قصيدتان
دكَّانُ خرائط بإمكانَك تخيله عائداً من الحرب تلك الحروب التي تنمو في مكانٍ آخر ليعود بعضُ أفرادِها بذكرياتٍ قد تبدو كافية لصناعةِ فيلمٍ شبه واقعي المُهم، أنه عاد من صحراء في شمال إفريقيا، وبخبرةٍ في العطش افتتحَ دكاناً لبيع العصائر. كان يضعُ الثلجَ فوق المشروبات الصحية التي أصبحت في أواخر الأربعينيات أمارةً على أمريكا في عهدها الجديد العادل حين اكتشف مياهاً تنزُّ من الصناديق فتهَيأ له بحر، يابسة، ثم جزيرة من هنا تولّدت لديه فكرةٌ مشوشةٌ عن الجغرافيا ثم جاء حفيدُهُ الذي لم يذهب أبداً إلى الحرب فحوَّل الدكانَ إلى مكان لبيع الخرائط. لو مررتَ من هنا يوماً، في هذا الشارع الذي يشبه شرياناً مسدوداً في قلب مانهاتن سترى أُناساً ليسوا من هنا يدخلون ويخرجون ونادراً ما يشترون شيئاً أنا مرةً رأيتُ امرأةً تمسحُ الترابَ عن جبلٍ وبنتاً ترسلُ خصلةً من شَعْرها في بحيرةٍ وسمعتُ آخر يحاولُ أن يصفَ لآخر معه موقعَ بيته البعيدِ في قريته البعيدة بالقرب من مدينةٍ بعيدةٍ تظهر مثل نقطةٍ في خريطة بلده البعيد. أنا أمرُّ من هنا لا لأشارك هