تمهيد:
إنَّ موضوع العلاقة القائمة بين الشعر والسرد، يظل من المواضيع الأساسية التي تشغل مساحة النقد العربي المعاصر، خاصة بعد أنْ ترافدت الأجناس الأدبية فيما بينها، فذابت الحدود الفاصلة، وأصبح كل جنس أدبي يستفيد من تقنيات الجنس الاخر، وكما تطرقنا في مقالات سابقة إنَّ هذا الترافد قد ولد لنا مولوداً جديداً هجيناً يحمل ملامح إجناسية مختلفة في مساحة نصية واحدة ضمن ما يسمى بالنص الجامع أو جامع النص كما أسماه جيرار جينيت في كتابه (مدخل لجامع النص).
إذن ثمة منطقة تجمع ما هو شعري وما هو سردي في آن معاً، وهي منطقة أتسمت بجمالية عالية على مستوى التركيب اللغوي في صياغة الجملة الواحدة إذ نرى الإنزياحات ظاهرة على المستوى الدلالي والنحوي والصرفي والمعجمي فيها، مما ادى إلى كسر سياقها والخروج عن نمطها السائد، وهذا ما يعطي جمالية عالية في الأداء التعبيري، إذ نرى التركيز على الإيقاع الداخلي للكلمة الواحدة وما تعطيه من جرس موسيقي ومن إنزياحات متتالية في مدلولات دوالها، كما في هذه الجملة التي تحمل عنوان المجموعة الشعرية للشاعر ماجد موجد (ما تساقط بل أوشك للشمس)، ففي هذه الجملة نلاحظ ذات الشاعر مهما بلغت من الإنكسارات والإحباطات والخسارات والفشل في مواجهة الحياة والإستمرار على التحدي لها، فأن هذه الذات لم تسقط بل هي من شدة إنكساراتها المتكررة في حياتها قد ترتفع شامخة وشاهقة كما الشمس في السماء وذلك من شدة أعتزازها وكبريائها أتجاه نفسها مما يجنبها السقوط وراء توافه الحياة اليومية.
فالكاتب أو المبدع يقوم بخلق منطقة للتصادم المعرفي في نصه للحفاظ على خصوصيته الفنية، وخاصة في النص النثري الذي يعتمد على الفكرة الشعرية أكثر من أعتماده على الصورة الشعرية كما هو واضح في قصيدة النثر التي تعتمد أعتماداً كلياً على سياقها الدلالي والفني، فيصبح هذا السياق قاسماً مشتركاً يجمع في داخله الخطاب الشعري والسردي في آن معاً، مما يؤدي إلى تداخل الخطابين فتنزاح قصيدة النثر صوب النص المفتوح الذي يكون متقبلاً لاستيعاب آليات فنية مستعارة من أجناس مختلفة لتصب في فضائه. فتتجلى السمة الشعرية ظاهرة في تكوينه البنائي.
فالشعرية كما يصفها جان كوهين هي الطاقة المتفجرة في الكلام من جراء أنزياحاته داخل النسق الإشاري، حينما يؤطر المدلول ويتحول إلى مثير معرفي، يحمل في داخله طاقة أنزياحية عالية، وذلك بأعتبار أن الكاتب أو المنشئ هو مَنْ قام بتصنيع هذا المثير المعرفي داخل نصه، فإن الكشف عن تلك المثيرات أو التكهن بها من خلال أستدعاء إيحاءاتها يعدُّ تكشفاً عن تلك الطاقة المخباة داخل المثير بكونه كيانا شبحيا أو حدة طيفية التي تكشف لنا عن الوجه الآخر لعملة المثير، الذي ما زال طيفه الغائب يراود القارئ أثناء تتبعه لها في جســد المكتوب.
لذا فأن هذه المنطقة التي تكونت من جراء التداخل أو التشاكل أو التقاطع بين نص المنشئ ونص القارئ المتشكل من خلال الفعل القرائي، تعدُّ الحد الفاصل بين ما هو شعري وما هو سردي لتخلق حالة من المفاجأة والدهشة والتوتر، وعليه فأن الشعرية في هذه الحالة تكمن في شبكة العلاقات المتكونة بين عناصر النص. وكما يؤكد كوهين في ذلك أنَّ الإنزياح في هذه الحالة يعدُّ شرطاً ضرورياً يعطي السمة الشعرية للنص ومولداً من مولداتها.
