تنبني رواية الروائي المصري على مفارقات حادة يرصدها في أحوال المثقفين العرب سواء في موسكو آو في مصر. ومن خلال الفصول أو المقاطع المكثفة يكشف عن إشكاليات متعددة مازالت ثقافاتنا العربية تواجهها. وتفضح السخرية التي تتخلل الرواية التناقضات الضاربة في كثير من خطابات وممارسات المثقفين.

مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري (رواية)

أشرف الصبّاغ

 

إهداء

إلى روحهما.. هما القويان المتمردان والضعيفان والعاجزان

وإليها هي القوية والعنيدة والمثابرة

وإلى إيزيس وآدم لعلهما يدركان حجم الكارثة المقبلة والأمل المؤجل

 

 

(1)

قال آدم إدريس في تواضع مصطنع:

جلستُ مع فيدل كاسترو ودخنا سيجار "هافانا". تحدثنا عن جيفارا، والثورة، ومهام الاشتراكية الكوبية فى المستقبل.

غمس إصبعه في كأس الفودكا، ثم بلل به سيجارته "الروثمان"، وقال:

-الأكثر دهشة هو لقائي مع كيم إيل سونج..

سألته:

-كم كان عمرك وقتها؟

-لا، لا. مع ابنه. جلسنا بعد افتتاح المؤتمر. وظل الرجل يشرب حتى كاد يتبول على نفسه. وفجأة وجدتُ المترجمة تستغيث بي.

-ماذا حدث؟

-مع الشراب، طار عقل الرجل عندما رآها. فأمر حرسه بدعوتها إلى فراشه. ولما رفضت، بدأ يتحرش بها. فجاءت مهرولة تستنجد بي.

-وماذا فعلت مع رئيس كوريا؟

-طبعا اتخذت الإجراء اللازم وأوقفته عند حده. فهي في النهاية كانت مترجمتي الخاصة.

*     *     *

للخمر قوانين لا يخالفها إلا الجاحد بالنعمة، والناكر للجميل. في رحابها تتكسر حدود الواقع، تتمدد مساحات الخيال، تنهار كل الأطر والحواجز، ويحلق الإنسان في عالم خاص يجب احترامه، بصرف النظر عن أي شيء آخر. أنا أحيانا، وبعد القنينة الثانية أو الثالثة، أحكي عن علاقتي بمديحة كامل وسعاد حسنى، ويسرا. وأحكى بالتفصيل، عن حادثة لقائي بنجيب محفوظ، عندما وجهت إليه نقدا لاذعا، ووافق هو معي. وعندما قلت لأمل دنقل أنه لا يفهم في الشعر. وعلى الرغم من إننا كلنا ولدنا في أواخر الخمسينات أو أوائل الستينات، لم يكن هناك أي حاجز خيالي يعوقنا عن حكى حتى التفاصيل الجنسية مع ممثلات وكاتبات إما ولدن قبلنا بعشرين عاما، أو وافهن الأجل ونحن في الصف الأول الابتدائي.

وكان الضحك يبدأ عندما تفعل الخمر أجمل وأعرق أفاعيلها. عندما يحكى كل منا لقاءاته بجمال عبد الناصر عندما كان يسير متنكرا من أجل الاطمئنان على أحوال الرعية، وحافظ الأسد عندما كان يدرس فى الثانوية، أو أنور السادات عندما كان يحشش فى إحدى غرز شبرا، أو فيروز عندما كان زياد لا يزال يرضع. ثم تأتى مرحلة البطولات، والتضحيات الكبرى سواء التعذيب على أيدى أجهزة الأمن بسبب النشاطات الشيوعية الممنوعة، أو التضحية بالمستقبل فى سبيل الفقراء والطبقة العاملة، والفلاحين أيضا.

في الآونة الأخيرة، ومع انفتاحة موسكو، حصل كل منا على عمل محترم في وسائل الإعلام العربية. ولكن لسوء حظي فقد فصلوني سريعا، بينما صار الأصدقاء وفى لمح البصر نجوما في الصحف والتلفزيونات، بل وصار جزء كبير منهم محللين سياسيين، ومتخصصين فى علم السياسة، والثقافة، والقانون الدولي، واللاهوت. وبالتالي كان لابد أن يصنع كل واحد لنفسه سيرة ذاتية جديدة، مطعمة ببعض بنود النضال ضد الإمبريالية والاستعمار، أو بأنه صحفي، وسياسي بالوراثة، ولكن ظروف النضال السياسي دفعته للعمل نجارا أو بائع أحذية، أو تاجر شنطة من الذين كانوا يملؤون الاتحاد السوفيتي سابقا. ولا مانع أيضا من أن تقول إنك كتبتَ قصصا قصيرة في صغرك، ونشرتها في أكبر المجلات، أو كتبت مقالات في السينما والسياسة، ولكن للأسف كنت لظروف السرية تنشرها باسم مستعار وفى دوريات سرية أيضا.

هنا تكون الخمر هي المنقذ. فما تبدعه عن نفسك فى جلسة الشراب، عليك أن تكرره في الصحو أيضا، لا لكي تؤكده للآخرين، ولكن لكي تصدقه أنت نفسك، ويصبح جزء من تاريخك، ثم تاريخك، ثم أنت نفسك.

*     *     *

اتصل بي محمود الخضري:

وبعد مراوغات قاتلة حول سياسة روسيا الداخلية والخارجية، وأحوال الجاليتين العربية واليهودية، والثورة المخملية في جورجيا، انعطف الحديث فجأة نحو المراسلين العرب في روسيا.

-هل تعرف ماذا قال عنك؟

-مَنْ؟

-صاحبك آدم إدريس.

-لا.

-قال إنك سكير ولا ترفع الكأس من على فمك.

قلتُ في نفسي "يا أولاد القحبة". قلتها للاثنين-لصاحبي الذي يهاتفني، وصاحبي الذي يشرب معي يوميا. وقلت في سماعة الهاتف:

-معقول آدم إدريس يقول عنى ذلك؟!

وكتمتُ ضحكة، لأنني أعرف أن محمود الخضري الذي يحدثني الآن اختلف مؤخرا مع آدم.

قال:

-وقال كلاما آخر يعف لساني عن ذكره.

فقلت مرة أخرى في نفسي "ولكن لماذا يا محمود لم تقل لي هذا الكلام في السابق!". وقلت له:

هل قال لك إنني لوطي؟

-لا. ولكنه قال إن زوجتك تركتك بسبب ضعفك الجنسي. وأن الخمر ومعاشرة العاهرات هما السبب في طردك من الصحيفة التي كنت تعمل بها.

أصابتني حالة غريبة. شعرتُ بتحرر مدهش. وبصوت واثق، هادئ، فيه نبرة غنائية، قلت له:

-ولكن هل تعرف ما قاله عنك؟

-لا.

-قال إنك لوطي، وابن قحبة. وقال إنه "نط" على زوجتك، ولا يزال ينط عليها حتى الآن. وقال أيضا، إنك كذاب، وأفاق، وتعمل مع المباحث.

-هو قال عنى ذلك؟

أعجبني انفعاله، فأضفت:

-أنا شخصيا قلتُ له أكثر من مرة، إنك سافل، ووغد. وبإمكاني تصديق كل ما يقال عنك، و..

انقلبت المكالمة الهاتفية بيني وبين صاحبي "الكاتب الصحفي" المرموق، إلى شتائم وسباب. وقال إنني منافق، وأعيش متطفلا عليهم جميعا. فوضعتُ سماعة الهاتف. وإمعانا فى الدخول فى تلك الحالة التي كنتُ أتمناها منذ زمن طويل. طلبتُ آدم إدريس الذي أعرب على الفور عن ترحابه وسعادته بهذه المكالمة المفاجئة. فقلت:

-تحدثتُ لتوي مع محمود الخضري.

-يا سبحان معكر الأمزجة..

-قال إنك قلتَ عنى كلاما كثيرا سيئا، بل وتطرق الأمر إلى زوجتي السابقة. وبالمناسبة، فقد قال عنك إنك ابن شرموطة، ووغد، وحقير، وأن كل الحكايات التي تحكيها عن لقاءاتك مع فيدل كاسترو وجيفارا وابن خالة كيم إيل سونج وأقاربه، كلها كذب من أجل اكتساب الأهمية، والتعتيم على ماضيك السيئ. وأنا من جانبي قلت له، إنك تصطاد في الماء العكر، وإنك غبي ومتآمر، وأن عمرك عندما قابلتَ كاسترو كان تسع سنوات، وأن جيفارا مات وعمرك أربع سنوات. وقلتُ له أيضا إنك تعمل مع الأمن الروسي، وكل أجهزة الأمن العربية، وليس من المستبعد أن تكون قد بعت نفسك للأمن الوقائي الفلسطيني، والموساد. 

ومن جديد، انقلبت المكالمة بيني وبين صاحبي "المراسل التلفزيوني" الأعظم في العالم إلى شتائم وسباب. وقال لي إنني تافه، وفاشل، والجميع يتحملونني إشفاقا منهم فقط.

فتحتُ الثلاجة. أخرجتُ قنينة الفودكا التي كانت تسيل عرقا. صببتُ حتى امتلأ الكأس. وشربت على الطريقة الروسية. وأدركتُ أن الله قبض من الخراء قبضة، وصنع منها الكثيرين من الصحفيين والكتاب والمثقفين وأعضاء البرلمان والوزراء ورؤساء الدول. وقبض قبضه أخرى، فصنع منها بشرا لا حصر لهم، نساء ورجالا، يسعون في الأرض. وقلتُ في نفسي:

-وما من دابة على الأرض إلا ورزقها على الله.

*     *     *

أعرفُ إنني فشلتُ في كل شيء. في كتابة الشعر، والقصص، والروايات. حصلتُ على شهادتي العليا بالغش والهدايا والتزوير. وإمعانا في غسل يدي من مصيري، اشتغلت مراسلا صحفيا لعدة جرائد، ومحطة تلفزيون، ومجلات كثيرة. وفي النهاية طردوني جميعا، لأنهم اكتشفوا إنني أزور المعلومات، وأنقل الأخبار من وكالات الأنباء. وتركتني زوجتي الروسية بحجة إننا تزوجنا في عهد الاتحاد السوفيتي، وبما أن الظروف قد تغيرت، فأنا أصبحتُ لا أناسبها.

شربتُ كأسا ثانية، وقلتُ:

-يا رب، ماذا أفعل؟

دق جرس الباب. فتحت. كان فاسيلي واقفا بابتسامته الطفولية الرائعة، وزجاجة فودكا في يمينه، وطبق الخيار المخلل في يساره. قال:

-القحبة الكبرى لم تأت إلى البيت منذ الأمس. والكلبة الصغرى تنام في المطبخ مع المخصي، ابن الجيران. وضحك.

صببتُ كأسين محترمين، وقلتُ:

-في صحتك، يا فاسيا.

-في صحتك، يا عزيزي. ولكن معذرة، ما هو النطق الصحيح لاسمك؟

 

(2)

للون الأسود بهجته. فهو لون الغم، والهم، والحزن. وإذا كانت لهذه الأحاسيس بهجة، فهى دوما له، هو المعزول، والمضطهد، والمصاب بالهوس والتوجس، والملاحقة، والحسد.

-ما هذا الصباح الرمادي العفن؟!-قال محمود الخضري في نفسه. وقال أيضا أن الصباحات كلها صارت متشابهة: مليئة بالشرور، ومسيجة بالمؤامرات، وحبلى بمفاجآت نمل الله المنتشر يسعى لقطع الأرزاق والأعناق، واغتصاب ما تبقى من ذكريات.

أزاح الستار الأسود. ظهر العالم من وراء النافذة الزجاجية رماديا فعلا، والسماء مكفهرة، ولا طير فيها. ضغط على الزر الأسود بالجدار البني الداكن. انتشر ضوء خافت، من المصباح الوحيد المعلق في السقف، أقرب إلى العتمة منه إلى النور:

-هه، حتى أنت يا بروتس!!

اتجه في آلية إلى المطبخ. وفى آلية تمددت العضلات وتقلصت، وانفتحت أبواب وعلب وبطرمانات، وتعالى صوت غليان مياه، وتصاعد بخار، ثم تقليب. هنا فقط أصبحت قهوة الصباح السوداء جاهزة.

-ماذا يمكن أن يكون في الصحف اليوم؟ تساءل. وأجاب: مثل الأمس، وأول أمس، وغدا، وبعد غد.

-التلفزيون هو الحل-قال في ملل واضح، ثم استدرك: أذناي ليس لديهما رغبة في سماع أي شيء.

حمل فنجان قهوته الأسود عائدا به إلى الصالة الصغيرة. والصالة الصغيرة هذه عبارة عن مستطيل بعرض ثلاثة أمتار، وبطول يزيد عنها قليلا. مدهونة بلون قاتم عجيب بين الأخضر والبني الفاتح، إلا أن المكتبة الخشبية ذات الأرفف المعلقة كانت تعطى تلك الجدران لونا أسود، وخاصة في الصباح، أو تحت ضوء المصباح الكبير المعلق فى منتصف السقف، والمغطى بطبق معدني كان في السابق ذو لون شفاف عاكس، وصار أسود بفعل انعكاس صورة السجادة السوداء.

دخل إلى الغرفة. أسدل الستارة، وأطفأ المصباح. اتجه نحو نافذة الصالة. فتحها. نظر إلى الشارع، ثم زفر في ضيق:

-صباح مثل الخراء. أين يذهب كل هذا النمل في ذلك الوقت المبكر. هه، يعملون! لا أعتقد.

جر طاولة خشبية صغيرة ذات لون بني قاتم. حمل جهاز التليفون ووضعه عليها. وضع إلى جواره فنجان القهوة. اضطجع على الأريكة الضخمة. مد يده ليضبط المسافة بينه وبين الطاولة بحيث يكون كل شيء في متناولها. عقد ذراعيه على صدره، وبحلق في السقف الملون.

*     *     *

في يوليو 1996 قال لي آدم إدريس إن إبراهيم عفيفي يكرهني. كنتُ أعرف أن إبراهيم يعانى من مشاكل أسرية، ومن بعض المصاعب في العمل. انتهى كل ذلك بانفصاله عن زوجته، وبطرده من عمله. ورغم العلاقة الطيبة التي كانت تربطنا، لم أستطع التغلب على غضبى منه، والاتصال به، أو إبداء أية رغبة في مساعدته أو حتى التعاطف معه فى حالته تلك. وفى فبراير 1998، أكد لي عنتر غضنفر أن إبراهيم تحدث عني بشكل غير لائق بين مجموعة من الأصدقاء. واتهمني بالتزلف، وبأنني على استعداد لتأجير مؤخرتي مفروشة من أجل تحقيق مصالحي. أزعجني هذا الكلام، وقاطعت إبراهيم عفيفي إلى الأبد، حتى إنني رفضت مصافحته عندما مد يده ذات مرة لمصافحتي. ولكن كيف يمكن لشخص تافه مثل هذا العفيفي أن يتحدث عني بهذا الشكل! إنه وغد، وابن..

-آلو.. آلو.. صباح الخير.. إبراهيم موجود؟

هذا الحقير لا يرد على التليفونات. أنا أعرف إنه بالبيت الآن. لا يهم، سأتصرف.

-آلو.. آلو.. صباح الخير.. كيف حالك يا عنتر؟ عندك رقم تليفون إبراهيم عفيفي في الشغل؟

-خير اللهم اجعله خير؟

-هل تذكر ما قلته لي عام 98 عن إبراهيم عفيفي؟

-لا.

-كيف؟ لقد قلت لي إنه تحدث عنى بشكل سيء، وسبني.

-عام 98 هذا كان في القرن الماضي. وأنا شخصيا لا أذكر إنني قلت لك كلاما على لسان إبراهيم.

-لا، قلت لي. وفي يونيو 2003 أكد أحمد جمعة هذا الكلام.

-إذن اتصل بأحمد جمعة ليعطيك رقم تليفونه.

كنتُ أعرف دائما أن عنتر غضنفر كذاب ومنافق. وعموما فقد تأكد الكلام، ولا بد من تأديب هذا العفيفي الحقير.

-آلو.. آلو.. كيفك يا أحمد. على فكرة، أنا في حاجة إلى رقم تليفون إبراهيم عفيفي في الشغل.

-رائع جدا. طلبك جاء في وقته، لأن والدته توفيت في الشهر الماضي.

*     *     *

-آلو.. آلو.. الأستاذ إبراهيم، موجود؟

-أنا إبراهيم.

-هل هذه هي الصداقة، والمودة؟

-من يتحدث؟

-ولا تعرف صوتي أيضا؟

-أنا الذي لم يتحدث عنك بأمر سيئ أبدا، وأنا الذي كنت أصمت دائما عندما يسبونك.

-أرجوك، من يتحدث؟

-الآن فقط، تأكدتُ أنك حقير ووغد. هل نسيت صوتي؟

لم يبق الآن إلا الكلب الآخر، عنتر غضنفر، الذي أنكر ما قاله. يجب أن أمسح به الأرض على حقارته أيضا. ولكن غضنفر له علاقات جيدة، ويمكنه أن ينفعني في بعض الأمور. إذن فليتأجل قليلا حتى يأتي وقته. ولكن يمكنني الآن الاتصال بآدم إدريس ومعرفة أخبار غضنفر منه. وطبعا لا يزال آدم غاضبا من غضنفر بسبب أن الثاني تخلى عنه عندما جاء لأول مرة إلى موسكو من المدينة النائية التي كان يدرس. بل وسخر بشكل عفوي ذات مرة من تجار الأحذية الذين يأتون من المدن النائية والأقاليم بوجوه جديدة ليتحولوا بقدرة قادر إلى نجوم مجتمع، ويتسلقون كل الدرجات الاجتماعية بحنكة قلما تتوافر لابن المدينة الضائع.

معنى ذلك أن آدم إدريس هو الوحيد الذي يمكنه أن يخبرني بكل أحواله السيئة.

*     *     *

يتفتح اللون الأسود قليلا عندما تزول عتمة كوابيس الليل، وتأثير قهوة الصباح السوداء. ويصير الأسودُ أسودَ أقل قتامة بعد دهس هذه الصراصير الحاقدة.

نظر بإمعان في بقايا القهوة السوداء المترسبة في الفنجان. اتجه نحو دورة المياه في بطء، فتح الباب. تركه مفتوحا وجلس. شعر بأن القاعدة البلاستيكية غير مستقرة في مكانها. هز رأسه في ضيق وشعور بالمؤامرة. ارتفع قليلا بمؤخرته. عدَّل القاعدة. جلس. انزلقت القاعدة من مكانها، وتكسرت. انفصلت تماما وكادت بعض أطرافها المدببة تدخل في مؤخرته:

-كل هذا بسببهم، هؤلاء الأوغاد الحاقدين.

مع أول ضرتة تذكر أن عنتر غضنفر الذي كان في يوم من الأيام مجرد نكرة، أصبح اليوم كاتبا معروفا. وعنتر غضنفر، على ما يذكر، كان من ألد أعداء محروس عبدالبديع وآدم إدريس. كان يكرههما لانتهازيتهما وصفاقتهما. وكان عبدالبديع وإدريس يسخران منه ومن كتاباته. وعندما بدأت صوت المياه يقرقع، قال في نفسه:

-ولكننى لم أقرأ شيئا لهذا الغضنفر الذي يتصور أنه أعظم كاتب في العالم.

وضع رأسه تحت سيل المياه المتدفق. تذكر أن غضنفر أهداه يوما مجموعة قصصية كتب عليها، على سبيل الإهداء، "إلى صديقي العزيز، ورفيق طفولتي.. أتمنى أن تعجبك هلوساتي". كانت هذه هي الجملة الوحيدة التي قرأها، وألقى بالمجموعة بعد ذلك في مكان ما.

قضى بعض الوقت في التفتيش والتنقيب. وفجأة تذكر أن مجموعة غضنفر بين الصحف والكتب الموجودة في دورة المياه. وعلى الرغم من رائحة خرائه التي لم تكن قد تبددت بعد، راح يقلب الصحف التي تحول لونها إلى الأصفر والبني إلى أن عثر عليها.

اتجه نحو الأريكة. تمدد بشكل مريح. تعلقت عيناه بالإهداء لفترة طويلة. أخذ يقلب الصفحات في عشوائية.

-ما هذه الهلوسات؟! كلام فارغ.. كيف يمكن كتابة هذا العبط؟! وكيف يمكن نشره؟ لم تعد هناك أية فائدة، لا الأدب، ولا الفن يمكنهما التأثير. حتى الثورة لم تعد مجدية..

سيطر عليه غضب داخلي. شعر بارتفاع الضغط، تبعته حالة غثيان. تلاطمت الأفكار في رأسه: إنه الفساد.. فساد الأنظمة السياسية، والمثقفين، انحطاط الفن والأدب.. لم يعد هناك أي شيء مجدي أو نافع. ولكن كيف يمكن الخروج من هذا المأزق التاريخي! لابد من طرح الأسئلة.. أين الناس؟ وأين المثقف العضوي؟ الله يرحمك يا جرامشي!!

تعالت ضحكة من الشقة المجاورة. قذف بالمجموعة في عصبية:

-لا أدرى لماذا يضحكون؟! هل هناك ما يدعو إلى الضحك في هذا العالم؟! حيوانات!!

وتعالى صوت موسيقى من الأعلى حيث يسكن أحد رسامي الكاريكاتير بإحدى الصحف المتواضعة. انتفض واقفا. وضع رأسه بين كفيه في توتر بالغ:

-وهذا العربيد أيضا يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية! ماذا يمكنه أن يفهم منها؟! إنه حيوان، كل يوم مع فتاة جديدة، وكل يوم يغنى ويرقص ويسكر، بل وأحيانا يقرأ الشعر بصوت عال. حيوان!!

*     *     *

فتح باب الثلاجة في آلية. امتدت يده إلى لفافة. وضع قطعة جبن في رغيف وراح يقضم في تأفف. تذكر أن آدم إدريس كان قد وعده في أغسطس 2002 بمساعدته في العثور على عمل بأجر كبير. قال:

-هذا الحقير وعدني، ولم يتصل بي بعد ذلك. ربما يكون قد أخذ المكان لنفسه. أو أعطاه لعنتر غضنفر. سمعتُ مؤخرا أنهما شوهدا يسيران معا. ولكن هل سأظل أمارس تلك الأعمال الحقيرة التي لا تسمن ولا تغنى من جوع؟! هل سأبقى هكذا أعيش على تلك القروش القليلة؟! كلهم يعملون ويحصلون على الآلاف، ولا أحد منهم يتذكر بأنني في حاجة إلى عمل مثل أعمالهم؟! أوغاد!

اقترب من النافذة. كانت السماء مكفهرة، وغيوم سوداء تعربد على وجهها. نظر إلى الشارع:

-النمل والقرود والبغال والصراصير لا تكف عن الحركة! لا أدرى ماذا سيجنون من ذلك؟! بهائم لا يحسون ولا يفقهون.

تعالت ضحكة نسائية من شقة رسام الكاريكاتير. صاح صوت رجالي:

-يا حبيبي، هي دي الحياة..

رد صوت آخر ببيت شعر، غنجت فتاة ثانية غنجة صاعقة، وتعالت الموسيقى.

لم يكن هناك أي داع للنظر إلى الساعة. فقد انضبطت حواسه في السنوات الأخيرة على حركة الناس في الشارع، وأصوات انفتاح وانغلاق أبواب الشقق المجاورة، وأصوات رنين جرس التليفون عند الجيران، وتصاعد صوت الموسيقى أو الضحكات الصادرة ممن حوله. فى السنوات الأخيرة انضبط إيقاعه على القيل والقال، والاتصالات التليفونية مع الأعداء والمعارف والكارهين والحاقدين، والاستفسارات الدائمة عن أخبار الآخرين. وهذا النشاط الموسيقى الشعرى الغانج فى شقة العربيد ينبئ بأن النهار قد انتهى، وبدأت الحلقة الثانية من اليوم الذى لا يختلف عن سابقه أو تاليه. نسى الأصدقاء والمعارف والزملاء الخونة والمتآمرين. شعر بهدوء لذيذ، وسكينة نادرة. تذكر الطفولة والصبا. فانتقل إلى حالة من الوجد والطمأنينة الروحية. توقف عند فكرة المسرحية التى اقترحها يوما على فريق التمثيل بالجامعة. وتذكر خالد السايح الحقير الذى التقط الفكرة وقام بعمل العرض المسرحى، وأعطاه دورا صغيرا على عكس ما كان يأمل. قال:

-ومع ذلك فقد كان العرض سخيفا وفاشلا. هذا الحقير لم يفهم فكرتى. سرقها وعملها بطريقته. لماذا صفقوا له، وأعطوه جائزة، لا أدرى! حيوانات!!

الفكرة ببساطة كانت تدور حول مجموعة من الأصدقاء يجلسون فى غرفة..

الأول: مساء الخير يا جماعة..

لا أحد يرد (فهم دائما مع بعضهم. يعرفون بعضهم البعض جيدا. إذن لماذا الرد؟ ولماذا أصلا إلقاء التحية؟)

الثاني: أريد تدخين سيجارة. أين علبة السجائر؟

الثالث: إلى جوارك.

الثانى: يااااه.. ليس لدى رغبة فى مد يدى، ثم فتح العلبة، وبعد ذلك إخراج سيجارة، ثم وضعها فى فمى.

الرابع: إذن وفرت علينا عناء إشعالها. بل ووفرت هذا الجهد على نفسك أيضا.

الأول: أود أن أنام.

الثاني: وماذا يعيقك؟

الأول: عيناى مفتوحتان.

الثالث: أفهمك، هذا أمر صعب.

الرابع: إذن أغلق النور، ووفر عناء إغلاق عينيك.

الأول: أنهض من مكانى، وأسير كل هذه المسافة، وأمد يدى، وأضغط الزر! هذا أصعب.

الثانى: ولكن فى تلك الحالة عليك أن تغلق عينيك.

الأول: سأنام بدون إغلاقهما. ولكن المشكلة فى النوم أيضا. لا أريد أن أنام، وأريد أن أنام..

الرابع: أنا أحسدكم.

الجميع: لماذا؟

الرابع: لديكم قدرة عجيبة على الكلام..

الجميع: تعالوا نصمت..

صمت

(انتهى)

*     *     *

كانت فكرة خالد السايح تافهة، لأنه أطلق على العرض اسم "الكسل". بيد أن فكرتى المسرحية كانت بعنوان "الملل". كان يتصور أن الاسم لابد وأن يجسد الفكرة الرئيسية للمسرحية. فانطلق من أنه لا حاجة إلى أى ديكور. ولا حاجة أيضا إلى أثاث أو أدوات أو ملابس. ثم تطورت الفكرة وأصبح العرض لا يحتاج إلى مكان، وبالتالى، أصبح الجمهور غير ضرورى. ولما كانت الفرجة المسرحية تستلزم متفرجين، أصبح على الممثلين أن يتفرجوا على أنفسهم. ولكن المشكلة التى واجهتهم فى ذلك، كيف يمثلون ويتفرجون على أنفسهم فى نفس الوقت! والسؤال الثانى الأصعب، كيف يمكنهم أن يتفرجوا على أنفسهم وهم فى ذات الوقت لا يستطيعون الحركة!

كانت مسرحية فاشلة بكل المقاييس. فالسايح الحقير أهدر كل القيم الدرامية الكلاسيكية، وضرب الحائط بالقوانين الفنية. كان يعتقد أنه بذلك سيلحق بقطار الطليعيين والمجددين. ولكنه تخرج بعد ذلك ولم يسمع أحد عنه شيئا، اللهم بعض الأخبار التافهة عن عروض فى القرى والأقاليم.

 

(3)

لحظات متشردة تداهم القلب

مثلما داهمته-من قبل-السنوات والخيانات،

وأدماه الحب والكره والحسد، وعصف به العشق،

وما ظل به سوى الهوى الذي أضله فأورده مقامات الهالكين!

 

انتهى أحمد جمعة من كتابة السطور السابقة. وضع القلم جانبا. اعتلت وجهه تشنجات غريبة، فأغمض عينيه مستسلما لنوع غريب من الغيبوبة:

لا تسخر أيها الوغد، فليس حولنا أحد. أنا وأنت فقط. إنها مجرد مواجهة عابرة بين صديقين حميمين عاشا معا ما يقرب من الستين عاما، سكرا بالزمن وبالتاريخ وبعبق النساء، داهمتهما السنوات والخيانات، وأدمتهما صفاقات النساء والأصدقاء، ولا يمكن لأحدهما التخلى عن الآخر أو الانفصال عنه. هل تتمرد علىَّ بعد أن أجهزتَ أنت عليها، وقمنا معا بتشييع جنازتها ودَفْنِها منذ عشرات السنين؟ هل تتمرد على صاحبك الذى رافقك، منذ الولادة، إلى أسفل موارد الهالكين؟ هل تريد التخلص منى-هكذا-بسهولة وقد عصف بنا يوما ما العشق الذي لا يرتوي؟

لماذا لا تتكلم يا صاحب كل أعدائى؟ "لا توجد أسرار بعد سن الخمسين"-هكذا قال أحد الكُتَّاب. إذن فتكلم، قل شيئا، ناقشنى. أم إنك ما زلت تؤمن بعدم وجود صداقة بعد سن الثلاثين؟ ولكن هذا خطأ يا صاحبى: خطأ يقارب الضلال، لأن الصديق الحقيقى هو من تكسبه بعد الثلاثين. فهو لا يعرف مَنْ أنت، ولا يعرف كيف تكوَّنت شخصيتك الفردية. لم يلعب معك فى الشارع، ولم يجلس إلى جوارك فى المدرسة. أصدقاء ما قبل الثلاثين هم مجرد عدد، وتحصيل حاصل. يشكلون عبئا نفسيا عليك، ويذكرونك بكل ما يجب أن يُدْفَن من تاريخك. ومع ذلك، لا أستطيع التخلص منك. فأنت قدرى ومصيرى، وكل منا محكوم بالآخر.

لا تضحك يا وغد..لأنك أنت الذى وافقت هذا الكاتب وهمست لى فى حكمة: "فعلا، لا توجد صداقات حقيقية بعد سن الثلاثين". وصَدَّقتُك! لأننى اكتشفتُ فجأة سذاجتى، أدركتُ أن الأفكار لا تغير شيئا، والمبادئ ليست هى الدرع الواقى أمام تقلبات الزمن. ولكنك أنت ما زلت أنت: خبيثا ومراوغا. يمكنك أن تبيعنى بثلاثين فضة كما بعتها فى يوم ما مجاناً.  هل تنوى التوقف، أم تريد التراجع؟ يمكنك أن تتوقف كما يحلو لك، وفى الوقت الذى تريده فهذا من حقك، وفى-ربما-مقدرتك. ولكنك لا تستطيع التراجع أو العودة لأسباب كثيرة!! أهمها، أننى لم أعد أملك غيرك. وإذا توقفت أنت، فسوف تتوقف حياتى، ومن ثم علينا أن نجد حلا وسطا!

طبعا ما أجمل أن تتراجع وتعود سيرتك الأولى حتى أعود معك إلى الأمس البعيد… أعود إلى صور أبى وأمواله ومجده وشرفه. أرى الناس من كل جنس وملة حوله يهنئونه بقصيدته الجديدة، يهتفون باسمه فى مظاهرات الطلاب والعمال! ويحتفون بى وباخوتى فى غيابه-بالسجن.

السجن؟!… ما أعذب هذه الكلمة وما أجمل أن تلفظها مقرونة ببعض الشتائم والأسباب والكلمات الغريبة حتى يبتسم لك الناس ومعارف أبيك ويقولون: ابن الوز عوَّام!

لا تضحك يا وغد..

لقد لعبناها معا. لا يمكننى-طبعا-ألا أشكرك. ولكننى-مع ذلك-رددت لك الجميـل مضاعفا. هل نسيت النساء الجميلات؟ نسيت المصايف والفنادق والنزهات والسفر والسياحة والأكل الشهى والخمر الزمام؟ أم تراك نسيت الشهرة والمجد على صفحات الجرائد والمجلات وشاشـات التلفزيون، وفى الإذاعات؟

لا تغضب يا صاحبى وصاحب كل أعدائى.. الشهرة والمجد كانا لى، ولكنك يا رفيق عمرى كنت دائما صاحبى ونديمى وجزء منى. أنا بنفسى قرأتُ لك ما كانوا-وما زالوا-يكتبونه عنك باعتبارك صاحبى الأقرب الذى أطلق شرارة الإبداع فاشتعلتُ أنا قصصا وقصائد ومقالات ورسائل إذاعية وتلفزيونية.. هل تعتقد أننى لم أكن أفهم حيلتك منذ البداية؟! واهمٌ أنت يا صديقى! لقد أدركتُ أنك تريد التخلص منها، فالروح بالمعنى الأخلاقى مجرد عائق يمكنه أن يدمر أية إمكانية إبداعية، والأمثلة كثيرة. الضمير أيضا، بالمعنى الأخلاقى، مجرد عائق. ولكن، وافقنى يا صديقى، أحيانا نكون فى حاجة إلى الروح والضمير، وكل تلك الأوهام الأخلاقية، من أجل إنجاز فترة من حياتنا بالشكل الذى يعود علينا بنتائج يمكننا أن نستخدمها قاعدة انطلاق للمرحلة التالية. هنا مربط الفرس.

لا تنظر إلىَّ هكذا.. فكل ما أردته هو أن أفعل مثلما كان يفعل أبى، أن أكمل طريقه الثورى من أجل الناس، الشعب، البسطاء والمهمشين، مادام الناس هكذا كانوا-وما زالوا-يقدرونه حق قدره. وبعد ذلك أردتُ فقط أن أكمل ديكورات الشقة الثالثة، وأثبت لزوجتى الثانية أنها خسرت الكثير حينما رحلت بالأولاد ولم تقدرنى حق قدرى. كانت-الملعونة-تظن أنها تعرف كل شئ، كانت ثورية أكثر من اللازم، وكانت تعيش أوهام المجد والضمير والبسطاء. أ تَذْكُر يا صاحبى عندما…

لا تضحك يا وغد… فأنت السبب..

