|
تعيش الثقافة الموسيقية بأنواع عديدة من التعبير كالاغنية، والسيمفونية، والمسرح الغنائي، والموسيقي التصويرية، وغير ذلك لكن تاريخ الموسيقي المصرية والعربية لم يعرف تقريبا سوي نوع واحد من الأنواع الموسيقية وهو الأغنية، التي كانت ومازالت الوجه الرئيسي للأنتاج الموسيقي، بل والوجه الوحيد تقريبا لوجودنا الموسيقي. وهناك أسباب لتلك السيادة الطاغية لنوع واحد هوالأغنية، أننا بحكم تاريخ أدبي ولغوي طويل لا نستطيع أن نستسيغ موسيقي من دون كلام، ونتيجة للوجود المتضخم للأغنية علي حساب الأنواع الأخري، فإن تدهور الأغنية الذي نلحظه مؤخرا، يعني فعليا أن الموسيقي عندنا إجمالا قد تدهورت وتراجعت. ومانسمعه اليوم في مجال الأغنية من ضجيج الايقاعات التي تفتقد للحد الأدني من الموهبة والصنعة والفن يدفع البعض إلي الدهشة: كيف أمكن لكل هذا الهبوط والانحدار أن يعم بعد رحلة إنجازات عظيمة قطعتها الموسيقي المصرية؟ وبعد تاريخ حافل من إبداع حقيقي استمر لأكثر من قرن؟ بل وبعد ظهور وإزدهار ثلاث مدارس موسيقية متعاقبة؟ وكيف أصبحت الأرض الخصبة المعطاء خرابا شاسعا إلي هذه الدرجة؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي أن نلقي بنظرة سريعة علي تاريخنا الموسيقي.
محطات رئيسية:
بدأت الموسيقي المصرية المعاصرة رحلتها في منتصف القرن التاسع عشر مع محمد عثمان (1855 1900) فأصبح رأس الجيل الموسيقي الأول، ومعه عبده الحامولي (1841 1901) والشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب (1800 1928) باعث قالب الموشح، وواضع اللبنات الأولي لـ "الدور" وشكل عثمان والمسلوب والحامولي "ثالوث التمصير" واستطاعوا معا أن يحرروا الموسيقي المصرية من الطابع التركي، بتنحية الآلات الموسيقية والضروب والمقامات التركية، وماشابه ذلك عند فرق الأقليات العرقية بمصر.
وظهر أثر الجيل الأول في الرعيل اللاحق، أي في جيل سيد درويش (1892 1923) الذي اعتلي كالتاج جهود الجيل الثاني، وشق للموسيقي مجالا جديدا تماما هوالمسرح الغنائي. ولم يكن سيد درويش وحده في ذلك، فقد وقف إلي جواره محمد كامل الخلعي (1878 1948) وداود حسني (1871 1937) وزكريا أحمد (18901961)، وشكل الأربعة بزعامة سيد درويش 'كتلة الاربعة' المسرحيين الكبار.
بعد التمصير، ودخول المسرح الغنائي، ظهر جيل ثالث تربع علي قمته محمد القصبجي الذي ولد في العام ذاته مع سيد درويش (1892 1966) ولم يكن محمد عبدالوهاب، ورياض السنباطي سوي جزء من تيار القصبجي، إذ كان أحكمهم في الصنعة والبناء الموسيقي، وكان المثال الذي يحتذيه الآخرون في الصياغة والبناء، كما أنه الوحيد في الجيل الثالث الذي اشتبك بإنجاز المهام الفنية لجيل المسرحيين الاربعة السابق عليه حين وضع عدة مسرحيات غنائية وبطبيعة الحال فإن الاجيال الثلاثة المتعاقبة (محمد عثمان سيد درويش القصبجي) كانت متداخلة فيما بينها من الناحية الزمنية، وأيضا من ناحية المهام الموسيقية التي استجابت لدواعي التطور وكان بعض أولئك الموسيقيين العظام يمثل جسرا للعبور من مدرسة لأخري، وقنطرة ينزلق منها الماضي إلي المستقبل وعلي سبيل المثال كانت جهود أبوخليل القباني (1833 1903)، وجهود سلامة حجازي (1852 1917) تبني عمليا جسر انتقال الي المسرح الغنائي، مهد لظهور كتلة 'المسرحيين الاربعة' وتجلي دور هذا الجسر التاريخي في إدخال فقرات تمثيلية في صلب الغناء، وفقرات حوارية بين الفقرات الغنائية، أو علي العكس ادخال مقاطع غنائية إلي العمل المسرحي. مما هيأ التربة لظهور مسرح غنائي صرف، وكان يعقوب صنوع أول من أدخل الفقرات الغنائية بين فصول التمثيليات، بينما قام أبو خليل القباني بعملية عكسية أي بإدخال التمثيل إلي الغناء، واعتمد سلامة حجازي علي المزج بين الطريقتين، مبرزا التمثيل مرة، والغناء مرة أخري وفي كل تلك الجهود الانتقالية كان تلوح ضرورة تاريخية لدفع الموسيقي للخروج من ذاتها والالتحام بأشكال فنية أخري بهدف تمكين الموسيقي من التعبير عن الواقع الخارجي، وتصوير مواقف موضوعية تنأي عن دائرة مشاعر الفرد والذات وبالفعل أتاح ظهور المسرح الغنائي فيما بعد الفرصة لطرح قضايا أخري غير قضية "الحب" المقدسة لدي الأغنية. لقد طرحت ضرورة التطور علي كل جيل من الاجيال الرائدة الثلاثة: (محمد عثمان سيد درويش القصبجي) مهمة كبري، واحدة وأساسية، ينبغي إنجازها، بعد أن تشبع بضرورتها الشعور العام.
الجيل الأول: البحث عن المصرية:
كانت كلمة 'التمصير' هي مفتاح سر التطور التي تعين علي الجيل الأول فهمها والاستجابة لمتطلباتها. علي هذا الطريق نفض جيل محمد عثمان عن الموسيقي المصرية تبعيتها للفنون التركية، وفي سبيل ذلك وجد نفسه مدفوعا إلي تنحية آلة مثل البزق وازاحتها من فرق التخت المصرية، لتصبح داخل الفرق التركية فقط في تركيا. ويقوم أساتذة التمصير مرة أخري بإزاحة آلة القانون الصغير وتنحيتها بعيدا عن الموسيقي المصرية، بحيث اختفت تلك الآلة، قانعة بدورها في بلادها التي جاءت منها، تاركة مكانها للقانون الكبير المستخدم حاليا في التخت المصري. وقد قام رواد التمصير بعملية مماثلة في مجال الآلات الايقاعية الاجنبية التابعة لفرق الاقليات المملوكية المتمصرة. أما علي مستوي الإيقاع المستخدم فقد تراجعت الضروب (الايقاعات) الاجنبية والتركية، ولم يعد أحد يسمع عن الإيقاعات التركية الشهيرة: جفته دويك. فاخت/ الورشان التركي/ الزنجير. المخمس التركي/ دور روان/ الزرفكند/ أوفر مولوي/ صوفيان/ يورك/ أقصاق إفرنجي، وغيرها ولم تقتصر عملية التمصير علي الآلات والايقاعات، بل وصلت إلي طرق التأليف المتبعة، أي القوالب الموسيقية. فقد تمصرت عادات التأليف الموسيقي، أي البناء الفني ذاته، إذ قاطع جيل عثمان طرق التأليف الموسيقي التركية العثمانية، فلم يقترب واحد من مؤلفي هذا الجيل من القوالب التركية. ولذلك وجد قالب البشرف التركي نفسه مهجورا داخل الموسيقي المصرية، لم يستخدمه في التأليف موسيقار مصري من الأجيال الثلاثة، وانحصر وجود ذلك القالب في الفرق الموسيقية التركية والشركسية والقوقازية المستوطنة. ولم تكن للمؤلفين العظام مثل سيد درويش أو محمد القصبجي، دراية بكيفية صياغة لحن في قالب 'بشرف'، وكاد قالب تركي آخر هو 'اللونجا' أن يلقي الاهمال ذاته، لولا أن رياض السنباطي كتب فيه نموذجا سمي "لونجا رياض". ولم يقتصر اثر التمصير علي القوالب الموسيقية، بل امتد إلي كلمات الألحان، لتتحول شيئا فشيئا من العربية الفصحي إلي العامية المصرية. وكان تمصير الموسيقي بقوالبها وألحانها وكلماتها عملية مرادفة لعملية بلورة الشخصية القومية المصرية، وسعيها إلي الاستقلال الثقافي والسياسي الاقتصادي، وكان التمصير هو القضية الاكثر إلهاما لروح الفنانين، وخيالهم، أي أنه كان الضرورة الاكثر إلحاحا للتطور تاريخيا، حتي أن كل شيء كان يتجه لسد الحاجة الي التمصير. بدءا من الآلات الموسيقية وأنواعها والايقاعات المستخدمة والمقامات (أي أنواع النغم)، والقوالب (أي الطرق المتبعة في التأليف) انتهاء بالكلمات ولهذا أوشك دور مثل دور 'كادني الهوي'، أو مثل 'عشنا وشفنا' أن يصبح 'نشيد استقلال فني'، وكاد أي 'دور' من وضع الموسيقي العملاق محمد عثمان أن يغدو علما وراية لأمة وثقافة تبزغ من ظلمات الاحتلال والسيطرة، وتخلف العصور الوسطي الطويل.