أما الشعرية عند تزفيتان تودوروف يصبح الكلام عن المنظوم والمنثور والأجناس الأدبية أمراً قد تم تجاوزه، لأن الشعرية عنده لا تراعي سوى النسق الذي يشكل خطاباتها إذ يقول (إنَّ الأهتمام بالأجناس الأدبية قد يبدو في أيامنا هذه تزجية للوقت لا نفع فيه أن لم يكن خطأ تاريخياً)(1).
(المنطقة المقدسة) بوصفها وظيفة أرسالية
وإذا ما كان الإنزياح يعدُّ شرطاً ضرورياً للسمة الشعرية عند كوهين، فأننا قد طرحنا مفهوم (المنطقة المقدسة) بمثابة الطاقة التعبيرية لأحتوائها على المثيرات الموضوعية والمعرفية، وقد عرفناها: (هي ذلك المجال الشبحي المخلّق الناتج من تداخل أو تقاطع نص القارئ المتشكّل ذهنياً مع نص المنشئ، و من جرّاء هذا اللقاء التفاعلي بينهما تنبثق (الرؤيا) التي توحي ثمة شبح ما ترك آثاره لنا، و الذي يتم حضوره في لحظة من لحظات التفعيل القرائي له كـ(بنية افتراضية مخلّقة) فان استدعاء هذا الشبح / الجسد الغائب ما هو لاّ طريقة من طرق أستحضار شبح (المنطقة المقدّسة).(2)
أي بمعنى آخر ان هذه المنطقة قد أعتمدت أعتماداً كلياً على الإنزياحات المعرفية التي تحدث في مثيراتها، التي قام المنشئ أو الكاتب بتصنيعها أو خلقها داخل نصه، فأن هذا الإنزياح المعرفي يعطينا الخيط السايكولوجي الذي يربطنا بعقل المنشئ أو الكاتب، بصفة أن هذه المثيرات تحتوي أو تتضمن على الكيان الشبحي المتخفي في الطرف الاخر من عملة المثير بمثابة الجسد الغائب الذي يقوم المتلقي بأستحضاره وأرضنته بواسطة تكهنه لهذا الأثر الشبحي، بصفة إن هذه الكيانات أو الوحدات الطيفية هي (اصل الحركة) / مصدر الانبعاث الطيفي/ الكمون الساكن في قلب (المثير) كي يتمكن هذا القارئ من اختراق النظام النصي/نسيج الكتابة/ الخطاب المدون بغياب أبيه/ فاعله/ صانعه.
وبهذه الصفة تصبح (المنطقة المقدسة) رسالة تعبيرية معبأًة بجهاز معرفي مشفر تمثل لنا البُنى الذهنيـة التكوينيــة لعقل المنشـئ أو الكاتب. أي إن هذه الرسالة تنزاح صوب النص المفتوح وهو بمقدار ما يصعّد من الشأن الذاتي للمؤلف فانه في حساسية ما بعد الحداثة يصعّد من شأن الاختلاف مقارنة بالأشكال التجنيسية الأدبية الأخرى، فالكتابة الجديدة تبحث عن نص حر ومتفرد واستثنائي وغير قابل للإنضواء تحت أية خيمة تجنيسية. فان رفض هذا النص للمؤسسات التجنيسية المهيمنة السائدة – يؤكد انتماءه إلى نفسه بوصفه نسقا حراً غير قابل للتأطير، لذا فان هذه الإشكالية في عدم إعطاء خصائص مميزة لهذا النوع من النصوص الأدبية المتفردة – أو الكتابة بأفق جديد – هي التي جعلت الكتاب يبحثون عن طرق استراتيجية في التعبير فاللاممكن يُعدّ ضمن المنطق الجدلي / المعرفي ممكناً.
