يترك الباحث التونسي هنا أفكاره رابطاً تاريخ "إرادة الحياة" بزمن الثورة، ويشير إلى أن عبارة الشابي من مطل القصيدة النفسيّ (الإرادة) والسياسيّ (الشعب) والغيبيّ الدينيّ(القدر) قد عصفت بمراتب الكلام، فخرج مفهوم الحياة ليصبح مفهوماً جامعاً دالاّ على كلّ القيم الإنسانيّة المعلاة كالكرامة والحريّة والعدالة.

أفكار حول الثورة التونسيّة

مصطفى القلعي

 

1.     من يعيرنا شاعراً؟

الشابي (1909- (2011) شاعر أثارت أشعاره الكثير من المفارقات في المشهد الثقافيّ العربيّ. ولعلّ المفارقة الأبرز تلك المتّصلة بقصيدة "إرادة الحياة". وبقرار سياسيّ من الجنرال المخلوع، أقيمت للشابي في السنة قبل الماضية سنة 2009 تظاهرة المائويّة احتفالاً بمرور مائة سنة على مولده. ولو كان الجنرال يفهم الشعر ما فعل. المهمّ أنّ التظاهرات الاحتفاليّة والندوات الفكريّة والأمسيات الشعريّة انتظمت في كلّ مكان؛ بيت الحكمة بقرطاج، كليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنّوبة وغيرها من الكلّيات والمعاهد ودور الثقافة والمؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة داخل حدود الخضراء وخارجها. ولم نر إلى اليوم موادّ هذه التظاهرات منشورة عدا عدد مجلّة الحياة الثقافيّة الهزيل، عدد 202 أفريل 2009. ولعلّ عدم نشر موادّ هذه الندوات نابع من الشعور بوقوعها في التكرار والاجترار رغم أنّ الغاية من وراء تنظيمها كانت البحث في أسرار شعريّة الشابي التي ضمنت لشعره الحياة بعد شاعرها.

"إرادة الحياة"، قصيدة شهيرة رائجة بين الناطقين بلغة العرب والناطقين بلغات أخرى كثيرة. غير أنّ الندوات الأكاديميّة في المائويّة تغافلت عن البحث في شعريّتها. وقد يكون هذا التغييب ناجماً عن الخجل من التعبير عن العجز عن فهم سرّ هذه الشعريّة رغم جيوش المناهج والأدوات البلاغيّة واللسانيّة والتفكيكيّة والتداوليّة والمنطقيّة والأرسطيّة والجرجانيّة والماركسيّة واللينينيّة والديريديّة (نسبة إلى ديريدا) والياوسيّة (نسبة إلى ياوس) والفوكوليّة (نسبة إلى فوكو) والهابرمازيّة (نسبة إلى هابرماز) وغيرها التي يتسلّح بها الأكاديميّون الكرام.

"إرادة الحياة"، لاهيةً عن الندوات مستخفّة بالمئاويّات الاحتفاليّة المستجيبة فقط لغرور الجنرال، كانت قد تنقّلت كثيراً بين الألسنة قبل المائويّة بعقود. وحدها كانت تمضي إلى أفئدة البشر تسلبها وإلى عقولهم تعلّمها وتحرّكها وإلى لغتهم تسائلها وإلى ذاكرتهم تنشّطها. وقد كان الكاتب المغربيّ المنشقّ محمد شكري قد أخبر في روايته السيرذاتيّة "الخبز الحافي" عن أنّ أوّل كلمات تهجّاها وتعلّمها في حياته هي "إذا الشعب يوماً أراد الحياة". وقد كان ذلك في السجن وهو في سنّ العشرين. وقد كان قبل ذلك أمّيّاً تماماً.

وبنفس القدْر من السعي الذي سعته آلتا الجنرال الحزبيّة والتكنوقراطيّة في تهميش الشعر وفي نبذ الشعراء، جهلاً طبعاً، وفي تحجيم مساحة الشعر ومكانته في برامج التعليم وفي المؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة وفي إعلاء قيمة العلوم الصحيحة والطبيعيّة والنسبيّة، إعلاء أجوف طبعاً، باعتبارها علوم المستقبل والضامن الأوفر لحقّ العمل، كانت "إرادة الحياة" و"يا ابن أمّي" تتسلّلان إلى كلّ مرابط الإنسان تذكّرانه بالحريّة الأصيلة:

خُلقتَ طليقًا كطيف النسيم * * * وحرّا كنور الضحى في سماه

وتستنكران عليه خضوعه للذلّ والمهانة:

