائلاً "أن عشق السينما ليس مجرد علاقة بالسينما، بل هو علاقة بالعالم من خلال السينما". [76] صحيح أن المجلة قد تعتبر اليوم شمساً أفل ضيائها، ولكن من بين رمادها تنبعث ألف عنقاء.
نشر الأصل الانجليزي لهذا المقال في مجلة New Left Review 42 Nov/Dec 2006 وعلى من يريد قراءة الأصل الانجليزي التوجه إلى هذه الصفحة http://newleftreview.org/?page=article& view=2645
[1] Born in Izmir in 1914, Langlois was forced to flee the country with his family in 1922, following the Turkish invasion against the Greek population that resulted in four-fifths of the city going up in flames. These dramatic events have been portrayed as foundational for Langlois's own dedication to archival work, his family having lost everything in the city's fires. (Edgardo Cozarinsky's 1994 biographical film, Citizen Langlois, begins with a suitcase bursting into flames.) In Paris at the Cinémathèque that he founded in 1936, Langlois-who also set up the first French film archive-screened the great silent classics as well as the latest American releases. His programme played a major role in nurturing early cinephile tastes and shaping research in film history.
[2] Alexandre Astruc, 'Naissance d'une nouvelle avant-garde: la caméra stylo'; Roger Leenhardt, '? bas Ford, Vive Wyler', L'?cran français, 30 March and 13 April 1948.
[3] Peter Wollen, Paris Hollywood: Writings on Film, London 2002, p. 218.
[4] Jean-Paul Sartre, L'imagination [1936], Paris 2003, p. 162.
[5] André Bazin, Qu'est-ce que le cinéma?, vol. i [1958], Paris 2002, p. 67.
[6] For Sartre's critical article on Citizen Kane see 'Quand Hollywood veut faire penser . . .', L'?cran français, August 1945. Bazin's defence, 'La technique de Citizen Kane', was published in Les Temps Modernes, no. 17, 1947.
[7] Cahiers 54, December 1955.
[8] Cahiers 44, 49, 51, 52 and 53, February-December 1955.
[9] Cahiers 1, April 1951.
[10] Cahiers 100, October 1959.
[11] Rohmer in interview, Cahiers 172, November 1965.
[12] Cahiers 70, April 1957.
[13] Cahiers 32, February 1954.
[14] Chabrol and Truffaut's attempt to interview Hitchcock in 1954 proved disappointing. The director was unforthcoming, playing on misunderstandings (good or God, evil or Devil). His two interviewers consoled each other that if, conscious of his genius, he was the greatest liar in the world, that still made him the most Hitchcockian character of them all.
[15] Godard in interview, Cahiers 138, December 1962.
[16] Cahiers 79, January 1958.
[17] Written under the pseudonym Robert Lachenay, Cahiers 46, April 1955.
[18] Cahiers 59, May 1956, pp. 112, 114.
[19] Daney, Devant la recrudescence des vols de sacs à main, Lyon 1997, p. 97.
[20] Antoine de Baecque, La cinéphilie.Invention d'un regard, histoire d'une culture, 1944-1968, Paris 2003, p. 20.
[21] Cahiers 45, March 1955. Also see Truffaut's article, 'Les sept péchés capitaux de la critique', Arts, April 1955.
[22] Interview in Cahiers 138, December 1962.
[23] Ado Kyrou and Robert Benayoun joined Positif from the surrealist L'Age du cinéma, Eric Losfeld, director of the erotico-surrealist publishing house, Terrain Vague, arrived in 1959.
[24] Robert Benayoun, cited in de Baecque, La cinéphilie, p. 231. Positif was closely involved in the Algerian struggle for independence, providing funds to the fln and signing the September 1960 'Manifesto 121', the declaration of the right to refuse military service in the war. No Cahiers editors can be found on the original list, though Doniol-Valcroze, Truffaut and Kast joined a complementary one published by Le Monde in the same month.
[25] De Baecque, Histoire d'une revue. 1. A l'assaut du cinéma, 1951-1959, Paris 1991, p. 143. A critic at Cahiers from 1984 and briefly co-editor in the late nineties, de Baecque's two-volume history of the journalis an invaluable factual resource, though inevitably controversial for those involved.
[26] Rivette, Cahiers 84, June 1958.
[27] Cahiers 172, November 1965. This said, he must be credited with bringing Brecht to the journal, publishing Bernard Dort's 'Pour une critique brechtienne du cinéma', Cahiers 114, December 1960.
[28] Cahiers 172, November 1965, p. 24.
[29] Cahiers 146, August 1963.
[30] Cahiers 147, September 1963.
[31] Cahiers 123, September 1961.
[32] Comolli, Cahiers 177, April 1966.