ما ذنبى فى أن أبى-كان-مناضلا من أجل حقوق الفقراء؟ ما ذنبى فى أنهم يقدرونه حق قدره كفنان وشاعر وثورى؟ ألا تذكر عندما كانوا يغلقون فى وجوهنا الأبواب والنوافذ وكل طاقات النور؟ هل تذكر عندما كان أولاد الأفاعى يسدون كل المنافذ أمام لقمة العيش؟ ولكن السنوات قذفت بأحباب أبى ومريديه إلى القمة: قمة الجرائد والتلفزيونات والإذاعات ودور النشر، فما ذنبى أنا فى أنهم بمجرد أن يلمحوا اسم أبى تنفتح الأبواب، وتنفشخ الأفواه عن ابتسامات عريضة. أعرف-كما نبهنى أبى-أن أكثرهم ينافقون، والباقى منهم يلعبون لعبة كان أبى نفسه يتقنها. إذن فلماذا لا أتعامل معهم بنفـس المكيال، والسن بالسن والعين بالعين والقرش بالقرش والبادى أظلم وما ظلمتُ أحدا أو سلبته شيئا؟! إنها النسبية التى علمها لى أبى وعلمتك إياها..

أتضحك مرة أخرى!!

هل تريد أن تقول لى إنك تعرف كل شئ؟ إذن فأنت تدفعنى إلى خيانتك. أمامى الآن كأسان: الأولى بها ويسكى، والثانية من أجلك أنت: بها دواء القلب. يمكننى أن أشرب الويسكى فقط، وعندئذ قل على نفسك يا رحمن يا رحيم. ويمكننى أيضا أن أشرب الثانية بعد الأولى، فنظل صديقين إلى أبد الآبدين، ومهما تداهمنا السنوات واللحظات المتشردة…

لا تضحك لأنها ليست غلطة. الأمر كله يتلخص فى أن الكعكة فى يد اليتيم عجبة. هم يحسدوننى على مجد أبى، يحقدون علىَّ بسبب أشياء كثيرة أنت تعرفها، وهم أيضا يعرفونها: ثلاث شقق فقط-لا يهم تمليك أم بالوراثة. لكننى والحق-لك أنت فقط-يقال ورثتُ واحدة عن أبى واشتريتُ اثنتين بعرق جبينى وجهدى وكدى ليل نهار. وسيارة لزوجتى الثالثة-التى هى معى الآن-، وسيارتى الجديدة: الأولى اشتريتها بحر مالى، والثانية هدية من رجل لا أعرفه-أى والله-قضيتُ له بعض الأشغال بعد أن أعجبته مهارتى الصحفية وأفكارى الوطنية. ليس لدىَّ أكثر من ذلك. وللأمانة-معك أنت فقط-فهناك بعض الأموال فى البنك، وبعض الأسهم والمستندات وبطاقات الائتمان، وربما كريدت كارات أو اثنين. وحتى لا أكون كاذبا-معك فقط-فهناك كم قطعة أرض لا يتعدى مجموع مساحتها أكثر من عشرة أفدنة تزرع كلها فواكه فقط.

لم تكن غلطة-يا صاحبى-فهم يبالغون فى الموضوع. يتصورون أننى خنتُ المبادئ التى عمل من أجلها أبى، وضَيَّعْتُ أنا عمرى فى سبيلها. يظنون أننى خنتُ الفقراء والجماهير العريضة، بل ويشيعون أننى انتهزتُ الضربة الأخيرة للعراق وأذعتُ بعض الرسائل لحساب إذاعة "الحرية".

أرجوك لا تضحك هكذا..

القضية أن العالم قد تغيَّر، وأن الصحافة-كما علمنى أبى-شئ والمبادئ والنضال شئ آخر، والحياة الشخصية وتسليك الأمور شئ ثالث تماما. ومع ذلك فلو كنتُ أعرف أن أمريكا ستضرب العراق، لرفضتُ العمل-وأقسم لك برأس أبى الطاهر-مع هذه الإذاعة. أنظر… ها هو العقد الذى وقعتـه معهم، أنظر… لقد فسخته. نعم، أوافقك على أننى اشتغلتُ معهم بعض الوقت، لكننى اكتشفتُ أنهم لا يحافظون على وعودهم، ولا يحترمون العقد، بل ويخصمون حتى عمولات التحويل من المكافأة. عالم عفنة!

-إذاعة الكويت يا حمادة..

-أنا مشغول، أكتب الآن قصة..

... "ولما انتهت الضربة الأمريكية المفاجئة التى وإن دلت على شئ فإنما تدل على عشق الشعب العراقى لزعيمه "

لا تضحك يا وغد..

المسألة إننى لم أكتب قصصا منذ زمن طويل. اللعنة على تلك الصحافة والمراسلات التى أبعدت الوحى عنى وجعلته يهبط على غيرى من هؤلاء الأولاد المفاعيص أصحاب الحداثة وما بعد الحداثة. هم أيضا أوغاد يقلدون كونديرا وإدوار الخراط  وهذا الإيطالى إيكو ، ويحكون عن أشياء غريبة. الأدهى والأمر أنهم اخترعوا أيضا كتابة البنات. أى بنات وأية عفاريت!! الواحدة منهن تكتب عن، لا تضحك يا عفريت…

-تليفون يا حمادة..

-مَنْ؟

-إذاعة قطر..

-اللعنة على كل تلك الإذاعات..

عشرة أسابيع لا أستطيع إنهاء القصة. إن البداية مباشرة جدا وإنشائية. اللعنة على الصحافة وأيامها السوداء. لا يمكن أن تبدأ قصة قصيرة بهذا الشكل. كيف يكتب هؤلاء المفاعيص؟! ومن أين يأتون بالأفكار، أو بتلك اللغة والكلمات؟ إنهم، أولئك الأوغاد، يستخدمون العامية ويدَّعون أنها لغة مستقلة، يريدون تدمير العروبة واللغة العربية، لديهم توجهات عولمية صهيونية، والعجيب أن البنات أيضا-حتى البنات-يكتبن بشكل…

لا تضحك يا حقير.. هل تريد أن تقول لى إننى لا أستطيع كتابة القصة القصيرة؟ هل تريد أن تدخل فى رأسى أنهم أوهمونى-كرامة لمجد أبى ونضاله-إننى فنان وكاتب ومفكر؟ هل تعتقد أن لقب "الكاتب والأديب" الذى يسبقون به اسمى فى الصحف والمجلات غير صحيح؟ لا تريد ذلك؟.. إذن فماذا تريد يـا خبيث؟

ماذا؟! الأولاد يكتبون بشكل جيد؟ حتى البنات أيضا؟! لا يهم، أعرف أنك تمزح. ولو كنت أشك لحظة فى ذلك لشربت كأس الويسكى هذا وقذفتُ بك إلى الجحيم.

-تليفون يا حبيبى..

-من؟

-إذاعة دبى..

-هذا غير ممكن..

لا تظن يا صاحبى، وصاحب كل أعدائى أننى أكره المرأة أو أحتقرها. معاذ الله. لقد كان أبى دائما-وأنا طبعا من بعده-من أنصار المرأة وحقوقها. أ لا تذكر مغامراتنا مع النساء! ولكن هؤلاء البنات اللعينات يكتبن الشعر والقصة والرواية ويترجمن، بل ويكتبن أيضا رسائل الماجستير والدكتوراه. الغريب أنهن صغيرات السن، بلا تاريخ أو ثقافة. أما أنا… فتاريخ أبى يشهد لى بالموهبة. ليس فقط تاريخ أبى وسمعته، وإنما كل أصحابه من الكتاب المشهورين. لقد بدأتُ الكتابة فى سن السادسة عشرة..

ماذا ؟! ماذا يا خبيث؟! يبدأون الكتابة فى سن السادسة؟

أ لم أقل لك إنك حقير وتصطاد فى الماء العكر! إننى أقصد كتابة الشعر والقصص وليس القراءة والكتابة الأبجدية..

عليك اللعنة، لقد نسيت عما كنتُ أتحدث. آه، نعم تذكرتُ.. عن هؤلاء الأولاد والبنات الجدد الذين يتصورون أنهم يضيفون إلى الأدب العربى، ويَدَّعون أنهم لم يتربوا على نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل والعقاد والفطاحل الكبار، وأفسدوا الأدب العربى والقومية العربية بتلك الأساليب والنزعات التى تمثل غزوا ثقافيا وانحطاطا إمبرياليا لا يخدم سوى العولمة والصهيونية وسوف يزول كله مع الزمن. ولكن ماذا لو كان هذا الزمن قد أدار ظهره؟! ماذا لو كان العالم قد تغيَّر بالفعل؟! يا خبـر أسود!

ماذا؟ لا تضحك يا حقير، كرر، ماذا قلت؟

المسألة ليست فى ذلك، ولكن العالم يتغيَّر. وبالله عليك، ماذا فى إذاعة الحرية؟ وما العيب فى العمل الصحفى الخالص بدون أفكار أو توجهات؟ هل هناك ما يثبت أن المخابرات الأمريكية هى التى تموِّل هذه الإذاعة؟ إنها مجرد شائعات أطلقتها أبواق وسائل الإعلام المغرضة، وربما سربتها المخابرات الأمريكية نفسها من أجل أن توهم العالم أن كل شئ بيدها. صحيح أن الكونجرس الأمريكى قد وافق على مائة مليون دولار لإسقاط النظام العراقى، ولكن ليست هناك وثيقة واحدة تشهد بأنه قد تم تخصيص جزء من هذا المبلغ لإذاعة الحرية. هذه الإذاعة مثل أية إذاعة أجنبية أخرى. وبالطبع، فهناك فرق بينى وبين هؤلاء الذين يتعاملون مع السفارات الأجنبية والمراكز الثقافية. فأنا عملتُ براتب ولمدة غير طويلة: أديتُ عملا مقابل راتب. أما هؤلاء الذين يذهبون إلى تلك السفارات والمراكز الثقافية، عملاء حقيقيون يقبضون الأموال. والأسوأ منهم، هؤلاء الذين يتعاملون مع المؤسسات الأجنبية التى يمولها اليهود، ولا يخفى عليك أن اليهود يمولون: العولمة والمؤسسات المدنية وحقوق الإنسان والتطبيع. ولكن لا عليك يا صاحبى، أ لم يقولوا أن عصر الأيديولوجيات قد انتهى وعفا عليه الزمن؟ ومع ذلك فبعد أن تركت العمل بهذه الإذاعة نظَّمتُ مظاهرة ضخمة أمام السفارة الأمريكية احتجاجا على ضرب الشعب العراقى وحصاره، حتى لا يدَّعى عملاء السفارات والعولمة والمؤتمرات الدولية والمؤسسات المدنية وحقوق الإنسان أننى تنازلتُ عن مبادئى أو خنتُ القضية. وإذا كان عملى بهذه الإذاعة الملعونة خطأ، فاشتراكى فى المظاهرة لا شك خطوة صحيحة، والحسنة دائما تمحو السيئة. 

-حمادة، يا حبيبى، إذاعة مونت كارلو، والخط الثانى عليه الجريدة من لندن..

يبدو أن هذه القصة لن تتم. ربما يكون الوقت غير مناسب. الأفضل أن أضع المسجل الصغير تحت المخدة حتى يمكننى اصطياد الأفكار التى تهبط علىَّ أثناء النوم.

 

(4)

-تصور! هذا الكافر ابن الكافرة لعن دين أبى وانصرف باصقا فى وجهى.. 

قال سعيد عبدالنصير هذه العبارة، وأنا أكاد أتقيأ نصف لتر الفودكا الذى عببته معه عبا من دون أى "مازة" إلا الضحك. الضحك-لأن سعيد عبدالنصير لا يستخدم مثل هذه الألفاظ أبدا. ومن النادر أن تسمع من لسانه العفيف أى سباب أو شتيمة حتى لأسوأ الناس بيننا، ومن ضمنهم أنا ومحروس وغيرنا. والضحك أيضا-لأن سعيد كان يحكى بصورة كاريكاتورية يختلط فيها الحنق بالدهشة بالغيظ، بالتمثيل والتشخيص والبانتوميم. وتصل الحالة إلى ذروتها عندما يندهش سعيد، الذي كان قد فارق الدهشة منذ سنوات طويلة واعتبر أن كل ما يجري في العالم، ومن حوله مجرد كابوس قد ينتهي في زمن ما. هذه الدهشة النادرة كانت مرتبطة بالدرجة الأولى من "خيابة" محروس-على حد وصف سعيد-عندما يتحدث عن مجده في عالم الصحافة، وعن ضباط الحدود في المطارات العربية حينما يتعرفون عليه ويُذَكِّرونه بالعبارات التي يقولها في تقاريره السياسية الهامة.

سعيد عبد النصير هو ضميرنا الحي، كما اصطلحنا ضمنا على تسميته. فهو الوحيد الذى يعمل بالكتابة فقط. يكتب من رأسه، ومن الناس، ومن الحب، ويتحدث فى السياسة برأيه هو وليس بما يسمعه من الآخرين، أو يقرأه فى الصحف. وهو أيضا حالة من الضحك والتنكيت والطاقة الهائلة. وعندما يصيبه الحزن، يلتزم البيت والصمت، ويتخذ الفودكا ملاذا له من السقوط فى الأخطاء البشرية. لكل هذه الأسباب صار "ضميرنا الحى" عالة علىَّ. فهو يكتب قصصه التى لا تنشر، ومقالاته النقدية عن أعمال الشابات والشبان الجدد، والتى غالبا ما تلقى فى سلة القمامة بمجرد مطالعة رؤساء الأقسام الثقافية بالصحف والمجلات العربية للأسماء المكتوب عنها.

أنا شخصيا أمارس كل رذائلى، وحماقاتى، ونفاقى، وتملقى، ولكن عندما أجلس معه أشعر بقوة غريبة تدفعنى إلى التطهر، والإقلاع عن كل تلك الصفات التى أشتهر بها بين أصحابنا. نجلس فتوحدنا الخمر، والحديث عن النساء الجميلات فقط، والقحاب الجميلات بشكل خاص. هو لا يحب كلمة "قحاب" أو "شراميط" كما أحب أنا تسميتهن، ويفضل مصطلح "فراشات الليل" باعتبارها كلمة مهذبة، وتتضمن مجموعة من المعانى الفلسفية والأخلاقية.

سعيد عبد النصير يحكى بلسان ثقيل عما حدث بينه وبين محروس عبد البديع. يحكى بجدية، ولكننى لا أستطيع التوقف عن الضحك. أنا شخصيا أعرف محروس جيدا، وأعرف كل ما يحكيه سعيد عنه. إلا إن الموقف فى حد ذاته يقتل من الضحك. فمحروس فى العهد السوفيتى كان شيوعيا مخلصا. بل كان يمشى دائما مع أعضاء التنظيمات اليسارية فى موسكو على الرغم من عدم اعتراف أى تنظيم بانتماء محروس لعضويته. وعندما انفض السامر، وأخذ الاتحاد السوفيتى الصابونة، أصبح فجأة وطنيا يقدر مواقف الحكومات العربية بإيجابية تبعث على الدهشة. وراح يهاجم إسرائيل هجوما شرسا باعتبارها سبب مصائب العرب المساكين. ثم جاءت حرب الشيشان، فاتخذ جانب "المجاهدين" فى سبيل الدين والحرية ضد الدب الروسى، والنصرانية. كل ذلك كان يجرى إلى جوار خط آخر لم يكن يلحظه إلا القليلين. فقد بدأ محروس عبدالبديع يقلع عن الخمر. وبدأ يعتكف فى شهر رمضان. وراح يرفض أى طعام روسى. ثم طلق التدخين بالثلاثة.

إلى هذا الحد كان من الممكن فهم محروس. ولكنه فجأة بدأ يعلن الجهاد ضدنا. بدأ يثير المشاكل أثناء جلسات الشراب. شرع فى الهجوم على من يأكلون لحم الخنزير. راح يرفض الكلام ليس فقط مع "فراشات الليل"-على حد تعبير صاحبنا سعيد عبدالنصير-، وإنما أيضا مع زميلاته فى العمل، ومعارفه من أيام الدراسة. وبطبيعة الحال مع زميلاتنا وصديقاتنا، لأنه كان يكبرنا بعدة سنوات، أو بالأحرى بجيل كامل. ومع ذلك كان في بداية تعارفه بي يحاول التعرف بأصدقائي والتقرب من جيلنا، وكأنه سيرشح نفسه للانتخابات المقبلة. والغريب أنه في البداية اقترح أن نناديه بدون ألقاب، ولكنه لم يكن يرفض عندما يتوجه إليه أحد بلقب "أستاذ" أو "دكتور".

ووقعت الطامة الكبرى عندما رفض محروس ذات مرة مصافحة جرجس حنا باعتباره نصرانيا كافرا. هنا فز سعيد عبدالنصير كالملسوع وقال له:

-إنت ابن كلب.

كانت لحظة واحدة كافية لتتطاير القنانى والكؤوس والأطباق والملاعق، وقلب الطاولة والطبيخ على الجالسين رجالا ونساء. وقفت دميانة زوجة جرجس فى مواجهة محروس وصلصة الطماطم تغطى جزء من صدغها ورقبتها، وقطعة لحم لا بأس بها قد غاصت فى فتحة صدر فستانها الذى كانا أبيض منذ دقائق معدودة:

-يا أخى عيب عليك. الولد اسكندر ابننا بيحبك، وبيسأل عنك دائما. وميلادة لا تقول عنك إلا "عمى محروس". وفى النهاية نطلع كفرة وأولاد كلب؟!!

أنا شخصيا لم يكن يهمنى فى هذه المعركة سوى القنانى التى تهشمت وسال ماؤها يكوى القلب والروح. ليذهب الجميع إلى الجحيم، ولكن أن تطير نقطة خمر بعيدا عن فمى، فهذا ما لا أحتمله، ولا يحتمله أى ضمير حى. محروس مجنون، وسعيد لا يفارق عالمه وأدبه الجم وتقشفه إلا وقت الضرورة، وفى الحالات القصوى فقط، ودميانة لم تكن تشرب ولا تدخن، وإنما كانت تأتى مع جرجس لتقود هى السيارة تفاديا لتطفل شرطة المرور. وجرجس نفسه ابن صرمة قديمة، لأنه كان من المفروض أن يبصق فى وجه محروس على الفور، أو يناوله لكمة محترمة تهشم فكه الشبيه بكعب الحذاء.

طلبتُ كأسا من الفودكا، وصببتُ عليها بعض بقايا البيرة التى كانت فى زجاجة يتيمة تحت مقعدى، عادة ما أحتفظ بها فى بداية كل جلسة تخوفا من معركة مفاجئة تنتهى بخسائر فادحة. ومع خبرتى المتواضعة فى هذه الأمور، أعرف أن ذلك خطأ كبير. إلا إن شيئا ما داخلى دفعنى لذلك. وبمجرد أن دلقت الكأس فى جوفى، جرت الدماء فى عروقى، واتجهت إلى محروس عبدالبديع قائلا:

-أنت الكافر والحقير. ومن اليوم نرجو ألا تجالسنا أبدا-ثم أشرتُ إليه إشارة فاضحة بيدى.

فنظر إلىَّ ساخرا:

-حتى أنت يا منافق يا سكير! أنت أوسخ واحد فى كل هؤلاء. وإذا كانوا سيدخلون النار بتهمة الكفر، فستدخلها أنت بجبل من التهم أقلها الكفر والزندقة والنميمة والمداهنة. سيصنعون لك نارا خاصة تعادل كل جرائمك فى حق البشرية. هل يمكن أن يتغاضى الله عن أشعارك السخيفة والتافهة والكافرة؟ وهل يمكن أن ينسى أحد شتائمك للجميع بسبب وبدون سبب؟ ومن يعلم، أليس من الممكن أن تكون لوطيا أيضا؟!!

لحظتها حطت علىَّ حالة من الضحك لم أرها من قبل. وكررت له إشارتى الفاضحة. فضج الجميع بالضحك. وتبخر هو مثل ضراط عفوى ساحبا رائحة خلفه.

قال سعيد عبدالنصير:

-كنت أجلس فى حالى، وأمامى قنينة الفودكا والخيار المخلل. قلتُ يا ولد يا سعيد فلتقرأ قليلا. وجلستُ أقرأ قصة قصيرة لفتاة جديدة. وفجأة ..

صب سعيد قدحين، ولم ينتظرنى:

-وفجأة وجدته جالسا أمامى بدون سلام أو كلام. قلتُ له: "السلام عليكم يا مولانا". فلم يرد. طلبتُ كأسا ثانية، وقطعة لحم محترمة. صببتُ له قائلا: "فى صحتك يا مولانا". فقال: "أنت تعرف أننى لا أقرب هذا الكفر". فشربتُ الكأسين تباعا، وقلتُ: "إذن، لماذا أنت هنا يا ابن الشرموطة". فقال: "احترم نفسك يا سعيد، ولا تطيل لسانك مثل السافل ابن الكلب". فسألته: "من؟". فقال: "إبراهيم عفيفى". أى أنت يا محترم.

هنا رفعتُ كأسى ضاحكا، وقلت:

-وماذا بعد؟

-دعوته للأكل. فقال إنه لا يأكل الخنزير. فقلتُ: "هذا ليس خنزيرا، إنه لحم حمار. ولولا إنك جالس الآن أمامى، لشككتُ أنه لحمك". وهنا ثارت ثائرته، ولعن دين أبى وانصرف، ثم أتيت أنت.

*     *     *

أنا شخصيا أكتب شعرا سيئا، وقصص ومقالات أسوأ، بدليل أن كل المجلات ترفض نشر ما أكتبه. ولكننى أقرأ كثيرا بقدر وقت الفراغ الذى أعيشه. أعمل يومين فقط فى الأسبوع. اليوم الأول عندما ألتقط "الزبون" الذى يريد التأشيرة "المضروبة". والثانى عندما أتسلمها من الموظف بعد اقتسام الغنيمة معه. دخلى جيد. أصرف منه على سعيد عبدالنصير وصديقته كاتيا، وصديقتى ماشا. كان لدينا أحلام كثيرة فى الشعر والقصص والنقد والنشر. ولكن حدث وأن فات القطار، وانتهى الأمر. نعيش حياتنا معا، نسكر ونكتب، ونقرأ لبعضنا البعض. وكل منا يعتبر الآخر أعظم شاعر أو ناقد أو روائى فى الوجود. صديقة سعيد تعبده، وصديقتى تقدسنى، ودميانة أعظم امرأة فى العالم بشهادة حتى أخونا جرجس العظيم.

أنا، والعياذ بالله من كلمة أنا، أحب الكلام على الآخرين، ولكن من دون ضرر، إلا ما يسمح به الموقف واستجابة الآخرين لنوع الضرر وحجمه. أى ببساطة أحب النميمة، والقيل والقال. الجميع يعرفون ذلك، ولا يتضايقون. أتصيد الأخبار على الرغم من إننى لا أعمل مع أية جهة أمنية. وطبعا كنتُ أتمنى أن أعمل مع أية جهة، ولكن للأسف، يبدو أن المواصفات المطلوبة لا تتوافر لدى. فعلى رأى جدتى "المنحوس منحوس حتى لو علقوا على طيزه فانوس".

فى الأسبوع الماضى، بعد معركة المجاهد الأكبر، وعقب إعلانه كفر سعيد عبدالنصير، كتبتُ بعض الهلوسات التى يرى سعيد عبدالنصير أنها تحف فنية. قرأتها لماشا ونحن فى الفراش. فبكت، وعانقتنى بشدة. قالت:

-أنا لم أطلب منك أى شئ طوال سنوات عديدة. ولكننى أرجوك ألا ترحل.

-من أين جاءت لكِ هذه الفكرة؟

-كل كلامك فى القصيدة يوحى بذلك.

بكيتُ ولجأتُ إلى صدرها. فاحتوتنى رحما حنونا ودافئا وكونِيّا. راحت تمسح على رأسى، تقبل أذنى ووجهى ورقبتى، وتبكى. وفجأة قالت:

-لو حدث شئ سأموت.

فى تلك اللحظة فقط، أدركتُ أنها أقرب إلىَّ أكثر مما كنتُ أتصور. وفى اليوم التالى، حكيتُ لضميرنا الحى عما حدث. فقرأ القصيدة، ثم نظر إلىَّ نظرة غريبة: باردة ومحايدة وحادة. دمعت عيناه، فأدار وجهه نحو البار طالبا لترا كاملا من الفودكا. وراح يحكى حكاية..

قال إن إحدى الممثلات الشابات أبلغت المخرج العربى الشهير أن مخرجا شابا، ذاع صيته فى السنوات الأخيرة، يريدها فى أحد الأدوار بفيلمه الجديد. فهددها المخرج العجوز المشهور بأنه سيقضى على مستقبلها إذا وافقت. فذهبت الممثلة الشابة إلى أحد زملائها المقربين تستشيره فى الأمر. فقال لها: "يجب أن تنظرى إلى المستقبل. صاحبنا العجوز رغم شهرته وسطوته لم يبق له إلا القليل فى هذه الدنيا، والمستقبل كله أمام هذا المخرج الشاب الموهوب".

شرب سعيد عبدالنصير كأسه كاملة بدون مازة، وصب أخرى:

-تصور، يا إبراهيم يا عفيفى! المخرج الشاب هو الذى مات بعد أسبوعين!

ضحكتُ. فقال:

-لماذا تضحك يا حمار؟

عببتُ كأسى:

-على حال هذه التعيسة، الممثلة المنحوسة..

فضحك سعيد أيضا. ثم انتابتنا نوبة بكاء صامت. فالمخرج الذى مات كان صاحبنا، وكنا نحلم معا أيام الصبا.

فجأة لاح على ذهنى سؤال:

-ولكن لماذا حكيت هذه الحكاية الكئيبة، يا مثقف؟

كرر سعيد نظرته الجريحة الباردة، ولم يتفوه بأى حرف.

*     *     *

جاء صوت كاتيا صاحبته في سماعة الهاتف باكيا ومجروحا:

-سعيد انتحر.

فى الجنازة، همستْ لى ماشا:

-عندما حكيتُ لكاتيا عن قصيدتك، قالت لى: "انتبهى، ربما يرتكب حماقة ما". وعندما حكيتُ لدميانة، قالت: "يمكن الواد اتجنن!".

وراحت تبكى وتنظر إلىَّ، بينما ركزتُ عينيىَّ فى عينيها بنظرة محايدة وباردة ومجروحة. وكان جرجس يبكى كامرأة وهو متشبث بذراعى، وكأنه يخشى أن أطير.

 

(5)

كده برضه يا عم سيد؟ كده تعملها، وأنا لسه سايبك مبقاليش شهرين ونص؟!

كان آخر مشهد رأيته فى القاهرة يوم 6 أغسطس 2003: طاوله حولها ماجد عبيد وصابر زغلول وعم سيد عويس. فى هذا اليوم تحديدا قررنا النوم مبكرا، يعنى فى الثانية عشرة أو الواحدة صباحا لكى نلحق طائرة الصباح المتجهة من القاهرة إلى موسكو. وكانت أمى قد وبختنا كالعادة لأننا نصل إلى البيت فى كل مرة  قبل موعد إقلاع الطائرة بساعتين أو ثلاث ونحن في حالة من السكر المبين، فنحشى الحقيبة بالملابس والهدايا كيفما اتفق وننطلق إلى المطار.

فى هذا اليوم قالت أمى:

-يا واد إنت وهو، إعملوا حسابكم تيجوا بدرى شوية علشان تعرفوا تنامولكوا ساعتين ولا تلاته.

قال يوسف الطويل ضاحكا:

-يا ماما قولى لابنك الكلام ده، هو اللى دايما يأخرنا. يعنى مش عارفه ابنك!

وقال أنيس طايع فى خبث:

-طبعا يا أمى، بإذن الله-ونظر إلىَّ قائلا بعينيه "فى المشمش".

كان سمير الدباغ متغيبا فى هذه المرة، لأنه مشغول بتصوير أول أفلامه الروائية. والسبب الآخر الأكثر وجاهة، هو إنه كان "ضارب بمب" مع يوسف وأنيس. أما منتصر كامل فكان ينتظرنا فى "الجريون". ومنتصر يأتى من السعودية كل عام لمدة شهر وهو متعطش للأصدقاء والسهر والخمر الزمام. فى العام الماضى لم أتمكن من الحضور إلى القاهرة، كما اتفقنا على الهاتف، وتكرر ذلك فى العام الذى قبله. وكل ذلك بسبب ضيق ذات اليد. ولكن ضميرى لم يسمح لى بأن أفوِّت هذا العام-الثالث-على التوالى بدون رؤية منتصر.

جلسنا كالعادة. كعادتنا قبل الوداع.. وداع مصر، والقاهرة، والأصدقاء، والصديقات. تبدأ الجلسة عادة بأربعة: سمير وأنيس ويوسف وأنا. ولكن اليوم، يوم عيد، لأن منتصر عاد إلينا وأصبحنا خمسة كسابق عهدنا منذ عشرات السنين. باختصار كان العدد كاملا. وكنا مستعدين لاستقبال كل أحبائنا وأصدقائنا.

ظهر عم سيد. نهضتُ كعادتى عند استقباله. احتضننى، وقبلنى، وهمس:

-كده برضه ماتتصلش؟ إنت مش قلت إنك حاتتصل؟

-معلش يا عم سيد.

ضحك، وقال:

-ماشى، أنا جاى أقعد معاكم بعد شوية.

وأخذنى مرة ثانية فى حضنه. شعرت بضعف جسده. من المستحيل وصف هذا الشعور بالكلمات. كان جسده واهنا، يهتز بشكل يبعث على الاكتئاب.

*     *     *

كان أول إنسان أراه، وألمسه، وهو يعانى سكرات الموت: جدتى لأبى. سيظل وجهها، وصوت حشرجاتها، وملمس قدميها ويديها-سيظل كل ذلك محفورا فى ذاكرتى إلى أبد الآبدين، وسيبقى هو المعيار المطلق الذى أقيس عليه حدسى لكل الناس، وخاصة فى حالتى الموت والاحتضار. حدث ذلك مع إبراهيم فهمى، ومع جدى لأبى، وأبى.. حدث أيضا مع مجدى حسنين وأسامة خليل.. وحدث مع سيد عبدالخالق.. كانوا جميعا وكأنهم ينتظرون حضورى إلى القاهرة ليأخذوا الإذن! أو كأننى "فأل شؤم". ومع ذلك كانوا يرحلون بعد مغادرتى لهذه "العاهرة"، ربما لأنهم لم يكونوا يريدون تأكيد حكاية "الفأل الشؤم"، أو ربما إشفاقا منهم على حبيب لهم يعيش بعيدا، ولا داعى للإثقال عليه، فهو أيضا له قلب يمكن أن ينفجر فى لحظة.

*     *     *

من بعيد أنظر، عبر الموائد، إلى وجه عمى سيد. أتذكر وجه جدتى.. مستحيل.. مش ممكن! يبتسم عمى سيد. أبادله الابتسام، وقلبى المتوجس يخفق فى قلق. بعد قليل دعانى صابر للجلوس قليلا معهم.

جلستُ. تحدثنا قليلا عن الناس والأوضاع. قال ماجد عبيد:

-على فكرة إلا إيه حكاية بوتين؟

-خير؟

-دا طلب الانضمام لمنظمة المؤتمر الإسلامى فى زيارته لماليزيا..

واصلنا الحديث. ولكن قلبى كان يخفق بحدة. وقال عمى سيد كلمات كثيرة رائعة. وبعد قليل استأذنتُ. عانقتهم جميعا. وكان آخرهم عم سيد الذى قال:

-ما تطولش يا إبراهيم-ارتجفت يده فى يدى-وإبقى اتصل، خلينى أسمع صوتك.. إنت ابن حلال..

عدت إلى الأصدقاء.. إلى أولاد أمى التى لم تلدهم. قررنا المرور، فى طريقنا إلى الحلمية، على شبرا لتناول العشاء سريعا، حتى لا نزعج أم إبراهيم. وتخلف سمير عن توصيلى قاصدا متعمدا، فظل منتصر معه. وكالعادة رجعنا ثلاثتنا إليها على وش الفجر.

قابلتنا بموشحها المعهود. فوضع كل منا رأسه فى عبه، ودخلنا لننام ساعة أو اثنتين قبيل السفر.

*     *     *

لم أنم تقريبا. كان وجهه حاضرا: أسمر، مسحوبا وضعيفا، أنفاسه تتردد فى ضعف شديد، عيناه لا تنظران إلى عالمنا. عيناه بالذات أكدتا لى "الموضوع". لم أبك، لأننى لم أصدق، أو حاولتُ ألا أصدق.

لا أدرى متى، وكيف تعرفت على عم سيد عويس. فجأة وجدتُ نفسى معه فى علاقة حميمية. علاقة من علاقات ولاد البلد. كثيرون كانوا ينادونه بـ "الأستاذ سيد". غير أن كلمة "عم" هذه كانت تليق به أكثر بكثير من كلمة "أستاذ" التى تكشف عن مسافة ما بين الناس. أو بكلمات أدق، هناك بشر تربطك بهم علاقات جيدة وصحية، ومع ذلك تظل تناديهم بـ"الدكتور" و"الأستاذ".. وخلافه.. ولكن هناك نوعية أخرى من الناس لا ينفع معهم سوى كلمة "عم" وبالفم المليان. هكذا كان "عم" سيد عويس. شخصية كونية، رغم الغمز واللمز وجر الشكل من الأصدقاء والمحبين. فماجد عبيد، مثلا، يجر شكله، ولكنه يحبه. يبتسم ماجد قائلا:

-لا، يا سيد، الكلام دا مش صحيح، وإنت غلطان..

-ماشى، يا ماجد. وبعدين؟! يعنى عاوز إيه؟

وينقلب الحديث إلى حوار جدى تتخلله أحيانا الابتسامات، وينتهى بالحب والود. يتركنا عم سيد إلى مجموعة أخرى. يجلس قليلا كما لو كان يقول لنا: اشبعوا منى، يمكن بكره ماتشوفونيش تانى.

