تروم المقالة المترجمة توضيح الخطوط المتواشجة والمفارقة على حد سواء بين نيتشة وسارتر وغيرهم من الفلاسفة مع عدمية كامو في سياق الأزمنة الحديثة. كما وتركز على أثر نقاشات ما بعد الحرب الفكرية على الفضيلة العدمية وموقف كامو من ضرورة التزام المثقف.

الثورة تصنع الإنسان

ألبير كامو Albert Camus

ألييت أرميل

ترجمة: أنس شاكر العمراني

 

إن الوعي بالسخافة هو واحد من الإسقاطات التراجيدية للعدمية في القرن العاشر. منذ صدور كتابه "أسطورة سيزيف" إلى كتابه "الإنسان الثائر" سيطور ألبير كامو تفكيراً يحث على الحياة، رغم كل شيء.

يظهر في الموسوعات اسم ألبير كامو كثيراً داخل الخانات الخاصة بالعدمية، إلى جانب دوستويفسكيDostoievski  ونيتشهNietzsche  اللذين سيُذكران مع ملفيلMelville  وباسكال Pascal وتولتسويTolstoi  بجائزة نوبل لسنة 1958 بصفتهم أساتذة له. مواجهة الإنسان مع تجربة الفراغ واللاشيئ، إدراك السخافة وأيضاً إدراك تراجيديا الحالة الإنسانية تعتبر كلها من المواضيع المركزية لعمله. لكن بعد اكتشاف تجاوزات الثورة وكل القوة، سيَدَّعي سيزيفSisyphe  بنفسه نوعاً من السعادة: "سيزيف أو السعادة في الجحيم"، هكذا كان العنوان المقدم من طرف ألبير كامو في غاستون غاليمارGaston Gallimard  من أجل نشر أسطورة سيزيف سنة 1942 وفي التقديم سيصف هذا الكتاب: "باعتباره نقطة للضبط، وتعريفاً مسبقاً لـ عدمية جيدة قادرة على منح الذكاء الحديث الذي يعاني من العدمية... قدرة العيش مع لائاتها (النفي) وجعلها مبدأ للتقدم".

بتعرضه لتجربة مرض السل بين سنة 1949 وسنة 1951 سيعود كامو لدراسة نيتشه: "هو الإنسان الوحيد الذي أثَّرَت كتاباته فيَّ فيما مضى، كما سيكتب كامو. بعد ذلك سوف أتخلص من ذلك. وفي هذا الوقت سيسقط في الفخ. سيتعلم أن يحب ما يكون، وأن يعتمد على دعم الجميع وفي البداية على دعم الألم... مما سيجعل منه النمط الكبير، كما سيقول: أن تشعر بامتلاكك لسعادتك كما تمتلك حزنك"(2).

في غشت 1951 سيفتتح عدداً من أعداد "الأوقات الحديثة" temps modernes  بمقال يخصصه لـ"نيتشه والعدمية". هذا المقال سيعلن الفصل، بنفس العنوان، الموجود في قلب "ثورة ما وراء الطبيعة" الجزء الثاني من "الإنسان الثائر" الذي يمثل المقال الذي كان يفكر فيه لعدة سنوات والذي ستعلن به "رسائل إلى صديق ألماني" سنة 1945 عن بعض المواقف، خاصة تلك المتعلقة بتطوره إزاء العدمية.

سيُطلق نَشر "الإنسان الثائر" في أكتوبر1951، واحداً من أعنف نقاشات الأفكار فيما بعد الحرب، وبواسطة مقالات لفرنسيس جونسون Francis Jeanson وجون بول سارترJean-Paul Sartre ستتفكك "الأوقات الحديثة". فالرجل الذي كانوا يرون فيه، في وقت "الغريب" l’Etranger، "الارتباط المذهل بين الشخص والحركة والفعل" سيصبح "أكبر كاهن للأخلاق المجردة "الكاتب الذي أثبت "عدم قدرته الفلسفية" والذي يعلمه سارتر: "ماركس لم يقل أبداً أن التاريخ له نهاية... ولكنه تكلم فقط عن نهاية لما قبل التاريخ".