يمكننا الآن أن نقول إن النص الحر والاستثنائي والمتفرد – هو عبارة عن (اركيولوجيا المعرفة)- طبقات معرفية متراكبة مع بعضها. ولكن كيف يمكننا من اختراق هذا النص والكشف عن الجهاز المعرفي المشفر في داخله كي نتمكن من حل طلاسمه المعرفية – هذا اللغز المدفون فيه..؟
وإذا كانت الرسالة التعبيرية للـ(منطقة المقدسة) محكومة بالتجربة الأدبية والجمالية، أي إنها تنزاح صوب الخطاب الشعري، الذي يكوّن السمة المميزة لخطابها الفني، هذا يعني إن آليات أشتغالها تتركز على تكوين لغة خاصة بها، فالأنا – الساردة تأخذ حضورها الفاعل في تشكلات النص، حتى أن هذه الأنا – الساردة تنشطر على نفسها وتتحول إلى ضمائر متعددة، وكل ضمير يحمل صوته الخاص به، فيقوم النص وبواسطة هذه الأنا بطرح ثيماتها المتعددة كالحياة والموت، والغربة، والتشتت، والضياع، والبطالة، والجنس والدعارة والعمل في مهن مختلفة، والدين والقهر المتمثل بانكسارات النفس وأحباطاتها، والتشرد في مدن الغربة، أو أن النص يقوم بتشكيل يوتوبيات مدن خيالية بواسطة أنا السارد التي تبنى على أنقاض مدن واقعية، كما في (مساطب الآلهة) للقاص محمود جنداري، و(بصرياثا) لمحمد خضير، و(سابع أيام الخلق) لعبد الخالق الركابي، و(كور بابل) لعباس خلف علي، و(البرقيل) لمحمد علي النصراوي و(السواد الأخضر الصافي) للقاص عباس عبد جاسم الذي بنى مدينة تحت الأرض على أنقاض مدينة (غدامس) المغربية. بمعنى آخر أنَّ (المنطقة المقدسة) تسعى دائما إلى ابتكار آليات تقنية / فنية على مستوى الأداء الجمالي، فهي إذن تأخذ الوظيفة التعبيرة والإنفعالية التي نادت بها نظرية الأرسال لجاكوبسن بين المرسل / الرسالة / والمرسل إليه، وهذا يعني أنها تأخذ دور الرسالة وما تحتويه من قيم جمالية على مستوى الأداء الشعري والجمالي، كما أنها تمثل الطاقة التعبيرية والتوصيلية بقيمها الفلسفية والوجودية، فهي دائماً ما تبحث عن هويتها، والأنا الساردة فيها تتحول إلى كينونة كونية تفلسف الأشياء حسب وجهة نظرها، والمتلقي يعيد تشكيل (المنطقة المقدسة) في كل قراءة جديدة، والقارئ كلما تمكن من الوصول إليها فهي تنفلت منه ليعاود تشكيلها من جديد، وبهذا المنطق التفاعلي بين القارئ والنص، تعدُّ كل قراءة نسخة مزيفة للقراءة الأولى، والقارئ كلما أعاد عملية القراءة يقوم بأنتاج معنى جديد يختلف عن معنى القراءة الأولى للنص، فهي إذن تعدُّ منطقة تكّشف لحقائق جديدة، وكل حقيقة يمثله سر معين مدفون بين طيات النص، وإذا كان هذا النص الجديد يصعّد من الشأن الذاتي للمؤلف بوصفه خالقاً ومبتكراً لنص حر ومتفرد، فإنَّ هذا النص يحفز ذهن المتلقي، ويجعله في حالة من النشوة الدائمة على مواصلة القراءة، لأن الوظيفة التعبيرية تعطيه لذة القراءة على استيعاب هذه الآليات الجمالية بحيث يكون متفهما أو مدركاً للتجربة الأدبية بصيغتها الأنطولوجية الشاملة.
لذا فأن لغة (المنطقة المقدسة) تستدعي إلى الذهن مراجعة تعريف العالم اللغوي فردينان دي سوسور للغة حيث قال (إنها نظام من الإشارات جوهره الوحيد الربط بين المعاني و الصورة الصوتية و كلا طرفي الإشارة سايكولوجي)(3)، أي ان الدرس اللساني لهذه المنطقة يكمن في أنقسام الإشارة إلى دال ومدلول، وأذا ما كان الدال يمثله الجزء المادي، فأن المدلول يمثله الجزء المحسوس المتمثل بالصورة الصوتية أو المنطوق اللفظي للكلام، ومتى ما يُرّحل هذا الكلام أو يؤطر داخل دال مادي فأنه يدخل الكتابة ويصبح جزءاً من جسد المكتوب، الذي هو جسد النص نفسه.
