التقيت الأديب جمال ناجي المولود في نوفمبر 1954 في مخيم عقبة جبر، والنازح للأردن في هزيمة الخامس من حزيران 1976 ولا يزال يقيم في عمان، التقيته في فندق عمرة في عمان في حزيران 1990 حيث كنت مشاركا في ندوة عن "مخاطر هجرة اليهود السوفييت" التقيته لقاء عابرا عندما عرفني به الأديب الراحل خليل السواحري، والذي بدوره زودني بنسخة من مجموعة" رجل خالي الذهن" القصصية الصادرة قبل ذلك بعدة اشهر عن دار الكرمل للنشر والتوزيع التي كان الراحل السواحري يملكها، قرأت المجموعة في ليلتي تلك، وتناقشت وخليل السواحري بها، فأثني على الأديب جمال ناجي كقاص وروائي، ولأن جماليات مجموعة" رجل خالي الذهن" لا تزال عالقة بذهني حتى الآن، فقد وجدت أننا وقعنا على ثروة أدبية عندما وجدنا رواية "عندما تشيخ الذئاب" في مكتبة دار الشروق في رام الله، فوجدناها فرصتنا لتكون موضوع جلسة ندوة اليوم السابع الدورية الأسبوعية التي تقام في الخامسة من مساء كل خميس في قاعة المسرح الوطني الفلسطيني في القدس منذ آذار 1991 وحتى أيامنا هذه.
وما أن باشرت قراءة الرواية حتى شدتني اليها وأرغمتني على قراءتها في جلسة واحدة، فعنصر التشويق فيها قويّ، وأسلوبها جذاب، ولغتها جميلة، ومضمونها اجتماعي راق.
والرواية تتحدث عن الفساد في المجتمع الذي يبدأ من قاع المجتمع في حارات الفقر ليمتد الى الطبقات العليا، وكأنه طفيلي ينمو ويكبر الى أن يطغى، ويحدث على مرأى ومسمع من الجميع، الذين يسكتون أو يشاركون في صنعه، والذين يحاربون الفساد لا يلبثون أن يمارسونه اذا ما أُتيح لهم ذلك...وقد تعددت الأصوات بتعدد أصحابها، وأبدع الاديب بأن تركها تتحدث عن نفسها بنفسها بلغة الأنا، لكن البناء الروائي بقي متماسكا ومترابطا.
فالشيخ عبد الحميد الجنزير الذي يتظاهر بالتدين والتقوى والصلاح، وأعمال الخير وجمع التبرعات لمساعدة المحتاجين، وطالبي العلوم الشرعية وبناء المساجد، ومداواة المرضى بالأعشاب، هذا هو ظاهره، في حين ان باطنه المخبوء بين جبة وعمامة ولحية، وممارساته وأفعاله تبين لنا أنه زنديق سارق زان يغري النساء ويجرهن الى حبائله ليتلصص على أجسادهن ويمارس شهوانيته البهيمية عليهن، ويسرق الأموال التي يجمعها، ويتملك الأطيان، ويقيم علاقات سكر وعربدة في مزرعته من خلال الولائم التي يقيمها بحضور بعض المتنفذين اقتصاديا وسياسيا، والطامعين بالوظائف الكبيرة، فيرفع من يشاء ويقمع من يشاء دون وازع من دين أو رقيب.
أما جبران صاحب الفكر اليساري الماركسي، ونصير الطبقة الكادحة فانه لا يلبث أن يتحول الى برجوازي انتهازي قذر، عندما تيسرت أموره المالية من خلال ميراث لم يكن على علم به، وهو عبارة عن ارض شاسعة تركها له أبوه المتوفى في طريق المطار، واستلم ثمنها وانتقل للسكن من جبل الجوفة بأحيائه الفقيرة الى السكن في عبدون ومناطق الأغنياء في العاصمة عمان، ليتخلى عن فكره ومبادئه ورفاقه وأبناء حيّه، متخذا صحبة جديدة وعلاقات جديدة، حتى أنه تحالف مع الشيخ الجنزير الذي أوصله ليكون وزيرا....وكأني بجبران وقد أصبح الوجه الآخر للشيخ الجنزير وإن بطريقة مخففة...قد تتناسب وقوة اصحاب هذه المبادئ في المجتمع ومدى تأثيرها عليه.