إدانة دون مشاركة. بتواجد الوجوديين إلى جانب الشيوعيين وأيضاً السرياليين أي إلى جانب المتحكمين في الساحة الثقافية في تلك الفترة، سيجعلهم يدينون بالإجماع هذا الكتاب الذي يضع مصادرهم ومبادئهم وأساليب تحركاتهم في قفص الاتهام، بمدافعته عن قيم يعتبرها أساسية: الثورة والصياح، الفردانية والحرية، صفاء الإنسان بمواجهة العمل المستحيل "أن يجمع أخيراً المجتمع الإنساني فوق أنقاض المجتمع الإلهي". محاولة كامو كانت تاريخية. إذ ستختبر أهم أشكال الإنسان الثائر كنيتشه وأيضاً ساد Sade ورامبو Rimbaud ولوتريامونLautréamont ، الذين كانوا كتاباً بارزين في هيكل السرياليين ومراجع ضرورية للمثقفين في ذلك الوقت. في "الأوقات الحديثة" كمثال، سيُستدعى رامبو مرات عديدة في النصف الأول من سنة 1952 خاصة من طرف إتيامبلItiemble  تحت الاسم الدال: أسطورة تنفجرun mythe explose . ستطرح سيمون دو بوفوار Simone de Beauvoir في مقالين طويلين السؤال: "هل يجب أن نحرق ساد؟" واستعملت كلمات فلسفية تختلف عن تلك التي يستعملها كامو والتي يريد بها "الرجوع إلى كلمات الجميع مع إضافة المصداقية الضرورية" والتي ينادي بها إلى حق الانحياز النقدي في إطار تحليلاته الأدبية. ولكن فوق الاختلافات الرسمية سيصل كاتب المندران Mandarins في دراسته لساد لاستنتاجات قريبة من استنتاجات الإنسان الثائر: "الأخوة الكاذبة، كما تؤكد سيمون دو بوفوار، تنتهي بجرائم تعرف فيها الفضيلة وجهها المظلم".

بالفعل، تعتبر عملية الهدم التي يُفَعِّلُها ساد، بانتسابها إلى جريمة يقال عنها "من المنطق" والمنبعثة من اقتناع فلسفي، نقطة البدء لدراسة كامو. وبوصوله في أسطورة سيزيف، إلى استنتاج أن المنطق السخيف يؤدي إلى رفض الانتحار، سيهتم كامو منذ ذلك الحين بالقتل المقبول الذي سيرى جيله (كامو) توظيفه في "قيامة هتلر" وكشف المخيمات الستالينية. سيخلق كتاب: "الإنسان الثائر" فضيحة بوضعه تجاوزات الإرهاب وجرائم الفاشية والبلشفية، في نفس المستوى. وبمواجهة ضرورة الالتزام الذي نادى به المثقفون الذين كان يعتبرهم أصدقاءه السياسيين ( بأخذه موقفاً علنياً في صالح الثوار في دول الغرب واليونان وإيران وإسبانيا) سيرفض كامو أن يُساق بعمل وحركة التاريخ: "عندما يجتمع الشر والخير في الوقت، يكتب كامو في الإنسان الثائر، ويختلطان مع الأحداث، لا يبقى شيء جيد وشيء غير جيد ولكن فقط سابق لأوانه أو متأخر عن وقته. من يستطيع أن يقرر وجود الفرصة إذا لم يقم بذلك الانتهازي؟" وبالابتعاد عن هذه الضرورة الحالية يبقى ما هو عاجل هو استنكار التجاوزات التي تتعلق بعدمية ما بدون مراعاة الجانب المذهبي. تبقى وجهة نظره أخلاقية وليست معنوية. فبالنسبة إليه "الأخلاق تؤدي إلى الغموض والظلم. وهي أصل التعصب والعمى. ما هو فاضل يقطع الرؤوس". ونقده لسان جيستSaint-Just ، وأيضا لكل إرهابيي الدولة ولكل أشكال الجرائم التي يمكن أن تقود إليها عدمية مدفوعة إلى أقصاها، يؤدي إلى إدانة هذه الثورات التي "تحت اسم القوة والتاريخ {تصبح آليات قاتلة وغير متوازنة}"، في خدمة إنسان ثائر ينادي "بدل القتل والموت لصناعة الفرد الذي لن نكونه، يجب أن نعيش وأن نساعد على العيش من أجل خلق الفرد الذي نحن عليه".

