يكتب القاص العراقي عن عامل المقهى الذي عاصر أجيالا من المثقفين والسياسيين وتابع تحولاتهم فمنهم من تبوأ السلطة وآخرون قبعوا في السجون. وصارت شخصيته ملهمة لعدد من الكتاب وتعددت صوره في كتاباتهم كأنه على بساطته يكشف عن وجوه متناقضة في المجتمع.

فَـقـاقـيـع الأرجـيـلـة

أحمد غانم عبد الجليل

(كالمعتاد، كنت قد فتحت المقهى وهيأتها لاستقبال الزبائن والشمس بالكاد تمد ضياءً متمطٍ على الشارع قبل ازدحامه بالمارة والسيارات، لم يكن العامل الشاب قد وصل بعد... يا الله كم هو متلكع وغير مبال، عندما كنت في مثل سنه تجدني أستيقظ قبل شقشقة الفجر وإن لم أنم غير ساعتين، يأتي خامل الخطا محمر العينين، يضجرني بكثرة تثاؤبه، للأسف لم أعد استطيع وضع رأسه تحت حنفية الماء البارد حتى يستغيث ويحلف لي إنه قد استفاق تماما... في الحقيقة لم أستعجل وصوله في ذلك اليوم بالذات، هه... يوم تسليم هويتي التي لا أعرف لها بديلا، أوَدع مع أنفاس أرجيلة الصباح التي لم أدرك لها مذاقا هدوء المكان غير الاعتيادي، أشرب الشاي الحار وأنا أتربع على الأريكة الخشبية أمام باب المقهى وكاني مالكها، بل مالك الشارع كله، حتى لو أصبت بالعمى أستطيع السير بكامل حريتي في هذا الشارع العريض، أحفظ موقع كل محل ومقهى آخر فيه، لمن كان قبل خمسين عاما وأكثر، وكم مرة انتقلت ملكيته حتى وصل إلى صاحبه الحالي... كم قدح شاي صببت خلال تلك الأعوام وكم أرجيلة عمَرت بهاتين اليدين الغليظتين، قبل إصابتهما بهذه الرعشة شبه الدائمة، وأنا أكاد أتقافز بين الأرائك والمناضد لتقديم الطلبات، الكل يستغرب من خفة حركتي رغم ضخامة جسمي الذي كان قادرا على احتواء أي شجار ممكن أن يحصل بسبب لعبة دومينو أو طاولة أو نقاش، خاصة ذلك النوع من النقاشات الغريبة بين الشباب المثقفين، نقاشات مبهمة الكلمات في أغلبها، كانت تدور بين طرفين، فصرت أحفظ بعضها في شيءٍ من النشوة بقابليتي على سرعة الفهم رغم عدم تعلمي القراءة والكتابة، حاول بعض أولئك تعليمي أحرف الهجاء وفي ذات الوقت محادثتي عن أفكارهم وما يتمنوه لي ولأمثالي من الفقراء المهمشين، تلك كانت من الكلمات التي فرحت بتعلم معناها، وهناك كلمة أخرى فرحت بها كثيرا... ((البلالوتارية)) رغم سخرية البعض مني عند نطقها وكأنها كلمة لا تليق إلا بمدمني القراءة، ولكني بصراحة فضَلت الكف عن تعلم تجميع الحروف ضمن كلمات ثم جمل، ونسيت كيفية كتابة جل ما تعلمته منها، بعد أن تلاحقت مداهمات المقهى من قبل رجال الأمن، تقبض مرة على جماعة مارِكَس، وكنت أظنه أحد رفاقهم المختفين في أحد الأزقة القريبة، ومرة على جماعة حزب البعث والقوميين والناصريين، وأحيانا على الكل في آنٍ واحد، بعضهم لا يظهر إلا بعد أشهر بوجوه عابسة وأخلاقٍ نزقة، أحتملها بابتسامة ودودة تحنو على جراحهم، الظاهر والمستتر منها، إلا أني ذات يوم كدت أضرب أحدهم، لو لا تدخل رفاقه، بعد خروج والده من المقهى ممتقع الوجه، ملَ من ترجي ولده العودة إلى البيت والانتباه إلى دراسته، انتفض عليه وصرخ فيه أمام الجميع، لم أصدق أن ذلك المتبجح الذي صرت أتجاهل نداءاته وأرسل له أصغر عامل في المقهى، مصوبا إليه نظرات صقرية من التي كانت تزرع الرهبة في أعتى الشقاوات قبل بدء العراك قد صار وزيرا ذا سطوة تجفل الأبدان بعد أقل من عقدين، حين تسَلم حزبه السلطة، رغم إني سمعت ذات رفاقه يتوعدون بقتله بمجرد ظهوره إثر اكتشافهم أمر التقارير الذي كان يسَلمها للسلطة عن تحركاتهم، وهج إسمه بقوة مع اختفاء أسماء غالبيتهم بالتدريج، وكنت كلما أسأل عن أي إسم من هؤلاء لا ألقى إجابة غير صمت متوتر كأني ألقي بتهمة مشينة، السكوت عنها أسلم السبل للنجاة، تأسفت لأجلهم كثيرا ودمعت عيناي كلما سمعت نبأ سجن أو إعدام أي ممن كان يجمعنا مزاح تزعق قهقهاته في الآذان أو أقدم له الشاي على حسابي أو من يهبني إكرامية سخية، حتى هو حزنت عليه عندما علمت بإصدار حكم السجن عليه مدى الحياة بقدر الرعب الذي كان يسري القشعريرة في جسدي كلما جاءني هاجس تذكره لمعاملتي له... أما كان الأفضل أن تسمع كلام أبيك يا ولدي؟... لعن الله السياسة التي فرقتهم وجعلت أحدهم يود مضغ لحم الآخر بعد تلك الصحبة الجميلة التي كانت تجمعهم قبل أن ينضموا إلى أحزاب والأحزاب تولد أحزابا وتكتلات، لا أدري كم خبأت منهم في الغرف المهجورة فوق والتي كانت تعج بالنزلاء الذين لا يبيتون فيها إلا ليلة أو ليلتين قبل أن يتحول الخان إلى مقهى، المضحك إني اضطررت ذات يوم إلى تخبئة أكثر من فريق، كانوا كالفئران المذعورين، وبدورهم اضطروا إلى مساعدة بعضهم بعضا بعيدا عن ثرثراتهم التي توجع الرأس، شعرت عندئذٍ إني مثل أب استطاع لم شمل أولاده المتفرقين في دروب الحياة والمآلفة بين قلوبهم، ولكن مع الأسف، ما أن خرجوا من وكري حتى عدت أسمع عن نزاعاتهم وتراشقهم الاتهامات الحمقاء، أحدهم كان من المشاركين في رشق سيارة عبد الكريم قاسم بوابلٍ من الرصاص، رأيته