ولم يكن من الممكن لجيل التمصير أن يزيح الطابع التركي عن الموسيقي المصرية إلا بتكوين طابع آخرمصري، ولهذا أخذ جيل محمد عثمان بأطراف كل ما هو مصري، فأنشد الموال مجتذبا إياه من التراث الشعبي، والتقاسيم، وأقام القصيد مستمدا إياه من قصائد المديح عند الطرق الصوفية، كما بعث أولئك الرواد الموشح الذي كاد ينسي. ولم يهتم رواد التمصير بعمليات مثل 'تركيب وتعدد الألحان'، أو ترجيح كفة الغناء الجماعي علي الفردي، أوالعكس، ولم يهتموا أيضا بقضية المسرح الغنائي، أو الحوار الغنائي، فقد كان موضوعهم الأساسي، هو تجميع الملامح المصرية في الموسيقي من إيقاعات ومقامات وآلات وطرق تأليف، أي جمع وتطوير وتنشيط شتات النغم والألحان المحلية، وحشد كل ماهو قومي، ليتجمع منه عرض موسيقي كامل يدعي 'الوصلة' يمتد في سهرة موسيقية كاملة.
مسرحة الموسيقي:
إذا كان 'التمصير' هو كلمة سر الجيل الأول، فإن 'الحوار' كان كلمة سر الجيل الثاني؛ وعلي رأسه سيد درويش. والشيخ سيد هو 'أعلي نقطة تطور بلغتها النهضة الموسيقية المصرية'. ولم يكن التمصير خلافا لما يعتقده البعض مهمة أنجزها سيد درويش، فقد كان التمصير في حياته أمرا مستقرا ومألوفا بعد أن أشاعه جيل محمد عثمان، وكانت قضية سيد درويش الأولي هي كبح جماح الطابع الفردي المسيطر علي الغناء، وخلق غناء تشتبك فيه الاصوات اللحنية المتعددة في حوار لحني، يقيم الإنشاد الحواري، الدرامي. وكان المسرح الغنائي هو النقطة التي تطلع إليها سيد درويش، ولم يكن انطلاقه نحو تلك النقطة من فراغ، فقد مهد له محمد عثمان بالتمصير، ويجمع المادة اللحنية المصرية، وإبرازها، وتطويره..
كان خلق المسرح الغنائي يعني من الناحية الفنية أن يصبح اللحن المستمر مقسما لأجزاء، يمثل كل قسم منه شخصية مختلفة، بحيث يجد المستمع شخصيات متعارضة لحنيا، ومتصارعة، في إطار لحن واحد وهي مهمة شاقة، وتحتاج إلي عبقرية موسيقية، وليس أدل علي ذلك من أننا بعد نحو مائة عام من إبداع سيد درويش مازلنا عاجزين عن تكرار تلك التجربة الفذة! وهنا تحديدا تجلت عبقرية خالد الذكر سيد درويش الذي ترك وحده اثنتين وثلاثين مسرحية ملحنة، أهمها العشرة الطيبة، شهر زاد، والباروكة. علي أن دور سيد درويش لم يقتصر علي خلق المسرح الغنائي، فقد أبدع 'النشيد' الذي يتضمن غناء جماعيا لكن من دون حوار، وظهرت أناشيد مثل "بلادي بلادي"، و "أحسن جيوش في الأمم جيوشنا". وإحقاقا للحق فقد حاول سلامة حجازي تلمس الطريق نحو قالب النشيد، وحقق في ذلك إنجازا جزئيا مثلما في نشيده 'نحن رمزالهول'، لكن النشيد لم يظهر ويكتمل إلا علي يدي سيد درويش. أيضا أضاف سيد درويش قالب 'الطقطوقة'.
الا أن لعملية التطور الموسيقي جانبا آخر، قام فيه سيد درويش بدور ريادي إضافي فقد كان سيد هوالاسبق في مجال الآلات الموسيقية الجديدة. وعندما كان الخواجة الايطالي 'كاسيو' يقوم بجولة فنية في الإسكندرية بصحبة فرقته، وهي عبارة عن 'أوركسترا سيمفوني صغير' اتجه إليه سيد درويش وطلب منه استخدام فرقته، أي 'الاوركسترا' لتصاحب مسرحيات سيد درويش الغنائية بدلا من التخت الشرقي! وللمرة الأولي ظهر الأوركسترا الأوروبي في المؤلفات المصرية، معلنا عن تلك الثنائية 'الشرقي ـ الغربي' في الآلات الموسيقية التي كانت إحدي أكبر التغيرات الموسيقية، وقد استمر ذلك الازدواج مصاحبا لتاريخ الموسيقي المصرية إلي اليوم، ومحدثا ذلك الانقسام الغريب 'شرقي ـ غربي'، مما أدي في النهاية الي نشأة معهدين للموسيقي في مصر، أحدهما معهد الموسيقي العربية للموسيقي الشرقية، والثاني هوالكونسرفتوار لدراسة الموسيقي الغربية!