"بترك الإنسان تحت رحمة القدر يشبه تقديمه للحظ، كما يقول كامو. "فالمحيط الذي يصف هو عالم بدون إله (رب) :"الإنسان الثائر هو الإنسان المرمي خارج المقدس والراغب في المطالبة بنظام إنساني فيه كل الأجوبة إنسانية." فمعنى الخطيئة أو الشعور بالذنب منعدمة في تحليلاته. ولكنه يلاحظ شيئاً يتكرر لدى الإنسان: بدل البحث عن إله غائب منذ البدء يستبدل الإنسان ذلك بالبحث عن وحدة للتمكن من العالم الذي لا يرى فيه الجميع سوى أجزاء متفرقة: "الكل ليس سوى الحلم القديم لوحدة الجميع بالنسبة للمؤمنين والثوار ولكن بإسقاط أفقي على أرض خاصة للإله". فالإنسان العاقل يرفض العالم كما هو : "أنا أثور إذن أنا موجود". يُعَرِّفُ كامو الثورة ما فوق الطبيعة باعتبارها: "حركة ينتصب بها الفرد في مواجهة ظروفه والخلق كُلِيَّةً... مطالبة تدعمها وحدة سعيدة ضد مرارة الحياة والموت". وتتطور بذلك نحو الثورة التاريخية. عن طريق دراسة نحو قرن ونصف من تجربة التمرد، سيوضح كامو كيف تصبح الثورة التي هي أيضاً نتيجة التمرد، حتماً انحرافاً إما بالاستعادة "البروليتاريا قاتلوا وقُتِلوا من أجل وضع السلطة بيد الجنود أو المثقفين، جنود المستقبل، الذين سيستعبدونهم بعد ذلك" أو بمحاولة استعادة الكنيسة أو الإمبراطورية المبنية على العدالة والأخلاق والتي تؤدي إلى الشطط في القتل للشمولية.

حقيقة معقدة. ينبني تفكير كامو على تراص أجزاء متعارضة. الإنسان الثائر يتقدم بهذه الطريقة ويعدد العمليات الجدلية: "جدلية النهاية والوسائل، الوقت والفضاء (الذي يؤسس لضد التأريخ الظاهر بالمقال)، المدة والآن، المجرد والواقعي، وأيضاً من خلال هيغل Hegel وماركسMarx ، السيد والعبد"، يضيف لكل هذا "جدلية الكم والجودة"(3). اكتشاف حدود العمل الإنساني يتضمن حتماً شكوكاً وضعفاً. ومن الصعوبة تقزيمها لأوامر محددة ومتفق عليها: يرفض كامو كونه معلماً للتفكير. وسيُظهر بالإنسان الثائر رغبته في التعبير عن حقيقة معقدة بدون إرضاءٍ لأي انضباط باعتباره "واحداً من إغراءات العدمية للثورة التي تسيطر على جزء كبير من تاريخنا الثقافي".