فمالكَ ترضى بذلّ القيود * * * وتحني لمن كبّلوك الجباه

وتستنهضانه للانتفاضة من أجل استرداد ما سلب منه:

ألا انهضْ وسرْ في سبيل الحياه * * *فمن نام لم تنتظره الحياه

 

لقد كان الشعر يسري كالماء خافتاً هادئاً فاعلاً في النفوس والعقول. وكان الجنرال، مزهوّا بربطات عنقه الملوّنة مأخوذاً بعواصف التصفيق التي يطلقها خادموه، لاهياً تماماً عن حالة التلغيم الشعبيّ المدمّرة التي أنجزتها "إرادة الحياة". كانت هذه جدليّة الشعر والجنرال.

وكثيراً ما كان يستعصي على الناس فهم سرّ نفاذِ "إرادة الحياة" اليسيرِ إليهم. ولعلّ غياب نموذج تمثيليّ يجسّد تحقّق التلازم بين إرادة الشعب الحياةَ وبين القدر في التاريخ هو من أسباب هذا العسر. ومع ذلك كانت "إرادة الحياة" كالماء تسري في جسد المتلقّي. فتنتشر عبر الدم بين خلاياه. فيشبع ويرتوي إذ تلبّي فيه حاجات بيولوجيّة كامنة لم تضبطها علوم الحياة. ثمّ تستجيب لحاجات جماليّة في الكائن لم تعبّر عنها اللغة. إنّها تطفئ في المتلقّي حاجات، غير أنّها توقظ فيه حاجات أخرى سياسيّة واجتماعيّة. وهو ما لا يتلاءم مع أطروحات الخطابين النقديّين البلاغيّ واللسانيّ اللذين ينزعجان من أيّ ربط قد يحدث في الخطاب بين الشعر والمجتمع أو بين الشعر والسياسة. "إرادة الحياة" تصرخ بأعلى صوتها: الشعر سياسة.. الشعر هو المجتمع.

في "إرادة الحياة" يشرع الشعر في العمل منذ العنوان بأداء دوره اللغويّ في تسمية الوجود. غير أنّ الشاعر ليس معجميّاً له منطق وأدوات عمل مرتبطة بالواقع التاريخيّ. فالمعجميّ يسمّي ما ينشأ في مجتمعه من مسمّيات جديدة بالاستعارة أو بالابتكار. أمّا الشاعر فلا يتّصل بواقعه التاريخيّ هذا الاتّصال البراغماتيّ الذي للمعجميّ. بمعنى أنّه لا يسمّي ما ولد للتوّ بل يسمّي ما لم يولد بعد في الواقع ورؤياه تكشفه له جنيناً سيولد.

في "إرادة الحياة" اجتمعت المفارقات حتى تآلفت؛ فهي واضحة غامضة، يسيرة عسيرة، بسيطة معقّدة. التصقت باسم صاحبها. والتصق بها اسم شاعرها. فصار هو هي, وصارت هي عنوان الكرامة البشريّة المهدورة التي تستصرخ محرّريها لفكّ عقالها فيفكّون عقالاتهم بفكّها. سرّها وعسرها يبدآن معا منذ الجمع بين لفظي العنوان "إرادة" "الحياة"، جمعاً على الإضافة. فالمألوف في قواميس اللغة أنّ الحياة تعاش أو تمنح فتطيب أو تَمنع فتقسو أو تُفارق فتبيد وتنسي. أمّا أن تُراد فلا لأنّ إرادتها من طبيعة الأشياء في مألوف اللغة وليست محلّ افتراض. كما أنّ إرادة الكائن في عمليّة خلقه معدومة مثلما يؤكّد الخطابان العلميّ الإحيائيّ والدينيّ على السّواء. وإرادته لا تكون إلاّ بعد النشأة وتشكّل الوعي.

