مازلتُ إلى الآن أنتظر صديقي "علي ولد رحومة"...
إذْ لا أحد يعرف "لسان الغولة" في القرية إلا هو.....
كنا صغارا نلهو بالنجوم وتهزنا حكايات الجدات المترعة بالأحلام والخافقة بالخيال الصاخب وكانتْ خيالاتنا تنمو في قريتنا بين شاطئ البحر والجبل وكان الوادي الذي يشق بساتينها الخضراء الصغيرة طويلا أفعوانيا، يمتد من أسفل الجبل العالي البعيد إلى شاطئ البحر...طوال فصل الصيف كنا نلتقي عند الظهر لنلعب الكرة ثم نصطاد السمك بخيوط صنارات بسيطة وذلك عندما يتراجع الوادي فيفصل بينه وبين البحر حاجز ترابيٌّ ويتحوَّل إلى بحيرة صغيرة تطوف بها الطيور الجميلة ويحيط بها القصب الأخضر الراقص يمينا وشمالا مردِّدًا صوتا ساحرا يغزل في صمتٍ حكايات من حريرٍ ستظل محفورة في ذاكرتنا ولكننا نرجع إلى قريتنا بمجرد ما يعود الوادي إلى الامتلاء فيأخذ ماؤه المشتدّ الساكن في العلو ويعود إلى ما كان عليه فيلامس البحر ويصبّ فيه فكانت المنطقة الواقعة وراء الوادي مخيفة عندما يحلّ الظلام فكنا نسرع في العودة إلى البيوت خاصة نهاية فصل الصيف وبداية الخريف غير أن " علي ولد رحومة" الذي كان قائدنا في ألعابنا هو أقوانا في كل شيء، هو الذي علمنا كيف نبحث عن طُعم السمك في الوحل الأسود عند حافة الوادي وهو الذي كان أقدرنا وأسرعنا على شق الوادي سباحةً في فصل الربيع....و كنا في كل مرة نتم ألعابنا نعود بسرعة إلى القرية فنذهب إلى بستان أبيه غير البعيد عن حافة الوادي وفي كل مرة نلتقي أباه كان يبتهج بلقائنا ويسألنا عن السمكات الصغيرة التي اصطدناها...
كنا ثلاثة خليل "بوقرنين" سميناه هكذا لأن رأسه كان أقرب إلى مثلث يعلوه قرنان والعابد «بوشكارة» الذي كان قويا ممتلئا مثل كيس من الشعير وأنا، يقودنا ولد رحومة الذي كان دائما يروي لنا الحكايات العجيبة التي يسمعها من الكبار.
وفي أحد أيام الصيف القائظة أتانا "علي ولد رحومة" ليروي لنا شيئا عجيبا، قال لنا: إن الوادي ينقلب كل غروب من ماءٍ إلى لسانٍ هو " لسان الغولة " الذي يلفُّ القرية في كل ليلة فيجعل الأهالي يخافون من الخروج في الظلمة قال لنا إن الغولة نائمة في كهف الجبل البعيد ولسانها يمتد على طول الوادي حتى يصل الشاطئ، لسانها يشبه أصابع الأخطبوط حين نخبطها على الأرض كل فصل خريف وكيف تتمدد وتتمطَّى قبل أن تنام...يومها قال لنا إن حكاية " لسان" الغولة يجب أن تبقى سرا بيننا الأربعة وعندما سألناه عن السبب قال إنه يريد أن يخلِّص القرية من أذاها وذكر لنا كلمة كبيرة قال يجب أن نصبح أحرارا وأمام دهشتنا ظل ينظر إلينا بعينيه البراقتين، كان في عينيه خضرة لامعة ودافئة ترى فيهما هدوء البساتين وشموخ شمس الجنوب، قال لنا وهو يهمس: " إذا قطعتُ لسان الغولة سنصبح أحرارا نلعب متى نشاء وحيثما نشاء لن نعود إلى القرية عند المغرب وسنبقى نلعب في الناحية الأخرى، لن يمتلئ الوادي ولن ننتظر مرور الخريف والشتاء حتى نسبح فيه، سيصبح هناك فصلان فقط الربيع والصيف نلعب فيهما كما نشاء هل فهمتم الآن؟ ". تخيلتُ الحياة بدون شتاء أو خريف...ستكون الضفة الأخرى في متناولنا، سيصبح من السهل العبور إلى عالمنا السحري هناك...سيزول الخوف من الماء المتلاطم المخيف.