يصل كامو بذلك لاستنتاجات إيجابية. الاستنتاج الأول مبني على دور المنقذ الذي يوكله للفن بصفته تعبيراً عن "الثورة في الحالة الخالصة، بكل تعقيداتها البدائية"، لأن "تنظيمها الذي يعارض الواقع في نفس الوقت الذي يعطي فيه وحدته، هو أيضاً تنظيم الثورة بنفسها. هل يمكن أن نرفض الظلم إلى ما لا نهاية بدون أن نتوقف عن تحية طبيعة الإنسان وجمال العالم؟ سيكون جوابنا بالإيجاب". هذا الخُلق غير الخاضع والوفي في نفس الآن هو الوحيد القادر على إنارة طريق ثورة مبتعدة عن التعارضات التي تسجن فيها العدمية بنفس المستوى، الثورة وفن القرن العاشر. سيعرض كامو بداهة "يوم الولادة حيث ستضع الحضارة في مركز تفكيرها، وبعيداً عن المبادئ الرسمية والقيم المتحللة للتاريخ، هذه الفضيلة الحية التي تؤسس للكرامة العامة للعالم والإنسان والتي يجب علينا تعريفها في مواجهة عالم يقدح فيها"، محاولة عظيمة تقترب من تطلعات نيتشه: "عوض القاضي والقامع يكون المبدع".

ولكن بالخضوع إلى التوترات بين الواقعية والشكلية وبين تدمير اللغة تحت ضربات الرفض غير العقلاني، يمكن أن يجتاح الإسراف الفن، هذه الغطرسة التي عرَّفَها الإغريقيون بأنها الخطأ بامتياز. رغم إثارة غضب سارتر، سيسند كامو حدوداً للحرية: وهي قدرة الآخرين على الثورة. ستأخذ الثورة بهذه الطريقة شكل المطالبة بحرية الآخرين وكذا حرية النفس وبذلك تكون خلاقة وتقترن بموافقة باطاي Bataille تقبل كل مناحي الحياة بصفتها اعتراضاً ضد الموت. فهذا الأخير باطاي ينتمي إلى المثقفين القلائل المعروفين بانتمائهم "لليسار" الذين أظهروا دعمهم "للوسطية"، فكرة ساطعة بمقاييس التي بفضلها "كانت الطبيعة دائماً متوازنة للمستقبل منذ الإغريقيين". فالثورة هي الوسيلة الوحيدة لمحاربة الخطر الذي يعرفه حاضرنا من "لامبالاة حقيقية". " ففي الظاهر كما قال باطاي، إن النقطة التي نتجه إليها كلنا، كما ينساب الماء بفعل الجاذبية، هي الإنسانية اللامبالية". إن التقييم الذي ينادي به كامو، هذا الكمال الذي أحلناه دائماً إلى صفته "المتوسطية" ليس تراجعاً. إذ يتهم في نفس الوقت آثار "الهواية التراجيدية التي بها تكون الحياة الإنسانية جحيماً" وغياب القيم التي توجه الفعل: "إذا كان كل شيء لا صائباً ولا خطأ، لا جيداً ولا سيئاً، إذن فالقاعدة هي أن تظهر أكثر نجاعة بمعنى أن تكون الأقوى". يحاول كامو الحفاظ على الفعل الفردي والجماعي، والثورة بذلك تسمح بتأكيد "وجودنا"، ويعتبر التقييم بصفته توتراً.

سيختم كتابه بصورة موجهة نحو المستقبل البعيد للصور العدمية: "القوس ينحني والخشب يصرخ. في قمة التوترات العالية سيتراءى امتداد خط مستقيم بتقاسيم قاسية وأكثر حرية".

 

أستاذ مبرز ومترجم من المغرب

 

الهوامش

(1) ألييت أرميل Aliette Armel: Ecrivain et critique a notamment publié deux essais sur la Marguerite Duras et la biographie de Michel Leiris éd fayard 1997.

(2) Cité par Olivier Todd: ALBERT CAMUS UNE VIE. Gallimard, coll. folio,n 3263, page 703.

(3) Raymond Gay-Crozier, révolte , souveraineté et jeu chez Bataille et camus: étude conceptuelle dans revue des lettres modernes,éd Minard, camus12p de 7 à 34.