خلال العامين الأخيرين، حدث أمر غريب: نأتى من المطار أربعتنا-يوسف وأنيس وسمير وأنا. نجلس لتناول العشاء مع إيقاع موشح أم إبراهيم:

- إسكت يا يوسف. وانت كمان ياواد يا أنيس. سيبوا سمير ياكل، خد حتة اللحمة دى.. ياولاد حرام عليكوا.. إنتوا بتغيروا منه علشان أنا باحبه أكتر منكم، هو الوحيد اللى بيودنى وبيسأل علىَّ، إنما إنتوا ملاعين إنتوا الاتنين.. خد المخلل قدامك يا يوسف، الملح جنبك يا أنيس. إنت بتحب الرز، خد الطبق ده.

ونضحك جميعا. أولاد اختى الصغار يضحكون علينا.. فنحن بالنسبة لهم خالو إبراهيم، وعمو سمير، وعمو يوسف، وعمو أنيس, وبالنسبة لها: العيال الملاعين اللى مابيخلوش بالهم من صحتهم بسبب الخمرة والقطران، وبيسهروا للصبح فى الشوارع رغم تجاوزهم الأربعين بكثير.. هكذا نحن دائما، وهكذا هو موشحها منذ 25 عاما.

وبسرعة ننزل إلى وسط البلد. نجلس كعادتنا. وبقدرة قادر يتجمع الأصدقاء والأحباء، بنات وصبيان كما يقولون. الغريب أن عم سيد كان فى العامين الأخيرين يحضر هذه الجلسة كما لو إنه على موعد، أو بالأحرى كأنه يعرف إننا سنأتى، خاصة وإننا نصل بعد الساعة الثالثة صباحا.

كان موجودا معنا يوم 24 يوليو 2003. جلس معنا حتى الصباح. حكى لنا حكايات رائعة، وتحدثنا في السياسة والنسوان. ودارت أيضا مناقشة حامية حول المغنية اللبنانية نانسي عجرم التى كانت تحيى أولى حفلاتها فى هذا اليوم تحديدا فى القاهرة، وكانت مصر كلها تتفرج على التلفزيون. شوارع مصر لا تخلو من ناسها إلا فى أوقات مباريات كرة القدم، ولكننى خرجت من باب المطار لأجد الشوارع شبه خاليه، قلت ليوسف وأنيس:

-الأهلى والزمالك بيلعبوا؟

رد الاثنان فى نفس واحد:

-لا. دى نانسي عجرم هى اللى بتلعب. بسرعة علشان تسمعها فى راديو العربية.

سمعناها. وسمعنا "أخاصمك آه، أسيبك لا". ولخصنا الموقف السياسي العربى بهذه العبارة التاريخية. وفى البيت أكملنا المشهد برؤية جمال المغنية وغنجها وفتنتها.

فى تلك الليلة غادرنا عم سيد على غير عادته ولكننا اتفقنا على الاتصال.

فى المرة السابقة جلس معنا حتى الصباح، وعدنا معا: أنا وهو ويوسف الطويل إلى بيوتنا. فالطريق واحد.. شارع جسر السويس، ومنه إلى حلمية الزيتون. نزل عم سيد مودعا إيانا. وأوصلنى يوسف إلى شارع عين شمس. جلسنا فى السيارة نتحدث قليلا. ثم عاد يوسف إلى جسر السويس.

فى هذه المرة-يوم الوصول-لم يبق عم سيد ليذهب إلى بيته معنا. وفى هذه المرة أيضا-يوم السفر-لم نجلس طويلا فى الجريون، وتركنا عم سيد جالسا مع الأصدقاء.

*     *     *

هل سنجلس من غيرك فى المرة القادمة؟ يوم الوصول، لك عذرك، فربما تكون متعبا، أو مصابا بنزلة برد عابرة. أو ربما تكون قد انصرفت مبكرا. ولكن ماذا عن يوم السفر؟ هل يمكن أن نجلس من غيرك؟ صعب قوي، يا عم سيد! من سيقول ليوسف:

-ياد يا يوسف، دورك كان حلو، بس لو كنت عملت كده وكيت! فاكر لما كنت بتمثل دور الشاطر حسن!

ومن سيقول لسمير:

-يا سمير شد حيلك شوية، ما ينفعش كده يا بنى.. دا إنت موهوب..

ومن سيقول لمنتصر:

-آه يا حمار! قتلت فى نفسك الشاعر وجريت ورا الصحافة، جاتك خيبة..

ومن سيقول لى:

-إنت ابن حلال يا إبراهيم..

يااااه، يا عم سيد! معقول كده؟!

*     *     *

من سيقول لى تلك العبارات الرائعة: إقرأ واتعب على نفسك.. إنت قلمك حلو.. أنا متابع كتاباتك..

كلهم يقولون أن قصصى سيئة لأننى أكتب عن أصحابى، وأهل الحارة بأسمائهم الحقيقية. يقولون عبارات غريبة عن الفن والخيال والتصور والتناص. وأنا، يا عم سيد، لا أعرف ذلك. أعرف أصحابى وأهل حارتى، وزملائى الذين يعملون معى. هل أخترع ناسا آخرين لأكتب عنهم قصص؟ أنا لا أعرف نانسى عجرم، ولكنها أعجبتنى، فكان من الضرورى أن أقول ذلك فى حكايتى. يقولون نانسى تسئ إلى الفن.. الفن هو فيروز وأم كلثوم.. ووديع الصافى. لكن والله لو قابلت أم كلثوم أو فيروز سأكتب عنهما. وربما أذكر فيما بعد فى قصة إننى سمعت أغنية لنجاة أو ماجدة الرومى أو شادية رغم إننى لا أعرفهن. ماذا يريدون بالضبط، يا عم سيد؟ أنت الوحيد الذى يفهمنى.

لا يهم. نحن الآن نجلس معا. نعرف أنك رحلت، ولكننا لا نريد أن نصدق. شربنا منذ قليل كأس كونياك فى صحتك. وتذكر كل منا تلك الحكاية التى تنسينا الموت. أحداثها جرت فى أول الثمانينات من القرن العشرين. ولا أحد يعرف تفاصيلها بالكامل إلا نحن فقط. هذه الحكاية بالذات، يا عم سيد، تظهر عندما يشتد الحزن، ويتكور الكرب مثل كرة حديد من نار فى الصدر. طوال ربع قرن اصطلحنا-ضمنا-على تذكرها لكى نضحك حتى تدمع أعيننا، وكل منا يدرك أن الآخر يبكى، ويوارى بكاءه.

*     *     *

كنتُ أعرف أن سمير يجرى بروفات مسرحية "شمشون ودليلة" فى قرية سرس الليان بالمنوفية. هكذا جاء توزيع إدارة الثقافة الجماهيرية لخطتها، وكان حظ سمير أن يسافر مع الفرقة إلى سرس الليان.

المسافة من مرسى مطروح إلى القاهرة طويلة. وتطول فى الشتاء أكثر. القطار الحربى يلتهمها فى يوم كامل. إجازتى 6 أيام فقط كل شهرين. يضيع منهما يومان فى المواصلات. وقائد الكتيبة صارم، وإذا تأخر العسكرى ساعة عن موعد "التمام" يدخل سجن الكتيبة لمدة 6 أيام كاملة. إذن فما العمل؟ لا يهم. سأذهب إلى المنوفية بدلا من القاهرة. سأركب القطار من محطة "مصر" بالإسكندرية. وسأستقل قطارا آخر يتجه بى إلى خط سرس الليان. ولكن الوقت أصبح متأخرا. وليل القرى لا تضيئه إلا النجوم، وكسرة من هلال يخفيها الضباب.

قفزت من باب عربة القطار تحت مطر خفيف. لم يكن هناك لا رصيف ولا يحزنون. فقط كان طين ومياه. طوال أكثر من ساعة ظللت ألف وأدور بحثا عن شخص أسأله عن الفرقة المسرحية التى ستمثل فى القرية. وأخيرا قابلت شابا، فأخذنى إلى أحد معارفه، ونصحنا الأخير بالذهاب إلى الأستاذ فتحى المحامى فأرسلنا فتحى إلى الأستاذ محمود مدرس اللغة العربية. بعد ساعتين أو ثلاث قال لنا طفل أنه لمح شبابا وبنات غرباء فى الفيللا. عندئذ تخشبت مفاصل الجميع، وارتفعت أيديهم مشيرة إلى مساحة لا نهائية من الظلام: الفيللا هناك.

تسرب التعب والإرهاق ووجه قائد الكتيبة والصول والأومباشى، وكل الصور المرعبة، ليحل محلها خوف وتوجس وبعض الفرح. اتجهتُ حيثما أشاروا. بعد نصف ساعة من الخوض فى الطين والبرد والظلام لمحت بناء ضخما من طابق واحد. رجحتُ بأنه الـ"الفيللا". درتُ حولها مرتين إلى أن عثرت على الباب. كانت الساعة تقارب الثالثة صباحا. طرقت فى هدوء. لم يرد أحد. طرقت بشدة. لم يرد أحد. صحتُ:

-يا سمير!

ضاع صوتى فى الظلام.

بعد لحظات سمعت خشخشات وهمس خفيف.

-يا سمير!

-مين؟

-أنا إبراهيم.

-إبراهيم مين؟

-عفيفى!

-إبراهيم فى الجيش يا كس أمك.

-ما هو أنا فى أجازة.

-إمشى من هنا، وإلا حاطخك. أنا معايا بندقية وماسكها فى إيدى دلوقت.

-افتح يا سمير يا بن الوسخة. الدنيا برد.

-قولى أمارة.

شخرتُ له شخرة طويلة وسببت له الدين، وقلت:

-افتح يا..

-خلاص ما تكملش.. معانا بنات.

طوال عشر دقائق كاملة دارت حركة غريبة، وهرج ومرج، وأصوات كراكيب وتحريك مقاعد وموائد. وفجأة وجدت جسدا عفيا يسقط علىَّ من أعلى. طرحنى أرضا، ووضع ركبتيه على صدرى، وصرخ:

-إنت مين؟

انفتح الباب، وخرج بشر بأيديهم شباشب ومقشات ونبابيت. صرختُ:

-أنا إبراهيم عفيفى يا جدعان. يا سمير.. يا أنيس.. أنا إبراهيم يا..

وضع سمير، الذى خفف من ضغطه على صدرى، يده فوق فمى، وقال:

-خلاص، خلاص. دا الواد إبراهيم عفيفى بجد.

دخلت. قاموا بإعادة المقاعد والموائد والحقائب إلى مكانها خلف باب الفيللا. قادنى سمير إلى غرفة شبه مظلمة. لمحت شخصا نائما فى وضع غريب: يرتكز على مؤخرته وجذعه مستندا إلى الحائط بينما كانت ركبتاه فى وضع رأسى ويداه معقودتان على صدره. كان يظهر على شكل رقم 7. أشار سمير:

-دا منتصر كامل.

فجأة دخل أنيس طايع، ومعه شخص آخر عرفنى به على إنه الباشمهندس مصطفى مهندس الديكور. ثم دخلت فتاة، قال لى سمير بأنها أمل بطلة العرض، وستلعب دور دليلة.

نهض منتصر. وتعارفنا. أخرج سمير زجاجة براندى، وقال:

-حمد لله ع السلامة يا عسكرى.

رفعت الأنخاب على إيقاع أشعار منتصر. بعد قليل قامت أمل إلى المطبخ. لحق بها مصطفى. نظرتُ إلى سمير، فقال:

-حالة حب سريعة. مصطفى خجول، ويحب يبوس أمال فى المطبخ.

قلتُ:

-هو بس؟..

ضحك منتصر:

-مش النظرية. البنت كويسة وبتحب المسائل. زينا يعنى معندهاش عقد. بس مصطفى فاكرها بتحبه هو بس.

ابتسم أنيس:

-خليه فاكر كده يا عم. إحنا خسرانين حاجه!

*     *     *

هذه الحكاية نتذكرها عندما تتدحرج كرة الحزن الملتهبة من القلب إلى الروح. منتصر فى السعودية، هو الوحيد الذى يجيد حكى القصة حتى نهايتها بخفة ظل مدهشة، بكل تفاصيلها اللاحقة والتى استمرت لسنوات طويلة مليئة بالمواقف والغضب والغيرة والخصام والمقالب، ونجاح أمال فى إقناع كل منا بأنها تحبه هو فقط، وإعطائها لكل منا على حده مواعيد غرامية. حتى أن كل منا صدق فى لحظة ما أنها تخصه وحده. ورحنا نخفى عن بعضنا البعض لقاءاتنا بها إلى أن كبرنا قليلا وتذكرنا الموضوع فى جلسة سكر، وحكى كل منا الحكاية من بدايتها...

...مصطفى اختفى منذ 16 عاما.

يوسف شرب كأس الكونياك وغادرنا لتوه، انطلق إلى بروفاته فى المسرح. أجلس أنا وسمير وأنيس فقط، مثل اليتامى. كل منا يحكى لنفسه، فى صمت، الحكاية من بدايتها، يتوقف عند الموضع الذى يحبه، يضحك. ومن شدة الضحك تدمع أعيننا. وأحيانا نتوقف عند موضع واحد فنسقط من كثرة الضحك، وتنهمر أعيننا بالدموع.

       

(6)

"حياة المقيمين العرب فى روسيا التي تسللت إلى أعماقها-أعماق الحياة-برودة الثلوج المتراكمة فى الغربة، قد لا تكون على هذا النحو من المرح، بل ولم تدفئها ذكريات الوطن، ولا حتى حرارة تجهيز الشاورمة للزبائن، ولكن يبدو أنها ضرورة فرضتها متطلبات الحياة.."..

قطع..

رقص شرقى لروسيات بصدور "أممية" عظيمة.. وأشياء "كونية" أخرى..

مشهد آخر..

مواطن عربى بوجه بشع يجلس واضعا رأسه على قبضة يده..

مشهد بعد الآخر..

مواطن عربى بوجه خرائى يقدم ساندوتش شاورمة معفن لزبون..

كان ذلك كل ما تبقى فى ذاكرتى من التقرير التلفزيونى الذى بثته إحدى القنوات الفضائية لمراسلها من موسكو آدم إدريس.

*    *     *

المواطن إميل حبيبى يدخلك إلى عالم الحكايات الفلسطينية. يغزل ثوبا من التاريخ بالكلمات، يحوله إلى كائن حى، وقبس من نور. يروى الذاكرة، فتنمو وتترعرع وتظل فى حراك دائم وأبدى. منذ فترة وأنا أتابع حكايات بسيطة لمواطن فلسطينى آخر اسمه محمود شقير. أيقنت، من حكاياته الحية المراوغة، أن ما يسمى بفلسطين هى بطن "ولادة" و"ضد "مقولات التاريخ العبيط". وعلى رأى الجزائريين: "...".

*     *     *

موسكو باردة. والشمس مثل "لمبة الثلاجة".

قال الأطباء: لا فودكا بعد اليوم. الكبد أنهى عمره الافتراضى..

موسكو مليئة بالجرذان والانتهازيين والآفاقين والمدعين.. باردة مثل ثلجها. كل الكلام قيل.

تفتح بريدك الإلكترونى فتجد رسالة من المواطن صموئيل شمعون. يرن الهاتف فيأتيك صوت المواطن محمد الألمعى. فتقول له أنت رائع، يا أبو حميد، قرأت عن ندوتك العبقرية، أنا فرحان جدا، إبعث لى بقبس من شعرك يا سيدنا..

تتلاشى موسكو. يتبدد البرد، يتبخر.. فتضحك. يسألك الألمعى: على ما تضحك؟ فتحكى له نكتة صموئيل التى أرسل إليك بها من بعيد.

*     *     *

وتكتشف فى أصحابك الإلكترونيين واللاسلكيين دفئا غريبا. فلا شمس روسيا يمكنها أن تمدك به، ولا الفودكا الرائعة-الممنوعة بأوامر الأطباء-يمكنها أن تسربه إلى مسامك. والخمر هنا، والعياذ بالله لا تحتوى على الكحول، وإنما هى خمر الروح، وثمالة الخارجين على القانون بإرادتهم، والراوندى وأبى العلاء وأبى حيان، وربما أيضا ابن المقفع والحلاج والسهروردى..

*     *     *

ويقولون لك أن هناك سفن فضاء، والناس هبطوا على المريخ والقمر، فتقول: يا الله!! فيأتيك صوت يزلزل الأرض من تحتك: يا كلاب.. ألم أقل لكم؟!

*     *     *

وتنادى: يا مجدى.

وتتذكر فجأة أن مجدى مات منذ سنوات طويلة.

*     *     *

كادر (1)-نوفمبر 1999

-صباح الخير.

-صباح النور.

-مصطفى عبادة موجود لو سمحتِ

-مين معايا يا فندم؟

-إبراهيم عفيفى.

-لا، لسه ماجاش .

-طيب إدينى مجدى حسنين من فضلِك.

-بتتكلم من القاهرة ولا من موسكو؟

-للأسف من موسكو.

-هو انت ماتعرفش؟

-ماعرفش إيه، خير؟!

-مجدى مات الأسبوع اللى فات.

-مجدى حسنين؟

-أيوه.. يوم الحد اللى فات.

-حد مين.. هو إيه الموضوع!

-يوم الحد.. زى انهارده..

-انهارده إيه!

-انهارده الحد.. مات يوم الحد..

-يا نهار اسود.. مش ممكن.. طيب ادينى بهيجة حسين والنبى..

 

كادر (2)-مايو 1996

-إزيك يا أحمد يا حصرى؟

-إزيك يا عم إبراهيم.. حمد لله ع السلامة يا بويا.. جيت إمتى؟

-من يومين.. كيف حالك؟

-كويس.. تعال نطلع فوق علهشان أعرَّفك بواحد عاوز يتعرَّف عليك من زمان.

-مين؟

-مجدى حسنين يا جدع.. سكرتير تحرير أدب ونقد.. واد زى العسل..

صافحتُ مجدى حسنين. وعندما لمحتُ أصابعه المقطوعة تذكرتُ أصابعى المقطوعة أيضا. فى تلك اللحظة شعرتُ أننى أعرفه من زمن طويل: لعلنا التقينا فى ورشة ما، أو مصنع، أو على مقهى، أو فى مظاهرة، أو..

ظللتُ طوال ثلاث سنوات ألتقى مع مجدى كلما نزلتُ إلى القاهرة. كنا نتحدث عن الأولاد والأسرة بشكل عابر تماما، ثم يأتى دور الشغل والكتابة، ثم الحالة الثقافية والمشاكل والردح فى الجرائد والمجلات والتقسيمة الجهنمية التى حقنت المثقفين بجرعة بنج جعلتهم فرقا وأشياعا تتناحر فى الفراغ الخانق. بعد ذلك نتحدث عن العولمة، الكتب الجديدة، الموضوعات الساخنة التى طرحتها المجلات والجرائد، ثم يأتى دور المشروعات القادمة فنظل نحلم بكتابة أشياء كثيرة وعمل تحقيقات وموضوعات هامة..

لم يكن مجدي يخوض فى الشخصي لدرجة أنه قد بدا وكأنه خالٍ تماما من الهموم الشخصية. كان بالفعل لا يتناول أبدا قضايا شخصية، وكأن القضايا العامة هى همه الأساسى والشخصى. أما الحزن فى عينيه فكان هو المصداقية الوحيدة لكل ما يقوله ويحلم به. لم يكن حزنا رومانسيا، أو تشتتا عابرا من هموم ما شخصية أو ضيق مادى أو نفسى، وإنما كان حزنا هادئا نبيلا مترفِّعا، حزنا عميقا يحصى تفاصيل الأشياء ويحللها ويعيد تركيبها.

مجدى لا يزال أكثرنا شبابا، مثل شادى فى أغنية فيروز، مثل خالد عبد المنعم الذى مازلتُ أراه صغيرا ونشيطا وضاحكا ومهموما ورقيقا، مثل عمر نجم بسمرته المصرية الصميمة ووميض عينيه الصافيتين والطاقة الهائلة المنبعثة منه، مثل مجدى الجابرى بهدوئه ورزانته وحيوية عينيه المشغولتين دائما.

مجدى حسنين فى قصائد أصحابه وقصصهم، فى ذاكرة الأصدقاء، وفى كتاباته هو. فى ذاكرتى حينما رأيته لآخر مرة يوم الاثنين 5 أبريل 1999 فى ورشة الزيتون، وهو جالس إلى جوار محمد شعير، يسجل ما يقوله فخري لبيب ومحمد العمرى وطلعت الشايب وشعبان يوسف. سيظل كما هو ضاحكا وحزينا كما رأيته فى مساء ذلك اليوم-بعد ندوة الزيتون-فى "الأمفتريون" بمصر الجديدة، حيث جلسنا جميعا نحتسى البيرة ونتحدث، ثم جاء عم جودة خليفة ليحتضن مجدى ويعابثه قليلا. وبعدما قام محمد العمرى بتوصيلنا إلى مسكنى بحلمية الزيتون أخذتُ ألح على مجدى أن يبقى معى تلك الليلة. ظللتُ ألح عليه حتى أشفق الأصدقاء علىَّ وعليه. أغريته بعشاء وإفطار من يد أم إبراهيم، رحتُ أتوسل إليه بأننى فى حاجة إلى الجلوس معه، ولكنه أقنعنى بأنه لابد وأن يعود إلى أولاده، لابد أن يبيت معهم، لابد أن ينصرف لأن هناك أعمال كثيرة تنتظره. فذهبنا جميعا إلى وسط البلد. تناولنا بعض الساندوتشات، وظللنا نضحك جميعا وعلى نحو غير طبيعى: مجدى ومحمد شعير وسمير الدباغ ويوسف الطويل وأنا. ثم انصرف مع محمد شعير بعد أن احتضنته طويلا وحككتُ رأسى برأسه. وفجأة انقطع الضحك والهزار واستغرق كل منا فى الصمت حتى وصلنا إلى "الجريون".

مات مجدى..

ما أغرب هذه اللغة! لأن مجدى-تبعا لقواعد النحو والصرف-هو الفاعل!

مات مجدى، وكتبت صحيفة "أخبار الأدب": "مجدى حسنين بنية جسدية نحيفة لم تكن ترشحه لأزمة قلبية، وبنية نفسية هادئة لم نكن نعرف ماذا تخفى من آلام". نعم، مجدى كان بنية جسدية نحيفة، بل وضعيفة، وهذا تحديدا ما كان يجعله بكل المقاييس مرشحا للموت بأى شكل. والموت بهذه الحالة على وجه التحديد وفى هذا العمر بالذات يمثِّل النسبة الكبرى لحالات الموت فى العالم الثالث ولا فرق بين البنية النحيفة أو الضخمة. الموت فى العالم الثالث هو من طبيعة الأمور، لأننا تعلمنا ذلك وارتضيناه واسترحنا له، ولم تعد أسبابه تشغلنا كثيرا لا علميا ولا اجتماعيا. أما حكاية البنية النفسية الهادئة التى لم نكن نعرف ما تخفيه من آلام! فهذا ما يثير الضيق قليلا، لأن مجدى حسنين كان دائم الغليان والتفكير والمتابعة والمشاركة، ودائم الحركة مؤجلا الأكل والشرب والراحة..

متى يعود مجدى للأولاد في البيت؟.. ومتى سيلتقى مع محمد شعير ليتحدَّثا فى خفـوت كعادتهما؟ ومتى سألتقيه لنتحدَّث عن الأشياء والتفاصيل، ونضحك وننكت؟ من سيلف على مقاهى وتجمعات المثقفين بضحكته الصافية وعينيه الحزينتين؟ ومن سيلقى التحية على الناس فى الشوارع: على اللى يعرفهم واللى مايعرفهومش؟ يحرقنى الشوق، يا صاحبى: مشتاق إليك، أبحث عنك فى كل الأماكن التى كنت تتواجد فيها فى آن واحد. وأذكرك، أتذكرك، مع أغنية فيروز : أنا عم أكبر ومجدى بعده صغير عم يضحك ع..

*     *     *

منذ عدة أيام جاءني أبي في المنام. كان يقود السيارة، وأنا أجلس إلى جواره. كنتُ فى حالة أشبه بالسكر البيِّن، أو التعب القاتل. وكنتُ أبكى. مسح على رأسى، المستريح على فخذه، بيمينه. شممت رائحة يده ودخان سجائره. لم أستطع رفع رأسى لرؤية وجهه. كنتُ فى حاجة إلى ذلك، وإليه، ولكننى لم أستطع. وفجأة توقفت السيارة عند طريق يقود إلى هاوية ليس لها قرار.

*     *     *

كلهم ماتوا. حتى أسامة خليل وسيد عبدالخالق وعم جودة خليفة.

يأتونك فى المنام، وفى الصحو، وفى السكر. يأتونك بنفس الثياب والملامح والنظرات التى قابلوك بها فى آخر مرة. يعيشون معك دائما. هل أنا ميت؟ هل هم أحياء؟ هل نحن موتى نحيا معا، أم أحياء في الموت؟

ولكن، لماذا موسكو باردة على هذا النحو المرعب؟

موسكو مليئة بـ "الجثث الحية" على رأى بوشكين وجوجول وتولستوى. تجلس معهم، فيذكرونك بالموت والموتى. يأتيك الأموات، أحياء، ليؤنسوا وحدتك، وغربتك، ويبددوا تلك الوحشة الثلجية.

تسير فى شوارع القاهرة..

يا الله.. ما كل هذا العبث! لم يبق شئ على حاله. هل هى سنة الحياة، أم إنك ميت فعلا؟! القاهرة رغم حرارتها وضجيجها وحركة مرورها، عابثة، متجهمة. المبانى مستندة إلى بعضها البعض مثل عجائز فى نزعهن الأخير يتعكزن على بعضهن البعض فى مواجهة اللحظات الأخيرة الحاسمة، وفى مواجهة الغول القادم.

تظل طوال الليل والنهار تلف وتدور.. من شبرا إلى الحسين، ومن المغربلين والغورية والدرب الأحمر إلى الزمالك وجاردن سيتى وبولاق أبو العلا. وتعود إلى مقاهيك القديمة، ثم تغادرها مسرعا إلى النيل. لا أحد.

تفكر فى الذهاب إلى الأوبرا. وتتراجع سريعا عندما تلمح "أبو الوفا". تشعر بامتلاء مدهش. امتلاء روحى. تتذكر عمر البيومى ومصطفى التلمسانى. الأول حل المعادلة بالسفر إلى تونس، لعله يجد مادة جديدة للحياة وللوحاته. ويبدو أنه وجدها فى وردة تونسية أو نرجسة رقيقة: عندما يحادثنى فى الهاتف عنها، يتحول فجأة إلى أحد أبطال لوحاته التى أحبها. والثانى يغلق ورشته، ويعيش معظم وقته فى قريته البعيدة، وعندما يعود إلى القاهرة، يصب ماء روحه على الخيش أوالورق أو فى أى شئ آخر: يقولون أنه مريض. وعندما ألتقيه، أراه كما هو: هادئا، صامتا معظم الوقت، يرسم ابتسامة غريبة، غامضة، تضئ نصف وجهه الأسفل، بينما تظل عيناه سارحتان هائمتان في عالم آخر. وفجأة يتنبه إلى شئ ما قلته، فيضحك ضحكة خفيفة مثل الطيف.

*     *     *

لا يعرف متى يستيقظ أو ينام. لا ينظر إلى الساعة، ليس لأنه لا يمتلكها، ولكن لأن الزمن البشرى لا يهمه من قريب أو بعيد. يقيس الزمن بحركة الناس، وضوء الشمس، ونور أعمدة الإضاءة، وقرص القمر، وطنين الذباب والبعوض فى المدافن والخرائب. يومه يمكن أن يمتد ليصير شهرا أو عاما أو قرنا. ويمكن أيضا أن يتقلص ليصبح لحظة تحت عجلات سيارة، أو ومضة أمام نصل مطواة، وربما مجرد لمحة بسيطة فى مواجهة تيار برد أو ضربة شمس، أو برهة تحت حجر سقط بالصدفة.

جسده الضئيل يعطى انطباعا بأنه بلغ عامه الثامن أو التاسع بالكاد. ولكن نظرات عينيه الذكيتين تؤكد أنه تجاوز عامه الثانى عشر.

وجهه الأسمر ذى الملامح المحددة جيدا لا يعكس إطلاقا ما يدور لا بصدره، ولا بروحه: مجرد وجه مصرى أسمر لا ينفعل إلا إذا حدث شئ ما جدير بالابتسام. وابتسامته النادرة هى.. يا الله.. أجمل ما فيه عندما يكشف عن أسنانه البيضاء بلون بياض عينيه الناصع.

كنا نجلس على الرصيف المقابل لـ "زهرة البستان". أمامنا "الجراج" بالمرحاض الوحيد الذى يفك أزماتنا. وعلى يسارنا بداية الممر الذى يربط مقهى "ريش" بـ "زهرة البستان". لا أذكر كم كان عددنا ولكنه كان لا يقل عن العشرة فى كل الأحوال. فى المقابل، أمام باب المقهى مباشرة، كان إبراهيم عبدالفتاح يلعب الطاولة مع عم إبراهيم المصوراتى.

ظهر كائن قذر. فجأة قفز مصطفى:

-يا أبو الوفا. ياد، يا أبو الوفا..

اقترب الكائن بخطوات واثقة، على الرغم من القلق الذى كان يطل من عينيه..

مال عمر البيومى على أذنى، وقال:

-اسمع وشوف، يا مؤمن..

مصطفى:

-الولية مرات أبوك، عاملة إيه معاك؟

-ولا حاجة.

-أبوك اتجوزها، ولا لسه بينام معاها بس؟

-اتجوزها من شهرين. وجات هى وعيالها، بنت الوسخة.

-وعايشين معاكم؟

-طبعا.

-وهى بتشتغل إيه؟

-ما اعرفش.

-بتأكلك؟

-بتأكل ولادها الأول. بتحط لهم الطبيخ. وبعد كده، ترميلى لقمة وحتة جبنة.

-وأبوك فين؟

-أبويا بيعمل نفسه مش شايف.

 

أبو الوفا ينام بالقرب من فتحة المدفن. والمدفن ليس له باب. زوجة أبيه تنام إلى جوار الحائط ثم الأب، يليه زينهم، ثم أبو الوفا.

فى الليل، يهرب أبو الوفا من غلاظة زوجة أبيه ومكائدها اليومية. يذهب إلى آخر المدافن. قالوا له أن أمه دفنت هناك فى أحدها. يجلس أمام قبر أمه. أى قبر. يحاول استرجاع ملامحها. وعندما يفشل، يرسم لها الملامح التى يريدها: حنونة، جميلة، مبتسمة.

يهجم الفجر الكاذب بظلمته اللعينة. يتسرب الخوف والبرد إليه، يطيحان بصورة الأم. تتسلل إلى أذنيه أصوات مخيفة، وصور شياطين وعفاريت. يأخذ ذيله فى أسنانه ويطير. يتسلل إلى المدفن. يضع جسده النحيل المهدود إلى جوار زينهم. ويغمض عينيه. عندئذ فقط يرد على ابتسامة أمه بابتسامة طويلة لا توقظه منها سوى ركلة زوجة أبيه فى الصباح.

مصطفى:

-بقالك شهرين مش باين. كنت فين ياد؟

-...................

-بيقولوا خدوك الإصلاحية!

-لا. دا الواد زينهم أخويا.

-بس بيقولوا إن إنت اللى كنت هناك. يعنى كنت فين الشهرين اللى فاتوا؟

-لا، والله. دا الواد زينهم. خدوه فى الجيزة.

-وهو لسه هناك؟

-أيوه. بس هرب. وجابوه تانى. لما قبضوا عليه، قال لهم إن اسمه أبو الوفا أحمد زكريا المصرى. بس لما قعدوا يشوفوا الورق عندهم عرفوا بعد تلات أيام إن اسمه زينهم. ساعتها كلوه علقة بنت حرام.

-طيب وهرب إزاى؟ وجابوه بعد كده إزاى؟

-هرب زى كل مرة. لكن جابوه بالكومبروتر.

-كمبيوتر إيه، يا أبو الوفا؟

-ما هو دلوقت فيه حاجة جديدة اسمها الكومبروتر. بيحطوا عليه الصور والمعلومات عن كل واحد. وصور زينهم كمان فى الكمومبروتر ده. وعلهشان كده، جابوه بعد خمس أيام. لكن أنا مش ممكن يقبضوا علىَّ، لأن ماعندهمش ملف لىَّ على الكومبروتر. وما عندهمش صورتى كمان.

-وزينهم عنده كام سنة؟

-خمستاشر.

-بيحبك؟

-لا. بيضربنى. بس فين وفين لما باشوفه.

لا يأتيه فى المنام إلا حلم واحد: قطط شرسة، وكلاب متوحشة تهجم عليه يوميا. تغرس مخالبها وأظافرها فى لحمه وعروقه. تمتص دمه. يصرخ. ولكن لا أحد يسمعه-كلهم يشخرون.

عمر:

-قالوا إنك كنت فى مظاهرات العراق فى ميدان التحرير. إيه اللى حصل هناك؟

-الناس كانوا كتير. والأمن المركزى محاصرهم فى الميدان. لقيت نفسى قدام العساكر. والظابط ضربنى بالعصا السودا على دراعى. قلت له: بتضربنى ليه؟ رفع العصا تانى وكان عاوز يضربنى. لكن طرت من قدامه، وفلت من بين رجلين العساكر.

فجأة توقف أبو الوفا، وأشار نحوى:

-إلا مين الأستاذ ده؟

مصطفى:

-دا واحد صاحبنا من الفلاحين.

-وساكن فين؟

-فى الأزهر.

عمر:

-تشرب حاجة، يا أبو الوفا؟

-لا. مش عاوز. شكرا.

قلتُ:

-فيه سحلب ومانجه.. إشرب حاجة يا حبيبى.

-بجد والله مش عاوز.