تشكلات (المنطقة المقدسة) داخل الرواية المعاصرة
ولما كانت هذه المنطقة تمثل لنا الرسالة التعبيرية باعتمادها على اللغة، أي بمعنى أن هذه الرسالة تعطينا نسقا دلاليا تسيطر عليه الإنزياحات المعرفية بشكل جلي وذلك من خلال إحالات المثيرات المعرفية إلى بعضها بعضاً داخل النسق الإشاري، لذا فان وظيفتها تهيمن وبشكل فعال على خطاب الرواية، هذا يعني أن لكل رواية معاصرة تشكلاتها الخاصة من خلال أنساقها الدلالية، واشتغالات اللغة هنا تهيمن على عناصر السرد الأخرى كالحكاية التي تعتمد على الشخصية والحدث والزمان والمكان، هذا إذا ما كانت ثمة حكاية تروى في هذا النص، أما الفعل القرائي له هو تتبع هذه الآليات أو كيفية تتبع التشكلات النسقية للنص، فتنقلب الحالة ويصبح هذا النوع من الإشتغال على آليات اللغة، هي حكاية كيفية تشكل النص الروائي نفسه، من خلال ربط أنساقه الدلالية مع بعضها بواسطة المثيرات التي قام المنشئ بتخليقها خصيصاً، وبالتالي فأنها تعدُّ جزءاً من البنى التكوينية لعقل المنشئ أو السارد الذي يتقمص إحدى الشخصيات الوهمية، فنلاحظ ثمة سرد داخلي يتجه صوب الذات المفكرة التي قامت بصناعة خطابها الروائي الخاص بها.
وهنا يظهر لنا نمطاً من أنماط السرد يسمى سرد الذات اتجاه نفسها، فينزاح النص الروائي صوب النص المفتوح الذي ينفتح على متعرجات ومسارب الذات، فيتمحور الخطاب على نواة محورية غائرة، فتتجلى الكتابة، أو تصبح نوعاً من أنواع الفلسفة في مساءلة الذات اتجاه ألله والكون والحياة، والنظر إلى الأشياء المحيطة بها نظرة متفحصة، كانها تكتشف الأشياء لأول مرة، فتقوم هذه الذات بتأجيل الزمن، وتستمر الإحالات، والعملية تبدو لنا كأننا نقرا قصيدة تحتوي على طاقة شعرية عالية في مستوى الأداء التعبيري.
فتقوم هذه الذات بطرح أسئلتها وهمومها الفكرية، فيتشكل امامنا جسد النص، الذي هو صورة أخرى لجسد الذاكرة الذي يكتب همومه وعذاباته، وأحلامه، وأمله ويأسه لغضبه وفرحه، ومن خلال (سرد الذات) تنبثق حالات الوعي من تحت جبل الذات، فيتشكل لنا خطاباً ميتافيزيقياً، سراديبياً، يطبع كوابيسه ورؤاه داخل لغة محملة بالألغاز والأسرار، ولما كانت الأسرار هي حقائق تتكشف لنا رويداً رويداً من خلال هذا الخطاب، فأن كل سر يحيلنا إلى حقيقة معينة، فيختلط الحابل بالنابل، واليقين باللايقين، وتصبح التعمية واللاجدوى والعبث من السمات الأساسية التي تعكس واقع الإنسان المضطهد والمكسور والمحبط والغريب والمستغرب، أي بمعنى آخر أن هذا النمط من السرد الذاتي يعطينا درساً فلسفياً لهذه الذات، وإذا ما كان الإنسان كائن مدفوع بشكل تلقائي نحو تنظيم سلوك حياته وبرمجتها بأسلوب يتعايش مع المجتمع وبشكل طبيعي، فأن المجتمع يصبح عاجزاً و غير قادر على اعطائه صورة جميلة لنفسه، لاسيما وأن الذات العراقية مرتبطة بالقمع والكبت واستغلال الغرائز، وعليه فان هذا النمط من السرد الذاتي يتضمن على قدرة الإحالة للغة لتكشف في النهاية عن كوجيتو جريح، محبط يعاني من آلام الحياة القاسية، فتصبح هذه الذات غريبة عن مجتمعها بل غريبة عن نفسها. وهذا متأت من عوامل خارجية أسهمت وبشكل فعال في رسم هذا الكوجيتو الجريح، وهي الحروب المدمرة التي خلخلت الذات وجعلتها منطوية على نفسها، تعيد صياغة أحلامها التي لا تستطيع تحقيقها في ظل حياة قاسية.