وسندس تلك المرأة الشبقة مثال صارخ للفتيات اللواتي تضطرهن الظروف الى الزواج من رجال يكبروهن بعشرات السنين، فيصبح همّهن إرواء شبقهن الجنسي مع غيرهم، فقد وجدت ضالتها بابن زوجها"عزمي الوجيه"عاشت ظروف حرمان وقسوة، وعندما تيسرت أمورها المادية بإغداق الأموال عليها من قبل عشيقها عزمي، فقد عاشت حياتها بالطول والعرض متناسية ماضيها والبيئة التي عاشت فيها....وتخلت عن انسانيتها عندما أحرقت جثة زوجها الثاني انتقاما منه لأنه تزوج عليها مع معاناته من الضعف الجنسي...أو هو انتقام منه لأنه كان يعلم بعلاقاتها مع عزمي وليّ نعمته ويسكت على ذلك.
وبكر الطايل هو نموذج للشباب الضائع، وضحية من ضحايا الشيخ الجنزير الذي علمه بعض الأمور الدينية بطريقة مشوهة، وغرس في ذهنه الكسل والتواكل حتى أنه لم يستطع توفير الطعام لأسرته، وشخصيته معدومة تماما، بحيث أنه لم يتورع عن العمل سائقا يوصل المومسات وبائعات الهوى وزبائنهن من النوادي الليلية مقابل المادة، وكأنه لم يستفد شيئا من علومه الدينية على يدي الشيخ المارق عبد الرحمن الجنزير، ووصل به الأمر أن يحاول اغتيال زميله عزمي الوجيه باطلاق الرصاص عليه بتحريض غير مباشر من شيخه الجنزير.
أما عزمي الوجيه وهو الشخص الوحيد في الرواية الذي لم يتحدث عن نفسه، بل الآخرون هم من تحدثوا عنه، وهو ذكي تعلم على يدي الشيخ الجنزير، وكان مقربا منه، وكان اكثر تلاميذ الشيخ نباهة وحنكة، اطلع على ألاعيب الشيخ، وابتعد عنه ليكون له عالمه الخاص، على طريقة الشيخ، لكن بدهاء وحنكة أكثر، فأصبح رجل أعمال ناجح، ورجل اقتصاد يشار اليه بالبنان، لم يعد للحرام مكانة في تصرفاته ومسلكياته، وكل شيء مباح له، فأقام علاقات جنسية مع" سندس" بعد طلاقها من أبيه، وابتعد عن أبيه وبنى عالمه المالي والماجن الخاص به، لكنه عاد وقدم لأبيه مبالغ مالية كبيرة، ورعاية طبية، خصوصا بعد أن علم من سندس أنه ليس ابنه، وأن الأب كان عاقرا طيلة حياته، وكأني بالكاتب هنا يريد أن يثبت أن الأب هو من يربي، وليس الأب البيولوجي فقط، ليمضي بقية حياته مطاردا من الأجهزة الأمنية بعد ثبوت عمله في التهريب، بما في ذلك تهريب المخدرات، وليتبين في النهاية أنه من صلب الشيخ الجنزير وليس ابن حامد الوجيه، وكأن الانحراف واللصوصية قضية وراثية.
جليلة ورابعة شخصيتان ثانويتان، عاشت جليلة زوجة حامد الوجيه حياة بسيطة، وهي والدة عزمي، وشقيقة جبران، ولم تقبل استلام نصيبها من ارث والدها، ويبدو لأنها لا تريد توريثه لابنها عزمي لعلمها أنه ابن حرام...كانت مريضة نفسيا، وتؤمن بأن جنيّا يركبها، أو هذا ما غرسه الشيخ الجنزير في ذهنها،عاشت بهدوء وماتت بهدوء ايضا.
أما رابعة زوجة جبران فهي امرأة بسيطة، فجعت بغنى زوجها، وتنكرت لماضي الفقر الذي عاشته، لم تقبل دخول عزمي ابن جليلة لبيتها دون ابداء الأسباب، لتظهر قلادة جليلة الذهبية الثمينة معها، والتي يظهر أنها أخذتها مقابل سكوتها عندما اطلعت على العلاقة الحرام التي ربطت جليلة بالشيخ الجنزير، والتي كان ثمرتها عزمي، وهذا ما يفسر رفضها له في بيتها كونه ابن حرام...وتنطبق عليها المقولة الشعبية""أعوذ بالله من الجائع اذا شبع ومن الغني اذا افتقر"
وحامد الوجيه هو شخصية ثانوية بسيطة وفقيرة، عاش فقيرا وزوجا مخدوعا، ومات فقيرا.