مصطفى:

-يمكن ماأكلتش. عاوز تاكل؟

-بصراحة أنا أكلت الصبح. وشبعان. مش عاوز آكل. ولا أقولك، خلى الأستاذ الجديد ده يطلبلى سحلب.

مصطفى:

-وبعدين إيه اللى حصل؟

-جريت لغاية شارع القصر العينى. وسيبتهم يضربوا الشعب على طيزه فى ميدان التحرير. لكن قدام مجلس الشعب لقيتهم ماسكين واحدة ست أجنبية وبيضربوها على طيزها هى كمان بالعصيان السودا اللى معاهم. وبعد كده، حطوا الكلبشات فى إيديها وركبوها البوكس.

عمر:

-بس قالوا إنها عطتك عشرين جنيه..

ومال عمر نحوى قائلا:

-دى واحدة زميلتنا فنانة تشكيلية فرنسية. وهى فعلا عطته عشرين جنيه.

أبو الوفا:

-لما ركبت البوكس، حطت إيدها فى جيبها، ورمت عشرين جنيه، وغمزتلى بعينها. لكن الظابط لما شاف الموضوع جرى ناحيتى وكان عاوز يلهفهم. لكن أنا خطفتهم وطرت على شارع طلعت حرب.

-أيوه وبعدين:

-دخلت بار "ستلا" لقيت الأستاذ هريدى قاعد يسكر هناك.

-لكن هريدى كان فى المظاهرات ومسكوه.

-لا. أنا شفت الأستاذ هريدى بيسكر فى "ستلا". يمكن مسكوه بعد كده وهو سكران. أنا ماشفتوش فى المظاهرات. أنا شفت الست الأجنبية اللى ضربوها على طيزها، وعطتنى العشرين جنيه.

قال مصطفى ضاحكا أن أبو الوفا لا يحب الثياب الجديدة. يرتديها مرة واحدة فقط، وعندما تكتسب لون الطين، يخلعها، ويعود إلى ثيابه القديمة. وقال عمر أنه يحصل على هذه الثياب من مراكز الإعانات التى يشرف عليها الأجانب فى مصر. بل وأحيانا كان يأخذها ويبيعها.

فى مرة من المرات، أجبره مصطفى على إحراق ملابسه القديمة، والدخول إلى مرحاض جراج البستان. هناك تحمم الصبى، وارتدى الملابس الجديدة. كانت ليلة عيد على المقهى. فأبو الوفا تحول إلى كائن مشرق. وصارت هذه الثياب بعد ذلك ثيابه القديمة التى لا يستغنى عنها مهما أرغموه فى تلك المراكز على ارتداء ثياب جديدة.

حاول مصطفي أكثر من مرة أن يعلمه الكتابة والقراءة. اشترى له كراس وأقلام وكتاب. واظب أبو الوفا على الحضور يوميا إلى المقهى. وبعد أسبوع أصابه الملل. فكر مصطفى أن يأخذه على العزبة فى القرية. ولكنه كان متخوفا من بعض الأمور.

قال أبو الوفا:

-إمبارح واحدة ست أجنبية ومعاها جوزها وابنهم الصغير اشترولى أكل.

-إزاى؟

-الواد ابنهم كان قاعد فى العربية. ولما نزلت هى وجوزها شافونى واقف. نادونى، واشترولى ساندوتشات فول وطعمية، ولبن كمان.

-عطوك فلوس؟

-لا. بس الواد ماكنش بيعرف يتكلم. أما كان بيعوز حاجة، كان بيقول "بابى". وكان أبوه بيشتريله كل اللى هو عاوزه: شيبسى وبيبسى..

*     *     *

تجلس مع أبو الوفا قليلا. تطمئن على إنه أكل وشرب. وأثناء ذلك تتحدث معه فى شؤون الكون. وعندما يتحول هذا الكون إلى "أبو وفا" ضخم توارى دمعة سقطت سهوا، وتنتزع جسدك، من المكان قبل أن يغادرك أبو الوفا.

*     *     *

ومع ذلك اختفى أبو الوفا. تبخر، وكأن شوارع القاهرة وحواريها لم تر وجهه أو تسمع وطأ قدميه الحافيتين.

غادر أبو الوفا المكان والزحام والزمن فى صمت كعادته اللعينة.

سألت عمر البيومى عنه. قال:

-لم أره منذ قابلناه من عام ونصف.

ومط شفته السفلى فى صمت.

أصابتنى رعشه، وامتدت أوهامى إلى بعيد.

*     *     *

برودة موسكو تشتد. ليس بسبب الثلج. هنا تدفئة مركزية محترمة. ومياه ساخنة. ومع ذلك، فالبرد شديد حتى فى الصيف. لا تشيخوف ولا ديستويفسكى يساعدان على الخروج من المأزق. لا مايكوفسكى ولا يسنن، ولا حتى أخماتوفا أو تسفتايفا. كل كلامهم راح فى خبر كان. تحول إلى مجرد "يافتة" تلصقها الجثث الحية على صدورها كماركة مسجلة للمثقفين الديناصورات، وأصبح محض "شعارات" ممجوجة عن الحب والخير والجمال تلوكها أفواه المدعين والأفاقين وتجار الثقافة.

*     *     *

ينقذك صوت نجاة الصغيرة.. إرجع إلىّ، فبعدك لا عقد أعلقه، ولا لمست عطورى فى أوانيها.. لمن صباى لمن، شال الحرير لمن.. ضفائرى منذ أعوام أربيها..

هل هذه دموع الشيب تتسرب خلسة من مآقى الوحدة، والإحساس بالغبن والغضب؟ أم مجرد جيشان أحاسيس لجسد يتجه نحو مثواه الأخير؟

وتمعن نجاة فى التسلل إلى هناك، حيث بحار الدموع والعشق النبيل الحبيسة.. وبَعَتنا مع الطير المسافر جواب وعتاب وتراب من أرض أجدادى وزهرة م الوادى يمكن يفتكر اللى هاجر إن له فى بلاده أحباب..

ثم توجه إليك الضربة القاضية.. وابعتولنا مع الطير اللى راجع.. سلام وكلام يمكن يفَرَّحنا ولا يِفرِحنا ويقول للقلب إنه فاكر إن له فى بلاده أحباب..

وتعيدك من جديد إلى الشعرة الوحيدة الباقية، تمنحك فرصة أخيرة ودائمة.. ليلة م الليالى فاتونا، عينى لو صحيح نسيونا، زى ماحنا روحتوا جيتوا فاكرين نسيتوا، حتلاقونا يوم ماتيجوا زى ماحنا..

*     *     *

يا الله.. أين نعمة النسيان؟ أين القدرة على الجحود؟ لماذا يوجد "كلام" يحيى الموتى؟ لماذا كل هذا الغناء القاسى؟ ألا من سبيل؟

لكنها الحياة لا تعطيك فرصة للفرار. تنظر أمامك مباشرة، فتكتشف أن اليوم هو الثامن من مارس.

يا نساء العالم: يا أم، يا أخت، يا حبيبة، يا ابنة، يا زوجة ورفيقة وصديقة، يا سند السنين ومعجزة الله على الأرض. وتسيل الذاكرة على طريق العمر.. لا تتذكر بالضبط منذ متى حدث ذلك.. تتحول الذاكرة من حالة إلى كائن أبيض له ملامح الملائكة.. بأجنحة عظيمة حانية.. تختطفك وتطير بك..

تفتح مصحفها الذى أهدته إليك..

ربع يس

من الجزء الثالث والعشرين إلى نهاية الجزء الثلاثين

تقرأ على غلافه الداخلى كلمات من نور..

بسم الله الرحمن الرحيم

فى البداية أكتب إليك ربى متوسلة راجية أن يكون هو أمانة بين يديك، ولا خوف على أمانة وضعتُها أيدى خالق الخلق وخالق الأمانة. ولا أشك فى قدرتك ربى أن تحفظه سالما، وأن تجمع بينا ذات يوم، إذ فرقنا اليوم.

إليك..

إليك عبر أسوار الزمان كلمات حبى أرسلها دوما متدفقة حارة منتعشة، تمتلئ بالحياة، تذكِّرك أبدا أننا معا، خلف حدود البشر، فى أى مكان، فى أى زمان.

إليك، دعوة أبدية، كلما أحسستَها ابحث عنى، ونادنى، وسآتى إليك مهما كانت المسافات، ومهما كانت الظروف، لنقرأ معا ملحمة الحب والوداع.

إليك، يا حبيبى، نفسى أضمنها هذا الكتاب الشريف لتظل معك إلى الأبد.. فلا غير نفسك رفيقا أبديا لها، وحبيبا روحيا لى..

............

17 أكتوبر 1983.

*     *     *

وتضربك الشمس، أو الثلج. تخلط بين نزار قبانى وعبدالرحمن الأبنودى. ويأتيك صوت شادية على خلفية الهزيمة. أية هزيمة.. قولوا لعين الشمس ما تحماشى لاحسن حبيب القلب صابح ماشى.. يا حمام طير قابله قوام.. خليله الشمس حرير يا حمام.

ولا حمام، ولا سلام. الأولاد راحوا ولم يعودوا، وانتهى الأمر.

تمسح دموعك ونجاة وشادية وقبانى والأبنودى. فتسطع الذاكرة اللعينة، تلقى بكل أضواء العالم على مشهد إبراهيم عبدالفتاح وهو يلعب الطاولة مع عم إبراهيم المصوراتى. ويأتيك صوت على الحجار قويا، مفعما بالحنان..

لما الشتا يدق البيبان لما تنادينى الذكريات

لما المطر يغسل شوارعنا القديمة والحارات

ألاقينى جايلك فوق شفايفى بسمتى

...............................

مش جاى ألومك ع اللى فات

ولا جاى أصحِّى الذكريات

لكنى باحتاجلك ساعات.. لما الشتا يدق البيبان..

ولا يعطيك الحجار فرصة لتأخذ نفسك. يتواطأ عليك هو وجمال بخيت..

أنا كنت عبدك فى عز ضعفك

وكنت يوم التجلى سيدك

............................

وكل ماأرحل حتكونى غايتى

وكل ما أرجع حاكون وليدك..

*     *     *

وللغناء طعم الفرح، ولون الدموع. والأولاد ضاعوا، سواء تحت نار الشمس الحامية فى سيناء، أو تحت أنقاض ثلوج البلاد الباردة. لم يتبق من صاحبة المصحف إلا ملامح باهتة: أين هى الآن، بعد أكثر من عشرين عاما؟ ماذا، وكيف، وأين، ولماذا؟

لا أحد يدرى. كل ما تجود به الذاكرة الآن، هو مشهد تحرك وحدتنا العسكرية الصغيرة من التل الكبير إلى طريق مصر السويس. كان جالسا، فى ثيابه العسكرية التى كانت أكبر من مقاسه، يأكل على جانب الطريق مثل الكلب، وحيدا. وكنت، أنا، فى منتصف المسافة بين ناقلة الجنود الضخمة وبينه. كان الإحساس بالغضب والخيانة والغدر قد تحول منذ سنوات طويلة إلى إحساس بالشفقة عليه. اكتشفت ذلك فى تلك اللحظة فقط. وفى تلك اللحظة تلاقت عيوننا. تجمدت ملامحه، ألقى بنظرة فيها خليط من الرعب والتوجس والأسف. ولما أيقن أننى لن أقترب منه، ولن ألقى حتى السلام عليه، خفض رأسه ودس لقمة فى فمه. قفزتُ إلى العربة، وانطلقنا. وكان هو يتضاءل كلما ابتعدنا، وصورتها تتجسد رويدا رويدا حتى ملأت الكون.

*     *     *

ولما الشتا يدق البيبان، تتذكرها، وتتذكر الموتى الأحياء-الأحباء. وتنسى برد موسكو اللعين الذى ليس بسبب الثلج أو انخفاض درجة الحرارة أبدا. تفتح الكومبروتر، وتسبح للقاء أصحابك الإلكترونيين، تتحول إلى فوتونات أنت الآخر، وتقرأ ما تيسر من أشعار وحكايات ونكات. وتتابع أخبار فلسطين ليس من أفواه القوادين، ولكن من حكايا الناس. وقبل النوم تستعيد وصايا أهل النار من المتصوفة والمجانين بمحض إرادتهم، والمغضوب عليهم، وتضع رأسك على كتب جوجول وجونتشاروف وديستويفسكى، وتلج الحلم والدفء.

 

(7)

من الصعب أن تجد شبيها لشارع محمد علي في موسكو أو باريس، ومن الأصعب أن تعثر على شبيه لشارع "أربات" في القاهرة أو مدغشقر. وتركبك عفاريت الدنيا والآخرة عندما تحاول التفكير-مجرد التفكير-في العثور على جبل من الجليد في شبرا أو الدرب الأحمر. غير أن الذاكرة التي تمثل المصدر الرئيسي لكل التمارين النظرية، كثيرا ما تلقي بك-شئت أم أبيت-في كهوف الانتصارات الوهمية، والخروج بنتائج عبقرية بعد تحليل وتمحيص لتكتشف أنك نجحت في الربط بين ارتفاع برج القاهرة وسرعة الطائرة النفاثة. وبالتالي من الصعب تماما أن نعقد أية مقارنة بين إبراهيم عفيفي ومصطفي سعيد، مثلا، صديق الطيب صالح في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال". بل ومن الأصعب أن ندفع بعفيفي البسيط والمسكين في مقارنة غير عادلة مع بطل " حب في المنفي" لبهاء طاهر، أو بطل "قنديل أم هاشم" ليحي حقي، أو حتى مع بطل "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم. فمن الواضح أن عفيفي اكتسب خبرته الحياتية من مصادر أخرى، بصرف النظر عن كونها نظرية أو عملية، وسلك طرقا مختلفة بعض الشيء، أو كل الشيء، عن أولئك الأبطال الوهميين-الروائيين.

المسألة ليست إطلاقا في شرق وغرب بمفهومهما الجغرافي، وليست في الصدمة الحضارية لأي من سكان المنطقتين-الجغرافيتين عندما يحدث احتكاك ما بينهما-على أرض أي منهما، أو في منطقة محايدة. وإبراهيم عفيفي المثقل سرا بعذابات البشرية، وبحماقاته، لا يضع أي خلفيات في تقديراته لتصرفات الناس وسلوكياتهم. بل وأقلع-لحسن حظه، أو لسوئه-عن الشعارات الكبرى والعبارات المنمقة منذ زمن طويل. وأصبح يواجه صعوبات جمة في الرد على أسئلة من قبيل: ماذا تحب؟ ما اللون الذي تفضله؟ ماذا يزعجك في الآخرين؟ ما الذي لا يعجبك في نفسك؟..

*     *     *

هو الآن، وفي هذه اللحظة بالذات، يركب سيارة محترمة إلى جوار صباح بشارع صلاح سالم. السيارة تسير بسرعة متوسطة، وعيناه تمران في هدوء على مقابر الدراسة، وتصعدان إلى نحو جبل المقطم. يبتسم عندما تراوده فكرة محيرة: المقطم هذا، جبل أم مدينة؟.. الدراسة: حي أم مقبرة ضخمة؟

ينتبه على صوت صباح:

-أنا باحبك قوي..

يتذكر ماشا التي تركها على بعد 4 آلاف كيلو متر في موسكو. يهمهم بألفاظ غير مفهومة. فتضحك صباح الملعونة، وتنظر في مرآة السيارة الأمامية لتتيقن من أن كل شيء على ما يرام، وخاصة في ما يتعلق بعينيها، لأنه قال لها منذ 20 عاما أنه على استعداد للتضحية بحياته من أجل نظرة منهما.

عن يمينك المقابر، والجبل على يسارك. الجبل يمتد إلى ما لا نهاية، والمقابر ترافقك. السيارة تصعد إلى المقطم، والجبل يحتويك. الطريق يتلوى مثل فكرة ترفض أن تكتمل، بالضبط مثل شخص لا يريد منحك ولو فرصة واحدة لكي تحبه. إذن لا مفر من أن تصير المقابر بداخلك، وأن تصعد معك حتى إلى الجبل.

هذا الطريق القصير الملتوي الذي يتسع بالكاد لسيارتين، يمكنه، نكاية فيك، أن يطول لعشرات السنين، ويتسع لمئات الأشخاص والسيارات والطائرات والمقاهي. ولكن، هل هو فعلا الطريق؟ أم الذاكرة، والمراوحة بين الـ "هنا" والـ "هناك"؟

الـ "هنا" لا يقبلك، ولم يعد يتقبلك. والـ "هناك" لم يتقبلك أصلا، ويبدو أنه لن يتقبلك. هذه المعادلة العنكبوتية تهم بعض المتفائلين الذين يرغبون في أداء أدوار ما. أما بسطاء الناس الذين فرضت عليهم أدوارهم، يعيشون هنا وهناك، وبينهما أيضا، في هدوء واطمئنان.

ويتقلص العالم فجأة عن فكرة الهروب التي يطبق عليها البعض-الرحيل، أو الانتحار.. كل حسب مرجعيته ورغبته وشطارته في التبرير. غير أن الحقيقة تبقى حقيقة رغم كل النسبيات والفلسفات: إذن، فمتى مات بالضبط؟

إبراهيم عفيفي لا يذكر. ولكنه يتذكر جيدا أنه ظل طوال الليل قلقا ومتوترا. لم تتمكن ماشا من مساعدته لا بالحب ولا بالجنس ولا حتى بالحديث والمداعبة. فشلت معه كل المحاولات، وظل جالسا أمام النافذة ينظر إلى ثلج فبراير وهو يتساقط بغزارة شديدة ليغطي الشارع والأشجار العارية والسيارات الواقفة والسائرة.

لم تكن فكرة الفشل في الجنس والحب والحديث والتواصل مع ماشا تقلقه إطلاقا، لأنها كانت مؤقتة وعابرة مثل المعارك والمشاجرات والخلافات والخصام والتحدي..

وفي الصباح، رن جرس الهاتف ليصل صوت الأم إلى أذنه:

-البقية في حياتك يا بني. أبوك مات بالليل.

-.........................

-ما تتعبش نفسك، حا ندفنه انهارده. تعالى براحتك.. خلي بالك من نفسك.. ما تقلقش.. مش حا نقصر في حاجة..

-.............................

وضع سماعة الهاتف. وكان أول ما ورد على ذهنه: لماذا لم تكن الأم تبكي؟

ظل السؤال يتردد، ويكبر، وهو يبحث عن ماشا في الشقة، حتى أنه بحث عنها في نفس الفراش الذي نهض منه توا ليرد على الهاتف. وفجأة أجهش بالبكاء. استجاب لنوبة عارمة من الحزن والضعف تحول معها إلى طفل استيقظ من نومه فوجد نفسه وحيدا.

لا يدري كم مر من الوقت. خلصته يد ماشا من كابوس كاد يطبق على صدره:

-إبراهيم.. إبراهيم.. إيه.. فيه إيه؟

نظر إليها صامتا. وراحت هي تكرر أسئلتها. وفي النهاية قال بين البكاء:

-بابا مات.

ساد صمت ثقيل بينهما طوال يومين كاملين إلى أن حطت به الطائرة في مطار القاهرة.

 

(8)

-الثقافة تعانى من ركود وانحطاط. لا الشعر، شعر، ولا السرد سرد. حتى المسرح أصبح فى خبر كان. وزاد الطين بله، أن الغناء والفيديو كليب والمحطات الفضائية قد أصبحت فى صدر الصدارة.

قال عنتر غضنفر ذلك، وعدَّل من وضع عويناته السميكة. مسح بكفه على شعر رأسه الكثيف الأسود المختلط بالأبيض، وزفر فى حزن وأسى، وأضاف:

-لم تعد هناك أية عاطفية، أو رومانسية. هز وسط، وتسبيل عيون، ورجرجة نهود وأفخاذ.. ولا كلام محترم..

كان قد أخبر الجميع أنه أقلع عن الخمر، لأن زوجته الصبية لا تحب رائحتها. وأكد بنبرة صوته المتصنعة الهادئة، وإن كانت مترددة قليلا، بأنه الآن يعكف على عدة كتب ومقالات نقدية. ومع ذلك كان يتناول بعض الكؤوس معى فى حالة إذا كنا نجلس وحدنا. وإذا كان هناك ثالث أيا كان نوعه أو جنسه، كان يتسلى فقط على المازة، وينظر خلسة إلى مؤخرات الفتيات الصغار وصدورهن.

سألنى عنتر:

-بالمناسبة، ما هى مشروعاتك فى الفترة الأخيرة؟

- لا مشروعات. زمن المشروعات انتهى، يا سيدنا. مشروعى الوحيد الآن هو التأمل، وتعلم الصمت.

-ولكنك لا تستطيع. تركيبتك الشخصية عدوانية. أنت مندفع وحاد وصاحب مشاكل. لا تفهمنى خطأ.. أنا أقصد إنك تحب المعارك والانتقادات..

-هذه مشكلة الشباب، يا مولانا. وقد ولت تلك المرحلة، وها نحن ندخل إلى أخرى أكثر عقلا وهدوء.

-ولكن ماذا تكتب فى الفترة الأخيرة؟

-لا شئ.

تململ فى جلسته بعد أن أيقن تماما أنه لن يحصل على كلمة واحدة عن مشروعاتى القائمة. ولكنه سرعان ما عاد إلى أسئلته الغريبة:

-فرغت منذ فترة من كتابين جاهزين الآن للطباعة، وهناك أيضا ثلاثة مقالات مترجمة، وقصتان، وبعض الموضوعات السياسية. ألا تعرف أين من الممكن نشرها؟ لك علاقاتك ومعارفك، وكنت أود أن تساعدنى فى هذا الموضوع..

نظرتُ إليه بإمعان. أطلت النظر. خفض من عينيه، واهتزت عويناته السميكة على أرنبة أنفه.

قلتُ:

-لقد أقلعتُ تماما. لا أتصل الآن بأى أحد.

لم أشأ إحراجه، ومصارحته بأنه قام باتصالاته هنا وهناك. بل وأرسل مواده حتى إلى تلك الجهات التى أعمل معها. غير أن التساؤل الذى دار فى ذهنى، ولم أفصح عنه: لماذا يمارس كل تلك الحماقات، ألا يعرف إننى علي علم بكل ما يفعله من وراء ظهرى؟ ولماذا يجلس معى أنا بالذات، وينهكنى باتصالاته الهاتفية، ومناقشاته الفارغة عن نشطات فلان وعلان، وماذا كتبوا، ورأيه الشخصى المدهش جدا فى أى عمل لأى شخص آخر؟ فى السابق كان يثنى على أعمالى، ويصفها بـ "العبقرية". وبعد ذلك علمت أنه يرى أن ما أكتبه فى غاية التفاهة، ولا يحتمل حتى رأى نقدى.

-قصتك الأخيرة رائعة. أما قصة أحمد جمعة فهى سيئة جدا..

نظرتُ إليه مرة أخرى. فابتسم ورفع نخبا فى صحتى. ثم أنزل الكأس بسرعة قبل أن يراه أحد.

*     *     *

إحساس فى غاية الفظاعة، أن يتسلل إليك شخص غريب جدا عنك: فى كل شئ حتى ملامحه وأفكاره وآرائه وطريق سكره ونظام حياته. يبدأ فى تقليدك، والثناء على كل ما تفعله، ثم يتسرب إليك ليدلى بآرئه الشخصية التى، و"إن كانت مختلفة قليلا مع أفكارك، إلا إنها تؤدى إلى نفس الهدف". وبعد ذلك تجده يقول نفس أفكارك ولكن بكلمات أخرى، ويمد الخطوط على استقاماتها ليصل إلى أن أفكارك متطرفة، وآرائك ذات طابع شخصى، وليس لها علاقة بالواقع الموضوعى فى الانقشاع الذاتى المنبثق عن الصيرورة اللامبالية فى الانخفاضات الجغرافية التى لا تتناسب مع ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية وضرورة توقيع جميع دول العالم على معاهدة كيوتو.

هنا يصير الكأس هو المدخل الوحيد إلى طريق الصمت والتأمل. فتتلاشى ملامح القاعد أمامك، معك، قسرا، وتتهادى ملامح الجد وهو يضحك ضحكة صاخبة ساخرا من أوضاع الفلاحين:

-يا ولد، هناك فلاح، وفلحجى، وفلحنجى.

-كيف يا جدى؟

-الفلاح هو من عنده أرضه وبقرته وعدته وذراعيه. والفلحجى هو من لا يملك الأرض ولا البقرة ولا العدة، ولكنه يعمل فلاحا. والفلحنجى هو الذى لا يملك أى شئ ويؤجر أنفارا للعمل فى أرض لا يملكها بمعدات ليست له أصلا.

بعد ذلك كانت المدرسة، ثم الجامعة، ثم الأعمال المختلفة ساحات مدهشة لإثبات وجهات نظر الجد الكلاسيكية جدا. وبانت فيها شخصيات من قبيل الكتبنجى والصحفنجى، واتضح أن المسألة مسألة أرزاق. غير أن هناك لحظة، وبعد طول صبر، تأتيك لتكشف لك الحقيقة الساطعة رغم مرارتها. تلك الحقيقة في غاية البساطة: الصمت.

"فى الصمت" مثلما "فى الخمر". تجلس مع نفسك، تواجهها. يكون هناك متسع من الوقت لامتلاك الشجاعة من أجل الجلوس مع النفس، ومن الممكن أن تتحول هذه الشجاعة إلى "فروسية" لكى تتمكن أنت نفسك من أن تبصق فى وجهك.

*     *     *

فى الصمت والغربة تكتشف غرابة هذا الشعب المغنى فى الحزن الفرح. هذا الشعب الذى يضبط إيقاع حياته على عقارب أحزانه وأفراحه، لا يمكنه الحياة إلا بالغناء. وأشهر الغناء عنده ليس كما عند بقية خلق الله.

وتضحك، سرا وصمتا وخمرا، عندما تشاهد أصحاب العوينات السميكة "الجرامشيين"، وهم يعدلون بآلية مدهشة عويناتهم ويبدأون أحاديثهم عن الإنترنت أو الفيديو كليب أو نانسى عجرم بجمل من قبيل "النظرية أن.." أو "الفكرة فى أن.." أو "لا شك أن.."..

ويأخذك الصمت والتأمل فى أن لا صوت يعلو فوق صوت "نانسى". فلا "اللمبى" ولا "فيفى عبده" ولا "محمد هنيدى" ولا حتى الأستاذ "شعبان عبدالرحيم" يمكن أن ترتفع أصواتهم فوق صوت "المعركة". ونانسى عجرم ليست معركة، وإنما هى معارك الدنيا والآخرة، موقعة حطين، والجمل، وجلجامش، والمنيرة، والزاوية الحمراء، والسنبلاوين. نانسى هى المعركة الفاصلة التى تستخدم فيها كل الأسلحة التقليدية، وأسلحة الدمار الشامل، بما فى ذلك النووى والذرى والكيماوى والبيولوجى. ولذلك تمكنت مغنية كل "الأجيال" من اقتحام الصعب من الماء إلى الماء، ومن النفط إلى النفط، فراحت فيروز وأم كلثوم فى خبر كان.

وتقول فى أرجاء صمتك وخمرك: مين ما يحبش نانسى، كامرأة، ومغنية، ونسمة طايره ترد الروح؟ اللى ما يحبش نانسى يبقى أعمى بصر وبصيرة، وأطرش، وما بيحسش.

هنا يأتيك الدليل، صوت العجوز-الأم وهى تبحلق فى التلفزيون وتقول:

-ما شاء الله.. يا ختى عليها.. النبى "حارصها وصاينها".. جِسْم وكَسْم. حلاوة وخفة دم.. يحميكى ربنا.. خلى العيال تفرح وتظأطط.. البنات يا حبة عينى مغمومين دايما، لكن لما بتطلعى فى التلفزيون وشوشهم بتنور..

هذا الكلام يتعارض تماما مع فكرة أصحاب العوينات السميكة والشعر الكثيف الأبيض والأسود، والحركات المتأنية المحسوبة من أجل إضفاء طابع المهابة والاحترام والمصداقية. وفى الحقيقة، فـ "نانسى ليست المشكلة، وإنما هى جوهرها".

*     *     *

تطالعك الصحف بأخبار غريبة وعجيبة: "فيفى عبده تنفى خبر اعتزالها وتبدأ فى تصوير فيديو كليب جديد"، "نادية الجندى تتحدث عن خلافاتها مع نبيلة عبيد"، "الراقصة دينا تنتج فيلما بسبعة ملايين جنيه بعنوان الراقصة"، "مى حريرى تنافس هيفاء وهبى و..". وهنا تطفر من عينيك دمعة غيظ لا حزن، يصعب عليك الموقف وأنت ترى حال الدنيا عندما تسير بمؤخرتها. فمكان النقطتين يوجد اسم النبى "حارصها وصاينها" نانسى. وتسأل نفسك: العالم دى إيه، ما بتفهمش؟ فقدوا النظر والدم والإحساس؟ معقول مى حريرى وهيفاء وهبى ينافسوا نانسى؟! معنى ذلك إنهم بعد يومين تلاتة ممكن يكتبوا إن "اعتماد" حتنافس "نانسى"!

أنا لا أسمع لا مى ولا هيفاء. ولكننى أتابع بضمير حى صورهما فى الصحف والمجلات ومواقع النت: حاجة ترد الروح، وتشفى العليل. غير أن الكارثة تكمن فى "اعتماد توكُّل". فبعد الإقلاع عن الإنصات لدواود حسنى وسيد درويش وألمظ وعبده وسيد مكاوى وإمام عيسى والرحبانية وصباح فخرى، وكل هذا البلاء، رزقنا الله ببلاء آخر على شاكلة ملحنين ومغنيين من أمثال محمد سلطان وبليغ حمدى وشادية وفايزة ووردة وماجدة وليلى وسعاد ونجاة ورشدى وقنديل والعزبى، ثم خف البلاء قليلا مع عدوية والأسمر، لكنه عاد من جديد أشد وأقسى مع الحجار ومنير والحلو وشاكر، ثم جاء عمرو وشعبان ليخففا من معاناة الجماهير. وظلت "اعتماد توكل" هى السائد والمستمر والحلو الذى لا أحلى منه غير ما وعد الله به فى جناته.

المسألة، وفقا لأصحاب العوينات السميكة، لا تحتمل أية سخرية. والقضية، وفقا لآرائهم هم أنفسهم، والكلام لى، ليست استهزاء أو سخرية من نانسى أو أم كلثوم أو فيروز. فلكل مقام مقال، ولكل مبدع جمهوره ومحبوه وحساده. وإذا كنت تحب الاستماع إلى ناظم الغزالى، فأنا أحب الاستماع إلى شعبان عبدالرحيم.

نعم. أنا جاهل وأمى ومتخلف، وأساهم فى تجهيل الشعوب والجماهير والطبقات الكادحة والعمال والفلاحين، وأعمل لصالح البرجوازية والرأسمالية والإمبريالية والصهيونية العالمية والشركات متعدية الجنسية. شعبان يتحدث بلسانى، ولسان ثلاثة ملايين يسكنون فى الحى الصغير الذى أعيش فيه، فعن أى شئ يتحدث صاحبك ناظم الغزالى، أو سيد درويش؟ نانسى تناسب ثقافتى ووعى ورغباتى وطموحاتى، ولكن ماجدة الرومى تتحدث عن أشياء ليس لى علاقة بها.

أنت نفسك وهم لا يتجسد إلا فى "سلخى" وسلخ رغباتى بكلامك الفارغ الذى لا أفهمه. أنا لا أراك أصلا، ولكنني أشعر بأصابعك وأفكارك تلعب دوما في مؤخرتي. هل سألت يوما ما أحدا عن رزقه ورزق أولاده؟ هل حضرت جنازة أبى أو أمى؟ هل أتيت إلىَّ يوما لتقول لى بلغة أفهمها: كيف أعيش فى شقة حقيرة مع ماشا أو غيرها؟ أو كيف كنت أعيش مع أسرة كاملة في غرفة بمصباح واحد وحمام مشترك مع عائلات أخرى تقتات على الخبز وما تيسر من آيات الصبر والاحتمال؟! هل زرتني يوما، أو سألت كيف كنت أعيش في يوم من الأيام؟ أنت مثل مرشحي الانتخابات والمهدي المنتظر. هل سألتنى، يا صاحب العقل المضئ، كم أكسب يوميا، وعلى أى دخل أعيش؟

*     *     *

"اعتماد توكل" ليس هذا اسمها الحقيقى. فهو أحيانا "يا بنت يا نيلة"، وأحيانا "إنتى يا زفته"، وفى أحيان أخرى "يا عرجه"، أو "يا عورة"، أو "يا بايظة"، أو "يا كارته"، أو "يا قرعة"، وفى حالة التدليل.. "يا وَتَكَه"، أو "يا بلحة يا مأمعه". غير أن اسمها الحقيقى، على الأرجح، كان "العضاضة" أو شئ من هذا القبيل. اسم "اعتماد توكل" أطلق عليها فقط بعد وفاتها احتراما وإجلال للموتى وليس لها. منذ ولدنا كنا نراها كما هى: بنفس الثياب، ونفس الملامح، ونفس الوجه. كبرنا وظلت هى على حالها. فى الصغر كنا نختفى بمجرد ظهورها، ونحن ننشد فى صوت جماعى مرعوب: "العضاضة جات". وعندما تنصرف: "العضاضة أهه.. العضاضة راحت". والعضاضة كانت فى كل الأحوال تبتسم من دون أن تفتح فمها.

فمها كان ينفتح فقط إما فى المآتم، أو فى الأفراح، أو الموالد: كان بدون أسنان.

فى المآتم، كانت تتحول إلى صوت حيانى وبحر من الدموع، إلى أغنية حزينة من الندب والتعديد والخبط على الخدين والصدر، إلى كائن شائخ ومشوه.

