هذه ليست مرحلة استقرار النظم، بل مرحلة رحيلها. فقد حكمت أكثر مما يجب، وقامت بكل ما يدمر المجتمع ويفقر الطبقات الشعبية. ومارست التبعية المفرطة للإمبريالية الأميركية، بحيث أسهمت في تكريس الهيمنة الإمبريالية الصهيونية، وفي نهب الاحتكارات الإمبريالية لهذه المجتمعات، وفي تفكيك المجتمعات وتدمير التعليم والقوى المنتجة، لتؤسس اقتصاداً لا يخدم سوى الطغم الإمبريالية. هذه الطغم التي أصبحت معنية بتصدير السلع الى أقصى مدى نتيجة فيض الإنتاج لديها الذي يسبب لها أزمة عميقة ومستمرة، وتشغيل المال المضارب في كل ما يؤدي الى تدمير الاقتصاد المحلي، من خلال النشاط في القطاع المالي والعقاري والسياحي فقط. وهو الأمر الذي أدى الى نشوء ظاهرة البطالة الواسعة، والإفقار الشديد، والتهميش.
لهذا لم تعد المسألة هي مسألة شكل نظام الحكم، أو من يحكم من هذه الطبقة المافياوية الطابع، أو كيف تبقى السياسة ملحقة بالمشروع الإمبريالي الصهيوني فحسب. لا، لقد أصبحت المسألة تتعلق بتغيير هذه الطبقة وتدمير حكمها. فالطبقات الشعبية لم تعد قادرة على أن يستمر الوضع على ما هو عليه لأنها وصلت الى مرحلة لا تستطيع العيش فيها. فليس هناك شغل، ومن يعمل لا يكفيه الأجر الذي يتحصل عليه حتى لسداد رمق العيش. بينما تعيش قلة ضئيلة بترف لا مثيل له، جراء النهب الذي تمارسه لمقدرات البلاد. هذه القلة هي التي تحكم، وتخضع كل شيء لما يحقق مصالحها، دون اعتبار لأي شيء، أو حساب لأي ظرف.
المسألة باتت تتعلق، بالتالي، بتغيير نمط اقتصادي جرت صياغته خلال العقود الأربعة الماضية، وأفضى الى نشوء تمايز طبقي واسع من جهة، لكنه كذلك أفضى الى عدم مقدرة كتلة أساسية من الطبقات الشعبية على العيش نتيجة البطالة أو تدني الأجور في وضع كان ارتفاع الأسعار في تصاعد متسارع من جهة أخرى. وهو نمط صيغ بالتبعية للطغم الإمبريالية، وبالتالي باستتباع سياساتها المعادية لكل الشعوب، وللطبقات الشعبية خصوصاً. ولهذا لم يعد قابلاً للاستمرار في أي شكل، ولم يعد ممكناً استمراره. خصوصاً وأن النمط الرأسمالي ذاته يعيش أزمة عميقة لا تجعله قادراً على الضبط، على العكس تدفعه هذه الأزمة الى نقلها الى الأطراف من خلال زيادة نهبها بأشكال مختلفة. وخصوصاً أيضاً أن أزمة المال المتراكم التي تفرض الميل الشديد الى المضاربة، تفرض ارتفاعاً مستمراً، وكبيراً، في أسعار السلع الأساسية، والنفط، وهو الأمر الذي يزيد من أزمة العيش في الأطراف بشكل جنوني، وهو بذلك يزيد من فرص الثورة، ومن استمرارها الى حين تحقيق التغيير العميق في النمط الاقتصادي.
هذا الوضع هو الذي جعل الطبقات الشعبية بهذه القوة والجسارة، والإصرار على التغيير، كما ظهر في تونس ومصر، ويتزايد في اليمن والأردن وغيرها، وسيشمل كل الوطن العربي، الذي خضع للسياسات الاقتصادية ذاتها المفروضة من قبل الطغم الإمبريالية وبالتبعية لها.