وذات يوم بعد أن أتممنا ألعابنا وبدأتْ الظلمة تداهمنا، تركنا عليٌّ وذهب ناحية شجرة من أشجار الرمان وجلب معه "حجَّامة " حادة هي أشبه بسكين معقوفة تُستعمل في استخراج عصير النخل..وقف عليٌّ يفك خرقة القماش عن الحجّامة ثم أخرج صرَّة صغيرة من جيبه كان بها كمون أسود، قال لنا: " سأنثر هذا الكمون داخل الشورت الذي سأسبح به، الكمون سيبطل سحر الغولة إذ يمكنها أن تمسخني إلى سمكة أو دودة وسأضع الحجَّامة في فمي وأندفع في السباحة حتى أصل إليكم....أنتم الآن اذهبوا إلى الضفة الأخرى واتركوني وحدي هنا فما إن يحل الظلام ويعلو مستوى الماء فيتحول إلى لسان أسود عند ذلك سأسبح لأصل ناحيتكم وأقطع بهذه الحجَّامة لسانها.." كان واثقا حادا صارما ولم نشكَّ في قائدنا لحظة واحدة ولذلك تركناه في مكانه وعدنا إلى ضفة الأمان ناحية الطريق المؤدي إلى القرية.
لن أنسى تلك الليلة المظلمة الهادئة إلا من أصوات الهواء الذي يداعب القصب الأخضر الندي......لم يكن لأحد منا أن يتصور أن قطع لسان الغولة سيكون في تلك الليلة المظلمة، لقد جلسنا على ربوة صغيرة نداعب الرمل النديّ بأقدامنا الحافية منتظرين ظهور عليّ، شعرتُ بصوت ارتطام جسمه الصغير بالماء فأيقنتُ أن الغولة قد فردتْ لسانها الطويل مثل إصبع الأخطبوط من أسفل الجبل إلى الشاطئ كعادتها... طال الزمن فوقفنا على الربوة منتظرين في توتُّرٍ...نزلنا قليلا لكن لا فائدة..لمحتُ وسط الظلام خيالا ليدٍ صغيرة تمتدُّ عموديا ناحية السماء..بدتْ وكأن السواد يبتلعها...ظللنا ننتظر وعليٌّ لم يبدُ منه شيء...طال انتظارنا ولا شيء ظهر أمامنا...تزايدتْ الظلمة وبدأ صوت الموج يتعالى ويغطي هفْهفةَ صوت رؤوس القصب البارد ولكن دون بروز أي أملٍ....سرنا بدون أن نشعر ناحية الشاطئ إذ قد يخرج عليٌّ من مكان ثان بحكم قوة التيار، مشينا على طول الضفة حتى اقتربنا من الشاطئ، وقفنا حائرين بطفولتنا اليتيمة الباردة أمام هدير موج البحر ولسان الغولة الأسود المتعاظم ومع الشعور بالتيه والحيرة حملتنا أقدامنا الخائفة إلى القرية، توجهنا إلى بستان عمي رحومة الذي ما إن رآنا حتى سأل عن علي وكله دهشة وحيرة وأمام صمتنا المتآمر مع أقدامنا المبتلَّة والمكسوَّة بالرمال، أمرَنا بصوت مرتعش أن نعود إلى بيوتنا في حين ركض هو تجاه الوادي....
كانت ليلة طويلة في بيتنا الخالي من أهله، تناهت إلى سمعي أصوات جلبة الأهالي وضجيجهم، تعالتْ الأصوات فأصبحتْ بكاء ونديبا، خُيِّلَ إليَّ في البداية أنه صراخ الغولة من الألم ولكن العويل الذي مزَّق هدوء القرية أشعرني بالخوف، لم أنمْ تلك الليلة، حلمت أن عليا ولد رحومة بلعتْه الغولة وأنَّ الحجاَّمة سقطت من فمه حين ارتطم جسمه بالماء، لمحتُ يده الصغيرة معلَّقة فوق الماء وكأنها تناديني، في الصباح رأيتُ الناس عند باب دار رحومة مجتمعين يقهرهم الحزن فتوجَّهتُ إلى الوادي، لحقني العابد بوشكارة وخليل بوقرنين بعيونهم الحمراء المنتفخة، وقفنا عند الربوة الصغيرة يتامى بلا قائد..كان الماء في الوادي ضحلا كعادته كل صباح ٍ...ظللنا ننتظر و....ننتظر ولكن عليًّا لا يريد أن يخرج من الماء...
مرَّ على تلك الليلة ثلاثون صيفا.... ومازلتُ كل بداية خريف آتي لأقف عند نفس الربوة وقت المغرب..منتظرا إياه ولكني في كل مرة...لا أرى سوى يده الصغيرة المغلّفة بالظلمة تلك اليد التي لا تريد أن تكبر...
لا أدري إن كانت تناديني أو تودّعني....
ابوظبي 9-3 – 2009