وفى الموالد كانت تتحول إلى صوفية زاهدة لعدة ساعات: تجلس سارحة ببصرها نحو نقطة ثابتة فى الفراغ. تحرك شفتيها بكلمات لا يعرف، ولن يعرف أحد عنها شيئا. تبعث بصوت خفيض ملتاع من صدرها مباشرة. وفى ساعات المساء عندما تنعقد حلقات الذِكر، كانت تتحول إلى "بهلول" يتطاوح يمينا ويسارا، وكثيرا ما كانت تأخذها "الجلالة" فيصدح صوتها مناديا مترجيا مناجيا "حى.. مدد.. يا حبيبى يا رسول الله.. يا حسين.. يا بن الزهراء.. يا حبيب رسول الله.. حى.. مدد.. يا بن بنت الحبيب.. الله حى.. الله حى.. يا نور العين.. الله حى.. الله حي.. روحى وحبيبى ومهجة قلبى.. الله حى.. الله حى.."، وتسقط مغشيا عليها.. 

وفى الأفراح، كانت تنقلب بقدرة قادر إلى بنت سبعتاشر، حيث يظهر لها نهدان بضان ومؤخرة مكتنزة وبطن حلو، يضئ وجهها بنور غريب ليس له مصدر، يرتفع صوتها بالنسوة والأطفال إلى السماء السابعة.. فتهب النساء والصبايا وهاتك يا رقص. كانت تغنى كل الأغانى اللى فى الحواديت، واللى فى القلب، واللى فى الروح. كانت تغنى كل الأغانى التى يمنعون الصبايا عن غنائها عندما يتسلل الحب إلى قلوبهن. كانت الناطق الرسمى بمشاعر وأحاسيس كل بنات البلد ونسوانها، وأحيانا رجالها.

العضاضة كانت مثل الشبح. لا زوج، لا أب، لا أم. لم يكن لها أيضا بيت، ولم يهتم أحد طوال حياتها بهذا الموضوع. اهتموا فقط عندما عثروا على جثتها بعد أيام من موتها فى إحدى الزرائب المهجورة. فواروها التراب بسرعة وانتهى الأمر. تذكروها عندما بدأ الصغار يشكون من العطش. فالعضاضة كانت هى "السقا" الذى يحمل المياه إلى جميع بيوت البلد. وكانت تحمل أيضا، فى السر، الفرحة إلى قلوب النساء والصبايا.

بعد سنوات طويلة، تذكرت شيئا غريبا: العضاضة كانت تهتم بنفسها.. كانت ثيابها التى لم تكن تتغير نظيفة دائما.. كانت تقص أظافرها.. كانت تزيل الشعر من على وجهها. كانت.. وكانت.. وكانت. والأهم من كل ذلك أنها كانت تُكَحِّل عينيها. فى هذه اللحظة أدركت كم كانت عيناها سوداوان وعميقتان وحلوتان.. كانت تضحك من دون أن تفتح فمها وكانت عيناها تضحكاااااان، وتدمعان بدموع كان، على الأرجح، لها طعم الفرح.

*     *     *

نانسى-قالت كلمتها الأولى والأخيرة: "أخاصمك آه.. أسيبك لا". كلمتها التى ستدخل قاموس أبجديات السياسة العربية. وستظل نبراسا يهتدى به كل من يحب شعبه، ويسهر على مصالحه، ويدافع عن أمنه القومى. ستبقى شراعا عاليا لكل ربان يقود شعبه من الأزل إلى الأبد من الهلاك إلى الهلاك. وقالت أيضا "قد إيه حلو الغرام". وإذا كانت مقتضيات الفيديو كليب تعتمد بالدرجة الأولى على الصورة والإيقاع، فنانسى تدرك مهمتها جيدا فى هذا المضمار. إنها الفرح: فرحي وفرح بناتى وأمى وزوجتى. فلماذا تريد انتزاع، حتى تلك اللحظات التى تشبه الومض؟!

العضاضة كانت تشارك فى المآتم والموالد والأفراح. وكانت تغنى بصوت ندى يداوى جروح الروح. صوتها يتردد أحيانا من ناحية المقابر القديمة. يتردد فى أيام الشتاء فيبعث بالدفء فى قلوب الصبايا، وينبعث فى الصيف حاملا معه نسمة طرية ورائحة عنبر، وأحيانا ياسمين، وفى الليالى الدامسة تفتح عينيها وتضحك ضحكة لا رأتها عين ولا خطرت على قلب بشر.

إنه الفرح، يا صاحبي وسيدى ومولاى. إنه الفرح مثل "الموشور"، بمعناه الفيزيائي، وبكل جوانبه وأطيافه، فانظر من زاويتك لترى أطيافا وأفراحا، أرى أنا غيرها من زاويتي. وإذا أردت أن ترى ما أره، فتعال، هنا، إلى جانبى لتكف عن حذلقاتك وادعاءاتك. تعال لكى تفهمنى وأفهمك.. فلا نانسى هى بيت القصيد، ولا العضاضة. "المسألة"، كما تقولها أنت بعبقريتك الخالصة، فى أمر آخر مختلف تماما.

هل عرفت الآن، يا عنترة، لماذا أتلحف بالصمت والخمر والتأمل؟ هل عرفت الآن، لماذا لا تستطيع النظر فى عينىَّ عندما أنظر فى عينك؟

 

(9)

لم تقنعه كل عبارات الثناء التي قيلت في حق محروس عبدالبديع. فانبرى في لهجة دبلوماسية هادئة:

-بصراحة، الأخ محروص عبض البضيع مُبْضِع على طريقته، ولكن هاظا يعني أن نعطرف هكظا ببصاطة بأنه فيكطور هوغو. وبعضين، يا زملاء، يجب أن ننظر بموضوعية إلى عملية الإبضاع كعملية ظهنية اجتماعية نفصية. كما ينبغي أيضا أن لا نفصل بين المُبْضِع ومظهره الشخصي. أنا أول مرة في حياطي أرى مُبْضِع بأظافر طويلة، إنه حَطَّىَ يبصق أصْنَاء الكلام، وأشك أنه يَسْطَحِمُ يوميا.

خيمت حالة من الصمت المشحون على جميع الحضور أثناء مداخلة عنتر غضنفر. وبانتهاء كلمته، التي تصور البعض أنها ستدور حول آخر كتب محروس عبدالبديع، سرت همسات، أعقبتها ابتسامات خفيفة ما لبثت أن تحولت إلى قهقهات مغرضة.

*     *     *

في تلك اللحظات بالذات، كان محروس عبدالبديع يجلس في مكان آخر مع مجموعة من الزملاء والزميلات. وبالرغم من أنه كان على علم تام بأن عنتر دعا بعض الأصحاب والأصدقاء لجلسة عادية من جلسات آخر الأسبوع في أحد مطاعم موسكو العربية التي يديرها فلسطيني، ويمتلكها سوري، رفض التعليق، بعد أن رفض الحضور، انطلاقا من أنها مؤامرة مدبرة ضده، خاصة وأن أحد المدعوين في جلسة عنتر اتصل به وأبلغه بأن الأخير ينوي أن يمسح به الأرض في أقرب وقت ممكن.

قال محروس:

-عنطرة هذا مختل عقليا. أنا شخصيا لم أتعرض له في يوم من الأيام. كل ما في الأمر أن أحدهم استولى على الصحيفة التي كان يعمل بها. ثم استولى آخر على مكانه في أحد وكالات الأنباء العربية. وبعد سنوات اقتنعت إدارة هذه الصحيفة بأن المراسل الأصلح لها في موسكو، هو أنا، بعد أن رأت صوري مع جميع الرؤساء والوزراء، وأدركت مدي أهمية علاقاتي مع المراقبين والمحللين والشخصيات السياسية والبرلمانية البارزة.

شعر محروس، من خلال الصمت المبين على الجالسين والجالسات، بتعطش إلى المزيد. فأضاف:

-أنا لم أصنع مجدي هكذا بسهولة. لقد سافرت إلى جميع المناطق الساخنة في الشيشان ويوغسلافيا وأفغانستان. وجهتُ أسئلة محرجة إلى يلتسين وجورباتشوف. صرفت أموالا طائلة على حفلات العشاء والكوكتيل التي كان يحضرها السياسيون والبرلمانيون من كل جنس وملة.

قال أحد الحاضرين في جدية تامة:

-نعم، نعم. هل تذكر عندما طلب منك عنطرة أن تجد له عملا عندك؟

-وشهد شاهد من أهلها. كان هذا العنطرة يمر بظروف صعبة أسريا وماليا. وعندما جاء إلى مكتبي، استقبلته بحفاوة، لدرجة أن قدمتُ إليه الشاي بنفسي. ولكن المغرضين أوغروا صدره علىَّ عندما رأوه يحمل حقيبتي في أحد حفلات الاستقبال. لا أدري لماذا غضب مني! كل ما في الأمر أنه هو الذي بادر بحمل الحقيبة عندما كنا نخلع معاطفنا في الطابق الأول. ولأنني كنت مشغولا بصياغة السؤال الذي سأوجهه لرئيس البرلمان، نسيت أن أسترد الحقيبة منه. وبصراحة، فقد حملها أكثر من مرة قبل ذلك، ولكن عندما رآه البعض، ووسوس له البعض الآخر، تضايق، وتصور أنني أتعمد إهانته، على الرغم من أنه هو الذي بادر.

*     *     *

على الرغم من الحديد والنار بين عنطرة ومحروص، إلا أن التحالف الاستراتيجي الوحيد بينهما كان يتركز في العداء لآدم إدريس. وآدم إدريس يجمع كل تناقضات البشر. أسوأ ما فيه أنه لم يكن يفصل ما بين الحلم والرغبة في الخيانة، فكان يزيف الأول، وبمارس الثانية كتحصيل حاصل. يضحك، ويحكي عن أسباب أخرى لضحكه. يبكي في الخفاء، ويخفي وجهه بابتسامة تزغرد تحت وميض عينيه اللتين تومضان ببريق يثير الهواجس. ويصمت عندما يشتد الصراع: يقلب المواقف، ويزن الأمور الخاسرة والرابحة، ويرفض الانحياز ليظل يراوح بين البين. ويقول للأعور، أنت أعور، إذا كان في ذلك مصلحته فقط، أو عندما تنتهي المصلحة. ويضرب بقوة مهما قدم إليه الإنسان الذي أمامه من معروف. وأجمل ما فيه، أنه كان يستجيب لكل المؤامرات، ويصب الزيت على النار، ويدلي بمعلومات لكل الأطراف المتصارعة، ويعرف كل تفاصيل حياة الجميع. وكثيرا ما كان يتعمد أن ينافق طرف على حساب طرف آخر، بشرط عدم وجود هذا الطرف الآخر. وكان بإمكانه تكرار نفس الموضوع مع الطرف الأول.

ولأن عنطرة ومحروص كانا من رجال الثقافة والفكر والصحافة المخضرمين بحكم السن، كان من الصعب أن يختلفا على خطر وجود أمثال آدم إدريس أو غيره من الشبان التافهين الذي ظهروا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وبالتالي، وعلى الرغم من استعار التناقضات بين الكهنة الذين كانوا يضمون الجيل الذي تربى بشكل أو بآخر في موسكو السوفيتية، إلا أن خطر الانقراض كان يوحدهم أحيانا في وجه هذا البلاء الجديد الذي لا يقل عن تهديدات الإرهاب الدولي.

*     *     *

آدم إدريس، أو آدم إبليس، كما اصطلح الجميع في موسكو على تسميته، كان الأصغر سنا، والأكثر موهبة بين أبناء جيله ممن هم بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من العمر. أي بالضبط في نصف عمر عنتر ومحروس. فهو موهوب منذ البدايات: عندما كتبت أول وآخر قصة في حياته وتحدث النقاد والمثقفون، وفق رواياته المختلفة، عن الدم الجديد في الأدب العربي. وعندما ترك قريته النائية وحصل على دبلوم الصناعات الخفيفة (تخصص أحذية) من أحد معاهد القوقاز. وعندما اشتغل بالسياسة، ثم بتوريد الأخشاب من دول البلطيق، وبعد ذلك في تجارة الملابس الداخلية والأحذية. وفجأة انتقل إلى الصحافة، فصار مراسلا تلفزيونيا، وانتهى به الأمر إلى إزاحة أول من مد له يده في موسكو، فأطاح به بضمير مستريح وبقسوة لا يتميز بها عادة إلا الإنسان الذي أدرك في لحظة أنه فقد كل الإمكانيات المتاحة وغير المتاحة على العودة إلى إنسانيته.

هذه النقلات في حياة آدم إدريس لم تكن حلما يحتاج إلى تحقيق، وإنما كانت خطوات طبيعية للغاية في ظل تطور وسائل الإعلام، وتقلص المسافات بين البشر، والتعددية في اجتذاب المواهب وتنميتها وتطويرها. غير إنه حكى ذات مرة عن أحد أحلامه بأن يصبح ممثلا وكاتب عمود في إحدى الصحف الكبرى. واستند في هذا الحلم إلى قصته التي نشرت وهو لم يبلغ بعد سن العاشرة، وإلى أدواره الخالدة في المسرح المدرسي بقريته النائية.

 

(10)

لم تكن تعنيه التفاصيل التقليدية للموت والجنازة والدفن والعزاء. ذهب ببساطة مع الجميع. وقف في أول "خميس" أمام المقبرة يتلقى العزاء من جديد. لم يكن يسمع أي شيء. كان يردد في آلية، أدهشته هو نفسه، العبارات التقليدية، بينما تتفتح في رأسه نوافذ وأبواب على مشاهد من العلاقة الصعبة والمعقدة التي امتدت طوال السنوات الثلاثين الأخيرة بينه وبين الأب. اكتشف فجأة أنه كان يحبه بجنون. تذكر وجهه وعينيه وابتسامته، ورائحة ثيابه عند عودته يوميا من الشغل.. وصوته وهو يضحك ويصيح ويسب ويلعن.. لم يكن هناك أي شيء غريب أو شاذ. إذن ماذا حدث بالضبط لكي تصل العلاقة إلى هذا الحد من التعقيد؟!

تذكر فجأة، ولأول مرة منذ الطفولة، أنه عانقه واحتضنه بشدة. كان ذلك قبل عام واحد من الوفاة. شعر في تلك اللحظة، أمام المقبرة، بملمس صدره، واحتواء ذراعيه، برائحة عرقه وأنفاسه.. وفي الليل أغلق على نفسه باب الغرفة وراح يبكي بحرقة. وكانت الأم في الخارج تسمع نهنهاته، ولكنها تركته يخفف عن نفسه، لأنها كانت هي الأخرى تبكي سرا.

انتبه على صوت صباح:

-أنا نازله أشتري ورد بلدي. على فكرة، المحل اللي قدامنا ده بيبيع توترت لذيذ، روح اشتري واحدة. خد مفاتيح العربية علشان لو جيت إنت الأول.

-اشتري إنتي التورت، وأنا حاختار الورد على ذوقي.

-طيب. الحمد لله إنك فهمت. دا إنت بقيت بني آدم خالص.

ابتسم عفيفي، لأنه لم يقل لأي إنسان أنه مريض بعمى الألوان. هو نفسه لم يكتشف ذلك إلا عندما كان يؤدي امتحانات القبول في كلية العلوم. قالوا له أنه لا يمكن أن يقبل في أقسام الكيمياء والبيولوجي والجيولوجيا، وأمامه فقط الفيزياء والرياضيات. لم يهتم كثيرا، لأنه كان يريد بالفعل الرياضيات والفيزياء. وبالتالي لم يتوقف عند هذه الحادثة، ولم يعلق عليها مع أحد.

قال لبائع الورود:

-اختار بوكيه على ذوقك.. بس خلي البلدي والأركاديا كتير.. وبلاش قرنفل.

ابتسم عندما تذكر أن ماشا هي التي كانت تختار الورود في بداية علاقتهما. وبالخبرة عرف ماذا تحب. فكان يذكر لبائعات الورود الاسم واللون، ويتكفلن هن بالباقي.

 

(11)

موسكو مثل المقهى أو محطة القطار. زبون يأتي، وآخر ينصرف. وراكب يصل من مكان ما، وآخر يرحل إلى اتجاه ما. ويبقى المقهى، وتظل محطة القطار. والثابت هنا هو المكان برائحته وطقسه وصيفه وشتائه. هناك أيضا بعض الزبائن والركاب المقيمين، كما في أي مقهى أو محطة قطار. هذا النوع من الزبائن والركاب لديه حلم واحد، وواحد فقط: البقاء والرحيل. طرفا هذا الحلم أو الكابوس يمتدان بامتداد حياتهم، ويصيغان جميع الرغبات ووجهات النظر والحسابات الآنية وبعيدة المدى. وفي المسافة بين الطرفين يتسرب العمر، وتتقلص الذاكرة إلى ما قبل ذاكرة الدجاجة.

البقاء-حيث لا مكان آخر، ولا اتجاه آخر، ولا لقمة عيش أو رغبة في اكتشاف بشر آخرين لن يكونوا في أسوأ الأحوال أحسن من السابقين. وتبقى الجثث الحية تتحرك في دائرة مغلقة من النرجسية والحماقة وتضخم الذات والازدواجية والدسائس.

الرحيل: حيث السيناريوهات الوردية المعدة مسبقا، والتي استغرقت ساعات الليل قياما وجلوسا وركوعا، من أجل غيظ الجميع بأن منصبا دبلوماسيا ينتظر، أو رئاسة تحرير صحيفة معروضة، أو جائزة دولة ستُمْنَح في القريب العاجل، وربما تكون الفيللا قد جهزت تماما ومستعدة لاستقبال الفاتح المنتصر بأفكاره الكثيرة ومشروعاته الضخمة حول إصدار الكتب والمجلدات عن سنوات غربته، وخبرته الثقافية والفلسفية والفكرية. وترحل الفصول وتيارات المياه والهواء، وتهاجر الضمائر والأرواح إلى مقابر مجهزة بأحدث ما توصل إليه العلم من شاشات ومطابع وأجهزة تكييف، وأغاني ورقص وكحول ومخدرات.

غير أن فئة الخلود، هي الأهم من فئتي البقاء والرحيل، فبعد مغامرات الشباب، والسياسة، والتنظيمات السرية والعلنية، لجأت فئة الخلود إلى الزهد والتصوف. انهارت أوهام الماضي والنضال ضد الإمبريالية والرأسمالية والاستعمار، وفشل نضالها في الشيشان من أجل الشعب المسلم، ووهن العظم في كتابة التقارير والاتصالات الهاتفية المريبة، فأصبح الله هو الملجأ والملاذ.

*     *     *

في هذا الجو الافتراضي يصعب أن تحكي عن الحلم الذي جاءك في المنام أمس أو أول أمس. إذ كان الذي يطاردك بدون ملامح. ولكنك كنت تراه جيدا. كان يطاردك، وكنت تفر منه. لم يكن هناك أي سبب لمثل تلك المطاردات، على الأقل لديك.

كنت تعرف الطرق والممرات على الرغم من عدم وجود ضوء أو ظلام. المبنى كان متعدد الطوابق: بناء قديم، طاعن في الزمن، له رائحة غير حديثة، وجدران واسعة عالية، وأسقف بعيدة. كنت تعرف حتى الطوابق، وكأنك كنت هنا مرات كثيرة. وكنت تطير أمامه في خفة. وعلى الرغم من طوله الذي يتناسب مع اتساع خطوته الضخمة، إلا إنك كنت تراوغ بخبرة ومرونة وثقة.

كاد يمسك بك على أحد الطوابق، ولكنك ناورته بمهارة شديدة وفلت من يده التي لم تكن تراها. كانت المناورات والملاحقات تجرى أثناء هبوطك إلى أسفل. وفي الطابق قبل الأرضي، وهو ما يثير دهشتك، لحق بك، وكنت في متناول يده، ولكنه لسبب ما، لم يتمكن من اختطافك. كنتَ تشعر بأنك دخلت إلى هذا البناء وتجولت فيه، إلا إنك في الوقت نفسه غير متيقن بالضبط متى وكيف وفي أي ظروف.

في الطابق قبل الأخير كانت مصيدة، أو فتحة سرية من تلك التي كانوا يبنونها في القصور الخاصة في القرون الوسطي. كانت أفقية باتساع الطابق كله. وفي لحظة لحاقه بك، انفتحت تلك الفوهة، أو الباب الأفقي أمام قدميك. لحظتها أدركتَ أنها فرصتك الأخيرة للإفلات منه. وكانت بالفعل هي المرة الأولى التي ترى فيها مثل هذا المنفذ العجيب. ألقيت بنفسك، انزلق جسدك بشكل أثار دهشتك: لم تستلق على ظهرك، ولم تتدحرج، ولم تقع. تحولتَ إلى صورة أخرى أكثر خفة ورشاقة. انغلقت فوهة الفتحة مباشرة. شعرتَ بتحرر هائل. وجدتَ نفسك في الجزء الثاني من المدخل. ذلك الجزء، في حالة الدخول، يؤدى إلى صالة بها ثلاثة مصاعد على اليمين، ودرج على اليسار. التفتَ إلى الخلف، من باب الاحتياط، لم تره، ولكنك ميزت رائحته، وامتلأ الهواء من حولك برائحة الخطر. وفجأة وجدته أمامك، وليس وراءك: كائن ضخم يرتدي ملابس داكنة مزركشة ميزتَ الأسود والأحمر من بينه، وكان على رأسه غطاء أسود يشبه القُمع أو المخروط. خففتَ من وقع أقدامك، وقصرت من خطواتك. جاءتك رغبة شديدة في الإسراع لكي تلحق به، ولكن من دون أن يشعر بك. هذه الرغبة كانت متمحورة فقط في النظر إلى وجهه. وفعلا نجحتَ في ذلك: غير إن الزاوية لم تسمح لك إلا برؤية جانب وجهه، على الرغم من أنه لم يكن يملك أصلا وجها.

وفجأة تحرك الهواء من حولك، وكان هو في منتصف الممر المؤدى إلى الباب الخارجي، بينما كنتَ أنت في المسافة بين الممرين. حدثت دوامة هوائية، أو شيء من هذا القبيل، شعرتَ بخطر ما، ربما يلتفت إلى الوراء الآن ويلمحك, في هذه اللحظة لم يكن أمامك مفر سوى الاستسلام. لم يكن هناك أي مخرج سوى العودة إلى الداخل والصعود مرة ثانية إلى تلك الطوابق الكثيرة اللعينة. وبالفعل حدث وأن التفتَ هو إلى الوراء: كان فعلا بدون أي ملامح: لا وجه، لا عينين، لا أنف، لا فم. وفي نفس تلك اللحظة ألقيتَ بجسدك الخفيف إلى اليسار، خلف عمود رفيع. شعرت بسلطتة، وأنه يراك، وأنه قادم لا محالة. وفجأة أضاء النور الخارجي الممر، فنظرتَ من خلف العمود، وإذا به يخرج في هدوء وثقة عجيبة، وكأنه لم يرك. ومن أجل أن تتأكد اندفعت بجسدك خلفه، فلمحت ملابسه الداكنة المزركشة في ضوء النهار.

لم تكن تعرف ماذا يجب أن تفعل.

فجأة وجدتَ جدتك لأمك تهبط الدرج وإلى جانبها امرأة أخرى عرفتَ فيها راقصة البالية الروسية الشهيرة يكاترينا. نسيت لقبها، ولكنها كانت هي، راقصة البالية. كانت تسير إلى جوار جدتك كصديقتين حميمتين، وحولهما نساء ورجال آخرون لا تعرفهم. كانوا متجهين إلى خزانة الملابس التي تجاور المصاعد الثلاثة. اتجهت ناحيتهم. ابتسمت جدتك وفتحت لك ذراعيها. كانت هي كما هي: جسدها الصغير النشط، وثيابها الأنيقة على الدوام، ووجهها الأبيض المضيء دوما، وعيناها الزرقاوين اللامعتين دائما. وفي يدها سيجارتها "اللف" الصغيرة التي تلفها هي بأصابعها الرفيعة ذات الأطراف البنية دائما من أثر التبغ. قالت لك: سأبعث إليك برسائل، وأرجو أن تكتب لي أنت أيضا. ابتسمت راقصة البالية. نظرتَ مليا في وجهها: كانت ملامحها، تجمع بين إيسادورا دونكان، وممثلة إنجليزية نسيتَ اسمها... كانت أيضا بعينين زرقاوين، ووجه أكثر صبا بكثير من وجه جدتك، على وجهها ابتسامة رقيقة. لا تدرى، هل كانوا في طريقهم في اتجاه خزانة الثياب أم في اتجاه المصاعد. ربما يكن قد تسلمن ثيابهن واتجهن إلى المصعد. ففي تلك اللحظة تبادلتَ نظرات معروفة مع جدتك، وانطلقتَ على الدرج. لم تكن تعرف لماذا، ولكنك عندما رأيت إحدى العاملات في ذلك البناء، سألتها: أين شقة يكاترينا؟ ولكي لا تشك في أنك غريب، أو لص، ابتسمتَ قائلا: أعتقد أنها على الطابق السادس أو السابع، كنتُ هناك منذ قليل. سألتك: وإذا كنت تعرف، فلماذا تسأل؟ تذكرت في تلك اللحظة أنك أثناء المطاردة، مررت على أحد الطوابق، فرأيت بابا مواربا، عرفت فيه باب شقة يكاترينا، ولكنك لم تشأ الهروب منه إلى الداخل خوفا من أن يتعقبك إلى هناك، ويثير لها مشاكل ما. تذكرتَ ذلك، فتركتَ العاملة واقفة في اندهاش تنظر إليك.

اتجهتَ نحو المصعد. ضغطتَ على الزر. انفتح أحدها، الذي كان على اليسار. كان مزدحما، ووقف ثلاثة أشخاص بدون وجوه. كان الأوسط يضع ذراعيه على كتفي الآخرين. ويضع كل من الآخرين ذراع على كتف الأوسط. نظرتَ خلفهم، لعل عينيك تصطدمان بعيني أحد تعرفه، أو أحد يمكنه أن يدعوك للدخول. وبالفعل التقت نظراتك بنظرات رجل أطول من الأشخاص الثلاثة، ولكنها كانت نظرات بلا عيون.

*     *     *

أحلام اليقظة لها ما يبررها في علم النفس والجنس والسادية والانكسار. وأحلام النوم هي القدرة الحقيقية على تفسير الواقع الافتراضي المحاصر بعنطرة ومحروص وآدم إبليس. لكن أخطر ما في هذين النوعين من الحلم، أن تعيش الأول وكأنه حقيقة، وأن لا تقدر على الثاني باعتباره هلوسات. بيد أن الأحلام الأخرى، الكبرى، لم يعد الوقت كاف لها ولمتاعبها. الأحلام الكبرى من قبيل أن تفتح عينيك صباحا على وجه زوجتك، أو أن تلقى عليها تحية الصباح بعد معركة ما قبل النوم، أو أن تواتيك الرجولة فتسأل ابنتك عن لقائها بصديقها، وهل تحبه أم تقضي فقط بعض الوقت معه، أو تتغلب على جبنك-ولو مرة واحدة في حياتك-فتبصق في وجه رئيسك في العمل.

الأحلام الكبرى التي فقدت معناها، فأصبحتَ تصيغ عبارات إنشائية عن الحب والبساطة، والناس المسكونين بالخوف والرعب والأمل، وتتحدثَ في السياسة باعتبارك منظرا فكريا متبحرا ووثيق الصلة بالمصادر العليا والقريبة من مراكز اتخاذ القرار، وتروي كثيرا عن تاريخك السري في الأحزاب والتنظيمات العالمية والمحلية.

وأكبر الأحلام أن..

أمر طبيعي أن تكون قد فقدتَ ليس فقط معنى الحلم، بل وأيضا القدرة عليه، مهما كان بسيطا وصغيرا مثل الرضيع. فكيف، بالله عليك، يمكن أن تسقي حلما من ذاكرة دجاجة؟ وكيف يمكن أن تحلم بوجوه ممسوخه، وأرواح رحلت إلى المقابر وتركت الأجساد تصول وتجول بملامح مختلطة من وجوه عنطرة ومحروص وإبليس.

 

(12)

في كل السنوات التي تلت موت الأب، كان يعقد العزم على زيارته بدون أي طقوس: يركب سيارة في لحظة ما من إجازته القصيرة، على أن يكون الوقت ليلا، ويذهب إليه. يجلس قليلا، يتحدث معه، ويبكي قدر ما يستطيع. وفي الحقيقة، كان إبراهيم يظن أنه فقد القدرة على البكاء، بينما كانت تواتيه في أحيان كثيرة رغبة في البكاء والصمت والوحدة، في موسكو أو القاهرة، سيان. إذ أن الأمر لم يكن يتعلق بالمكان أو بحادث معين من قبيل خيانة من صديق أو خلاف مع ماشا، أو بطالة مؤقتة. ومع ذلك، كانت الأمور تسير في اتجاه آخر تماما لا يُمَكِّنه حتى من أن يتذكر أن الأب مدفون في مكان ما قريب من وسط القاهرة لا يفصله عن أي من باراتها سوى نصف ساعة مشيا على الأقدام.

*     *     *

بدَّلَت صباح ثيابها أمامه. وضعت الورود في فازة ذات شكل هندسي رقيق، ثم أضافت بعض قطع السكر. اقتربت منه وطبعت قبلة خفيفة وعابرة على شفتيه. احتضنها بقوة. أجلسها على ركبتيه. مد يده إلى صدرها. لم تحاول التملص أو الابتعاد، وإنما لجأت إلى صدره مثل قطة. أدهشتها فقط تلك السرعة التي لم تضعها في السيناريو الذي رسمته، أو بالأحرى ترسمه منذ عدة سنوات بعد أن توطدت العلاقة من جديد. أخذت رأسه في صدرها، وقبلت شعره. قال:

-ماشا.. أنا..

-ماشا مين، يا بني آدم.. قوم.. إطلع بره.. بره يا بن الوسخة..

أصابته نوبة ضحك أثارت دهشته. لم يكن يستطيع أن يضحك بطبيعة الحال أمامها. ولكن بمجرد أن رزعت الباب خلفه، أطلق ضحكة عجيبة، واتجه ذهنه مباشرة إلى موسكو.. نحو ماريا التي تتحمله وكأنه صليبها الذي بليت به.

ماشا وصباح..

الأولى في موسكو، والثانية في القاهرة. وهو الكائن المتأرجح بين عالمين ليس لهما علاقة بالجغرافيا بقدر ارتباطهما بطرق التفكير والنظر إلى العالم واستيعابه والتعامل معه، أو بصورة أبسط، ارتباطهما بمستشفى الأمراض العقلية.

صباح لم تعد تلك الفتاة ذات الستة عشر عاما التي قابلها لأول مرة على طائرة مقلعة من القاهرة. لقد صارت ببساطة امرأة تعرف ليس فقط ما تريد، بل وتدرك أيضا كيف تحصل على ما تريده. الزمن غيرها كثيرا، ولكنها لا تزال، في نظر إبراهيم عفيفي، تلك الفتاة ذات الجسد الممشوق والعينين الساحرتين، صاحبة العبارات الصريحة، المتحررة نسبيا، والتي تريد في الوقت نفسه أن تتزوج من أجل السترة.

أما ماشا فهي كائن آخر لديه أيضا طرقه وأساليبه في الحصول على ما يريد، غير أن السيناريوهات تختلف باختلاف الموقع الذهني من العالم.

*     *     *

نفض عن نفسه كل ما يتعلق بالمرأتين. سار نازلا في هدوء على الطريق الجبلي الملتوي نحو شارع صلاح سالم ومقابر الدراسة. تعمد أن لا ينظر إلى الساعة. رفع عينيه نحو السماء، فوجدها صافية تماما. مد بصره نحو القاهرة، فكرهها كما لم يكرههتا أبدا. انقلب هذا الإحساس إلى احتقار عندما تذكر النفاق والبلادة والانتهازية وقلة الحيلة. تحرك أمام عينيه شريط سينمائي طويل من شرور الأصدقاء وحماقاتهم، وغبن رؤساء العمل ودسائس الزملاء، والضن بالمساعدة على الرغم من أنها لن تكلف فاعلها شيئا. توقف الشريط على وجه الأب، فشعر بتماه شديد معه، أصابه إحساس بالوحدة وقلة الحيلة. بكى. أسرع الخطى. ركض. راح يجري. قطع المسافة في زمن قياسي ليجد نفسه فجأة إلى جوار مقابر الدراسة. توقف عند أول مقبرة. ركع. أنزل رأسه وراح يمرغها في التراب، ويبكي.

*     *     *

هل كان بحاجة إلى كل تلك الدموع لكي يصفو ذهنه؟

طرح على نفسه هذا السؤال وهو يلعن صباح واليوم الذي رآها فيه. وكان الصعود إلى المقطم أصعب بكثير من النزول.

دق جرس الباب. فتحت صباح:

-كنت عارفة إنك حاترجع، يا وغد. إدخل.

-أنا عاوز تورت.

-هه، إدخل خد دش الأول علشان ريحة عرقك المعفنة دي.

*     *     *

صارت أعظم من إنسان، وأضعف من إله.

راح يقبل أظافر قدميها، ويلعق كل خلايا جسدها. ابتسم عندما شعر بخجلها وهو يقبل ما بين فخذيها. أدرك وهو يطبع قبلة على مؤخرتها أنها سيدة لا تتكرر.

قالت:

-إحنا مش في موسكو. أنا مش زي الشراميط اللي تعرفهم هناك.

-إنتي أعظم إمرأة في حياتي.

وقال في نفسه: قصدي يعني أعظم شرموطة.

قالت:

-أنا مش مستريحة كده، تعالى إنت فوق.

ضحك:

-إنتى الخسرانة.

-أنا ستك وتاج راسك. وعمرك ما حا تحب غيري.. مش كده!

قالتها بنبرة توسل، ولكن بقوة. بقوة امرأة تقترب حثيثا من عامها الأربعين، وهي تدرك جيدا أن هذا العمر هو أجمل حلقات حياتها، بعد خبرة زواجين. هو الذي سيفتح لها أبواب الحياة الحقيقية في الحب والجنس ومعرفة أدق أسرار الجسد، والخبرة في استئناس هذا الكائن الخرافي الذي يسمى بـ "الرجل".

