ترصد لنا الكاتبة العراقية تجربة سبعينية لازالت تواصل تقعيد تجربتها، من خلال الرهان على استلهام انشغالها الأكاديمي وعمق التصوف في القصيدة، إذ تعتبر الشعر الحقيقي تصوفا. هنا قراءة في أحدث إصداراتها الشعرية.

احتفاء بالمعنى والمبنى المعماري للقصيدة

رشا فاضل

مربكة هي الكتابة عن شعر بشرى البستاني لأن حدود نصها الشعري تبدأ منها وتنتهي إليها ولا يسعنا ونحن نطالع قصائدها إلا أن نشهد هذا التشابك الفاتن بين الكاتب ونصّه.. حتى تتحول القصيدة الى هوية أخرى أكثر صدقا مما تقوله الأوراق الثبوتية.

تتعدى علاقة البستاني بنصها المحدودية فتتجاوزها الى الشمولية منتمية بذلك الى حواء الأصل مانحة إياها صوتها ولغة جديدة ماطرة تسبر تلك الأغوار السحيقة مشرعة بوجه صمتها المعتق نوافذ البوح والرؤى عبر خطابات حوائية لم تخضع لتكرير اللغة والحواس انصياعا  لعقدة الزمان والمكان ، حتى جاءت تشفيرتها الشعرية شكلا لغويا مبهرا نابعا من أصل  اللغة لا يتخذ منه ملاذا للإيهام الذي غالبا ماتحتاجه المرأة / حواء كقناع لغوي للالتفاف حول المعنى ، وفي ذات الوقت تحافظ على قدسية نصها الشعري فتنأى به عن ذلك المواء الشباطي الذي تتصف بها خطابات الجسد وهو يحاول ارتداء شكل القصيدة .

منذ القصيدة الأولى في ديوانها (مخاطبات حواء ) لاتنفك الشاعرة عن رسم خطواتها بموسيقى شعرية تعلو بتعدد المشاهد التي تضع القارئ في مقدمة القصيدة وقلبها ، فثيمة النص تميزت بكثافة اللغة التي هبطت بفطرتها كخامة وكجسد ولد للتو ونزل بعرائه على سطح الورق لذا جاء النص متدفقا بصدقه مبتعدا عن بهرجة اللغة متفلتا من القوالب الضيقة التي باتت تحشر حتى قصيدة النثر ضمن أسوار الإيهام والغموض التي غالبا ما يضيع فيها القارئ محاولا فك تلك النصوص الطلاسمية التي يضيع فيها المعنى وتتشتت الصورة الشعرية  وربما من هنا جاءت إشكالية قصيدة النثر التي خرجت من إطارها الجمالي عند بعض الشعراء لتتحول الى أحجية تسلب القارئ بأنواعه متعة القراءة وتحرمه من استشفاف روح القصيدة ورؤية تجلياتها .

 إن من جملة ما يميز لغة البستاني في هذا الديوان هو ذلك الإيقاع الداخلي للقصيدة فنجدها تضاهي القصيدة الموزونة التي تخاطب الإذن قبل كل شيء وهذا لا ينتقص منها بالتأكيد لكنه يشير الى سبب بقائها عالقة في الذاكرة عكس قصيدة النثر التي تكفلت الشاعرة هنا بتعريفها تعريفا شعريا خالصا بنصوص هذا الديوان فيتمظهر لنا إيقاع القصيدة الداخلي المبني بهندسة درامية سينمائية تضع القارئ أمام شاشة هذا العرض البانورامي الشعري وفي بدايته تماما والبداية هنا تتعدى الاستهلال أو الإضاءة فهي تمثل بداية كونية تصور لنا بداية الخليقة وأصل التكوين تسردها حواء بتجلياتها لتضعنا في مواجهة مبهرة أمام ذلك التناغم الروحي والجسدي مع آدم كفعل إبداعي موصول بجمال الطبيعة وكسر من أسرارها المقدسة  :

فجأة يسقط الثلج في الصالة المقفلة ..

فجأة تتداعى الغيوم ،

تسد النوافذ،

لحن أخير يرف على الشرف المطفأة..

أمد ذراعي َ

امسك ما يتناثر من ندف النغم

الشمس تومض ،

فجأة...

وترف البلابل  

يهدر موج عصي ،

وتهفو الغصون ،

تغادر روحي قضبانها ...

فجأة،

يتداخل بحر بأفق ،

وأرض بنهر

تدور الصحارى،

وأصعد،

أصعدالتلاشي. التلاشي .    