اليسر واللبس مأتاهما واحد: اللغة. اليسر من يسر المعجم وسلاسته وألفة التركيب النحويّ في الاستعمال اللغويّ العربيّ. واللبس قادم من السجلاّت. فلقد اقترنت في عبارة الشابي الشهيرة:

إذا الشعب يوما أراد الحياة * * * فلابدّ أن يستجيب القدر

سجلاّت ثلاثة اقتراناً تلازميّاً؛ نفسيّ (الإرادة) سياسيّ (الشعب) غيبيّ دينيّ(القدر). عبارة الشابي عصفت بالمفاهيم وبمراتب الكلام. فيما يتّصل بالمفاهيم خرج مفهوم الحياة عن دلالته المألوفة ليصبح مفهوما جامعا دالاّ على كلّ القيم الإنسانيّة المعلاة كالكرامة والحريّة والعدالة. إذن، الحياة تخلّت في عبارة الشابي عمّا كان عالقا بها من دلالة زمانيّة لتكتسب معان إطلاقيّة لازمانيّة. فالمألوف أنّ الحياة تعني الفترة الزمانيّة التي يقضيها الكائن حيّا. ويتوقّف عدّاد الحياة بتوقّف قلبه عن الخفقان. وصارت في عبارة الشابي تعني مجموع القيم الإنسانيّة التي لا زمن محدّدا لها. فهي كذلك معلاة في كلّ زمان ومكان.

أمّا في مستوى المراتب، فمنذ الميثولوجيا الإغريقيّة كان حكم القدر قاضيا لا رادّ له. وما حياة الكائن تحت الشمس إلاّ تغريبة باعتبار أنّ حياته تلك مسطّرة ولا إرادة فاعلة له فيها. فهو مجرّد منفّذ مطيع لما أريد له أن يفعل وأن يكون. المعنى نفسه تقريبا نجده للقدر في الخطابات الدينيّة على السّواء. غير أنّ القدر في عبارة الشابي تحوّل من قائد إلى مقود، من مطاع إلى مطيع. فصار واقعا في مرتبة ثانية منتظرا افتراض كينونة إرادة الشعب حتى يكون. فإذا كانت إرادة الشعب كان. وإذا ما كانت ما كان. هذا يعني أنّ الشعب كائن فعلا. أمّا القدر فكائن افتراضا فقط. ولن يتحوّل الافتراض إلى كينونة إلاّ متى انضافت إلى الشعب الإرادة. هذا التأويل يجعلنا نتفطّن إلى جرأة عبارة الشابي من خلال عملها على تخفيت تعالي الخطاب الدينيّ.

يوم 14 جانفي 2011 تحقّقت رؤيا الشابي. فتجسّدت استجابة القدر لإرادة الشعب الحياة. الآن فقط مات الشابي هانئا قرير العين. يوم 14 جانفي 2011 ثبت في المشهد الشعريّ التونسيّ أنّ الشابي لم يكن الشجرة التي تحجب الغاب كما يردّد شعراء تونس غاضبين، بل إنّه الغاب كلّه. إنّ الشابي لم يحجب أحدا. وإنّما نصّه كان قويّا مدويّا تلاشت في حضرته كلّ نصوص غيره. عذرا لأولاد أحمد والمزغنّي وحمّه، ﻔ "إرادة الحياة" هي التي حطّمت عرش الجنرال لا "عيّاش" ولا "نحبّ البلاد" ولا "دكتاتوريّة البروليتاريا". عذرا لأنّ "إرادة الحياة" هي التي وحّدت التونسيّين جميعا شيبا وشبابا مثقّفين وعامّة سياسيّين وجماهير نساء ورجالا. عذرا لأنّ "إرادة الحياة" ردّدتها حناجر التونسيّين وأفئدتهم ملايين المرّات. عذرا لأنّ "إرادة الحياة" أنهت علاقة العداء بين الشعر والواقع، تلك العلاقة التي روّج لها أنصار الألسنيّة ومريدو المناهج الغربيّة.

يوم 14 جانفي 2011 ركن الشابي أخيرا إلى قبره. وبقينا، نحن أبناء الشعب التونسيّ، يتامى لا شاعر لنا يرى لنا آتينا كما رأى الشابي لنا حاضرنا. فمن يعيرنا شاعراً؟

2.     أهل المشهد وأهل الظلّ:

المشهد التونسيّ اختلطت فصوله. السياسيّون، المعارضون السّابقون منهم والتّائبون، والنقابيّون والحقوقيّون والمحامون والصحفيّون والباحثون الأكاديميّون والأساتذة الجامعيّون والعائدون من المنفى والطّالعون من سجون الجنرال والعمّال والفلاّحون والمواطنون الغاضبون ومن كانوا راضين وحتى الشرط ورجال الجمارك وأعوان السجون.. جميعهم.. جميعهم تكلّموا في الصحف وفي الراديوات وعلى شاشات التلفزيونات الوطنيّة، العامّة والخاصّة والأجنبيّة، الناطقة بالعربيّة وبكلّ لغات الدنيا.