 

(13)

اخترقتُ صفوف المدعوين في الصالة الواسعة مثل صالات القصور متجها نحو المستعرب الروسي. ألقى كل منا بجسده بين ذراعي الآخر وكلمات الود تغطي على صوت الموسيقى والأحاديث المتداخلة. فجأة، أشار المستعرب في احترام شديد إلى شخص وقور يقف إلى جانبه:

-أعرّفك بالدكتور أنطرة غضنفر.

كان رجلا وقورا، يرتدي بدلة على الطراز الإنجليزي، ويضع منديلا بين الأحمر والتركواز على رقبته. سحرتني ابتسامته اللطيفة التي كشفت عن أسنان بيضاء جميلة تناغمت بشكل أو بآخر مع الشعيرات البيضاء المتناثرة بين الأسود الكثيف على رأسه.

قال عنطرة:

-بالمناصبة، كنتُ أوضُ الطَعَرَُف بك مُنظُ سنوات، فأنا أُطَابع ما طكطبه. وفي الحقيقة، أنا معجب بآرائك الجريئة. أنا أيضا كاطب وصحفي وباحص في الآضاب عموما، وفي الأضب الروصي بالظات. وكنطُ أوضُ أن أصألك: هل بإمكانك مصاعضطي في نشر بعض المقالاط والدراصات الأضبية؟

التفتُ حولي، فلم أجد صاحبي المستشرق. سلمتُ أمري إلى الله، وواصلت الحديث مع الرجل الوقور بالغ التهذيب. أعطاني بطاقة حمراء مذهبة عليها رقم هاتفه وعنوانه، وطلب مني رقم هاتفي.

-أنا آسف جدا، هل يمكن أن أكتبه لك على ورقة؟

-بكل صرور.

أخرج ورقة وقلما، وقدمهما إلىَّ في ابتسامة غاية في الرقة.

فقدتُ أثر صاحبي المستشرق طوال السنوات التي تلت هذا التعارف. ولازمني عنطرة مثل ظلي.

*     *     *

أثناء إحدى زيارات العمل لمدينة طشقند، تعرفتُ في المصعد على شخص يدعى محروس. وفي الحقيقة، كنتُ قد لمحت الرجل في بداية الرحلة من موسكو. ولكنه كان، بحكم السن، يجلس مع زملاء آخرين، أو يتجول مع بعض الشخصيات البارزة. وبعد يوم عمل مزدحم، قررتُ الصعود إلى الطابق الأخير الذي يعمل كبار ومرقص لفندق طشقند. لم يكن يشغلني هاجس المرأة في هذه اللحظات على الرغم من وجودهن من كل جنس وملة. كان همي الأساسي هو احتساء ما يمكن أن تتسع له معدتي من فودكا. وفي منتصف القنينة التقت نظراتنا. كان يجلس مع شخص بدت عليه مظاهر الدبلوماسية، وأمام كل منهما كأس بيرة من الحجم الكبير. كانا يضحكان ويغازلان الفتيات الصغيرات الرائعات بثيابهن القليلة أو غير الموجودة أصلا.

لا أذكر بالضبط كيف بدأ اللقاء. ولكنني انتبهت فجأة لأجد محروس واقفا أمامي في ابتسامة خلابة يدعوني إلى طاولته هناك. كانت قنينتي قد قاربت على الانتهاء، فطلبتُ مائتي جرام فودكا، واتجهت معه نحو صاحبه. غير أن التعارف الحقيقي كان في المصعد، حيث سألني:

-بالمناسبة، هل تمارس الكتابة، أو أي شيء من هذا القبيل؟

-أحيانا.

-ماذا تكتب، وأين؟

-في الحقيقة، أنا أكتب منذ عدة سنوات في العديد من المجلات والجرائد.

-لم أقرأ لك أي شيء. هل تكتب باسم مستعار. معذرة، ما اسمك بالضبط؟

-إبراهيم عفيفي.

-أنا أعمل بالكتابة منذ عام 1989، وأتابع جميع المطبوعات العربية والروسية. للأسف لم أقرأ أبدا لهذا الاسم. علاوة على إنني أصدرتُ 25 كتابا، هذا طبعا إذا كنت تتابع الحركة السياسية والثقافية.

-في الحقيقة، أنا أكتب منذ عام 1985.

-كم عمرك؟ واضح أنك صغير.

-أنا رجل مبتدئ، مجرد محاولات.

-مفهوم. هل يمكن أن تتصل بي بعد عودتنا إلى موسكو؟ أود أن أرى بعض كتاباتك، وإذا أعجبتني، فسوف أطلب منك بعض المواد للصحيفة التي أعمل بها.

 

(14)

-الحياة أوسع بكثير مما يتصور الإنسان العابر المسكين-هكذا ردد إبراهيم عفيفي، وقال أيضا:

-الحماقة هي أقصر طريق لإلغاء جميع الخيارات التي منحت للإنسان.

أعجبته العبارة كثيرا، فأخذ يرددها عدة مرات، ثم راح يضيف إليها كلمات وجمل وعبارات، إلى أن تولدت في ذهنه فكرة لطيفة حول البشر.

*     *     *

سارت العلاقة مع عنطرة ومحروس في وقت واحد، وعلى خطين متوازيين. وبمرور الأيام حكى كل منهما عن الآخر تفاصيل تشيب من هولها الولدان. وإبراهيم عفيفي، مشغول بأحلامه التافهة: القصص والموضوعات الصحفية، وأكل العيش.

تحولت لباقة عنطرة، مع الزمن، إلى إلحاح. وإمعانا في اللزوجة، كثرت اتصالاته الهاتفية وراح يطلب اللقاء مرتين وثلاث في الأسبوع، والجلوس في المقاهي والمطاعم لاحتساء البيرة والفودكا. ثم تطورت الأمور إلى مفاتحات ومكاشفات، صرح فيها عنطرة بأنه مضطهد من الجميع، وأنه أحق وأولى منهم بالصحف والوكالات التي يعملون بها، وأنهم يحاصرونه ويكيدون له ويتآمرون عليه. وفي نهاية المطاف، زودني بملف ضخم يتضمن أعماله التي لم تر النور بسبب خساسة الزملاء ودناءتهم. وطلب مني المساعدة في نشرها.

على الجانب الآخر، كان محروس يصول ويجول على الشاشات وصفحات الجرائد. ومن لا يعجبه، يكتب فيه شكوى إلى رؤسائه في العمل، راجيا فصله، لأنه يتسبب في إهانة المؤسسة التي يعمل بها، والإضرار بصورتها. وفي اللحظات القليلة جدا التي كان يتصل بي فيها، كانت تتلبسه حالة من الفضفضة، ولكنها فضفضة من طراز مختلف يقتصر على الحكي عن تجربته الصحفية الفذة، ثم تقديم النصائح، وتوجيه بعض الانتقادات. وبعد ذلك يتجه الحديث إلى خساسة الزملاء وحقارتهم، وضعفهم المهني.

في الحقيقة، لم يكن يهم إبراهيم عفيفي من هذا الموضوع إلا عمله مع محروس الذي وفر له مبلغا لا بأس به، وعلاقته الطيبة مع عنطره، إذ أن الرجل رغم كل ما يقال عنه ليس إطلاقا على هذا المستوى من الضرر.

فجأة أوقف محروس التعامل معي بعد أن رفضت التواطؤ معه ضد أحد الزملاء. وبدأ بشن حملة انتقادات ضدي، باعتباري سكير وكافر وبتاع نسوان وقليل الأدب، عندما رفضت محاولته الثانية للتعاون معه في شن حملة على إحدى شركات الموبيليا العربية في روسيا. وبالفعل رفضت لأنني كنت أعرف أنه يعمل مستشارا لها في بعض الأقاليم الروسية، ويتقاضى مبلغا من المال مقابل ذلك. لكن مشكلته الأخيرة وقعت مع الشركة بعد أن رفضت إدارتها منحه "الكومشن"، وفضلت إعطاءه مطبخا لشقته الجديدة بشرط أن يدفع هو أجور عمال التركيب.

وعلى الجبهة الأخرى، أعلن عنطرة غضبه علىَّ، وبدأ يوجه انتقادات لاذعة لكل ما أكتب. بل وذهب إلى أنني متطرف ولص. بل وذهب إلى إرسال شكاوي كيدية إلى أية جهة محتملة يمكن أن أعمل معها. وفي ذات الوقت، بدأت أقرأ مواده في صحف ومجلات مختلفة. ولسوء حظه كانت هذه المواد هي نفسها التي أعطاني إياها. وعندما قارنت بين ما لدى وبين المنشور، فوجئت بمساخر ومهازل. عندئذ فقط أدركت، لماذا يتصدر وسائل الإعلام والفضائيات العربية تلك المواهب الفذة التي نقرأ لها ونراها يوميا.

 

(15)

المرج يبدأ من طرف وينتهي عند الآخر. كان رحيبا لا تضمه عين ولا تطويه فكرة: بلا لون، أو بكل الألوان. يتلون حسب الفكرة، والكلمة، والنظرة، والإشارة.

رقدتْ على المرج عارية، مثل الحقيقة، والكذب، والحب، والكراهية. كانت أهم من سفينة نوح، ولم تكن مثلها: تجمع القرد والحمار، والأسد والضبع، والكلب والحصان، والأرنب والفهد، والقط والنسناس، وإنما تجمع كل أفكار الله وأحلامه وأمنياته وعطاياه. لم تكن أبدا سفينة رغم إنها بدت كذلك عندما صرخت السماء وانفجرت ببراكين ورعد وبرق وهطلت منها نار باردة وثلوج لها قرون مثل الشيطان. كانت لها رائحة الأرض، وحنانها، وعافيتها.

قارن بين المرجين. مد لسانه وراح يلعق طعم الله: مثل الندى، وأريج الدم الفائر في العقل. قال:

-منك وإليك. اللهم اجعله مرجا دائما بأي لون، وبأي طعم.

ذاق طعم الأبد، فتحول من فكرة إلى كلمة. عاد سيرته الأولى، فانقلب بشرا يضئ النهار، ويملأ الليل فرحا. صار كوناً ومجرة.

عاريا كان، وكانت هي عارية إلا من ستر الله ورحمته وحبه. والسماء تمطر جسديهما الملتحمين بوابل من حنان.

أي صحراء هذه؟! إنها صحراء القلوب والعقول. وهي قحالة الروح، وضحالة المعرفة.

هبطا من الأرض إلى الأرض. تقلصت الفكرة، وانقسمت، فصارت روضا عاطرا يجمع بين المتناقضات، ولكن ليس على طريقة سفينة نوح، وإنما على طريقة الله.

راحا يركضان فوق العشب. لم تكن هناك ذاكرة بعد. يا للسعادة! ونسمة لها مذاق خاص تهدهد كل نباتات الله ما بين السماوات والمروج.

لم يعرف أي منهما لماذا كان يركض، وخلف مَنْ؟ كانا يركضان وفقط. لا يهم من يركض وراء مَنْ، أو لماذا؟

وكانت الذاكرة. الذاكرة التي غلبت الوعي والتعب.

تمددا من جديد. فالتحفت الأرض بجسديهما النورانيين، وارتاحت السماء على قضيبه المتقد، ونامت أطرافها على حلمتيها النافرتين. تقلصت الفكرة، واتحدت، فصارت نفَسَاً واحدا، ونَفْسْاً واحدة. وترجلت الفكرة الذاكرة، فلم تجد أمامها سوى عطر الله ورائحة الجنة ولحمة الخلود.

وإذا بالأرض تنشق عن كائنين يلبسان البياض من أخمص إلى أعلى.

قالا:

-ما آيتكما؟

-عشقنا وعشبنا، حبنا ومرجنا، عصير الجسد ونهم العقل، طعم الله وأريج فكرته.

نظر كل منهما إلى الآخر، وقالا:

-عشقكما عشبكما، وحبكما مرجكما، وجسارة العقل نور المعرفة، وعصير الجسد جنة الخلد، وطعم الله حرام، وأريجه كفر. فافعلا ما شئتما، وليقضي الله أمرا كان مقضيا.

وعرجا إلى ما لا رأت عين ولا خطر على قلب بشر.

وكانت أولى الكلمات:

-ما هذا؟

-وما هذا؟

*     *     *

النهر يركض مثل طفل عفي. ومخلوقات الله تتحول من شكل إلى آخر بفعل التطور والمعرفة.

سألت، مشيرة إلى البراح الممتد بحجم الفكرة:

-ما هذا؟

لمعت عيناه، واستطالت نظرته إلى ما وراء السهب:

-الوطن

-وما الوطن؟

وكان الطير يسبح في ملكوت الله. والكائنات تتناسل وتكتمل، ثم تنقسم لتتوالد من جديد.

وكان الإنسان، والزمن، والخبث والمكر، والحب، والفضيلة، والجشع، والخيانة.. وعنطرة..

 

(16)

عنطرة، كان يعمل خفيرا. ثم ترقى فأصبح سفيرا. وعندما منحوه وساما جديدا صارا مخبرا، هكذا كان المرحوم سعيد عبدالنصير يحب أن يصفه.

يا سبحان الله، قالت. وسألت مبتسمة:

-قنطر، أم قنطرة؟

-عنطر، وليس عنطرة الله يرضى عليكي.

-فلماذا تنطقه أنطرة؟

-يا بنتي عنطرة، من قبيل التدليل.

ضحكت وقبلته في وجنته. قالت:

-مشغولة جدا، وإلا كنتُ قد اقتحمتك وغزوتك وصعدت بك إلى سدرة المنتهى.

طبع قبلة خفيفة خلف أذنها، فضحكت مثل طفلة وطوقت عنقه. قال:

-سأعد لكِ فنجان قهوتك بالحليب، يا سيدة الأكوان المسكوبة في كأس من فرح ومرح وحبور.

-أُحِبُكَ.

-أعبُدكِ

*     *     *

عنطرة كان يعمل شيوعيا، ثم تطور فأصبح بعثيا. ولما قرأ كتابا آخر صار مثقفا "عضويا" في الخارج.

وكانت الفصول تتبدل، والشتاء والصيف يطاردان بعضهما البعض على إيقاع أغاني صوت الله الفيروزي. ويهوذا ليس إطلاقا إنسان، وإنما طريقة تفكير. بالضبط مثل العهر والقوادة.. قوادة الدول والأحزاب، وقطعان الماشية والدواب. غير أن الخلق استكان عندما أدرك أن الأمر يتجه صوب المستحيل، وأن ما من دابة على الأرض إلا ورزقها على الله.

*     *     *

عنطرة صار مثقفا ليبراليا، وناقدا، وناشطا اجتماعيا. وفي أوقات الفراغ يزاول بعض مهنه القديمة: يكتب قصصا، ويترجم من لغة الطير والهند والسند. وقبل النوم يقرأ الصحف باللغتين الآرامية والحميرية. ويستيقظ على تسبيحات بلغات لم تظهر بعد. حتى أحلامه كانت ناطقة بالإنجليزية والإسبانية والمولدافية. وأحيانا كانت تتخللها بعض الروسية والعربية. وكانت أيضا بالألوان.. بكل ألوان الطيف. وبلون النجوم في عز الضهر، وبلون وجه يهوذا-الفكرة، وبملامح الخط الفاصل بين العهر والقوادة.

*     *     *

عنطرة قام بدوره في المساهمة بقسط وافر من تقدم البشرية. فصار مؤخرا مفكرا وكاتبا، ومستشارا أمينا للنجوم على الأكتاف، وللآذان الملتصقة برؤوس أولي الأمر والنهي عن المعروف.

عنطرة ترك الجمل بما حمل واعتكف للتأمل. كان في البداية، عندما كان يعمل شيوعيا ثم بعثيا وشاعرا وناقدا، يعتصم بالبارات والحانات ومداعبة الغلمان والفتيات القاصرات. وعندما صار ليبراليا ومثقفا عضويا في آن واحد أدرك أن للنساء حلاوتهن وطراوتهن. وأدرك أيضا أن الله يغفر لمن يشاء، فأصبحت العشرة الأواخر من رمضان ملجأه ومبتغاه.

*     *     *

عنطرة فتح مدرسة لتعليم كتابة القصة والرواية والشعر والسيناريو. خصص منها غرفة لتعليم النقد الشامل: السينمائي والمسرحي والروائي والصحفي والانطباعي، والباليه أيضا، واستبدل حصص التربية الرياضية بالرقص. فتمكن ميلان كونديرا مؤخرا من إثبات أن الرقص ليس مهنة أو موهبة، وإنما طريقة تفكير.

*     *     *

عنطرة أصبح مؤمنا. كتب على باب المدرسة (تعليم فن الحياكة.. فصول مختلفة ومتنوعة من الإبرة إلى الصاروخ.. من النوفيللا إلى الملحميات.. من المسرح الإسلامي إلى أدب السيرة والتهاذيب والأحاديث الشريفة.. من سيرة الخلفاء إلى سيرة الحلفاء..).

 

(17)

ألقت بحقيبتها على الأرض مثل طفلة عادت متعبة إلى البيت. نفضت قدمها اليمنى فطار حذاؤها إلى أعلى، دفعت بيسراها فحلقت فردة حذائها الثانية في الهواء، ثم اصطدمت بالسقف، واستقرت أمامه على سطح المكتب.

التفت إليها، وإذا بها تسبح في الفضاء متجهة نحوه بكل عنفوانها وحيويتها، وبسمتها الطفولية. فتح ذراعيه في اللحظة الأخيرة، فوزعت جسدها الفارع النحيل على كل خلاياه.

قالت ضاحكة:

-تصور!

-ماذا؟

-رأيت اليوم كنطرة في مترو الأنفاق. كان جميلا ووسيما مثل أيام الصبا. يلبس الآن عوينات مذهبة، ويرتدي بدلة على الطراز الإنجليزي. يحمل حقيبة جلدية فخمة ومنتفخة، ربما تمتلئ بالكتب والأقلام وأقراص الكمبيوتر.

قطعتْ حديثَها فجأة، وسألت:

-هل تذكر..

ولكنه قاطعها مصححا في ابتسامة خبيثة:

-اسمه عنطرة، وليس كنطرة.

فقالت في تأن:

-قنطرة..

-لا.

-أنطرة..

-لا.

-لا يهم يا أخي. لماذا تدقق في هذه التفاصيل. الأسماء لا تعني أي شيء. هل تذكر لون الإيشارب الذي كان يحيط به عنقه عندما كان شيوعيا؟

-أحمر.

-وماذا كان لون الإيشارب عندما كان جرامشيا وناقدا سينمائيا؟

-أحمر على أصفر.

-اليوم كان يحيط رقبته بإيشارب أزرق اللون به بعض الرتوش الحمراء والصفراء والبيضاء.

حرر ذراعه من مغناطيس خصرها. وفي الوقت الذي كانت يده الأخرى تداعب حلمة أذنها، جذب الصحيفة وفتحها على إعلان بصفحة الثقافة.

-هل قرأتِ هذا؟

عادت برأسها، نافضه شعرها الطويل إلى الوراء، وقرأت في صوتٍ عالٍ: مدرسة الأندلس لتعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية.. من أجل العودة إلى المجد واستعادة الحقوق المغتصبة.. من أجل مجد الحضارة العربية الإسلامية وحوار الحضارات.. من أجل رفعة الوطن..

قهقهتْ بصوتٍ أعلى وهي تقرأ: تعليم القرآن والقصة القصيرة ونظم الشعر والأغاني..

سألها:

-وكيف كانت ملامح وجهه؟

-لم تتغير كثيرا، ولكن بها نضارة رغم السنوات الستين.

-هل تذكرين وجه يهوذا؟

-إنه طريقة تفكير.

-أريدك الآن.

-وأنا.

*     *     *

لم تخطئ الطبيعة حينما قررت أن يكون المد والجزر في البحر، وبفعل حركة القمر. وكانت قوانين كوبرنيكوس ونيوتين على حق عندما أكدت على جوهر مفاهيم الجاذبية.

وكانت المياه تنساب في هدوء عاصف، تحمل في داخلها طاقة لا عين رأتها ولا خطرت على قلب بشر. والهضبة المنحدرة تتصاعد نحو الأعلى بعشب يزداد اخضراره كلما هبطت نحو النهر. والكهف الصغير القائم بين المروج يزغرد بفرح الجسد وتحليق الأرواح.

وماريا، أو ماشا، كانت زميلة الدراسة، وأستاذته في اللغة الروسية والجنس والحياة. وكانت أيضا فرصته التي ضيعها في لحظة عبيطة، وانحاز إلى الأحلام التي تساوت مع الكوابيس بعد سنوات. وبعد سنوات طلق الكابوس، قبل أن ينجب منه كوابيس أخرى صغيرة، وتعلم لغة الطير في السماء، فجاب البراح والسهب والليل والنهار وما بينهما إلى أن التقى مصادفة بماريا.

وماريا، ظلت تعتقد دوما أن اسمها يعود إلى أم المسيح. فكان تقدس اسمها من قبيل الموضة الجديدة، بعد أن أكل الدهر وشرب على موضة الضمير، والله في قلبي. وبعد أيام قليلة من اللقاء، أدركت أنها مجدلية إبراهيم عفيفي. ولما راجعت التاريخ، تاريخ العلاقة وليس تاريخ الأديان، أحبت المجدلية، فتقمصت روحها، وسارت خلفها على طريق الفضيلة.

 

(18)

رأيتُها فعلا. ولكن هل هي أم غيرها. النظارة الجديدة قادرة على التمييز، وإلا لما دفعتُ فيها خمسمائة دولار. القحبة، هذه، ماريا، لا تزال صبية وجميلة. ولكن لا يهم، فستظل حقيرة ووضيعة.. أنا واثق أنها رأتني. لقد احتك كتفها بكتفي، ولولا الزحام والتدافع على باب المترو لألقيت عليها التحية. ولكن لماذا كانت في المترو، وماذا كانت تفعل، وإلى أين، أو من أين؟ ربما كانت تُقَوِّد مع أحد. فأنا أعرفها، وكثيرا ما حذرت هذا المغفل منها. ولكنه جحش، صغير السن، لا يفكر إلا في قضيبه. ولكن كيف؟ لقد تجاوز عمره الأربعين ويبدو أنه لا يزال محلك سر.

أذكر عندما كنا أصدقاء، كان يتعالى ويفخر بنفسه وبقدراته ومقالاته. كنتُ أحاول تعليمه شيء من خبرتي المتواضعة، ولكنه كان يتعالى ويرفض في خبث واستعلاء. كنا نجلس في البار، والعياذ بالله، نتحدث عن نابوكوف والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وتولستوي وإبسن والفن الحقيقي، وكانت هذه الكلبة تأتي لتتحدث عن حثالة الأدباء والكتاب من أمثال جوركي والكتاب السوفييت عديمي الموهبة والقدرات. وكان هو مشغولا، ههههههه، بالأدباء الشبان، وثائرا ضد الفن الذي يفرغ القضايا الإنسانية والاجتماعية من مضمونها.

الأيام أثبتت مَنْ كان على حق. لقد حذرته من التفاهات التي كان يكتبها. لكن هذه القحبة كانت تشجعه، وتساعده. لو كنتُ في مثل سنه، وكانت هي صاحبتي، لأوقفتها عند حدها. طبعا كنتُ سأنكحها كما ينبغي على الرجال أن يروضوا النساء، ولكن عندما يأتي وقت العقل، سأبعث بها إلى المطبخ، أو في أحسن الأحوال إلى الفراش لتنتظرني أطول وقت ممكن.

بالأمس جاءني أحد الأولاد الذين كانوا يتعلمون كتابة القصة القصيرة...

دفعه أحد الركاب، فكادت الحقيبة تطير من يده، صرخ:

-يا حيوان، هل تعرف ثمنها؟ ابتعد، إففففف..

جاءني الولد الذي يقلد الأدباء الجدد التافهين. وإمعانا في قلة الأدب أظهر امتعاضا من النصائح التي قدمتها إليه. قال إنه يحاول التجريب في تفكيك الصورة الشعرية ليعيدها إلى الأرض في النص السردي. إففف، ما هذه الخربطات.. يرفض كتابات أعمدة القصة والرواية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ويلهث وراء التافهين من كتاب الثمانينات والتسعينات.. سبحان الله، لا إله إلا الله.. جيل سافل، لا يعترف بأبوتي وأبوة غيري من الذين أضاعوا عمرهم في خدمة البشرية والثقافة والفكر الإنساني.

أما القحبة الصغيرة التي أنهت الجامعة لتوها، فلا تكتب إلا عن جسدها وغرائزها، والعياذ بالله. ليس لديها إلا مشاكل المرأة، واستعباد المرأة، وتحرير المرأة، وخراء المرأة.. الرجال أيضا مستعبدون من هذه المرأة. ماذا في الأمر إذا جلستْ معززة مكرمة في بيتها تغسل وتمسح وتطبخ. هل سيقلل هذا من إنسانيتها؟! هذا الكائن الوضيع يريد إعادتنا إلى الوراء. اللهم العن الأقوام التي تحكمها النسوان، والعن الرجال الذين تتحكم فيهم القحبات.

تعبتُ من هذه المدرسة والعاهات التي أتعامل معها يوميا. سأغلقها، وسأتفرغ لكتابة مقالات نقدية وفكرية. اليوم سيكون الأخير لهذه المدرسة الفاشلة. سأعود إلى البيت، وسأخرج مجموعة المقالات التي كنت أنوي ترجمتها عام 1979. وسأكمل القصة التي بدأتها عام 1972 ولم أكملها لانشغالي ببعض المهام التي كلفني بها مدير شركة الورق، الله يلعنه، كان يستغل حاجتي للأموال ويطلب أشياء سخيفة. هناك أيضا مجموعة من الأفكار دونتُها على عجل عام 1982 لكي لا أنساها. هذه الأفكار يمكن أن تصبح مقالات فكرية هامة ومفيدة للأجيال الجديدة. الحقير، مدير تحرير الصحيفة التي كنتُ أعمل بها، هو السبب في دفن هذه الأفكار. لقد كلفني وقتها بكتابة بعض التقارير عن زملائي من أجل تقديمها لرئيس التحرير بهدف تنظيف المؤسسة من أصحاب الأفكار اليسارية والدينية والقومية والوطنية المتطرفة.

 

(19)

توقف المترو. اندفع وسط الزحام خارجا. كاد يتعثر. أمسكت فتاة شابة بذراعه. نظر إليها، تمتم بكلمات غير مفهومة رافقتها رعشة مدهشة. اخترقت بسمتها عويناته السوداء الداكنة. زفر متلعثما. قال:

-شكرا.

-رابطة عنقك جميلة.

رفع عويناته. بحلقَ في وجهها. ابتسمتْ في صوت رقيق مزيحة خصلة من شعرها إلى الوراء.

-من بيير كاردان. اسمي عنطرة. هل أتشرف باسمك؟

-سفيتلانا.

-اسم جميل.

-من أين؟

-عربي.

-نعم، نعم. ولكن من أين؟

-من العالم العربي.

-نعم، نعم. جزائري، مغربي، عراقي، سوري، مصري، سعودي، عماني؟ من أين؟

-آه. تونسي من أب سوداني وأم ليبية، هههههه.. جدي قطري وجدتي هندية، ههههه..

-رائع، أنت خفيف الظل.

قدم لها بطاقة حمراء مذهبة عليها اسمه وأرقام هواتفه. وطلب منها رقم هاتفها، ودعاها على العشاء في السابعة مساء. ومن أجل التأكيد سوف يتصل بها هاتفيا في الخامسة.

*     *     *

رأى أن الذهاب اليوم إلى المدرسة ليس له أي لزوم. من الأفضل العودة إلى البيت لترتيب أموره استعدادا للقاء هذه البطة الصغيرة.

سيهاتفها. وسيلتقي بها حتما. سيتناولا العشاء في أحد المطاعم الفاخرة في وسط موسكو. لا يهم، مائة دولار أو مائتان. سيدعوها بعد ذلك إلى البيت. وبالتالي يجب إعادة إعمار الثلاجة والبار. سيكتفي هو بالبيرة المكسيكية الباردة، وسيقدم لها كوكتيل. وربما فودكا أو ويسكي.

تذكر فجأة أنه كان ينوي في عام 1992 ترجمة مجلدين من الأعمال المختارة لتشيرنشيفسكي، وترجمة كتابين لبليخانوف.

في طريق العودة، تذكر أيضا أن أفكار كتابه عن الليبرالية الجديدة في الغرب التي سجلها في ورقة عام 1996 قد نضجت الآن، ومن الممكن كتابة هذا الكتاب في مجلدين أو ثلاثة. قال: سأبدأ بكتابة مجموعة المقالات التي رتبتُ أفكارها عام 2002 عن اليسار الجديد في روسيا والصين. وسأنهيها بالعوامل الأساسية لنشأة اليسار الأوروبي الجديد عموما، وفي فرنسا وإيطاليا على وجه الخصوص.

فجأة عادت إلى مخيلته صورة تلك الكلبة، ماريا، التي تجاهلته. قال في نفسه، يبدو أنه تزوجها. هه. لا يهم، وماذا يمكن أن ننتظر من كائنين متواضعين كريهين مثلهما. هو يعيش في الأوهام، ويكتب القصص والمقالات السيئة، وهي تشبعه جنسيا، ولا تفكر إلا في غرائزها والشعر والسينما والفن التشكيلي، بل وترسم أيضا. هه. معنى ذلك أنه يخون زوجته.. وربما طلقها! ولكن متى؟ هل كانت زوجته على ذمته عندما كانت هذه القحبة تأتي لتشاركنا أحيانا لقاءاتنا في البار؟ أم أنه انفصل عن زوجته في تلك المرحلة؟! هذا الخبيث لم يحك لي عن علاقته بزوجته. يبدو أنه كان يتعمد التعتيم على هذا الجانب لكي يداري على خيانته الزوجية، ويعطي انطباعا للآخرين بأنه قديس. كان يحكي فقط عن ماريا القحبة التي كانت تسيطر عليه بفرجها، وتخدعه بعبارات محفوظة للكتاب والمثقفين.. لا يهم

..سفيتا رائعة. صغيرة وبضة. سأستعيد معها اليوم شبابي. سأمتطيها، سأجعلها تئن وتصرخ. ستتذكرني إلى أبد الآبدين. وإذا أعجبها الموضوع سأدعوها للعيش معي. فماذا تريد فتاة تافهة مثلها: أموال، شقة، نزهة، سياحة؟ سأوفر لها كل ذلك. سأجعلها تنسي نفسها واسمها. ستجلس في البيت تنتظرني. سأحدثها عن مشروعاتي وخططي المستقبلية. سأجعلها تعتنق الإسلام، وترتدي الحجاب. المجتمع هنا فاسد، والدين والإيمان والحجاب سيقونها شر الفتنة وطمع العيون. فارق السن ليس مشكلة، أهم شيء أن أضمن لها مستقبلها، وأنكحها جيدا. فماذا تريد المرأة أكثر من ذلك.

 

(20)

للنهر شبق المعرفة وللبحر لون العيون وسكينة الروح. الحب جسر والجنس معبر وفنجان قهوتها مليء بأسرار أنفاسها الدافئة تلفح روحه الهائجة بنار العشق. عيناها تعكسان طاقة جهنم الحمراء وظمأ مسامها يرتعد في شفافية أمام توقه إلى التوحد. همستُه بأن الأزرق يمكن أن يكون حارقا وملتهبا والأحمر لا معنى له والأسود له أكثر من معنى، أفاضت روحها فعانقته وصرخت: لا جدران في الدراما لا خشبة ولا جمهور سأجرب هدم الجدار الخامس لأرفع الحاجز بين الله وزغاريد البشر.

صبت له ماريا كأسا ورشفت منه كعادتها رشفة خفيفة شفافة وحفيف ثوبها يشاطر الملائكة تسبيحاتهم حول العرش. سكب بعضا منه بين شفتيها كعادته ولثم العليا فأغمضت عينيها وأطلقت روحها إلى المجرات المتوقعة على أمل التوحد هناك مع بشر محتملين يشبهونها ويشبهونه.

سألها:

-ما لون الحب؟

-لون عينيك وطعم ريقك وملمس أصابعك. صوتك ونظرتك وحضورك من الأبد إلى الأزل. صعودك وهبوط وصلاتك وصومك وحجك ووحدانيتك.

سألته:

-من أنا؟

-أنتِ اللون والطعم والملمس. الإيقاع والفوتون والمغناطيس والأزل والأبد. المسافة بين السماء والأرض والتراتيل والجوهر والواحد الأحد.

-وأنتَ أنا. وأنا أنت. نختصر المسافة والزمن والأبعاد، نتقافز على الدهر ونغني في خلاء الله يسمع تراتيلنا فيغرد من جديد.

 

(21)

عنطرة يطلب رقم الهاتف للمرة العشرين. وللمرة العشرين يرد عليه صوت آلي: مستشفى الأمراض العقلية.. يخلع عوينات الكتابة، ويلبس عوينات القراءة، وللمرة العاشرة يراجع رقم الهاتف. يتمتم بكلمات حانقة. يلعن سفيتا وروسيا والفتيات الحقيرات اللاتي يسخرن من مشاعر البشر وأحاسيسهم. يقول: كل هذا بسبب وجه الشؤم التي التقيتها عند ركوبي المترو في الصباح. إن نحسه يرافقني حتى في علاقاتي النسائية. ماذا به لكي تحبه هذه القحبة. لا مال ولا جمال، ولا حتى شباب. لعله يسحرها، أو يخدعها. هذا المخصي لا يمكن أن يشبعها جنسيا كما كان يمكن أن أشبعها لو رافقتني.

قام ليتوضأ. حمد الله على إن الفتاة سفيتا لم ترد وتضيِّع صلاته وصومه وإيمانه. تمتم بعبارات الحمد والشكر، ورجم الشيطان بأحجار اقتطعها للتو من محاجر روحه.

وعلى الطرف الآخر من المجرة، كانت أعشاب البحر تنمو بهدوء، والمروج الخضراء تكسي وجه الله، وتنعكس على زمرد بحر الممكنات، وتتعالى زغاريد امرأة وتراتيل رجل على إيقاع نشيد مضمخ بأريج عطر الله وطعم نوره المستحيل.