بأم عيني وتأكدت من ملامحه وأنا أقف عند باب المقهى، قريبا مما أجلس، لم أره أو أسمع عنه بعد ذلك أبدا... يا إلهي، كم شهد هذا الشارع من مطاردات وصدامات وحمامات دم، مرور دبابات وأرتال عسكرية، حتى في الشهر الكريم عندما حاصروا مقر وزارة الدفاع القديم، القريب من هنا، وما أن هدأت الوضعية بعض الشيء صرت أسابق الجيش في الخفاء إلى لملمة المسدسات والرشاشات الملقية هنا وهناك على الأرصفة ورؤوس الأزقة لأخبئها ثم أبيعها إلى تاجر كنت أعرفه، ولمَ لا أستفيد أنا أيضا من كل ذلك العبث لأنفق على أولادي و... زكية، زكية ورائحتها دوما زكية، لا أدري أي عطرٍ كانت تضع تلك الملعونة لتسحرني منذ أول دخولي عليها، فأتجمر كجمر الأراجيل التي لا تسكن قرقراتها أبدا، المحتالة، فجأة تركت رفيقاتها اللواتي كن يتمنينَ أن أمضي ليلة عند كل واحدة منهن ولو بنصف الأجر واختفت هي الأخرى حتى عرفت أنها رافقت رجلا مهما في الدولة في عهدٍ لم يفلت من الانقلابين، ربما سُجن أو أُعدِم ولكنها لم تظهر أبدا، لعلها رافقت رتبةً جديدة، أو إنها صارت من سيدات الأعمال، وكلها أعمال هههه... أكيد إنها الآن، لو كانت على قيد الحياة، قد نستني تماما، ففي النهاية لست أكثر من فقاعة من هذه الفقاقيع المتصاعدة داخل زجاجة الأرجيلة في حياة الجميع، حتى الكُتاب الذين كانوا يضاحكوني وهم يخبروني إن شخصيتي كانت من ضمن شخصيات أعمالهم التي لم ولن أقرأها أبدا، العديد من قرائهم كانوا يحدثوني عنها وأيضا ذلك الشبه الشديد حينا والبعيد حينا آخر في الشكل وتفاصيل الجسد الضخم، خاصة شاربي الكث وطرفية المرفوعين، يصنعون بي ما يحلو لهم، وطني، سياسي بالفطرة، حكيم عصري بسخريتي المتواصلة من كل شيء، حلال مشاكل البطل، متجهم مخيف حاد النظرات تكشف طيبته ووداعة قلبه دمعة طفل جائع تذكره بما يود نسيانه، ماكر خبيث، متطفل يستنزف من المال والأخبار ما يستطيع، صياد فرص متسلق، أو حتى قوّاد خبير في بيوت الدعارة، وأظن أن الجميع كان يتساءل أي الصفات كانت الأقرب لي من أولئك الرجال المرسومين بالكلمات على الورق، رغم كل شيء كنت أحس بالانتشاء لأني مصدر كل تلك الشخصيات أيا كانت أسماؤهم، بل كنت أتصور أن صحفيين ممن يرتادون المقهى سوف يجرون معي عدة حوارت، يسألوني عن أمور كثيرة أتحير في الإجابة عنها، وعن علاقتي والذكريات التي تربطني مع هذا الكاتب أوذاك، منهم من رحل إلى خارج البلد ومنهم من رحل إلى خارج الدنيا، ظلوا يجيئون إلى هنا ولكن ليس بصبحة أصدقاء زمان حيث تطول الجلسات والمسامرات فيما بينهم، الزمن غير من هيآتهم هم أيضا، ذهبت تلك الأناقة التي كانوا يمتازون بها والإشراقة التي كانت تطل من التماعات الأعين، صاروا عكري المزاج، متوتري الأعصاب، قلقين دوما على مصائرهم وأولادهم، ولم يخلفوا لهم شيئا غير كتب مترامية على فرشات بائعي الكتب في شارع المتنبي القريب، مصفرة الأوراق بالتأكيد، كاصفرار وجوههم المكدودة في شتى الأعمال من أجل كسب لقمة العيش، باهتة الأغلفة التي كنت أنجذب لألوان رسومها وأنا أتهجأ عناوينها الغريبة... جلهم تعرضوا للسجن أيضا ولأسباب لا أفقهها، حرية الرأي، زرع البلبلة في العقول، السخرية من مكاسب الثورة، وثوراتنا كثيرة والحمد لله، انتقاد رجال السلطة، الكلام عن المعتقلات وأساليب التعذيب فيها... أقول الحق، كنت أخاف أن يكون شيء من شخصيتي في أحدى تلك الكتابات فينالني من التقدير نفحة، عندئذٍ كنت سأقسم لهم إني جاهل تماما ولا شأن لي بالسياسة والثورات إلا إزاحة صور وتعليق صور أخرى مكانها وتزيين المقهى عند كل مناسبة وطنية، ولله الحمد على كل حال، ولكني أيضا في شطحات الخيال تلك كنت أتصور أن أحد المحققين الذين سيحققون معي سيتذكرني أو أتذكر جلوسه في المقهى وطلبه الشاي المهَيل الذي يعدل المزاج مني، وربما مزحة تمازحناها معا، ولعله أيضا يكون أحد الذين خبأتهم في إحدى الحجر العلوية، أو ممن خبأت منشوراتهم في عب جلبابي لدى رؤيتي اقتراب رجال الأمن من المقهى، فينسى وضعه الجديد ويعود أمامي ذلك الشاب المتوَسم، رغم كل شيء، مستقبلا أجمل للبلاد، كما كنت أسمعهم يقولون ذلك، أو شيئا من هذا القبيل، ولكن أعود وأقول، هيهات أن أبقى في ذاكرة أحد خاصة في مثل تلك المواقف، وعلى رأي أحد رؤسائنا المبجلين ((لو أن أبي وقف أمامي مشتبها بجريمة أوخيانة ما عرفته)).... تصفيق حاد، وما أكثر ما صفقت وهللت في حياتي، فلم أحصل إلا على مصاب فقدان شهيدين، كان أحدهما يعمل معي في المقهى، وعبء ابنة أرملة يحني الظهر أكثر من قهر كهولة وعجز كم تمنيت أن يستبقهما الموت إلي، لا أعرف كيف أتدبر مصاريف أولادها، وقد صرت من مرتادي المقهى، أفضل الجلوس على هذه الأريكة منزويا عن شفقة العيون، أشرب الشاي وأدخن الأرجيلة دون أن أشغل بالي كثيرا بمن يتفضل علي بثمنهما، صاحب المقهى الذي يود هدها في أقرب وقت ممكن أم أحد مرتاديها القدماء، ربما من سنوات تتعدى ربيع عمرك اليافع)...