السمات الشعرية في رواية/ نص (كور بابل)
نلحظ التأثير السردي فيما هو شعري واضحاً في الممارسات النقدية الغربية معتبرين هذا التأثير ظاهرة قديمة في موروثهم، وقد تجلى ذلك في الإلياذة والأوديسة ومغامرات الفروسية،،وحديثاً نرى هذا الجانب واضحاً في قصائد أليوت وخاصة قصيدة (الأرض اليباب). وجنس الرواية نلاحظه من أكثر الأجناس أنفتاحاً على أستلهام الفنون وتوظيفها في تشكلات النص، مما يضفي على العمل الروائي الذي ينزاح صوب النص المفتوح أكثر جمالية في الأداء التعبيري، وهذا يؤكد لنا وبشكل قاطع أن توظيف الشعر في داخل الرواية يتم من خلال الإشتغال على اللغة، إذ أنَّ الكاتب أو المنشئ هو الخالق الوحيد لمثيراته المعرفية المموضعة داخل أنساقه الإشارية، وهذا ما يؤكده الناقد (جان أيف تادييه) في وصفه لأسلوب القصة الشعرية : (أن المرء لا يدرك ان قصة من القصص توسم بميسم الشعر، إلاّ إذا أنطلق من دراسة اللغة، فلا مفهوم الشخصيات ولا مفهوم الزمان أو المكان ولا مفهوم بنية القصة تعدّ شروطاً كافية لذلك، أما التكثيف والإيقاع الموسيقي والصور فلا تغيب أبداً فهي تصل إلى حد خلق الإنطباع بأنك تقبل على هذه القصص وكأنما تقرأ قصائد نثرية طويلة)(4).
وهذا ما نلاحظه في رواية – نص كوربابل للروائي عباس خلف علي، الذي كان أشتغاله بالدرجة الأساس على اللغة، فأن هذا الإشتغال يبرز الوظيفة التعبيرة ذات الطاقة الشعرية المتفجرة في الكلمات المنتقاة بعناية والتي تتميز بإيقاع شعري وبجرس موسيقي يسحر المتلقي، مما يجعله يقرأ الرواية وكأنه يقرأ نصاً مفتوحاً يتشكل من خلال أنساقه السيميائية كما نلاحظ هذا التوظيف في هذه المقطوعة: «أمي طيلة حياتها لم تشته عسل الموز بل عاشت على حبة بلوط وخبز الشعير ولبن الدواب وهمس التذكر، أمي وحيدة يأتيها الغروب كترنيمة دعاء، سحره عنفوان الذاكرة، أمي كباقي الأمهات اللواتي لم تنصفهن مخاضات الغياب على فلذة الأكباد الفارين من المسرات، فتستعين ببقايا الحلم على استرداد الصورة، (تقول) حين ترسم لي وجوه الحسناوات بقلم الرصاص، ملامحهن في ذهني كأني أراهن فيك، ماذا أفعل ؟ مكتوب علي أن أسأل النهر عن طيب خاطر إلى متى تظل عيني شاخصة إلى محطة الجرار أمام المجرى، ومن دون انتظار كانت صفحة النهر تعيد إلي لوحات قلم الرصاص،كما لو أن وجوههن المائية هي نفسها التي تحاصرني فتأتي إلي رائحتهن فأشم بها عبق الماء وأتذكر نفسي، هل أنا أنت أم أنت أنا؟»(5)
إنَّ هذا الترنيم المتناغم في الكلمات، يؤكد على حضور المفردة وتفاعلها في علاقات إيحائية، تحمل من المدلولات المتناسلة ما يحيل بعضها إلى البعض الآخر، إذ إنَّ الإشارة عندما يشطبها المتلقي، (والشطب هنا بمعنى المجاز) أو يؤجلها، فإنَّ الإشارة تحتفظ في الباقي من علاماتها. أما السمة الشعرية الأخرى التي نلاحظها هي خاصية الترديد أو التكرار فنراها واضحة في المقطع انفسه، فمفردة (أمي) تكررت مرتين في هذا السياق، المرة الأولى يرسم لنا الكاتب حالة الفقر والبساطة والجوع «أمي طيلة حياتها لم تشته عسل الموز بل عاشت على حبة بلوط