السبق يكون من توقيعها دوما، فقد كانت الأولى في مسار تأنيث رئاسة الجامعات المغربية، والأولى، من بين النساء، في دخول أكاديمية المملكة المغربية، هذا السبق، و إن كان قد استغرقها في مهام إدارية جمة، فإنه لم يستطع تغيير انتمائها الأصلي لمدرسة القلق، فما زالت رحمة بورقية رئيسة جامعة الحسن الثاني بالمحمدية، قبلا و بعدا، منشغلة بشجون البحث السوسيولوجي، منتصرة لمداراته و انفتاحاته، و مصرة على التصريح دوما بأنها باحثة سوسيولوجية قبل تكون أن مسؤولة عن التدبير الجامعي.
سجلت بورقية حضورها المعرفي بدءا من سبعينيات القرن الماضي، لما التحقت بكلية آداب الرباط، أستاذة لعلم الاجتماع، تعلم طلبتها كيف يكون البحث و كيف يبنى الموضوع في خارطة السوسيولوجيا، بالارتكان إلى التاريخ و الأنثروبولوجيا و ما تتيحه علوم صديقة و شقيقة أخرى من خيارات درس و تحليل. فلم تكن تميل بالمرة إلى الانغلاق المعرفي، بل كانت داعية باستمرار إلى الانفتاح على التاريخ أساسا، لأهميته في الدرس السوسيولوجي.
الانتماء إلى علم الاجتماع في زمن سبعيني، هو بالضبط انتماء إلى شرط سوسيوسياسي خاص، تتصارع فيه الأفكار و التيارات، و هو ما تعبره عنه "بصراع فكري بين ماركسية ماركس و وظيفية دوركهايم و بنيوية ليفي ستراوس، و ما تولد عن ذلك من أنصار و أفكار، إنها مرحلة كان فيها الانتماء إلى نظرية من النظريات عبارة عن اعتناق شبه ديني و تشبت بمعتقد".
لهذا كان هناك أكثر من سؤال يشغل بال بورقية و يؤثر في صياغة مسارها المعرفي، حول هذا الصراع، حدوده و امتداداته، كانت أكثر انشغالا، و إلى اليوم، بهكذا أسئلة: "كيف الوصول إلى معرفة بدون إيديولوجيا أو تدليس فكري؟ كيف يمكن للمعرفة أن تتحصن لاجتناب متاهات ولوج دروب الإيديولوجيات المعاصرة؟كيف يمكن للباحث اجتناب أحادية التفكير و التنظير؟"
لم يكن أمامها حينئذ سوى الحسم و القطع مع الإيديولوجيا في ترتيب و بناء معرفتها السوسيولوجية، لتركن إلى الحياد و الاشتغال بعيدا عن أية أجندة سياسية، و من غير انصياع أعمى لنظرية/ معتقد ما، فما يهم هو الوصول إلى حبة فهم لما يعتمل في هذا الهنا، و ليس مدى قوة هذا "المعتقد" أو محدودية "غريمه النظري" أو "عدوه الاحتياطي" اعتبارا لمعطى الصراع و التوتر الذي بصم لزمن طويل حال السوسيولوجيا بالمغرب.
فرحمة بورقية لم تكن تطمئن للظاهر من الأشياء الاجتماعية، و إنما تنحو إلى التساؤل عن القواعد الخفية التي تتحكم في سير المجتمع، و بالطبع فهذا الاختيار المنهجي سيجعلها تميل إلى البحث عن آليات إنتاج الثقافة و المعنى منه و إلى الكشف عن القوانين المجتمعية، باعتماد حركة ذهاب و إياب مستمرة بين الفائت و اللاحق.
شرط الانتماء التاريخي و المجالي لمنطقة زمور سيكون دافعا أساسيا للاشتغال على القبيلة في علاقاتها المفترضة مع المخزن، خلال القرن التاسع عشر، لكن و إذا كان شرط الانتماء عاملا مساعدا على تذليل الصعوبات البحثية، فإنه من الممكن أن يتحول إلى عائق معرفي، في حال السقوط في فخ الذاتية، و هذا ما استوجب منها الرفع من مؤشرات الحذر و الاحتراز الإبستيمولوجي، فشرط الانتماء شرط مؤسس و ليس بشرط للفهم و التفسير.
و النتيجة منجز أصيل تكلفت دار الطليعة ببيروت بنشره و توزيعه، تحت مسمى "الدولة و السلطة و المجتمع: دراسة في الثابت و المتحول في علاقة الدولة بالقبائل بالمغرب"، و هو العمل الذي أشرف عليه في مستوى إنجازه الجامعي الدكتور محمد جسوس. كما أنه العمل الذي أعلنت من خلاله رحمة بورقية عن ضرورة الرجوع إلى التاريخ من أجل فهم ما يعتمل في الحاضر، فمغرب القرن العشرين يصير عصيا على الفهم بدون الرجوع إلى مغرب القرن التاسع عشر، و تحديدا إلى ثلاثية "المخزن، القبيلة و الزاوية".