لقد تحققت عملية التمصير، وحشد وتكتيل العناصر الموسيقية المصرية، بل وتم إنجاز مهمة خلق المسرح الغنائي العبقرية، وظهر جيل ثالث علي أعتاب الثلاثينات هوجيل محمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبدالوهاب. ليتطلعوا صوب مهمات أخري، جديدة وكان نجاح أو إخفاق أولئك الموسيقيين الكبار الثلاثة مرهونا باستيعابهم لانجازات الجيلين السابقين، وقدرتهم تطوير تلك الانجازا.
.
الجيل الثالث.. بروز النجم الأوحد:
'تشكيل النسيج الموسيقي' هي مفتاح فهم دور الجيل الثالث من الرواد الكبار، والمقصود بتشكيل النسيج الموسيقي تكوين الألحان بحيث تصبح مركبة فوق بعضها البعض بتناغم. وهي العملية التي اطلقوا هم عليها 'التوزيع' أو 'الهارموني' وهو ماسعوا إليه في أغلب الاحيان كان مشكلة ذلك الجيل الكبري كانت أنه لم ينطلق من أعلي نقطة سابقة للتطور، أي من المسرح الغنائي الذي أقامه سيد درويش. ولم يستطع لا القصبجي، ولا السنباطي، ولاعبدالوهاب أن يقدموا شيئا من ذلك المسرح، رغم محاولات عبدالوهاب المتناثرة لتقديم مشاهد حوارية غنائية بسيطة. وفي المقابل انكب مؤلف عظيم مثل محمد القصبجي علي الاغنية الفردية، مما ساعد علي ترسيخ فكرة المطرب المغني الفرد النجم، وعلي هذه الارضية الموسيقية برزت اصوات كبيرة مثل اسمهان، وأم كلثوم، وفايزة أحمد، وعبد الحليم، وغيرها وأدي الوزن الخاص لمطربة مثل أم كلثوم إلي ترسيخ غناء فرد واحد للحن واحد علي مدي ليلة كاملة. وفقدت الموسيقي المصرية أهم نقطة في تطورها والتي قامت علي مبدأ الحوار، مبدأ جماعية الإنشاد. وإذا كان 'تشكيل النسيج الموسيقي' وهومهمة ذلك الجيل الأولي، فإنه لم يتمكن من القيام بها علي الوجه الأكمل، فقد كان أولئك الرواد يستدعون خبراء في التوزيع الموسيقي مثل أندريه رايدر، وغيره، بدعوي 'التوزيع الموسيقي' تاركين للموزع حرية إضافة لحن ثاني يمضي أسفل اللحن الرئيسي بآلات أخري. ولكن ذلك الاخفاق لايعني أنه لم تكم هناك نماذج قليلة ناجحة في ذلك المجال، مثل أغنية 'أنا لك علي طول' التي جري فيها البيانو بأنغام مختلفة عن اللحن الأساسي للمطرب. لقذ غازل الرواد الثلاثة القصبجي، والسنباطي، وعبد الوهاب فكرة 'تعدد الألحان' دون أن يقطعوا الشوط إلي نهايته، علي الرغم من أن سيد درويش وضع من قبل بذرة 'تعدد الألحان' أي تركيبها فوق بعضها البعض حين قدم نموذجا لفقرة غنائية مركبة الألحان وذلك في نشيد الجندي زعبله في ختام مسرحية العشرة الطيبة. وكان ذلك إشارة من سيد درويش لحاجات التطور القادمة. لقد ابتعد الجيل الثالث عن 'التعدد اللحني'، ولهذا كان وهو يقدم ألحانه الفردية العذبة والعبقرية أحيانا، يتعثر، ويعاود النهوض لكن ليدور من جديد حول الاغنية الفردية، الاسهل، والابسط من حيث الشكل الفني.
وخلال رحلة ذلك الجيل اضاف قوالب جديدة منها 'المونولوج' ومن أهم نماذجه المبكرة مونولوج 'إن كنت أسامح' لمحمد القصبجي (1928)، وقالب 'الموال المؤلف' وقالب 'القصيد مختلف الكوبليهات' وبرحيل العباقرة الثلاثة، ومن خلفهم من أساتذة مثل كمال الطويل، والموجي، ومحمد الشريف، أستيقطت أجيال جديدة، لتجد نفسها أسيرة لفراغ موسيقي، وأسيرة لقالب واحد هو الاغنية الفردية، التي تحولت هي الاخري من بناء موسيقي الي مجرد ترنيمة عابرة، تناسها فور أن تكف عن سماعها.