 نظر إلي بارتياب يجاسر زيغ نظراته كما لو أنه أفاق لتوه من غفوة طويلة هاذية، عدَل من وضع كوفيته المبرقشة ثم ضحك مغمغما في لا مبالاة...

 (دونت كل شيء؟... ومن يعرف؟ لعلك سَطَرت ما شئت عن لساني لأكون شخصية من شخصيات كتاباتك أنت الآخر، تصورها كيفما تريد)...  

استمرت ضحكاته الوهنة، تزاحم تجاعيد وجهه المترهل حتى تحولت إلى زفرات أسى مبحوحة، نهض متكئا على مسند عكازه بيدٍ رخوة، يقبض بمثيلتها على عنق كيس أسود كبير بعد أن دسَ علبة السجائر التي اشتريتها له في جيب ومبلغا من المال جاء به عامل المقهى الشاب دون ذكر إسم باعثه في الجيب الآخر لجلبابه المهلهل...

 ظللت أرقب تمايله لدى عبوره الشارع الزاعق بأبواق السيارات العالية وأصوات الباعة المنادين على بضائعهم الكاسدة ثم انكببت على أوراقي أراجعها في شيء من الوجع، ولما عاودت رفع رأسي كان الزحام قد التهمه تماما...

  

19-11-2010 عمّان