كونشرتو شعري

يتمحور الحدث الشعري حول بؤرة الخلق وبداية التكوين ولابد من التوقف عند عتبة العنوان (مخاطبات حواء) التي تشكل متنا إضافيا يتمركز الديوان حولها بما يحمله من سيميائية تسهم بتشكيل البنية التصويرية للمتن بالإضافة الى تداخلها مع الحدث الشعري لتكون جزءا فاعلا ومؤثرا فيه.

إن مايميز هذا الديوان هو ذلك التواتر الشعري الموسيقي السينمائي الذي يهيمن على الحدث الشعري ويجعله موصولا بذهنية القارئ على اختلاف مستوياته فمن التواصل الموسيقي الى التواتر الشعري المتداخل ضمن الهندسة السردية التشكيلية للنص مؤسسا بذلك خطابه الخاص المتصل بما سبقه وتلاه من النصوص .

تسترعي عملية قراءة هذا الديوان استنهاض جميع أجهزة التلقي الأمر الذي يحدث تلقائيا فهو لايختص بمخاطبة الخيال ومداعبته فقط بل تجاوز محدودية الخطاب والمخاطَب ليسترعي حضور الحواس : البصر/السمع  معا في محاولة لفك الشيفرات المكتنزة داخل النص والتي يأخذ القارئ برؤوس أقلامها ويستدل الدرب الى مجاهلها كلما أوغل في القراءة وأمعن في الإنصات لذلك الإيقاع الداخلي الذي يعلو ويخفت حسب أجواء القصيدة ومقتضياتها الشعرية.

إن المتوالية الشعرية لدى البستاني تستقي استمراريتها من الثيمة التي شكلت أرضية واسعة للحدث الشعري الذي يتحرك ضمن أجوائها برشاقة وحرية دون أن يفقد خاصية التواصل أو يحدث خللا في البنية التكوينية للقصائد ، ولابد من الإشارة هنا الى قدرة الشاعرة في الموازنة بين عناصر النص مهما اختلفت وتنوعت لغة وفكرة ونسيجا.

ولا يمكن إيعاز هذا الأحكام الشعري إذا جاز التعبير للشاعرة البستاني للموهبة فقط فللخلفية الثقافية والأكاديمية والمعرفية بأسرار اللغة كونها اشتغالها الأساسي كناقدة كان سببا في هذا الإحكام لكنه ليس السبب الوحيد إذ لا يمكن مصادرة فطرة الموهبة فلابد من الإشارة الى أن الشاعرة حاولت أن تقف على مسافة معقولة بينها وبين الأكاديمي فيها لتتجرد – كما نفترض - من أدواتها النقدية وتطلق العنان لأجنحة القصيدة لتحط براحتها على الورق ، غير أن القراءة ما بعد الاحتفائية بالديوان تقول عكس ذلك فهندسة القصائد وحتى تسلسلها يشكل قراءة قائمة بحد ذاتها ولنعد قليلا الى العنوان من جديد لما له من تأثير في تشكيل المتن وتكوينه لنجد أن ( مخاطبات حواء) تختزل تجربة حواء منذ الخطيئة الأولى التي ألصقت بها عنوة لتظل تكفّر عن هذه الخطيئة وتصبح ضحيتها حين يمنحها الرجل / آدم تلك الخطيئة ويصبح هو ضحيتها الأخرى ، ليتعزز بذلك مفهوم الشمولية الذي انطلقت منه الشاعرة عائدة بنا الى النواة الأولى ما قبل زمن الخطايا حين كان آدم/ الرجل يجيد الحياة كما البوح ولعل المقطع التالي للقصيدة التي حملت عنوان الديوان يظهر صوته بوضوح وهو يطلقه عبر حنجرة حواء / المرأة  النصف الآخر قبل أن تدب بينهما تفاحة الخطيئة والقطيعة والصمت :

قلتَ ..

مطفأة عيون التفاح

فلا تهزي الشجر

ومحترقة جذور الأغنية،

فلتوقظي الجرح،

قبل أن تنام السكين ...

 

وقلتَ ..

لا تنامي

فقد شبّت النيران في السرر

وهبّ الملائكة مذعورين .

 

وقلت ..

أشعلي النار في البوادي

كي أستطيع

إطفاء الكون المشتعل

بين ذراعيك

يا امرأة تشتعل في حضن الكون ..

 

وقلتَ لي ..

قطا الحزن يقتات عشب الذاكرة

قطا الحزن يغوص في رمل الروح

ثم ينكفئ ببركة دم

فافتحي لروحك روحي..