[33] André S. Labarthe, in a roundtable on the film, Cahiers 180, July 1966, p. 35.
[34] Jean Narboni, Cahiers 192, July-August 1967, p. 64.
[35] Cahiers 141 and 143, March and May 1963.
[36] Cahiers 204, September 1968.
[37] Cahiers 172, November 1965, p. 27.
[38] Cahiers 176, March 1966.
[39] Cahiers 204, September 1968.
[40] Godard's politicization came at the hands of his young girlfriend, Anne Wiazemsky, whom he had first seen as the 17-year-old star of Bresson's Au Hasard Balthazar. Studying at Nanterre, she introduced him to student circles electrified by the discovery of Marx's 1844 manuscripts, liberation psychology and the pill. Godard cast Wiazemsky as the lead in La Chinoise, an ambivalent portrayal of youth radicalization that both endorses a Maoist politics and predicts its decline. The young students, doing their exercises every morning while chanting party slogans, are right in their critique but fatally isolated from the world outside. See Colin MacCabe, Godard: A Portrait of the Artist at 70, London 2003, chapter 4.
[41] Comolli, Cahiers 195, November 1967, p. 38.
[42] This period of cultural activism marked a political and cinematic rapprochement between Cahiers and Positif, a 'peace in the darkness of the Cinémathèque' (Cahiers 184, November 1966). When Positif launched its own 'Week' in 1968, Cahiers encouraged readers to go along, believing their programmes would complement each other.
[43] '1968 affected the Cahiers people in different ways . . . The Situationists' notion of the "society of the spectacle" had a big impact on me. Above all, 1968 put into question, if in a somewhat mystical fashion, the position of the spectator-hitherto, our source of joy'. Daney, La Maison cinéma et le monde. 1. Le Temps des Cahiers 1962-1981, Paris 2001, p. 18.
[44] Daney, La Maison 1, p. 18.
[45] Cahiers 216, October 1969.
[46] Editorial, Cahiers 224, October 1970.
[47] Cahiers 211-2, April-May 1969.
[48] Cahiers du Cinéma, Volume iii, 1969-72, The Politics of
Representation, London 1990, p. 12.
[49] Cahiers 226-7, January-February 1971.
[50] Cahiers 234-5, December 1971-February 1972.
[51] Cahiers 242-3, November 1972.
[52] Daney, La Maison 1, p. 22.
[53] Cahiers 250, June 1974.
[54] Daney, 'The Critical Function'; Daney, Kané, Oudart, Toubiana, Cahiers 257, May-June 1975.
[55] Cahiers 251-2 and 271, July-August 1974 and November 1976.
[56] Jonathan Rosenbaum, Trafic 37, Spring 2001, pp. 181-192. Also see Daney, Le Salaire du zappeur, Paris 1993.
[57] Filipacchi put the journal up for sale in 1969 following Comolli and Narboni's Althusserian editorial announcing their determination to fight the capitalist structures to which Cahiers was subject. Truffaut and Doniol-Valcroze intervened and invested the most significant sums to buy back the journal's independence.
[58] Cahiers 238-9, May-June 1972, p. 39.
[59] Daney, Maison 1, p. 30; pp. 25ff; Maison 2, p. 30.
[60] Cahiers 281, October 1977; Cahiers 287, April 1978.
[61] De Baecque, Histoire d'une revue. 2: Cinéma, tours détours, pp. 305, 291.
[62] Cahiers 285, February 1978; De Baecque, Histoire d'une revue. 2, p. 293.
[63] De Baecque, Histoire d'une revue. 2, p. 306.
[64] Cahiers 302, July-August 1979.
[65] Cahiers 307, January 1980, p. 59.
[66] Perry Anderson, 'Dégringolade' and 'Union Sucrée', London Review of Books, 2 and 23 September 2004.
[67] Pierre Rimbert, Libération de Sartre à Rothschild, Paris 2005, p. 111.
[68] Cahiers 342, December 1982.
[69] De Baecque, Histoire d'une revue. 2, p. 309.
[70] Daney, Maison 2, p. 19.
[71] Editorial, Cahiers 425, November 1989.
[72] Le Débat 112, November-December 2000, p. 168.
[73] Cahiers 564, January 2002.
[74] Trafic 1, Winter 1991. After Daney's death in 1992, Raymond Bellour, Jean-Claude Biette, Sylvie Pierre and Patrice Rollet made up the Editorial Board, partially enlarged in 2003. The format has changed over its sixty issues to date, with the 'letters from' becoming more regular, footnotes finally allowed and the contents now grouped to delineate particular themes.
[75] Wollen, Paris Hollywood, p. 232.
[76] Daney, Maison 1, p. 23.