 

(22)

وهناك، في نقطة أخرى أقرب إلى شبه ظل فوق الكوكب، نهض إبراهيم عفيفي. ارتدى ثيابه. انحنى على صباح. قبلها. فتحت عينها في لذة أبدية، عانقته في قوة. وقالت:

-رايح فين. خليك جنبي.

نظر إليها نظرة غريبة وباردة ومحايدة. شعر بأنها ضعيفة ووحيدة رغم كل ما تحاول إظهاره من تماسك وقوة وجبروت. تحولت نظرته إلى نظرة جريحة، فانصرف بدون وداع.

في الطريق، وزع نظرات أكثر حيادية وبرود على القاهرة والمقابر. لملم أطراف ذاكرته. وضع كل طرف في صندوق صغير. أغلق كل منها بإحكام، ثم أودعها في زوايا صغيرة من القلب. أخذ نفسا عميقا من هواء القاهرة الذي اختلف تماما عن ما كان عليه الأمر منذ ساعات قليلة.

شعر بتحرر نادر. لم تكن لديه أدنى رغبة في الدخول إلى وسط القاهرة، أو لقاء أحد من الأصدقاء. وقف قليلا يقلب النظر بين مقابر الدراسة ومدخل شارع الأزهر. استقر به الأمر على اجتياز الشارع الخالي تقريبا من السيارات والمارة نحو المقابر. راح يتجول في الحواري الكثيرة بدون أي هدف. شعر بحياة مختلفة: هنا أيضا بشر يعيشون مع الموتى. وفجأة خرج سعيد عبدالنصير المدفون منذ عدة سنوات في موسكو. اكتشف أنه لم يكن يعرفه على الرغم من تلك العلاقة الحميمية التي ربطته به طوال 20 عاما كاملة في بلاد الغربة.

اختار مقبرة خالية من الأحياء. دفع الباب الضخم في هدوء. تحسس الطريق في الظلام إلى أن وصل إلى ركن قصي، وجلس. أشعل سيجارة، ودخل في حالة أقرب إلى الانشطار والتوحد في آن واحد: حالة افتراق مع سعيد ومع نفسه، وحالة توحد ومصالحة مع سعيد بثقافته النظرية الواسعة، ومع نفسه أيضا.

لقد قرر سعيد باستعلاءٍ شديد، وبتعالٍ ترك الحياة وهو على أبواب الخمسين من عمره. ترك كاتيا، وتركني.. ترك الجميع بدون سابق إنذار. هل هزه الموقف الإنساني البسيط عندما رأى آدم إدريس يصعد فوق الجثث ليصبح مديرا لمكتب إحدى الفضائيات العربية في موسكو؟ أم أوجعه نفاق محروس عبدالبديع وتفاهاته التي يعدها من نتائج مجده الصحفي الكبير؟

هذه الأمور أتفه بكثير من أن تدفع سعيد عبدالنصير إلى الخوض في تلك المغامرة غير المحسوبة. فهو الوحيد الذي كشف آدم إدريس عندما وصل إلى موسكو وجلس بيننا يتملق ويتودد. سحب مقعده ببساطة وابتعد عنا قليلا. وبعد أن انفض الجمع، قال:

-الواد ده خطير. خلى بالك منه. عينيه مليانه خيانة وإجرام.

وعندما ارتكب آدم إدريس أول حماقاته، قال سعيد:

-الخيانات جاية، لا تقلقوا.

وعندما أعلن الولد عن سيرة ذاتية مزيفة، أنزل عبدالنصير كأسه وضحك ضحكة غريبة:

-سوف يبيعكم جميعا بثلاثين فضة، وأولكم من مد له يده.

كان يراقب باهتمام تحركات عنطر غضنفر وأحمد جمعة بانطوائهما أحيانا، وانفتاحهما عندما يدور الحديث عن صحيفة جديدة أو محطة فضائية، وكأنه يسجل سيناريو لحياة قادمة. غير أن كل تلك الأمور لا يمكن أن تدفعه إلى الرحيل المفاجئ وترك كاتيا التي وهبت نفسها إياه حبا وعشقا وذوبانا.

*     *     *

"موت الأب ألقى على كاهلي بعشرين سنة إضافية". استقبل سعيد الأمر وكأنه تحصيل حاصل. ولازمني جرجس ودميانة كظلي. دميانة بالذات كانت تحاول لعب دور الأم معنا جميعا على الرغم من أنها كانت تصغرنا في العمر بسنوات كثيرة. غير أن سعيد لم يكن يأبه بذلك، وكان يقول لجرجس:

-مراتك عندها شوية حنان زيادة، يا مولانا. يا عم خدها وارجعوا مصر. إنتوا قاعدين هنا بتعملوا إيه؟

-إحنا سيبنا مصر لأمثالك، يا عبدالنصير. وبعدين هنا، بيني وبينك، ما فيش حد بيسألك ديانتك إيه ولا بلدك فين.

-ما تقلقش، يا جرجس، كله جاي على الطريق. هناك الإخوان والجهاد، وهنا الفاشيين، وكله رايح لأجل مسمى.

ونتذكر حادثة سائق التاكسي الروسي الذي سألنا ذات مرة: من أي بلد. قلنا: من مصر. فقال: عرب يعني. قلنا: نعم بالروسية، ثم أضفنا كلمة ولا نخجل بالعربية. فرد السائق: يعني مسلمين. فقال عبدالنصير: مش كلنا، فيه واحد أهوه-مشيرا إلى جرجس-مسيحي. فنظر السائق بدهشة: مسيحي مسلم يعني.

نضحك، وتضحك دميانة. وتقول كاتيا:

-مش سواقين التاكسي بس اللي دماغهم بقت ملخبطة، دي وسائل الإعلام كمان.

وتضيف ماشا:

-الأوضاع هنا ما عدتش تفرق كتير عن عندكم. البوليس هنا ونواب البرلمان أصبحوا أكثر فاشية من الفاشيين. وعندكم، زي ما بيقول إبراهيم عفيفي، نص الجيش وجهاز الشرطة إخوان مسلمين، والناس كفروا من الفقر وقلة الحيلة، وعاوزين أي حد ينسندوا عليه..

ويضحك سعيد عبدالنصير. ينهض مهللا ليقبل دميانة وكاتيا وماشا. يقول:

-الستات بتفهم أحسن منكم، يا جزم.

 

(23)

إبراهيم عفيفي في الفترة الأخيرة، يزور المقابر والحانات. يعمل صحفيا ساعتين في اليوم على طريقة وسائل الإعلام العربية، ويمتهن السكر عشر ساعات يوميا. وفي أيام العطل، السبت والأحد، من كل أسبوع يكتب مذكراته التي لا تتجاوز هلوسات السكر والانكسار وتضخم الذات. وعندما يفيق لدقائق، يركع أمام ماريا، يلعق أصابع قدميها، ويغسل الأرض من تحتهما بدموع حارقة، بينما صار عنطرة غضنفر كاتبا لامعا، ومحروص عبض البضيع مراسلا فضائيا شهيرا.

غدا، اتصلت ماريا ببعض العرب المقيمين، وأخبرتهم بأنهم عثروا على جثة إبراهيم بجوار إحدى المقابر بضواحي موسكو، وكانت بعض زجاجات الفودكا الفارغة متناثرة حول المقبرة، وكان هو جالسا على خازوق.

وبعد غد، شربت ماريا كأس فودكا على روحه. وجلس عنطرة إلى جوار محروص، بعد أن عانقا بعضهما البعض بعيون دامعة وكلمات تائهة الحروف والمعاني، يقرآن الفاتحة على روح المرحوم، ويذكران محاسن موتاهما.

وبعد بعد غد، وفي هدأة الليل وسكونه العجيب، وقفت روح إبراهيم عفيفي تضحك وهي تتابع خيط البول الذي أطلقه آدم إدريس على مقبرة في ضواحي موسكو.

 

 

هلاوس

 

هلوسة (1)

عدة قصص وحكاية واحدة

 

 (1)

خبر على الإنترنت

برشلونة- صرحت تشيتشولينا فى مقابلة نشرتها صحيفة "ال بيريوديكو" الكاتالونية اليوم "أقدم نفسى لصدام حسين مقابل السلام فى العالم"، مذكرة بأنها سبق وقدمت بدون نتيجة هذا العرض للرئيس العراقى إبان حرب الخليج.

وتابعت ممثلة الأفلام الإباحية الإيطالية المنحدرة من المجر والتى افتتحت مؤخرا مهرجان برشلونة الثانى للسينما الإيروتيكية "أقدم نفسى له وأنا أسد أنفى واغمض عينى. أقدم نفسى له من أجل السلام".

احتلت تشيتشولينا مقعدا فى البرلمان الإيطالى حيث كانت نائبة عن الحزب الراديكالى بين 1987 و1992. وذاع صيتها بسبب إقدامها على التعرى أثناء عملها فى السياسة. وسئلت إن لم يكن الكشف عن نهديها يسىء إلى مصداقيتها فقالت إيلونا ستالر الملقبة بتشيتشولينا "إن نهدىَّ لم يلحقا الأذى بأى كان، فى حين أن حرب بن لادن أوقعت ضحايا بالآلاف".

 (2)

موسكو: نهاية القرن العشرين

سودانيون عراقيون مصريون كانوا يلعبون الورق ويسكرون. انقطع إرسال التلفزيون السوفيتى آنذاك وقال المذيع دون اعتذار أن الجيش العراقى احتل دولة الكويت. رفع العراقيون والمصريون والسودانيون نخب تدمير التخلف والنفط، وشربوا فى صحة القائد المغوار صدام حسين.

(3)

موسكو: بعدها بعدة أشهر

عراقيون مصريون سودانيون يعربدون ويلعبون الورق ويسكرون. فجأة انقطع إرسال التلفزيون السوفيتى وقالت المذيعة أن قوات الولايات المتحدة والتحالف الدولى قامت بشن حرب خاطفة على القوات العراقية المحتلة لدولة الكويت. توقف كل شئ. وتوقفت عقارب الساعة. وقال البعض:

-ابن الـ وغد

-كيف يمكن له أن يتجرأ ويحتل دولة ساعدته فى

سألت فتاة بالروسية:

-ماذا يحدث، لماذا صمتوا هكذا؟

تبرع أحدهم ولخص لها الموضوع. فسألته:

-ولماذا أنتم غاضبون؟

قالوا فى صوت واحد:

-لأنه لم يحتل السعودية!!

(4)

موسكو: فى مطلع القرن الحادى والعشرين

شيوعيون وقوميون ونصابون ومفكرون ومثقفون وأفاقون.. إلخ مختلفون فى أمر صدام حسين..

(5)

العالم: فى نفس الوقت

الإرهاب آفة القرن الحادى والعشرين.

(6)

مثل مصرى قديم: العجل لما يُقع تكتر سكاكينه.

(7)

باحث روسى: تتشكل الآن لوحة هامة جدا (زحام شديد يتكون من رؤساء ورؤساء وزارات، ووزراء، ورجال إفتاء .. إلخ اجتمعوا كلهم فى طقس احتفالى حول تمثال مغطى، وراحوا ينتظرون رفع الغطاء عنه. وعندما يسقط الغطاء يظهر تمثال لابن لادن وعلى قاعدته كتب: "مع وافر الشكر والامتنان لابن لادن").

(8)

موسكو: من 1990 إلى ...

"سبارتاكوس" كان إرهابيا، وعلى الرغم من ذلك لا يزال مسرح البولشوى يعرض بالية سبارتاكوس أحد أعظم أعمال البالية فى القرن العشرين. واتضح أن "العريس والعروس" اللذين أحرقا نفسيهما فى أحد ميادين تشيكوسلوفاكيا إبان الغزو السوفيتى لها عام 1968 كان سلوكهما يتضمن مظاهر الإرهاب. ثم جاء دور المواطن الكردى الذى أحرق نفسه فى ميدان عام احتجاجا على القبض على عبدالله أوجلان، فاتضح أيضا أنه كان إرهابيا "مثل" أوجلان بالضبط. أما كارلوس وجيفارا فهما إرهابيان بالفطرة. وبعد ذلك يأتى دور ماركس ولينين وستالين وهتلر وماوتسى تونج وفيدل كاسترو وجمال عبدالناصر وياسر عرفات. بل وتجلت صفات الإرهاب فى الجنود اليابانيين فى الحرب العالمية الثانية، وكان الجنود السوفيت فى نفس الحرب (وخاصة الذين كانوا يقومون بحرب العصابات خلف خطوط الجيش النازى) إرهابيين. أما المسكينة زويا كسموديميانسكايا المواطنة السوفيتية التى قبض عليها جنود النازى فى الاتحاد السوفيتى إبان الحرب العالمية الثانية وعذبوها مثل "زميلتها الإرهابية أيضا" جميلة بوحريد الجزائرية، ثم علقوها أمام الآلاف من مواطنيها فى ميدان عام وتركوها إلى أن تحللت، فقد كان مصيرها أفضل نسبيا، حيث صمم محافظ موسكو بوريس جروموف أن يقيم لها تمثالا. وبالفعل نفذ وعده أخيرا رغم أن وسائل الإعلام قد اكتشفت مؤخرا أن"زويا الإرهابية" كانت فعلا إرهابية.

ويتساءل الناس حاليا: هل كان إخناتون إرهابيا أم كهنة آمون؟ وهل كان سقراط إرهابيا حينما اختار الموت فى لحظة "تافهة" بينما تمكن جاليليو جاليلى من الإفلات من المصير "الإرهابى" بذكاء وفطنة؟ هل كان جوردان برونو أيضا إرهابيا لأنه وقف ضد المجتمع والكنيسة وتعاليم الرب وذهب إلى المحرقة بقدميه، بالضبط مثل جان دارك، بينما تمكن فيودر ديستويفسكى أن يفلت من حكم الإعدام ويقدم فروض الولاء والطاعة، ومن قبله تمكن بوشكين من الإفلات من النفى مع الديسمبريين والتقى القيصر ليقدم له الاعتذار ويزيل "سوء الفهم" الذى روجت له جهات معادية لبوشكين؟!

يهمس الكثيرون الآن: لا يستطيع أحد أن يتحدث عن الإسكندر الأكبر ونابليون أو الجيوش الأوروبية التى صالت وجالت طوال القرون الماضية لتحرق الأخضر واليابس تحت أقدام شعوب هى الآن فقيرة ومعدمة ومتخلفة حضاريا، ومن ثم "إرهابية". من هى "فانى كابلان" اليهودية التى أطلقت الرصاص على لينين؟ ومن هو مناحم بيجين وإسحاق شامير إريل شارون وناتان شارانسكى وأفجودر ليبرمان؟

ويقولون أيضا: هناك أيضا 4 مليار إرهابى يقفون بشكل أو بآخر ضد حكومتهم المكونة من مليار واحد فقط، وبالتالى أصبح المناهضون للعولمة "إرهابيين" بحكم الموقف والصنعة والسلوك وربما اللون والدين ومدى نجاحهم فى استخدام الشوكة والسكين وورق التواليت، بل ومن الممكن الآن اكتشاف أن "الإرهابيين" حاولوا لآخر مرة تنفيذ مخططهم المدمر ضد البشرية فى مؤتمر العنصرية فى جنوب أفريقيا، ولكن لحسن الحظ لم يقف ضدهم إلا إسرائيل والولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبى، وتم إنقاذ البشر من آخر محاولات "الإرهاب العالمى"

 

حوار خالتى أم هانى مع أمى

فى نفس يوم حادثة الأقصر، وبعد أن بث التلفزيون المصرى مشاهد من المذبحة، زارتنا خالتى أم هانى. ومن حسن حظى أن دخلت يومها فى لحظة مناقشة الموضوع بين أمى وخالتى أم هانى.

أم إبراهيم: والنبى ياختى لو يملكونى منهم لكنت قطمت زمارة حلقهم..

أم هانى: دول عيال ماعندهمش لا دم ولا أخلاق..

أم إبراهيم: أصل العيب مش عليهم.. العيب على اللى كبرهم وسمنهم، وسايبهم يرمحوا فى البلد، ويعملوا اللى هما عاوزينه..

أم هانى: والنبى ياختى الواحدة بقت متلخبطة، ومتنيلة على عينها، ومش فاهمة حاجة خالص! هما بيجيبوا الفلوس دى منين؟

أم إبراهيم: دا لو الفلوس دى بتنصرف على عساكر الأمن المركزى الغلابة، كانوا خدوا بالهم كويس، وقدروا يمنعوا العيال المجرمين من دبح الناس..

أم هانى: عندك حق والنبى ياختى..

أم إبراهيم: دا ياختى العسكرى من دول، يا قلب أمه، واقف زى سمكة البساريا مش قادر يحمل البندقية الخشب اللى ماسكها. وبينى وبينك، لو حد عطاله حتة هريسة، قد كدهو، حايسيب البندقية ويجرى..

 

مقطع من رسالة خالتى أم محمد لابنها محمد فى كييف فى مطلع التسعينات من القرن العشرين

 

..خلى بالك يا محمد، والكلام على لسان أمك الحبيبة، من نفسك. هى دلوقت قاعدة تعيَّط لما عنيها بقت زى القوطة الحمرة. فبعد قراءة رسالتك عن الحرب عندكم فى الاتحاد السوبيتى، والناس اللى قاعدين يضربوا بعضهم بعد ما كانوا فى دولة واحدة، أمك بتقولك ما لكش دعوة بأيتها حاجة، وما تتدخلش فى اللى مالكش فيه.. وفى النهاية إحنا ولا لنا ولا فى الطور ولا فى الطحين، وهما إنجليز فى بعض..

 

مقطع من رسالة خالتى زينب

..وعاملين إيه فى روسيا، دى أمك قلقانه عليك خالص، وبتسألك: هى روسيا دى قريبة من العراق؟ أنا عن نفسى قلتلها، لأ. وبينى وبينك أنا ماعرفش هى قريبة ولا لأ. بس الفكرة إن الدنيا مقلوبة هنا، ومظهرات طالعة، ومظهرات نازلة، والبوليس نازل فيهم ضرب. وأمك بتوصيك ماتطلعش مظهرات هناك علشان مايعملوش فيك زى مابيعملوا فى العيال بتوع الجامعة والمدارس هنا. دا والنبى يا خويا الرئيس بنفسه، ربنا يحرسه، قال إن إحنا عملنا كل اللى علينا، والباقى بقى على ربنا. بس بقى أنا مش فاهمة إيه حكاية أمريكا دى! هى يعنى مستقوية القلب والدراع؟! يعنى مافيش حد يقدر يردها ويوقفها عند حدها؟! دا يا خويا نازلين فى الناس الغلابة اللى فى العراق دى ضرب بالسواريخ والطيارات، وبيقولو بيضربوهم بالعناقيد. بس إيه، فى التلفزيون هنا كل يوم يورونا العراقيين عاملين فيهم إيه.. ممرمطين بيهم الأرض، وأما نشوف أمريكا الموكوسة دى حاتعمل إيه، والخيبان بوش، الموكوس، بكره يروح فى نصيبه ونخلص منه يا خويا. أنا مش فاهمة هما عاوزين إيه المتاعيس دول، ما يسيبوا الناس فى حالها بقى.. مش كفاية عليهم اللى عندهم؟ دا كمان بيقولوا إن واحد عراقى طلع على التلفزيون وقال حانخلى الموكوسة أمريكا تسف التراب زى ما سفته فى فينتام..

 

 

رسالة من خالتى أم صابر فى الصعيد الجوانى إلى الرئيس بوتين

صديقى العزيز إبراهيم

أرسل لك بخالص تحياتى من بلدنا الحبيب مصر، بلد الأمن والأمان، حيث لا حرب ولا مظاهرات ولا أيتها حاجة من الحاجات اللى بتحصل فى البلاد الوحشة التانية والوضع عندنا آخر استقرار.

وعلشان ما طولش عليك، ليه عندك خدمة وحياة أبوك يا شيخ.. الست أم صابر قريبتى اللى فى الصعيد، اللى كلمتك عنها مرة من كام سنة كده، كلمتنى انهارده وقلقانة علشان عندها عيلين فى مصر بيدرسوا فى الحقوق .أنا قلتلها يعنى يا خالتى أم صابر ملقتيش حاجة تانية تخليهم يدرسوها غير الحقوق دى؟ ده مبقاش فيه حاجة دلوقتى أصعب من دراسة الحقوق وخصوصا فى مصر، طب كنت ابعتيهم يدرسوها فى أيتها حتة تانية . قالتلى إنها متطمنة على الواد الصغير عفريت وبيسلك أموره وبيغش كويس، علشان كده حينجح ويبقى قاضى أو وكيل نيابة يا ظابط شرطة . قلتلها يا خالتى الشرطة ملهاش دعوة بالحقوق، دى حكاية تانية خالص . قالتلى يا خويا آهى كلها محصلة بعضها. هى بس خايفة على الواد الكبير صابر علشان طالع طيب وغلبان زى المرحوم أبوه. المهم علشان مطولش عليك، أنا حاولت أقنعها إن إحنا بعيد خالص عن الحرب وملناش دعوة بيها ومش بنشارك فيها بأى شكل، ماقتنعتش وقالتلى إزاى يعنى هما العراق دول مش عرب زينا، ومسلمين برضه؟ يبقى إزاى مالناش دعوة؟! إنت بتضحك علىَّ يا واد يا ناصر؟ دا أنا مرضعاك من بزى ده مع صابر، وعرفاك ياواد. طبعا إنت بقيت أستاذ كبير دلوقت واسمك بيطلع فى الجرنانين، بس برضه مش على خالتك أم صابر يا أستاذ! ده أنا لسه سامعة واحدة فى التليفزيون بتقول إن شعب العراق جزء من شعب مصر، وإننا شعب عربى واحد، ووطن عربى واحد. يبقى إزاى الكلام اللى إنت بتقوله ده؟

مفيش فايدة مش عارف أقنعها إزاى بغير كده. المهم يا سيدى الست أم صابر سألتنى هو مش فيه دولة كبيرة برضه زى أمريكا اسمها روسيا واقفة معانا زى ما أمريكا واقفة مع إسرائيل؟ هى فين روسيا دى دلوقت؟ ومش واقفة معانا ليه؟ قلتلها يا خالتى الكلام ده كان زمان قبل ما يعملوا حاجة اسمها البريسترويكا والجلاسنوست وطبعا ماعرفتش أفهمها معناهم إيه وخصوصا إنى، وده كلام فى سرك، أنا نفسى مش فاهم معناهم إيه بالظبط لحد دلوقتى. ولما عرفت منى إن لى واحد صاحبى وحبيبى قوى قاعد فى روسيا، فرحت قوى وقالتلى ماتكلمهولنا يقولهم إذا كانت الحاجات اللى إنت قلت عليها دى هى اللى مخلياهم مش عارفين يعملوا حاجة، يسيبوهم منها شوية لحد ما نلحق العيال اللى حيضيعوا دول، وحلفتنى إن دى أمانة ولازم أوصلها. فوحياة أبوك يا شيخ لو كان ممكن تكلملنا الأخ بوتن يشوفلنا الموضوع ده علشان خاطر خالتك أم صابر بس. ربنا يبارك فيكم (دى دعوتها)..

وبالمرة كمان يا إبراهيم لاحسن الواد ابنها وهو بيتفرج على الدش فى القهوة انهاردة قال إنه شاف فى محطة فضائية إن روسيا بتعمل مناورات جامدة قوى وحاتبعت سفن كبيرة من اللى مليانة نووى لمنطقة الخليج وعاوز يعرف إذا كان الروس حايبعتوها تحارب أمريكا ولا تشارك فى تحرير العراق. معلش يا مولانا بنتقل عليك.. ما إحنا مالناش غيرك فى البلاد دى.. ورينا يا سيدى يجعله عامر، وما يحوجك للئيم..

                                                 أخوك

                                                    ناصر البدرى

                                                     وخالتك أم صابر

 

رسالة فاطمة عبد الحفيظ زوجة أحمد سرور من الوايلى الكبير إلى فخامة الرئيس بوش

يا سيادة الرئيس

أنا عارفة عدلكم، وحبكم للحرية، وتخليص الناس من الظلم والطغيان. ولذلك توجهت إليكم علشان بعد كده أنا مش مسؤوله عن اللى حاعمله. ولعلمكم، بيتنا خالى من السكاكين والشوك والمقشات. ومافيش حتى لا حلل ولا أطباق. يعنى مافيش غير كراريس العيال وكتبهم والمرتبتين والمخدتين، وكام شبشب. ولو شئتم يمكننى التخلص من الشباشب إذا كانت حاتبقى فيها شبهة امتلاك أسلحة دمار شامل. أنا آى نعم معايا الإعدادية بس، لكن أعرف كويس إيه معنى-والعياذ بالله-أسلحة الدمار الشامل. لكن يا سيادة الرئيس، أحمد جوزى مش حايجبها البر. ويا إما توقفوه عند حده، يا إما حاتصرف معاه بطريقتى. أنا حبيت بس أوضح لكم المشكلة علشان بعد كده ماتتهمونيش بأى حاجه من الحاجات إياها، وتقع الفاس فى الراس، وتبقى مشكلة تعكر صفو البلدين.

يا فخامة الرئيس..

أنا خلاص طهقت من أحمد واللى بيعمله. ومش مكفيه 16 سنة جواز، وأنا معاه على المرة والأمر منها. كان يا سيادة الرئيس، قبل مانخلف الواد والبنت، داير على حل شعره مع العيال الصيع اللى بيعملوا مظاهرات ويقعدوا على القهاوى يتكلموا فى السياسة. وبعد كده ضحكوا عليه وخدوه فى أحزاب المعارضة، اللى مش عاجبها لا سياسة حكامنا الأكابر ولا سياستكم. أنا طولت بالى عليه أول خمس سنين. لكنه والله يا سيادة الريس، شحططنى وراه من الزاوية الحمرا لبولاق لعزبة ناهية لشبرا، وكنا بنطلع من كل بيت بفضيحة. والنبى على قلبك يا ريس، هل إنت ممكن تعمل فى مراتك أم عيالك كده؟ فأرجوك يا ريس تخلى بالك من رسالتى دى وتبعت أى حد، مش ضرورى ناس كتير علشان مايتعوروش أو يحصلهم حاجة فى مجارى الوايلى الكبير أو عزبة الجزارين، وعلشان بس يشوفوا الأول إيه اللى بيعملوا معايا أحمد ابن لبيبة، وبعدين يبلغوك وتقرر اللى إنت حاتعمله معاه.

يا سيادة الريس..

عاوزه أقولك إزاى ممكن اللى إنت حاتبعتهم يدخلوا الوايلى. طبعا أكيد سيادتك عارف الوايلى ده فين. الوايلى له 4 مداخل، 3 منها خطره وأحمد عارفها كويس وله ناسه فيها. فمدخل شارع بورسعيد خطر لأنه فيه شارع الشركات، وأحمد عارف العيال الصنايعية اللى هناك، وممكن يقول لهم يعملوا مشاكل للناس اللى سيادتك حاتبعتهم. ومدخل عزبة الجزارين مش مأمون أبدا، لأن أحمد عارف الناس اللى هناك لما كان بيلف مع مرشح حزب التجمع اللى بيكرهك يا ريس. وخلى بالك قوى من "اللى بيكرهك" دى. علشان دا حزب أصفر وموكوس ومتنيل على عينه، وعامل فيها قال يعنى بيدافع عن الغلابة والمظلومين. طيب ما هو جوزى عضو فيه وبيروح عندهم كل يوم، ولغاية دلوقت لاعندنا شقة ولا عربية، ولا حتى بوتاجاز أو غسالة. وكل الجيران بقى عندهم تلفزيونات وأدشاش بيشوفوا فيها الدنيا كلها.

أما الجانب التالت والأخطر من الاتنين اللى قابله، هو مدخل شارع سكة الوايلى. لأن هناك مصنع نسيج يا ريس، ومليان عمال يعرفوا أحمد سرور، قصدى يعنى أحمد جوزى. العمال دول ضعاف ومتنيلين على عينهم، وما يقدروش حتى ينشوا دبانه، بس الفكرة إنهم كتير، وممكن من الجوع والقرف والمشاكل ياكلوا اللى قدامهم، وخصوصا إذا كان حلو وملظلظ ولحمه أبيض وطرى زى العساكر بتوعكم. فبالله عليك بلاش مدخل سكة الوايلى حفاظا على أرواح الناس اللى حاتبعتوهم.

المدخل الوحيد الآمن هو من فوق. من ناحية "سيدى غراب". ليه بقى؟ لأن مقام سيدى غراب ده واقع ما بين القصر الجمهورى ومبنى المخابرات وقسم بوليس حدايق القبة. يعنى المنطقة أمان وتمام التمام، وما حدش حا يقدر يهوب ناحية ناسك يا سيادة الريس. دا الطريق الوحيد الآمن، لكن والنبى تبعتلى قبلها عربية ولا حاجة تاخدنى قبل ما تهجموا على الموكوس ابن لبيبة وهو قاعد يقرا الكتب المنيلة بتاعته، والجرايد، ويحرض العيال فى الحارة على أسياده وتاج راسه. مالهم الوزرا والرؤسا والناس الأكابر اللى عندهم كل حاجة؟ مالهم الناس اللى بقى عنهم شقق وعربيات ومزارع وأطيان؟ ومالهم اللى مخليين بالهم من عيالهم، وبيعملوا أى حاجة علشان يوفروا لهم اللى هما عاوزينه؟ والمصيبة لما أقوله يا أحمد اعمل معروف وافهم بقى، الناس بتعمل أى حاجة علشان يأكلوا ولادهم، وإن أهم حاجة أسرتك وولادك، وطز فى أى حاجة تانية. يقوم الموكوس يقف وعنيه تطق شرار، ويقولى: عاوزانى أسرق يعنى يا فاطمة؟ عاوزانى أسرق لقمة عيل غريب علشان أأكل عيالك يا بنت أمينة القرعة، يا بنت الـ..

أنا تعبت يا ريس..

بيشتمنى ويهزأنى، حتى قدام العيال والنبى. دا هوا فاكر إن كل الناس دى بتسرق. طيب وإيه يعنى. مايسرق هوا كمان علشان يأكل عياله. أنا ماليش دعوه بعيال الناس التانية، إنشالله يفطسوا حتى، أهم حاجة عيالى. وأنا عرفاك يا ريس إنت والست حرمك، بتعملوا كل شئ علشان عيالكم، واللى بيزيد بتزكوا بيه على الغلابة. لكن ممكن ظروفكم تبقى صعبة اليومين دول. وعلشان كده أنا مابطلبش أيتها مساعدات. كل اللى أنا عاوزاه إنك بس تقرا الجواب ده وتقرر. وأنا موافقة على كل اللى إنت عاوزه.

والكلمتين دول للست حرمكم علشان هى حاتفهمنى كست زيها..

يا ست الستات.. والنبى لما باشوفك فى تلفزيون الجيران دموعى بتفر. يا ما نفسى تيجى وتزورينا فى الوايلى علشان عينى تتملى منك. دا إنتى ياختى ولا البنت بنت أم طلعت جارتنا. كانت حلوه المضروبة. ولما حست بكده، سابت المدرسة وطفشت من الهم والغم والفقر. ودلوقت، عقبال عندنا كلنا، بيقولوا إنها صارت فنانة وسيدة أعمال قد الدنيا. وعندها كازينو وفندق. وجوزها ياختى شاب زى القمر وبيلبس حلق. بس مش هو اللى جاب لها الأملة دى كلها. دى قالت إنها اتجوزت واحد، وبعد كده-مش فاكرة والنبى ياختى، مات ولا طلقها، ولا سابته. مش مهم. المهم إنك حلوه وزى القمر. ودا كله بفضل جوزك الراجل اللى ملو هدومه مش زى المتعوس اللى عندى، اللى حتى خلف العيلين ومش قادر يعمل حاجة تانى. قال وإيه.. عامل فيها بيعرف يقرا ويكتب وداير على القهاوى والحوارى والورش هئ هئ بيقول للناس الحقيقة. والمصيبة إنه اتلم على شوية متاعيس زيه بيكتبوا فى الجرانين كلام يهلك من الضحك، وهما كلهم خايبين مش عارفين يأكلوا عيالهم.

المهم يا ختى إنتى فاهمانى كويس. ولما تشوفى الكلمتين دول، إبقى وصى جوزك علينا. ماتخافيش عليه، دا راجل وسيد الرجالة، وإحنا عنينا مليانه، يعنى مش حايحصل حاجة من الحاجات إياها. وبعدين هوا بيحبك وبيحب العيال، ومقطع نفسه فى كل حتة مش عندكم بس. وحتى لو حصل أى حاجة، متهيألى إنه ماعندوش وقت للحاجات دى. وبعدين مين اللى ممكن ينافسك عليه. دا إنتى تقولى للقمر قوم وأنا مطرحك. دا يا ختى التلفزيون بينور لما بتطلعى فيه. ويا سلام على ضحكتك اللى بتخلى الدنيا تضحك. وقوامك اللى زى عود القصب.