كي تتسع أروقة الكون ..

 

الجسد بوصفه ملاذا              

يقول باشلار (المكان الرحمي هو أكثر الأماكن أمانا) .

يتعدى الجسد هنا ايروسيته وهو يؤنسن البلاد ويضفي عليها تلك المسحة الإنسانية متخذا فيما بعد موقعها ليكون الوطن البديل في بلد أكلته الحروب ، وليس ثمة أنسب وأكثر ملائمة من المرأة لتتخذ دور الوطن والملاذ والحظن الأخير كنتيجة حتمية لكيان احتضن نواة الحياة في رحمه وأطلقها للوجود ليكون مبتداها ومنتهاها:

يا سيدة ً تصل النور بالنبع

والوجد بالوجع

والغربة بالتمني :

أتسمحين بالموت على ضفافك ..!

يا امرأةً

عتبها ولع

وصمتها جزع ..

ودعوتها امتثال ..

صليني .

 

وقلتَ ..

خذي برد وحشتي ..

في ثنايا الدفء

تحت أغلفة الجسد

فوسط الدوامة

تنفك شراييني

ليغسل قدميك موج الأحمر اللذيذ ..

 

وقلت لي ..

في الليالي الموحشة دثّريني

بورق الجنة

المتساقط من أناملك النبيّة

وهي تمسح بالضوء صدري ...

وقلتَ لي ..

هكذا أريد أن أموت

مدثّراً بالحرير..

وقلت ..

أعيديني إلى السماء

مرةً أخرى

فقد تعبت من الدوار

 

الإيقاع الداخلي وموسيقى النص

قصيدة بعد أخرى تتضح ملامح الارتباط الجوهري للنصوص وتناغم الإيقاع الداخلي لها وهذا لا يتكرر كثيرا إلا ضمن حدود القصيدة الواحدة التي تتوحد فيها الصور والإيقاع كنتيجة حتمية للوحدة الافتراضية للنص ، ومما يحسب لبشرى البستاني في هذا الديوان هو حفاظها على هذا الترابط دون أن تقع في رتابة التكرار وانحسار المعنى والصور الشعرية وقد جاء الإيقاع الداخلي للقصائد مشفوعا بإيقاعها الخارجي وموائما له دلاليا وبنويا وليس كأداة  جمالية متجردة المعنى بل في صميم العمل الشعري ،  كما أن القافية التي ظهرت في بعض القصائد لا تقتصر مهمتها على الحفاظ على النسق العام للقصائد كضابط موسيقي ينتقص من قوة أداء القصيدة وفاعليتها بل جاء متفاعلا معها ومتضامنا مع المعنى ومكملا له  :

بين الغوايات وبين الوتر المقطوع ..

تنكفيء الدموع

وتنهض الرعشة من مكمنها

عيناك إذ تأخذني بلوعة التفاح

أموج في رذاذ أول الصباح ..

تشتعل الصبوة من جذورها

وتسقط الأقداح ..

أدخل في بهاء عينيك حقول الآس..

يرعبني اشتباك موج البحر بالأفق ..

تغمرني الأقواس بالألق

فأصعد الدوح ،

واستغيث بالجروح

اشهق في متاهة الجمال..

يرهبني الجلال.

تعبّر هذه القراءة السريعة في ديوان ( مخاطبات حواء) عن احتفاء شخصي بالمعنى والمبنى المعماري للقصائد الذي جاء على درجة كبيرة من التميز، حاملا معه صوتا مغايرا للبوح الأنثوي كفعل حياة أنتجته الطبيعة واختزلته بين دفتي هذا الديوان الذي ما يزال يفتح ذراعيه لقراءات أبعد مدى وأكثر سبرا لأسراره التي لا يمنحها بسهولة،  وإننا إذ أدلينا بهذه القراءة الاحتفائية لا ندعي الإلمام بكل مقومات النقد الموضوعي فهو ليس من اختصاصنا وما قراءتنا المتواضعة هذه إلا انصياعا لتلك الغواية التي جرّتنا إليها القصائد وهي تحوك حولنا خيوط سحرها التي حاولنا أن نمسك ببعضها لنمنح القارئ والنقاد معا بعض المفاتيح التي يمكن من خلالها الدخول لأجواء حواء وهي تبذل صوتها وحبرها بوحا يتجاوز المحدودية وهو يتبنى حنجرة وطن صادروا صوته وكمّموا أحلامه ليدلي بها على بياض الورق.

 

rasha200020@yahoo.com