في هذا الكتاب تقول رحمة بورقية متحدثة عن تدبير الانشقاقات الزاوياتية في المخزن الإسماعيلي، و التي يمكن الحديث عن استعادتها آنا مع فارق في الدرجة لا في النوع، في التعاطي مع الأحزاب السياسية، تقول عالمة الاجتماع بأن "الزاوية العيساوية كانت تعتبر من بين الزوايا التي كانت تجمع حولها عددا كبيرا من "خدامها" داخل القبائل و داخل مدينة مكناس، بحيث نجد من بين "خدامها" عبيد البخاري، و من الوسائل التي لجأ إليها المخزن لإضعافها هي تشجيع الزاوية الحمدوشية التي تشبه العيساوية من حيث ممارستها للطريقة و من حيث طبيعة المنتمين إليها، و هكذا أصبحت هاتان الزاويتان تتنافسان داخل منطقة واحدة (مكناس)...كما يلجأ المخزن إلى إضعاف الزاوية بتقسيمها إلى قسمين مع إبعاد قسم عن الآخر أو إحداث فروع لها في مناطق أخرى كما حدث حين جزأ مولاي عبد الرحمان عيساويين إلى جزأين و أصبح عيساوة زاوية مراكش و عيساوة المنحدرين من الهادي بن عيسى بمكناس".
علاقتها بنشر و تداول المعرفة السوسيولوجية قديمة جدا، و بلغات متعددة، فقد نشرت في المجلة المغربية للاقتصاد و الاجتماع المأسوف عليها، و التي كانت بمثابة البيت الرمزي لآل علم الاجتماع، كما كانت تنشر بمجلات محكمة أخرى داخل و خارج الوطن. ستستمر في الانكتاب ضدا على منطق الصمت و قاعدة نشر "بيضة الديك"، لتهدينا سنة 2004 مواقفها التي تفكر في قضايا مجتمع مغربي في محك التحول، و هو الكتاب الذي عانقت فيه تحديات فضاءات السياسي و الخطاب الديني والهوية والمعرفة الاجتماعية ورهانات التحول.
المسار المهني لرحمة بورقية كانت غنيا و مفتوحا على تجارب متنوعة، ففضلا عن التدريس الجامعي و التأطير المباشر لطلبة وحدة علم الاجتماع القروي بكلية آداب الرباط، فقد كانت تنجز دراسات حول الشباب و القيم و المرأة و التحولات الاجتماعية في إطار مجموعة الأبحاث و الدراسات السوسيولوجية برفقة زميليها المختار الهراس و إدريس بنسعيد و آخرين. متوجين جميعا هذا الجهد المشترك بعناوين و تيمات جديدة شكلت السبق أيضا في مسار سوسيولوجيا ما بعد الاستقلال، سواء في مستوى استثمار الأدوات المنهجية أو في جانب دراسة موضوعات متحررة من "إسار" السوسيولوجيا القروية تماما كما هو الأمر بالنسبة لموضوعة القيم.
لن يتوقف الألق عند هذا الحد، بل سيتواصل مع تعيينها عميدة لكلية الآداب و العلوم الإنسانية بالمحمدية، و بعدا كرئيسة لجامعة الحسن الثاني بذات المدينة، ثم اختيارها عضوا بأكاديمية المملكة، خلفا للمرحوم عبد الرحمان الفاسي، و كذا اختيارها قبلا من بين الأعضاء الذين أوكلت لهم مهمة استصدار مدونة الأسرة، و اختيارها بعدا لتنسيق جزء هام من أعمال تقرير الخمسينية.
هذا السفر في رحاب المغرب الرسمي، سيعتبره البعض هجرة مضادة، قدمت على إثرها رحمة بورقية استقالتها من مدرسة القلق، لكنه برأي آخرين هو تأكيد قوي على ارتفاع الطلب الرسمي على السوسيولوجيا، و الحاجة إليها من أجل تدبير و تجاوز كثير من الأعطاب و المآزق. لكن لا أولئك و لا هؤلاء، جميعهم لا يستطيعون نفي الإبداعية و التميز عن مقارباتها و طروحاتها بالأمس كما اليوم.
كما الهراس و بنسعيد تؤمن بورقية بالسوسيولوجيا كمشروع جماعي لا فردي، لهذا كانت تدخل في أعمال جماعية ممهورة بتوقيع العشرات من الباحثين، الذين علمتهم "الحرفة" في "الكريس" و قبلا في وحدة علم الاجتماع القروي، و الذين تخرجوا على يديها من أمثال عبد الغني منديب و محمد دحمان و عائشة التاج و محمد صاديق و عبد الرحيم عنبي و آخرين. لهذا جاءت الكثير من أعمالها مشتركة تهتم بالقيم و الشباب و المرأة و السياسة و الثقافة...
خلال تأطيرها لطلبتها كانت رحمة بورقية تخاطب فيهم المثقف الذي يفترض أن يتولد في أعماقهم داعية إياهم إلى عدم تقديم الاستقالة و الانضباط لثقافة المقاعد الشاغرة، فالمثقف الذي غادر موقعه، يفقد بالتبعية ذات الموقع الذي قد يملأ من قبل السياسي أو داعية التقنية، فالحياة المجتمعية كما الطبيعة تخشى الفراغ. كما كانت تنبه دوما إلى أن المثقف عليه أن يحتاط في علاقته بالسياسة حتى لا يضيع منه دوره، أي مهنته، دون أن يغيب وينعزل عن السياسي من حيث هو تفكير في السياسة ونقد لها وليس ممارسة لها.
إلى ذلك، تظل رحمة بورقية علامة فارقة في مسار سوسيولوجيا ما بعد الاستقلال، سواء باستدعائها للتاريخ و الأنثروبولوجيا لدراسة الوقائع الاجتماعية، أو بقتلها الرمزي للإيديولوجيا أثناء الدرس السوسيولوجي، و كذا، و هذا هو المهم، بطرحها لمقترب جديد في اشتغال مهنيي هذا العلم، و هو بالضبط مقترب الثابت و المتحول، الذي سيؤطر كثيرا من المشاريع الفكرية التي ستعلن انتماءها بعدا إلى قارة علم الاجتماع.
كاتب و باحث سوسيولوجي