كم من الأسماء طالت أسماعنا في الجامعة خلال سنيّ الطلب! لكنّنا لم نر صورتها إلاّ فيما ندر. ولم نسمع حديثها إلاّ لماما؛ حمّه الهمّامي، محمد الكيلاني، الصافي سعيد، أحمد المستيري، الباجي قائد السبسي، أحمد بن صالح، منصور معلّى، الطاهر بلخوجة، عبد الوهاب المؤدّب، بشرى بن حميدة، سلوى الشرفي، زياد كريشان، سهام بن سدرين، أحمد الحمروني، راضية النصراوي، محمد بوعبدلّي، التهامي الهاني، لطفي زيتون، عبد القادر الزيتوني، العربي نصرة، عبيد البريكي، أحمد إبراهيم، أحمد نجيب الشابي، ميّة الجريبي، مصطفى بن جعفر، وحتى محمد الغنوشي نفسه فقد كنّا لا نراه إلاّ سامعا متابعا لحركات يدي الجنرال أو مهرولا إلى قصر قرطاج متأبّطا حافظته. لكنّنا لم نسمع صوته رغم أنّ وجوده في الحكومة كانت أسبق تاريخيّا من وجود الجنرال

هذه الأسماء تتدارك اليوم ما فاتها. وتستمتع بالكاميرا وبالأضواء. وتستطيب لمعان الأستوديوات الزجاجيّة. إلى التلفزيونات تمضي ليل نهار متحدّية حظر التجوّل. ساعات طوالا يقضّيها هؤلاء الأعلام هذه الأيّام أمام المذيعين أنفسهم الذين لم يتقنوا بعدُ الهجاء إتقانهم المدح في الماضي القريب، فقط ليملأوا ناظرينا بمرآهم. فهم لاشكّ يقدّرون حاجتنا إلى الامتلاء بصورهم وبأصواتهم. فلا يضنّون علينا بما يسدّ حاجتنا. لقد ملأوا المشهد، ولاذ اللاعبون السابقون؛ برهان بسيّس والمنذر ثابت والصحبي سماره وبوبكر الصغيّر وزين العابدين بن علي وليلى بن علي، بالظلّ يحتمون به آملين أن ينسى الناس أصواتهم وصورهم. فهل من مجير؟

الحريّة.. لقد انتظرت طويلا حتى ملّت الانتظار. لا أحد طلب ودّها. لا أحد ذهب إليها. بل، على غير عادتها، جاءت بنفسها إلى طالبيها القاعدين دونها. وأخذتهم على غرّة. فقد كان أهل المشهد يتفنّنون في إبعادها. وكان أهل الظلّ يستبعدون أوانها. كان الجميع مطمئنّين إلى الشعارات لا يناقشونها. فهي في حكم المسلّمات، من نوع "ما أخذ بالقوّة لا يستردّ إلاّ بالقوّة" أو "الحريّة لا تهدى ولا توهب". تبعا لذلك قال أهل المشهد: القوّة عندنا فلا حريّة لأهل الظلّ. وقال هؤلاء: القوّة ليست عندنا فلا حريّة لنا. وقال أهل المشهد: نحن لا نهب الحريّة فلا حريّة لهم. وقال أهل الظلّ: لا أحد وهبنا الحريّة فلا حريّة لنا.

لكنّ الحريّة لا تعنى بالشعار. ولا تلقي بالا له. ولا تستكين للمسلّمات. ولذلك استفاقت منتعشة بدماء الشهداء الغافلين عن رصاص الغدر المتربّص بهم في المنعطف. واغتسلت لتزيل عنها كسل السنين. وأخذت طريق أهل الظلّ. فدقّت عليهم أبوابهم. وأمام ذهولهم جميعا دخلت. وألقت عليهم رداءها المحلّى بالأحمر القاني. فسحرتهم وسلبتهم خوفهم. وملأتهم جرأة. ودفعتهم إلى المشهد يملؤونه. وسحبت أهل المشهد إلى رطوبة الظلّ بعد أن ألقت عليهم جفاء الزبد.

لقد فرضت الحريّة إرادتها على الجميع؛ أهل المشهد وأهل الظلّ. فأربكتهم كلّهم. لا أحد انتظرها. ولا أحد استعدّ لقدومها. فلا أهل المشهد تمكّنوا من أخذ ساعاتهم وترتيب حقائبهم. ولا أهل الظلّ تدرّبوا على ضيق ربطة العنق. وإرادة الحريّة قلبت الواقع التاريخيّ التونسيّ رأسا على عقب فصار أهل الظلّ في المشهد. وتوارى أهل المشهد إلى الظلّ.