يا سيادة الرئيس

ينوبك ثواب. إعمل معروف قبل ما ارتكب جناية فى ابن لبيبة الموكوسة. ولعلمك.. الخمس سنين التانيين شفت فيهم المر معاه. وكل يوم يقولى، اصبرى يا فاطمة، إحنا شغالين فى الانتخابات كويس، ويمكن يبقى فيه حرية وديمقراطية. قال يعنى لما يبقى فيه حرية وديمقراطية العيال حاياكلوا ويشربوا ويلبسوا. طيب يا خويا ما هى الحكومة كل يوم بتقول إن مصر بلد الحرية والديمقراطية والأمن والأمان. يعنى عاوزنى ابن الواقعة أصدقه وأكذب الحكومة!! والله يا سيادة الريس إنه اتجنن وماعدش فيه فايده. أما الخمس سنين الأخرانيين فهما زى القطران. العيال كبروا والواد بدأ يشتمنا، ويجى كل يوم شارب بانجو. والبنت بقت بتغيب بره، وبتيجى ريحتها غريبه. ومافيش حد قادر يكلمهم. والمصيبة إن أحمد اتجنن أكتر لما سيادتك حررت العراق من الاستعمار. وبدأت الناس هناك تفوق لنفسها. والنبى أنا شفت بعينى فى التلفزيون بتاع الجيران.. كل واحد يا خويا طالع بتلاجه وغسالة وكرسى.. ما شاء الله. نفسى والنبى تحط أحمد عندك فى اللستة. وإذا ماكنش صعب على سيادتك تحط أسمه بعد العراق على طول. دا أنا طهقت وشقيت هدومى وكفرت 100 مرة. وماعدش قدامى غير طريق واحد. يا إما أبيع نفسى، أو أموته. لكن السن والحالة دلوقت مايساعدوش على الموضوع الأولانى. والموضوع التانى فيه مشاكل برضه يا سيادة الريس، لأنه من الممكن ده يتعارض مع رغبتكم، وأنا ما أقدرش أطلب قرار من مجلس الأمن ولا حتى من شيخ الحارة بقتل أحمد سرور، قصدى جوزى يعنى. لكن إنت قادر وعارف، وممكن تبعت له حد يخبطه قلمين يفوقه لنفسه وللعيال. قصدى يعنى لعياله هوا مش لعيال الجيران وعيال مصر اللى بيقول عليهم، جاته خيبه. سايب عياله جعانين وعريانين، قال ورايح يدافع عن حقوق عيال مصر ومستقبلهم. والناس كلها مأمنه مستقبلها، وعندها كل حاجة. وأنا يا خوايا، إنت مش غريب، اللباس اللى أنا لبساه، والنبى مخيطاه من جلابية المرحومة أمى اللى ماتت فى عركة الزاوية الحمرا لما كان الرئيس السادات-الله يرحمه-لسه عايش. ومش عاوزه أقولك إن البنت بنتى ماشيه من غير لباس خلاص. ربنا يستر يا سيادة الريس. يسترنا ويسترك، ويستر ست الستات اللى طلعتها ترد الروح.

يا سيادة الريس..

أنا عندى رجاء واحد والنبى. لما تبعت الناس بتوعك علشان يضربوا أحمد سرور، قصدى جوزى يعنى، بالصرمة القديمة، إبقى خليهم يبعدوا عن مقام سيدى الوايلى، ومقام الشيخ غراب والنبى. أصل الناس دى بركة، وإحنا عايشين على حسهم. هناك قدام القصر الجمهورى حته واسعة. يعنى ممكن ناسك يتجمعوا هناك، ويدخلوا الوايلى من غير مشاكل. وعلشان خاطرى، خليهم يبعدوا عن الأهرام ومتحف التحرير. علشان بيقولوا إن بيبقى فيهم سواح غلابة. وكمان بيجيبوا فلوس لمصر. طبعا سيادتك عارف إن الأهرام دى فى الجيزة، والمتحف فى التحرير. الحتت دى بعيده خالص عن الوايلى. يعنى ممكن ناسك مايجوش ناحيتها خالص. بس يعنى لو حد غلط، أو تاه فى السكة، فيبقى على الأقل عارف إن الحاجات دى ماتستاهلش الضرب. علما بأن الموكوس ساعات تجيله حالة رومانتيكية ويروح يقعد جنب الأهرام، ويلف مع صحابه على المتاحف.

مش عاوزه أطول عليك يا ريس علشان أنا عارفه مشاغلك. وطبعا تلاقيك قاعد دلوقت دابح نفسك إنت والمحروسة المقطقطة كومباليزا بتفكروا فى مستقبل العيال فى سوريا. ربنا يا خويا يديكوا الصحة..

 

                             أختكم

                                فاطمة عبدالحفيظ الزواوى

                                جمهورية مصر العربية

                              القاهرة

                                   شارع إسكندر مينا الوايلى الكبير

 

ملحوظة هامة:

البيت من غير نمرة. بس هوا بعد الخرابة اللى جنب سعيد المكوجى اللى على ناصية الحارة التالتة على الشمال. إنت بس إسأل عن طماطم أم عفاف. ولا يا خويا تلاقيك عارف.

       

هلوسة (2)

فى اليوم التالى على منح جوائز مهرجان MTV Video Music Award  صدرت صحيفة "إزفستيا" الروسية بثلاث صور ضخمة على صفحتها الأولى. صورة الثلاثى: مادونا وبريتنى سبيرس وكرستينا أجليرا. وصورة لقبلة مادونا لبريتنى، ثم صورة لقبلة مادونا وكرستينا. وكان الموضوع تحت عنوان رئيسى "الكل اتجننوا"، وتحته عنوان فرعى "مادونا وبريتنى يبيرس وكرستينا أجليرا قلدن تاتو". والعنوان الرئيسى مأخوذ طبعا من اسم أغنية للثنائى الروسى "تاتو" بعنوان "أنا اتجننت".

كنا نجلس بالصدفة ثلاثة أشخاص: فاسيا الروسى، ومازن السورى، وأنا. ابتسم فاسيا ابتسامة ملغومة، ناظرا إلى مادونا، وقال:

-الأمر سيان، مادونا رائعة!

قال مازن:

-يا زلمة، هاى ختيرت وما عاد فيها..

قلت:

-الورد إن دِبِل بيفضل عبيره فيه.

وضحكنا.

وكانت مادونا، على خلاف العادة، ترتدى ثوبا محتشما جدا أقرب إلى طريقة الرجال فى الملبس، وكان شعرها ملموما بطريقة توحى بأنها على أبواب معركة فاصلة. أما بريتنى، فكانت فى جيبة بيضاء قصيرة جدا، ومثيرة جدا جدا. وكرستينا فى شورت أبيض قصير جدا جدا، وأكثر إثارة. وكان شعر كل من بريتنى وكرستينا يقول للهواء "قوم وأنا أقعد مطرحك". خلاصة القول، كان المشهد رائعا بكل المقاييس. أما الأروع فعلا، فكان قدرة مادونا على الكشف عن نتائج معركتها الفاصلة بتقبيل كل من بريتنى وكرستينا قبلتين تقطعان نياط القلب، وتفصدان العرق من الصخر، فما بالك برجال بلغ الوهن منهم مداركه! لا أدرى كيف استقبل كل من صديقى الجالسين طعم القبلات، ولكننى أحسست بطعم "البراءة"، والحب.. ياااااه..

قَلَبَ مازن المثل العربى قائلا:

-عملوها الصغار ووقعوا فيها الكبار..

قلت:

-إذن آن أوان الكتابة..

-أى كتابة، يا زلمة؟! هاى كلام فارغ. من يومين شارون ستون قبضت 50 ألف دولار فى مزاد لما قبِّلت واحدة من معجباتها. والله لو كنت أعرف إن العملية هيك مربحة، لكنت قبِّلت اللى رايح واللى جاى.

-بس إنت مش شارون ستون ولا مادونا يا سيدنا..

-والله أنا أرجل منهم..

-إذن فأنا ليف تولستوى أو فى أسوأ الأحوال مونيكا لوينسكى..

ضحك فاسيا:

-يوليا ولينا سبقتا مادونا وبريتنى وكرستينا.. لكن الفرق فى الخبرة.. وحاليا "تاتو" تنافس ديستويفسكى. يعنى يا زملاء إحنا انتقلنا إلى عصر جديد تماما.. الله يخيبكوا يا عرب..

ضحك مازن:

-أكتر من هيك خيبة، يا زلمة؟! والله خيبتنا من خيبتكم يا روس..

وفيما راح كل منا يتأمل الصور الرائعة على صفحة "إزفستيا" الأولى، مددنا أيدينا بآلية إلى ما كان أمامنا على الطاولة: لم يكن عليها إلا قنينة فودكا محترمة، وثلاث كؤوس، وطبق خيار مخلل.

فجأة صرخ مازن:

-يا زلمة، حرام عليكوا! هاى الفودكا ما تمشى مع هيك صور. اطلبوا لنا كونياك الله يرضى عليكم.

قهقه فاسيا:

-وشيكولاتة، وآيس كريم بالمرة، وبِنَا نمارس العادة السرية..

وبصرف النظر عن الضحك والهزار، كانت الصور فعلا رائعة. وهو ما دفعنى إلى حالة من التأمل والاسترجاع: تأمل الوضع الفنى العام، واسترجاع أمور عن ديستويفسكى وتاتو، وأمريكا، واليابان، وبريطانيا، والعراق، وشعبان عبدالرحيم، وأحمد عدوية، ومهرجان الأغنية الأوروبية الأخير الذى فازت فيه تركيا.. وكان الروسى والسورى، أولاد الصرمة، يضحكان علىَّ وأنا أهلوس..

                                         *     *     *

فى كثير من الأحيان يعجز العقل البشرى عن التعبير "المهذب" عن ظاهرة ما، خاصة وإذا كانت تتنافى مع القوانين والأعراف البشرية التى توصل إليها الإنسان على مدى تاريخه. وإذا كان الشعراء والفنانون هم أكثر الناس قدرة على التعبير بنسب معينة، فهم أحيانا يفشلون فى التعبير عما يجرى فى واقع أكثر عبثية مما يسمى بالنزعة الفنية العبثية.

الحكاية ببساطة تخص مجموعة من الرموز البشرية مثل ديستويفسكى والأستاذ شعبان عبدالرحيم وكاهنتى الغناء الروسى لينا ويوليا "تاتو". صاحبنا ديستويفسكى يعرفه الكثيرون، وإن لم يكن يعرفه أحد، فلا داعى لإجهاد النفس، لأنه أصبح غير مهم. والأستاذ شعبان، نار على علم. ومن لا يعرفه فهو مقصر تقصيرا يعادل الجهل بأبجدية الفن، أى فن. أما الثنائى الروسى "تاتّو" الذى يتألف من المراهقتين الموسكوفيتين "لينا كاتينا" و"يوليا فولكوفا" فهو يمثل أعلى مراحل ما توصل إليه فن "الطرب" الروسى الحديث. والشاهد الوحيد على ذلك هو الجوائز الأولى التى يحصدها هذا الثنائى فى مختلف دول العالم وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا، ناهيك عن روسيا. ولم تتوقف شعبية الفتاتين على الغرب فقط، بل شقت طريقها إلى القلوب فى الشرق الأوسط حيث سجلت مبيعاتهما من التسجيلات فى دول الخليج أرقاما قياسية بأغانيهما التى يعتبرها، النقاد الجدد أصحاب العالم الجديد،  مشروعا واعدا لموسيقى "البوب" للشباب فى روسيا، إذ تتعلق "أغانى" فرقة "تاتو" بالضغوط الاجتماعية والحضارية، وموضوعات حول الاضطهاد والقمع، والرغبة، والتداعيات الناتجة عن الخيارات الصعبة المتعلقة بالنشاط الجنسى للفرد.

تأسست فرقة "تاتو" الروسية عام 2000 من قبل أخصائى فى علم النفس ومسؤول إعلان سابق يعمل منتجا للفرقة. يوليا (مواليد 1985) هى الابنة الوحيدة لعائلة تنحدر من الطبقة الوسطى. أما لينا (مواليد 1984) فهى ابنة لمؤلف أغانى شعبية وموسيقى معروف وهى أصغر أخواتها الثلاث. تقول يوليا، التى مثلت أيضا فى أفلام قصيرة:

-تحب إحدانا الأخرى كثيرا جدا ولكن لينا مختلفة تماما عنى: "هى لا تحب الحفلات وأنا أحبها. هى أكثر هدوءا وتقرأ كثيرا وأنا لا أحب القراءة".

غنت كلتاهما فى فرقة الأطفال، ولكن كان على يوليا مغادرة الفرقة بعد اتهامها بالدعارة وإفساد مغنيات أخريات. بعد ذلك فازت لينا ويوليا فى امتحان من بين 500 مراهقة تقدمن للامتحان. وشكلتا بعد نجاحهما فرقته بسم "بروجكت"، تم تغييره فيما بعد إلى "تاتو" وهو اختصار للعبارة الروسية (هذه تحب تلك).

ولكن لماذا "تاتو" وليس أى أحد آخر؟ ولماذا معادلة "تاتو" وليس مثلا معادلة إينشتاين أو دى برولييه أو ياكوب أو حتى نيوتن وباسكال؟ لأن "تاتو" ببساطة عندما توضع فى طرف، ويوضع ديستويفسكى فى طرف آخر، نكتشف أن المعادلة تتحقق فى ظروف العالم الجديد وشروطه. ويرى الكثيرون أن معادلة "شعبولا" فى العالم العربى لم تتزن بعد، مثلما لم تتزن من قبلها معادلة "أحمد عدوية". ويفسرون ذلك بأن الإنجازات العظيمة تقابلها دائما كوارث عظيمة. وبالرغم من كارثة شعبولا، إلا إنها لا تملك أية قيمة أمام كارثة "تاتو". لأن "تاتو" ببساطة فرقة موجودة فى بلاد ديستويفسكى وتولستوى وتشيخوف.

فى زمنه غنى الأستاذ أحمد عدوية مجموعة من الطلاسم واللوغاريتمات التى كان يجب أن تأتى بعد "الطشت قالى" و"محلاها عيشة الفلاح" و"ياراجل يا عجوز مناخيرك قد الكوز". غنى أستاذ البوب العربى الكلاسيكى أحمد عدوية أغانى مثل "شنجر بنجر نو يا عينى الجو احلو" و"فنشخ أفندى دبح كبشه" و"زحمة يا دنيا زحمة"، ورائعته السياسية-الاجتماعية "حبه فوق وحبه تحت" والتى فسرها البعض تفسيرا طبقيا إبان المد الثورى ووجود الاتحاد السوفيتى، وربطوا الجوهر الفكرى للأغنية العظيمة بالعلاقات الرومانتيكية الاجتماعية الطبقية "حبه فوق وحبه تحت" و"ياللى ساكنين فوق ما تطلوا على اللى تحت". وقبل انتهاء عصر أحمد عدوية كان قد ولد جيش جرار من "الملحمين" و"المزكاتيه" و"المطربين"، إلى أن ظهر أنجب تلميذ لأحمد عدوية فى موسيقى "الهوب بوب" العربية. 

فى أول رحلة عمل لـ "تاتو" إلى بريطانيا وقف المجتمع البريطانى المحافظ موقفا سلبيا منهما ومن أغانيهما على حد سواء. غير أن السر فى هذا الموقف الذى ضايقهما كثيرا وكاد يفقدهما ثقتهما بنفسيهما كان يكمن أساسا فى عملية المنافسة. فسمعة "تاتو" سبقتهما إلى جميع أنحاء بريطانيا، وقامت بعض وسائل الإعلام بدعاية مضادة بإيعاز من بعض الفرق الفنية. غير أن الأيام القليلة التى قضتها لينا ويوليا أثبتت العكس. وانتشرت أغانيهما بشكل أدهش المجتمع البريطانى "المحافظ".

وفى سفراتهما إلى الولايات المتحدة، تصدرت حفلاتهما وأغانيهما أول القائمة. غير أن الحرب فى العراق عملت على إعاقة زيارات كانت مخططة إلى العديد من الولايات الأمريكية. المثير أن للفتاتين آراء سياسية بارزة، وخاصة فى الشأن العراقى، إذ عارضتا بشدة العمليات العسكرية الأمريكية-البريطانية ضد العراق، وظهرتا فى أحد البرامج التلفزيونية الأمريكية الشهيرة بزى حمل عبارة" لا للحرب". وعندما واصلت القوات الأمريكية طريقها إلى بغداد وقعت الفتاتان-لينا ويوليا-فى مأزق. وفى إحدى وصلاتهما الغنائية ظهرتا بـ"فانلات" بيضاء مكتوب على صدرها عبارة من كلمتين فقط " زبى فى الحرب". ومع ذلك لم يلتفت الشباب اليابانى لهذا الاحتجاج "المدهش"، وكان حزنه الأكبر وغضبه بسبب تأجيل حفلاتهما لعدم استطاعتهما السفر. وكتبت الصحف الروسية وقتها أن اليابانيين قبل "تاتو" كانوا يعرفون جيدا أن أعلى قيمة فى روسيا هى قيمة الكاتب العظيم "فيدور ديستويفسكى" الأوسع انتشارا فى اليابان. ولكن بعد ظهور "تاتو" اكتشف اليابانيون أن هناك فى روسيا قيمة أخرى عظيمة. وأصبحت فرقة "تاتو" تنافس ديستويفسكى على حب المجتمع اليابانى. المدهش أيضا أن ناقدة روسية أكدت على صفحات جريدة "إزفستيا"، فى دفاعها عن الثنائى تاتو، أن لينا فعلا تحب القراءة، وبالذات أعمال ديستويفسكى. أما يوليا التى لا تحب القراءة، فهى تنوى جديا تأليف كتاب. ولم تقل الناقدة أى كتاب، وعن ماذا!

الكثيرون يرون فى مظهر وتصرفات "شعبولا" شذوذا بدرجات متفاوتة. ويرون أن الكلمات التى يغنيها ليس لها أى معنى. ثم يمدون الخطوط على استقاماتها ليصلوا إلى السؤال التآمرى: هل هذا هو الفن العربى؟ هل هذا هو الذوق العربى؟ هل وهل وهل؟ وهنا يمكن لشعبولا أن يضحك قائلا: نعم، وبدون أى شك. فمن أين أتيتُ أنا، من نيجيريا، أو من بلاد الواق واق؟ ويضحك آخرون: فعلا، من أين جاء شعبان؟ لقد جاء من مجتمعه، من مصر، مثل آخرين موجودين على صفحات الجرائد والمجلات، وآخرين يجلسون خلف طاولات، أو أمام كاميرات، أو فى البرلمان والحكومة. فهل كل هؤلاء ليسوا من هنا؟ إذن، فمن أين أتوا؟ ويعود شعبان ضاحكا لإغاظة الجميع: مثلا، عندكم فيروز وماجدة الرومى وأم كلثوم وعبدالوهاب وسيد درويش شخصيا، وعندكم على الحجار ومحمد منير والحلو، إذن لماذا أنا رقم 1 بينهم جميعا؟!

*     *     *

أفقتُ على ضحك الوغدين: فاسيا ومازن. وكان عدد من "سكان البار" الذى يملكه صاحبنا اللبنانى، قد تجمعوا على هلوساتى، التى لم يفهموا منها إلا بعض الكلمات مثل "تاتو" وديستويفسكى" و"موسكو".. إلخ

قال لى بلبل الفلسطينى الذى يعمل على البار:

-إنت اليوم ولا جورج بوش.. بيير يهديك كاس كونياك على حسابه.

وغمز الوغد لفتاة تجلس أمامنا، وكانت مهتمة جدا بما يدور.

قلتُ لبلبل:

-يا سُرَاقة، قل لبلير هذا صاحبك أن يأتينى بقنينة كاملة من الكونياك.

وجاء بيير بقنينة كونياك رائعة، وقال ضاحكا:

-الله يخرب بيتكم، يا مصريين. والله هوستونا..

قلت:

-والله، يا لبنانيين إنتوا اللى جننتونا. شفت البنت الصاروخ بتاعتكم؟ نانسى.. نانسى عجرم.. رَقَّصِت الشعب المصرى كله على واحدة ونص يوم الخميس 24 يوليو، لحد الصبح.. يا الله.. إنتوا بتجيبوا الأسلحة دى منين، يا بلير..

-والله هاى أحدث الأسلحة السياسية اللبنانية فى تفسير الواقع يا رفيق. فكما فسر عندكم أحمد عدوية الواقع الطبقى فى مصر بأغنية "حبة فوق وحبة تحت"، قامت أستاذتنا العظيمة نانسى عجرم بتلخيص السياسات الخارجية العربية فى جملتين فقط "أخاصمك آه، أسيبك لا". وفجأة سأل:

-سامعنى يا مصرى؟

-سامعك يا برير..

-شوف عينى.. نحنا الآن نجمع توقيعات من أجل تعيين نانسى سفيرة للنوايا الحسنة، يعنى بالمصرى، عينى، "النوايا الكويسة".

صرخ مازن:

-تقصووود "النوايا المليحة"؟! وبالعراقى يقولوا "خوش نوايا".

 

*     *     *

فجأة وجدتُ الكونياك يرتفع بى إلى الطاولة..

..جاءنا البيان التالى من إذاعة صوت العرب-العرب فى الداخل والخارج، ومن إذاعة صوت العراق الحر جدا قبل صدام وبعده، وفى عهده طبعا، ومن إذاعة صوت الحرية الأمريكية، وإذاعة سوا سوا ع الهوا، وإذاعة نشرات الأخبار، ونشر الملابس الداخلية والخارجية، وإذاعة اللى اختشوا ماتوا، وإذاعة فتح عينك تاكل ملبن..

يا شعبى..

شعب مصر العظيمة..

كيف حالكم يا أبنائى، يا فلذة كبدى، يا من تكتحل عيناى برؤياكم فى النوم واليقظة؟

يا شعبى..

شعب مصر الخالدة..

مصر مهد الحضارة، وطفولة البشرية، وصبا الإنسانية.. مصر أم الدنيا، وقلب العروبة، ودرة أفريقيا، وعروس المتوسط، وروح آسيا.. مصر قلب العالم وبدايته ومنتهاه، وأزله وأبده..

يا شعبى..

شعب مصر صانعة الحضارات..

يا محمدين، يا حسنين، يا شعبان، يا لمبى.. يا حاج متولى.. ما تزعلوش والنبى، اصبروا شوية علشان خاطرى.. كلها كام سنة والأمور حاتبقى فل الفل.. اللى خلاكوا تصبروا كام ألف سنة، مش حيخليكوا تصبروا كمان كام ألف!! بس نخلص من شوية المشاريع اللى عندنا، وتسديد حقهم، وتسجيلهم باسم العيال، وبعدين نلتفت لكم ولعيالكم. فعيالكم هم عيالنا، وأنتم أيضا وكل ما تملكه يمائنكم وشمائلكم ملك لنا، يا شعبى.

يا شعبى..

أنت صانع حضارة. هذه هى وظيفتك. وإذا كان البعض يردد أمثالا شعبية سفيهة مثله بأن "طباخ السم لازم يدوقه"، فأنا ضد أن يتسمم شعبى، حبيبى، بحضارتهم، وسمومهم. فأنا سأعلمك ماهى الحضارة، حضارتى أنا، يا شعبى.

يا شعبى..

هذا مصيرك، وتلك رسالتك: صناعة الحضارة حتى وإن كنت على لحم بطنك. فلا تيأس أو تبتأس. اصبر وسوف أعوض صبرك خيرا بإذن الله. ولا تصدق من يقولون لك: فى المشمش. عليك أن تعمل فقط، تصنع الحضارة لتبرهن للعالم كله أنك ابن مصر العظيمة، ابنى، وشعبى، وفلذة كبدى، حتى وإن مت من الجوع. يا شعبى.

يا شعبى، يا حبيبى..

ما قيمة المجارى الطافحة والفقر والجوع، أمام صورتك الناصعة، وما تفئ به على البشرية من نعم؟ ما قيمة ملايين الأميين والعاطلين والمرضى، أمام عافيتك التاريخية التى لقنت، ولا تزال تلقن شعوب العالم معنى الحضارة؟! ما قيمة النهب والسلب والفساد، وما قيمة عدة عشرات من اللصوص الذين نهبوا بضعة مليارات، ولهفوا ثلاثة أرباع البلد، أمام أمانتك التاريخية وإخلاصك وحبك وطاعتك؟ ما قيمة 5 ملايين خارج مصر المحروسة، أو 80 مليون داخل مصر حماها الله، وما قيمة المستقبل بدون ماضى، وأنا ماضيك وحاضرك ومستقبلك، يا شعبى؟!!

يا شعبى، يا روحى..

افرح وتهلل، فأنا أحبك. وطوبى لمن كان فى قلبى. وعلى رأى واحد شاعر، مش فاكر قالوا لى اسمه إيه، قال "لا تقل الله فى قلبى، قل أنا فى قلب الله".. فطوبى لك يا شعبى.

 

هلوسة (3)

يومها قال محمد الدرديرى:

-ضرورى نحارب.. نار ولاد الكلب أهون من الذل يا أخى. وحانشوف..

كنا نسميه الشحرور، وكان يدرك الكثير من الأشياء. كنا نحبه، وكان دائما يغنى، فنحبه أكثر.

قبل الحرب بيوم واحد قال:

-أنا هنا وخضرة فى البلد.. وانتوا بتعرفوا تغنوا..

ويضحك، وتبزغ الشمس.. تتكور.. تستقيم أشعتها.

تصرخ خضرة، تتمزق.. ونتمزق جميعا. حبات العيون تبحث عن الخلاص، وفى الذاكرة محمد الدرديرى الذى كان يدرك بالفطرة إننا سنتمزق..

انصرفنا وكل منا مفعم بأسباب الإحباط. غير إننى كسرتُ حاجزه موجها حديثى إلى أم الخير:

-كنتُ أتمنى أن نلتقى فى ندوة أنفع من هذه.

تبتسم فى سخرية مرة:

-لا يهم..المهم إننا تعارفنا. معذرة كنت أتمنى أن أتحدث إليك، ولكن لابد من اللحاق بقطار كوبرى الليمون.

أبديتُ دهشتى:

-إنه أيضا طريقى. أنا أسكن فى الوايلى الكبير.

-وأنا فى حدائق القبة.

عندئذ تدخل صديقى الصامت قائلا بعكس ما تنطق به ملامحه:

-إنها مفاجأة. كيف نسيت أن أذكر ذلك فى البداية!

قبل تلك الندوة الكئيبة، التقيتُ بالأصدقاء. لم يبق منهم سوى مدحت الذى أخذ يهلوس كعادته. هو كذلك منذ أيام الجامعة: يأتى بسيارته من الزمالك، يترك محاضراته ويأتى إلى كليتى. كان دوما محاطا بالفتيات، يتحدث فى كل شئ، يجذب الأنظار. عرفنى بنعمة. قال، إنها ممثلة مسرح ناشئة، ينادونها بأم الخير. وكان يتعمد أن يصور لى أن هناك علاقة ما بينهما. أما هى فتبدو رقيقة، جادة، مرحة.. ووجهها الأسمر أو البرونزى، ساعة المساء، يبدو رائقا بملامحه المنسجمة فى استرخاء، ولا يبوح بمكنونات صاحبته.. أنفها الصغير فوق فمها المرسوم بعناية يشكلان قطعة فنية نادرة فوق الرقبة الطويلة.. تتدلى خلفها سهول من الشعر الأسود.

*    *    *

سرنا فى شارع رمسيس، الواسع بعكس الصباح والساعات الأولى من المساء.. لسعات النسيم الصيفى فى آخر الليل تضرب وجهينا.. البرد يتسلل عبر الجلد إلى النخاع، والرغبة والحلم بليلة دافئة يراودنى.. وأم الخير تضم كتفيها حول رقبتها وتنظر إلى الأمام.

لا أحد فى الشارع الكبير. صوت السكون، ودوائر متعددة الألوان تُصْدِرُ أصواتا متصاعدة تذكرنى بليل القرية ذى الرائحة المفعمة بالحياة.. والسكون عند نقيق الضفادع، وحفيف الأشجار، والصفير المتواصل لا تقطعه غير مويجات هلامية تشكل نبض الخروج من حيز الأشياء والمسميات، والقطة السوداء ذات العيون البراقة فى الليالى الدامسة.

السيارات تمر كالريح.. رؤوس ركابها تبدو كنقاط سوداء بارزة على ورق قاتم. أعمدة النور المضاءة ترتجف وحيدة على جانبى الشارع، والبخار حول المصابيح يبعث فى النفس شعورا متناقضا. نلمح رمسيس التمثال ومن حوله البخار. ندقق النظر فى عينيه: لا تبصران.. تعكسان الماضى السحيق بكل عنفوانه، وأم الخير تشعر بالبرد والخوف معا.. لا أدرى لماذا! ولكنها تنظر إلىَّ تارة، وإلى جانبى الشارع تارة أخرى. تفرك يديها، تُصَفِّر، تردد جملا مسرحية شهيرة.. وتمصمص شفتيها. تكسر حاجز الصمت:

-إبراهيم.. هل تعرف مدحت منذ فترة؟

-نعم.

-ما رأيك فيه؟

-إنسان.

تبتسم.

*    *    *

عبر النافذة تفر أعمدة النور إلى الوراء.. تعدو.. تلهث، وللبخار صوت الفحيح. النور الأصفر يعطى إحساسا بالموت، ومن تحته الأشياء جامدة. البنايات الشاهقة تتطاير كالأشباح، وتبدو من بعيد مثل حيوانات خرافية. صوت الليل يئن على الإيقاع السريع المتتابع لعجلات القطار فوق القضبان. استندت بجزعها إلى زندى، وبصرها يمتد عبر النافذة فى خط مستقيم. سرحتْ بعيدا.. داخل الأشياء والأسماء، ونفير الصمت، والتكون المستمر لعناصر الطبيعة. راحت تردد: "أيها النورانيون، هنالك شئ ما فى عالمنا خطأ"، وتبتسم رغم أفول نظراتها.

تتداخل الأصوات، تتكوَّر، ثم تستقيم، فتمتد. ويطول بنا الطريق، أو الزمن. تتسلى بمعاناتها، تتندر بها، تذبح شخوصها وتحيلهم إلى سراب. تمجدهم أحيانا، ترفعهم إلى أعلى، ثم تعود فتسقطهم. والزمن المحموم يلهث. المحصل ينظر إلينا شذرا. تتشبث بذراعى، تلهب وجهى بأنفاسها. تهمس:

-هل تعرف توفيق الحكيم؟

أنظرُ محايدا. ترتعدُ هى. وتعود فتهمس:

-لا أدرى، لماذا لا أحبه! ولكننى أعشق نجيب سرور.

.. وأبتسم. أضغط على يدها، ألتصق بها.. والذاكرة توحد الأشياء. تتلاحم الخطوط، تمتد صوب المدى البعيد.. عبر الأفق. تنحسر رقعة الصمت، تنفلت الكلمات إلى أذنى مهزوزة: تروى حياتها على المسرح.. فى الشارع.. وكيف التصق بها اسم أم الخير.. أو كيف التصقت هى به!

ترتعد الأنثى بجوارى. تشهق. تلملم غفوتها. تجتر بسمة مكسورة. تهمس:

-ماذا درست فى الجامعة، وماذا تعمل فى ورشة الكاوتش؟

أبتسم.

*    *    *

.. ومن بعيد نلمح أسوار قصر القبة. صرير العجلات يخترق الجلد. نترجل. لا أحد فى الشارع غيرنا.

على باب القصر الكبير، يتهامس جنود الحراسة. ينظرون فى تطفل، ويبتسمون فى استفزاز. نسرعُ الخطى. تلتصق بى. أشعر حرارة جسدها.. ولون البخار باهتا يتناثر بمجرد الخروج من أنفها. وأبتسم هامسا:

-أحبك.

*    *    *

.. ونخرج من دائرة الحلم. نسير بمقاييس تختلف عما بدأنا. نلتهم الزمان والمكان، ويراودنا الحلم من جديد، يفاجئنا، فنحلم، حيث تضيع الأسماء فى زحمة الأشياء، وتجف مآقى العيون، وتنمو الفواصل الزجاجية بين البشر. فى خضم تلك الحركة العكسية، لا يبقى إلا الحلم. تلك القيمة التى تستحق الحياة

*     *     *

.. تبصق أمى فى وجهى:

-جبان. لماذا هربت؟ لست ابنى، الله يلعنك.

وأصرخ فى وجهها:

-النكسة.

فتعوى. نعم، لم تكن تصرخ، وإنما بالضبط كانت تعوى. لم أسمعها يوما تصرخ. عوت بقهر سبعة آلاف عام:

-دى مش نكسة، دى وكستكم إنتوا يا أولاد الكلب.

.. لم تنتظر أمى أخى المنتصر، الذى عاد بذراع واحدة، وكأن الأمر لم يعد يعنيها: نكسة أو انتصار، الأمر سيان. هؤلاء هم الأمهات.. يقرأن الغيب بحدس إلهى، ويقدمن أنفسهن قربانا لمعادلة يعرفن جيدا أنها لن تتزن، ولكن.. ولكن من أجل أن يعيش الأولاد، يجب أن تموت الأمهات. هذه هى معادلة الزمن المخنث. وتلك هى الوسيلة الوحيدة لدى الأم عندما تدرك، من دون أى تفسيرات، أن هناك نسبة خطأ فى كل المعادلات: إذن ليعيش الهارب من النكسة، وليعيش أيضا العائد من الانتصار، حتى وإن فقد الأول روحه، وفقد الثانى ذراعه. وتبتسم فى غل، وتموت.

.. تنسكب الذاكرة على البازلت الرطب.. تتفرق.. تندفع نحو الرصيف.. تتسلل إلى ما تحت أعمدة الإضاءة. تصعد إلى أعلى.. تشق حاجز البخار.. تصل إلى النور الأصفر. وتنظر أم الخير. تحرك شفتيها، وملامحها لا تفصح.. وفى الأفق مربعات غير محدودة، ودوائر دودية تتلوى. الشعور بالزمن يحاصرنى، أضغط يدها، أستمد الدفء من ملمسها. وتختفى أصابعها فى جسدى. أهمس:

-أريد امرأة عندما أنظر فى عينيها، تقول.. أحبك. وعندما أقول لها.. أحبك، تفتح ذراعيها وتضمنى بقوة بشرية مطلقة، و..

.. وعلى إيقاع الخطوات تنداح مساحات القلق، تشتعل الرغبة، تتأجج، تثور. فتتملص هى، ثم تندفع إلى صدرى، ويذوب الخط الفاصل بين الحلم والحقيقة. نعيش اللحظة، نغرب ومن حولنا تشرق الأشياء بأسمائها الحقيقية، وتتجلى آيات النور، ويمتد بنا الطريق. تتعانق النظرات.. تتصافح. نقتلع أنفسنا من اللحظة، ونهمس معا:

سنلتقى.