يكشف الباحث والكاتب الفلسطيني عن تجربة شعرية فلسطينية استطاعت أن تحفر تميزها وسط المشهد الشعري. حيث عايشت في قصائدها مسيرة شعب، وآلامه موثقا لأهم مراحل القضية العادلة، هنا توقف عند أحدث بواكيره الشعرية الحديثة وعند أهم ثيماتها ودلالاتها.

رؤيا إبداعية مسكونة بحضور دائم

داعس أبو كشك

لا يمكن تناول الحركة الشعرية الفلسطينية دون التطرق الى الشاعر المبدع  عبد الناصر صالح الذي حفر بكلماته واشعاره تاريخ تجربة فهو دائم الحضور والتوهج فمن تجربة الاعتقال والتي شكلت مداميك شاعريته حيث كانت الانطلاقة الاولى من خلف القضبان وحول بقصائده ظلام السجن الى نور ونار رغم كل حملات القمع التي تعرض لها، لكنه لم ينكسر قلمه امام الرياح العاتية وكرس اشعاره في تناول مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية وكان ناطقا اعلاميا للفقراء والشهداء والجرحى والاسرى وحازت الارض على فضاءات اشعاره ، فكان دائم التوثيق لقضايا شعبه مستنهضا قواه من اجل الوصول الى التحرر من الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

 لقد عايشت تجربة الناصر منذ بواكيرها وكان في كل مرحلة يزداد تالقا وتفانيا وكان دائم الخلاف مع السياسي لانه مكبل بقرارات واجندة، اما المثقف فكل الفضاءات مفتوحة امامه لا شيء يثنيه عن متابعة رؤيته ورسالته ، وتناولت في عدة مقالات تلك التجربة المتميزة من خلال دواوينه التي صدرت و هي :

الفارس الذي قتل قبل المبارزة – 1980

داخل اللحظة الحاسمة – 1981

خارطة الفرح – 1986

المجد ينحني لكم – 1989

نشيد البحر " مطولة شعرية " – 1990

فاكهة الندم – 1999

وفي ديوانه الجديد (مدائن الحضور والغياب) والذي صدر عن بيت الشعر وبالتعاون مع اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، وبدعم من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الكسو" ، والذي يضم بين دفتيه اثنتا عشرة قصيدة وتدور كلها حول اوضاع الشعب الفلسطيني مسخرا قلمه في سبيل الدفاع عن حقوق هذا الشعب ، وما مر به من عذابات والام سواء من قبل الاحتلال وسياسته القمعية أو ما مر به الشعب الفلسطيني من احداث داخلية مزقت نسيجه الوحدوي وعرضت مشروعه الوطني الى مخاطر جمة ، ففي قصيدة البدوي يصرخ الناصر بصوته الجهوري  قائلا :-

يا بحارة الصحراء .....

قلبي حارس لنشيدكم

وانين صهوتكم

وطهر صلاتكم

فلتذكروا البدوي

لا الانواء تجرفه ولا ليل الدروب الفارس النظرات

يبطئ شمس طلعته

انا البدوي

وينتقل بنا ناصر من البدوي الى المائي  بمنهجية وطنية تعالج قضيتنا الفلسطينية بكل ابعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية بواقع موضوعي يشكل عنصريها الزمني والمكاني ، وما يرتبط ذلك مع العناصر الحديثة في تناول الاحداث الجسام التي مرت بها القضية وهذا ينسجم مع قوله :-

سماؤنا عطشى

فلا تكتم غيابك عند مفترق الاسى

لا يرغب المائي عزلته

اذا شاخ الربيع واحجمت عنه السواقي

مشغل صوتي بانغام التحسر

كيف اعرج لانتشال الاخضر الملكي

من حمم المشانق ؟؟؟

وفي حالات البحر العاشق يربط الشاعر ما بين البحر والانسان الفلسطيني فالبحر كان وسيلة للتهجير القسري من ارض الوطن وكان وسيلة للعودة شهداء او اسرى وفي قصيدته التي خصصها لكفر قاسم والتي شهدت المجزرة التي قام بها الاحتلال عام 1956 يكرس المشهد الفلسطيني في نطاق اللحظة التاريخية الراهنة لحركة النضال الفلسطيني وهذا ما ينطبق على قصائده سلمت يمناك وصوتي هناك ومدائن الحضور والغياب ومعراج اللذة ووجه الغزالة ويزهو بقامته وطيور الفينيق فان جميعها تدل على حضوره الثوري ورؤيته الوثابة التي استطاع من خلالها ان يجسد طموحات الشعب الفلسطيني. وفي قصيدته " لم يبتعد صوتك المشتهي " فانه يرد على الشاعرة المرحومة فدوى طوقان نافيا ان تكون وحدها مع الايام قائلا

وحدك الان

لا

لست وحدك

تغتسلين بماء العيون الاسفية

اذا جف ضرع الينابيع

وانشطر القلب نصفين

نصف تلقفه الموت

حين استجار من الحلم بالدمع

فاستنزفته المتاهات

والرجفات المدببة الرأس

والاخر ازدان بالشعر

يقطر

مشتملا باليفاعة

ويلاحظ ان عبد الناصر صالح قد تأثر بفقدان فدوى طوقان وهي وان غابت جسدا فان روحها ما زالت تحرك احرف الشعر.

وعليه فان الشاعر عبد الناصر صالح يعبر بنا محلقا في سماء الوطن بكل ما اؤتي من قوة الكلمة وجزالة الالفاظ ومن صدق التجربة والاصالة فهو لسان حال المطهدين والفقراء وهو المعروف بحضوره الدائم في فضاءات الحركة الثقافية وان ديوانه الاخير يدل دلالة اكيدة على عمق ارتباطه بالهم الفلسطيني وان مدائن الحضور والغياب تعتبر من الاعمال التي يؤكد فيها الشاعر على استمرار ابداعاته المتوهجة.

 

كاتب وباحث من فلسطين