هذا الواقع التونسيّ التاريخيّ الجديد لا يخلو من عجائبيّة فأهل الظلّ الصاعدون إلى المشهد من المعارضين السياسيّين شيوعيّين وإسلاميّين سرعان ما راجت أسماؤهم وصورهم. وأبواق أهل المشهد القدامى صاروا، ويال العجب!، يردّدون أسماءهم ويدعون إلى ضرورة دعوتهم إلى المشاركة في الحياة السياسيّة بشكل فاعل باعتبارهم ذوي تاريخ نضاليّ مشعّ وذوي مصداقيّة اجتماعيّة. وقد ورد ذلك على لسان أمين عام الحزب الاجتماعيّ التحرريّ، وهو حزب موال تمام الموالاة لأهل المشهد المزالين إلى ليلة 13 جانفي 2011، قبل السقوط بساعات.

أهل المشهد الجدد؛ لا خلا المشهد منهم. ولا غابت وجوههم عنّا. ولا غادرت أصواتهم أسماعنا. هكذا ندعو لهم. لكنّنا نهمس لهم بأنّ حاجتنا إلى سماع أصواتهم وإلى رؤية صورهم قد أشبعت. وهم لا يرضون لنا التخمة وآلام عصب المعدة. ونحيط عنايتهم علما بأنّنا، نحن أبناء الشعب التونسيّ، قد تركنا حرفة صناعة الأصنام تركا نهائيّا حاسما، وبأنّ مشروع قانون في تحريم هذه الحرفة وفي تجريم القائم بها من المقترحات التي ستقدّم إلى لجنة الإصلاح السياسيّ، وبأنّ كتاب نيتشه "أفول الأصنام" سيدرج ضمن برامج التعليم في مراحل مبكّرة. وكلّ هذا لأنّنا تفطّنّا إلى أنّنا أمّة تبدع في صناعة أصنام لغايات شتّى ثمّ تحار في هدمها بعد أن تنبت لهذه الأصنام مخالب وأنياب تنشبها في وجودنا فتصيّره جحيما، تماما كما يحدث في أفلام الخيال العلمي.

كما نسرّ لأهل المشهد الجدد بأنّنا تفطّنّا إلى أنّ المشهد عندهم غائم وإلى أنّ عناصر التحليل عنهم غائبة وإلى أنّ المسائل في أذهانهم ملتبسة، رغم الضنى الذي يكابدونه لإخفاء هذه الحقائق. ونحن، على كلّ حال، لا نعاتبهم. وإنّما نعاتب الحريّة التي باغتتهم وهم لاهون. فهم في ذلك معذورون فيما الحريّة محجوجة.

غير أنّنا ندعو السيّدات والسّادة أهل المشهد الجدد إلى قراءة المشهد الذي يتسيّدونه بآليّات تفكيك وتأويل غير التي يشتغلون بها والقائمة أساساً على المقارنة بين الثورة التونسيّة والثورات الفرنسيّة والبلشيفيّة وغيرها. ونقول لهم إنّ المنهج المقارن قد لا يكون ذا فائدة في قراءة الثورة التونسيّة. وإذا أصرّيتم على هذا المنهج وعلى توظيف آليّات البنية الفوقيّة والبنية التحتيّة فإنّكم لن تتمكّنوا من إقناعنا بمشروع استراتيجيا استشرافيّة مستقبليّة. وهذا ما قد يؤثّر سلباً على حملاتكم الانتخابيّة المقبلة.

إنّنا، نحن مكوّني المشهد التونسيّ، نقول لكم إنّ الثورة التونسيّة لا تشبه أيّ ثورة أخرى. يكفي أنّها حطّمت القاعدة السّائدة القائلة إنّ الثورات تهيّئ لها النخب الفلسفيّة والأدبيّة فالسياسيّة، كما هو شأن الثورة الفرنسيّة. فلا تجوز المقارنة. وإذا كان منهجكم ضعيفا فكذلك سيكون تحليلكم واستشرافكم. لذلك، ندعوكم إلى مقاومة إغواء ربطة العنق أمام الكاميرا للتواري في مختبرات العمل الذي نحن في حاجة إليه حتى تساعدونا على تمثّل ثورتنا وعلى استشراف آتينا وعلى حمايتنا من مهاوي الالتباس.

 

كاتب من تونس

mustapha.kalii@yahoo.fr