بالتالي فإن الأزمة أعمق من أن تحل من خلال هذه النظم، وباستمرار سيطرة الطبقة المافياوية، فهي تحتاج إلى نمط اقتصادي بديل، إلى إعادة بناء القوى المنتجة، الى زيادة الأجور وضبط الأسعار، ومن ثم ضبط العلاقة مع السوق العالمي، أي قطع العلاقة مع النمط الرأسمالي لتجاوز آثاره المدمرة على الاقتصاد المحلي. وهو الأمر الذي يعني بناء سياسة مختلفة مناهضة للرأسمالية ولمشاريعها الإمبريالية، وفي صراع مع الدولة الصهيونية، وتهدف الى التحرر والوحدة.
إن جوهر الأمر يتمثل في طبيعة النمط الاقتصادي الذي يجب أن يجري بناؤه من أجل استقرار الوضع. فهو أساس الانتفاضات التي جرت وستجري، والذي سيبقيها قائمة ما دام لم يتغير. فدون حل أزمات الفقر والبطالة والتهميش والسكن والتعليم والصحة، لن يكون ممكناً تحقيق الاستقرار، أو أن يحكم أيّ كان. هنا المفصل، حيث يجب حل أزمة المجتمع من أجل الاستقرار، وأي قفز عن ذلك سوف يبقي الصراع مفتوحاً. وأي ترقيع لهذه النظم لن يؤدي الى استقرار، ولا يؤدي الى توقف الصراع الطبقي المشتعل، أو الذي يمكن أن يشتعل. وأيضاً فإن أي تغيير لا يحمل بديلاً اقتصادياً لن يكتب له الاستقرار. فالحكم يجب أن يحمل سياسة اقتصادية جديدة. وهنا لا بد من الإشارة الى أن المسألة لا تتعلق بشكل جديد، ديمقراطي للسلطة مهما كان عمق ديمقراطيته، بل يتعلق بالنمط الاقتصادي بالتحديد الذي يحل مشكلات البطالة والفقر والتهميش أولاً وأساساً.
النظم يجب أن ترحل، لكن أيضاً الرأسمالية المافياوية يجب أن ترحل بالتالي، لأنه لم يعد ممكناً إلا ذلك. فليس هناك من رأسمالية تستطيع حلّ أيّ من مشكلات الطبقات الشعبية. ولم تعد المسألة هي مسألة إصلاح اقتصادي لكي تحاول ذلك فئات وسطى لا يساعد الوضع على أن تقوم به. بالتالي انتهت مرحلة الاستقرار الطويل بعد التغيرات التي تحققت منذ بداية خمسينات القرن العشرين، وبدأنا مرحلة صراع طبقي لا بد من أن يفضي الى تغيير عميق، وهو لن يتوقف إلا بعد تحقيق التغيير العميق. كل ذلك يشير الى أن هذه النظم يجب أن ترحل، وأن هذه الطبقة المافياوية يجب أن تصادر أموالها وأن تحاسب على كل النهب والتخريب الذي مارسته. وأن يجري العمل على انتصار بديل جذري يحمل مشروع الطبقات الشعبية، ويعمل على تحقيق مصالحها. وهو لذلك سيكون في تناقض عميق مع النمط الرأسمالي، ومع السياسات الإمبريالية، فهو يفترض تجاوز هذا النمط والصراع ضد تلك السياسات لكي يتحقق، ويتجسد فعلياً، وينتصر.
مع انتفاضة تونس ثم مصر، ودخول اليمن والجزائر والأردن وليبيا والبحرين على خط الحراك الشعبي، نحن في مرحلة جديدة ولا شك، سوف تنقلب فيها كل الجمل الفارغة التي جرى حشوها طيلة العقدين الماضيين، لكننا بالأساس في مرحلة التغيير العميق لمصلحة الطبقات الشعبية.