وخبز الشعير ولبن الدواب وهمس التذكر»، وفي المرة الثانية يرسم لنا حالة مختلفة عن الأولى فالكاتب يستل مفردة (أمي) من الطبقات السفلى من قاع الذاكرة، حيث أمه التي تجلس وحيدة وهي تنتظر مجيئه وقت الغروب، وهو الوقت الذي ترفع فيه أمهاتنا أيديهنَّ للدعاء. وهذا يؤكد أن التكرار يحتفي باللفظ ويزيدها شاعرية وهذا ما يعزز الوظيفة التعبيرية للنص. وعلى وفق هذا المنطق من الإشتغال على اللغة نلاحظ ثمة خاصية أخرى تتجلى في العمل، وهي خاصية شعرية التركيب، وهذه الخاصية تتجلى في علاقة الكلمات أو الإشارات مع بعضها بعضاً وتكون على مستويين، الأول يكون مستوى بلاغي أو ما يسمى بالتركيب المجازي، أما الثاني فهو المستوى النحوي وهو الإنحراف والخروج عن قواعد النحو وذلك على مستوى الجملة الواحدة أو النسق كما في: «حين غابت الشمس أثناء لعبة الأبراج وأستيقظ الحوت، توارى بلوم – جويس – أملاً بالعثور على عوليس الذي اغوى الشقراء – زو – متجاهلاً تحذيرات هرقل من لعنة جنية البحر التي روعته في مخاض اعماقها»(6).
فإذا كنا لم نلحظ أي إنكسار على المستوى النحوي للجملة فأن المستوى المجازي أو البلاغي يثير فينا الأسئلة القلقة، إذ أن كلاً من (الشمس، لعبة الأبراج، الحوت) يحيل أحدهما إلى الآخر ولكن كل إشارة تشطب الأخرى وهي لا تستطيع ان تحل محلها، فنلاحظ الشعرية في تركيب الجملة قد أخذ يعطي للمتلقي بؤرة إنفجارية على توليد إيحاءات متتالية، إذ أن شخصية أنا السارد تنشطر على نفسها وتتمثل بأشخاص وهميين قام المتلقي بأستدعائها من خارج النسق ليتلاقح معها فكرياً وذلك على مستوى التشاكل المعرفي، وكل هذه الخلطة من الإحالات البلاغية في تركيب النسق يحيلنا إلى نسق مثيولوجي غائر في عمق الأساطير يتراوح بين شخصيتي (هرقل) والطائر – زو – الأسطوري الذي يمثله الإله يهوة، وهذا ما يحيلنا إلى المقدمة التي تتصدر الرواية والتي يعرف فيها الروائي النص حيث يقول «النص: وسيلة تعرف غير خاضع لبرهان، أو دليل بل هو تجربة تعكس فعالية الكتابة أثناء ألتحامها بالأثر»(7). وهذا ما يؤكد لنا وبشكل قاطع أن الروائي عباس خلف علي قد اتجه صوب نمط السرد الداخلي أو ما يسمى سرد الذات، وهو نص معبأ بالشفرات والألغاز والأسرار والمثيرات المعرفية، حيث تكون فيه انا السارد قد فلسفت الأشياء المحيطة بها، وكانها تكتشف ما يستطيع أن يلتقطه اللاشعور الغائر في لجة الذات.
هناك سمة شعرية اخرى أشتغل عليها الروائي في روايته (كور بابل) ألا وهي شعرية الصورة، وكما هو معروف في كتابة الشعر عند العرب الأقدمين تعد الصورة الشعرية من أهم السمات أو الأساليب التي يلجأ إليها الشاعر في قصيدته العمودية والأمثلة كثيرة وواضحة منذ شعر ما قبل فجر الإسلام وإلى يومنا هذا، ولكن في الرواية الأمر يختلف كثيراً إذ أن توظيف الصورة بمعناها المجازي أو البلاغي أو الإستعاري يعدُّ سمة من السمات الشعرية التي نادى بها عبد القاهر الجرجاني وصولاً إلى جان كوهين الذي يقول: «إنَّ المنبع الأساسي لكل شعر هو مجاز المجازات وهو الإستعارة وهي غاية الصورة»(8).