الزمان والمكان:
تدور احداث الرواية في العاصمة الأردنية عمان، وتبدأ من جبل الجوفة الذي يمثل نموذجا لأحياء الفقر، لتنطلق بعدها الى الأحياء الراقية التي يسكنها الأثرياء مثل عبدون والصويفية وتلاع العلي، ويمتد زمن الرواية على اربعة عقود، يظهر ذلك من خلال اعتقال جبران في سجن الجفر في بداية السبعينات، وحرب اكتوبر وزيارة السادات لاسرائيل، والغزو الاسرائيلي للبنان في حزيران 1982، واتفاقات أوسلو في العام 1993 وما تلاها...ويبدو أن الكاتب الذي أخذت روايته بعدا اجتماعيا أورد هذه التواريخ ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية، في اشارة موفقة منه الى التلاحم بين الشعبين الفلسطيني والأردني، والى أن القضية الفلسطينية تشكل همّا دائما للشعب الأردني في كل الأحوال وكل الظروف.
البعد السياسي:
يتوقف القارئ مليا أمام شخصية الشيخ عبد الرحمن الجنزير، الذي يعطي نموذجا للتيارات التي تتستر بالدين لتحقيق مآربها الشخصية، وهي تهاجم الحكومة والنظام متلفعة برداء الدين الزائف والخاطئ في فهم الدين، وتستطيع تضليل الرعاع، لكنها عندما تحقق مصالحها الشخصية بطرق غير شريفة، فانها تصبح جزءا من الحكومة وتدافع عنها وعن سياساتها، في حين كانت تهاجمها سابقا، وعلى النقيض من الشيخ الجنزير يقف جبران، صاحب الفكر والمبادئ الماركسية، والذي ما لبث أن تخلى عنها بعد أن اغتنى، حتى أنه اصبح وزيرا مشاركا في صنع القرار، وما لم يقله الكاتب، ولم يرد في الرواية لكنه يُقرأ فيما بين السطور هو الدعوة لعامة الناس بعدم تصديق مدعي التدين، لأنهم يقولون شيئا، ويمارسون الأسوأ سرا، وهم لا يبحثون الا عن مصالحهم الشخصية، والأمر لا يختلف بالنسبة للتيارات العلمانية التي تدعي الطليعية والدفاع عن حقوق الكادحين والمسحوقين، وقد ثبت بالتجربة صحة هذه الرؤية الثاقبة.
التوبة:
ويلفت الانتباه أن الشيخ الجنزير الذي ارتكب الموبقات أراد أن يختم حياته في الديار الحجازية تائبا متبرئا من ذنوبه وخطاياه، وهذا فهم خاطئ لمفهوم التوبة في الدين.
مثل ما عندك عندي:
وفي رأيي أن روعة هذه الرواية تأتي من واقعيتها، التي لا تنطبق على المجتمع الأردني فقط، بل تتعداه الى المجتمعات والشعوب العربية الأخرى، حتى أنني كنت أتخيل شخوصها موجودة في الأراضي الفلسطينية، وأعرفها كما يعرفها غيري على أرض الواقع، وموجودة في بقية الدول والشعوب العربية...وحتى أن فساد بعض من يدعون التدين ويستلمون مناصب دينية رفيعة، وفساد الوزراء والمستوزرين موجود في ثقافتنا الشعبية عبر التاريخ وفي مختلف العصور والأزمنة.
أمور غير مقنعة:
مع أن أديبنا بنى شخصيات روايته وطورها بشكل مقنع للقارئ الا أنه يصعب الاقتناع بغنى شخص كجبران، فقد سقطت عليه الثروة من أرض في طريق المطار من خلال اقامة مشاريع عليها، ولم يكن له ولا لغيره علم بها، أو أي اثبات على ملكيتها...كما أن حرق سندس لجثمان زوجها واستعانتها بعاملين لتنفيذ ذلك مقابل خمسين دينارا لكل منهما لم يكن مقنعا ايضا، وتطور شخصية سندس في الرواية يشير الى أنها امرأة شهوانية، تدور على ملذاتها، لكنها لا تصل الى جريمة هي أبشع من جريمة القتل....وكذلك اطلالة عزمي في خيمة الجنزير في الديار المقدسة، غير مقنعة ايضا، وأعتقد انها كانت تمثل كابوسا يطارد الشيخ الجنزير، وعندها تصبح مقبولة.
"ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس"
8شباط-فبراير- 2011