وفي رواية – نص (كور بابل) تتناسل الإستعارات وتتوالد فتخلق لنا حالة من الإحالات المعرفية، لأن ثمة خيطاً سايكولوجياً يثير فينا الرغبة على تتبع كيفية تشكل هذه الصياغات أو الصور المركبة من النسق الإشاري، أعتقد أن (كور بابل) تعطيناً درساً في اللسانيات لتأكد على شعرية المفردة وإيقاعها، ثم على شعرية التركيب النسقي، ثم على تكرار الكلمة أو أعادة اللفظة وأن لبست ثوباً آخر من الإحالة المعرفية، ثم شعرية الصورة التي تجمع كل هذه السمات، فينزاح النص الروائي إلى نص مفتوح قابل على أن يستنسخ نفسه كما في هذا المقطع من الرواية: «تذكرت في الحال النهر، الذي صار سفر المدينة الخالد، جفت عروقه ولم يبق منه سوى أثر ربما يمحى في يوم ما، كان اسما لم يكن مثلما نحمله عابرا لتولد منه مدينة كونت سحرها من أديم نهر صغير عرف أسمه ب (العلق مي) وعرفته المدينة بمجرى الدم، سيل لا ينقطع من التصورات تواجه زائريها القدامى والجدد وتمنحهم مكانا لا يستثني فيه الزمان حكايته كبقية المدن التي لديها الاستعداد بأية لحظة للانسلاخ عن ماضيها وارتداء أقنعة التبدل فالصورة هنا تختلف، إن مرآة هذه المدينة تعكس كل قديمها وحديثها في آن، كأنك تعرفها أو سبرت أغوارها، أزقتها، قبابها، مآذنها، أسواقها، مراثيها، شواهدها، دفوفها، صنوجها، رسومها على الحيطان، ابتهالاتها، أناشيدها، مراقصها السرية، غناء بواديها، نواحها، قبورها، قصورها، بساتينها، غربائها، ليلها النهري الذي يتنفس فيه القمر أغنيات الشاعر المسافر إلى موطن استباحة القصائد. وإن عدت (كور بابل) المدينة الأصلية (خميرة الماضي) فأن الحكاية اللاحقة تحفزنا على الرحلة المعكوسة إلى الرحم الأول لترينا مدى استعداد الأثر على التشاكل ذهنيا في رسم الصفات المتداخلة في عمق المسافات البعيدة»(9).
لقد عمل الروائي على أستدعاء الواقع الحلمي للنهر المستل من قاع الذاكرة الذي كان في وقت ما نهر صغير يسمى بنهر (العلقمي) يجري وسط المدينة يعدُّ مثيراً معرفياً مشحوناً بحمولات تاريخية مرت بها المدينة، ويتسم بإنزلاقات عديدة، يحيلنا إلى مثيولوجيا المدينة الغائرة في عمق التاريخ، وهو يشكل معلماً جغرافياً مندرساً، حتى أنقلب هذا النهر إلى رمز جماعي يشكل البنية الذهنية للمجتمع، بفعل تفكيرها الفطـري، وكل هذه الصورة من الإستعارات الدلالية تحيلنا إلى مثيولوجية مدينة غائرة في عمق التاريخ وهي (كور بابل) التي هي الأسم الآخر لمدينة كربلاء التي كانت في يوم ما أحدى بوابات بابل العظمى.
الخلاصة:
وقد أتخذ السرد في رواية – نص كور بابل سرداً داخلياً يستعير آلياته من الإشتغال على اللغة بالدرجة الأساس تلك الإشتغالات التي تفتح آفاقاً واسعة وتدعوا المتلقي أن يلج في عوالمها الممكنة، فهي إذن إذا ما أردنا أن نوصفها تعدُّ سياحة مع المفردة أو العلامة ومشتقاتها وعلى التحولات الكثيرة على مستوى العبارة او الجملة ثم على مستوى التركيب النسقي، مما يضفي على النص نوعاً من الغموض، فيحس القارئ أن المفردة تهرب من أمامه ولكنها في الوقت نفسه تشكل قيمة أساسية تضاف إلى النسق التركيبي.. أي بمعنى آخر ان آليات الإشتغال في هذه الرواية تم استعارتها من شعرية الشعر وهي التركيز على معنى اللفظ ومشتقاته كما في: «التاريخ المجهول وقهقهة التراب يتأهبان مثل النار.. على من؟ وقتها لم أكن أعرف أن الغيوم تطرح تنوعا لانهائيا من الشكل واللون، ومن دون تمييز الشاباك عن السافاك والثراء عن الرثاء ومحكمة الحراشف عن محكمة لاهاي والخمير الحمر عن الهنود الحمر وسفينة تايتنك عن سفينة هايدبور وساحة طرف الأغر عن ساحة الفردوس وطريق دوفوركر سوير عن طريق المطار، وإن وقوع أشهر الرحالة على سطح البحار بفخ متعة الاكتشاف تعطي دليلا قاطعا بأن ماركو بولو لم يكن يدرك إن خرائط البحار تحوي على غوامض برمودا0أتذكر مرة قلت: أن نابو شبه أفكار النساخ برفيف أجنحة الطيور التي تعيش في الحلم والتأمل والرغبة وإن الحياة من غير تناغمها مع الأشياء سجن في ضميرها السري بلا أدنى شك»(10).
أن هذا التركيز على التقابلات الثنائية بين المفردات لأبراز إيقاعاتها الداخلية، أو بالأحرى أن حضورها في النص يشكل أرتباكاً وغموضاً لدى الملتقي، وذلك لآعتماد الرواية على قاموس من المفردات المتناقضة فيما بينها، ولكن وجودها في الفضاء النصي يشكل قيمة معرفية، وهذه القيمة تمثل لنا فلسفة السارد اتجاه الأشياء، بحيث يكون ذلك التفلسف ممزوجاً بالسخرية والتهكم حينما يستدعيها السارد لتشكل إنقطاعات على مستوى الأبستيم المعرفي لخطاب الرواية. والنمط السردي الذي أستخدمه الروائي ليس بمعنى السرد الكلاسكي الذي يقوم على تسلسل الأحداث والحفاظ على وجود السبب والنتيجة، وأنما مثل هذا السرد يكون محملاً بعبق الشعرية التي أمتزجت مع المفردات حتى بدا لنا من الصعب أن نجتاز مفردة أو عبارة أو صفحة، فالنص يقرأ دفعة واحدة وبدون إنقطاع، وهذا النمط من السرد ينفتح على مشاعر السارد، وما تنتابه من حالات يأس وإنكسار أو إحباط، أو أستدعاء ذلك الحلم ليكون جزءاً من ذاكرة النص، وهو كثير التعرجات والإنقطاعات، والإحالات، أي بمعنى أن فلسفة النص تقوم هنا باحلال المفارق الإنساني محل اللامتناهي الإلهي، وهو النمط الذي تكون فيه عين السارد على مسافة واحدة من جميع الأشياء التي يستدعيها ليقوم بمساءلتها تاريخياً واسطورياً فاضحاً ذلك المسكوت عنه أو اللامفكر فيه، وتصبح الشخصية هامشاً ينضاف إلى النص، لأن خظاب الرواية يتمركز حول رؤية السارد الميتافيزيقية، وهذا النوع من السرد يجعل النص عبارة حفيرة أو ثيقة نفسها.
الهوامش
1- الشعرية / تزفيتان تودوروف / ص 21.
2 – طيف (المنطقة المقدسة) حفريات نقد مابعد الحداثة – محمد علي النصراوي / دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 2006م.
3 - فردينان دي سوسور / علم اللغة العام - ت: د. يوئيل يوسف عزيز – مراجعة: د. مالك يوسف المطلبي – ضمن سلسلة كتب شهرية تصدرها دار آفاق عربية – عدد / 3 لسنة 1985م – ص / 33.
4 - الإقتباس ماخوذ من مقال (الشعرية في رواية حدث في أسطنبول – لكريم معتوق) للكاتبة التونسية ريم العيساوي والمنشور على موقع (صدانا) الإلكتروني.
5 - الرواية، ص / 97
6 - الرواية، ص / 86
7 - الرواية، ص / 5
8 - بنية اللغة الشعرية / جان كوهين – ص 170
9 - الرواية، ص / 25
10 - الرواية ص18 – 19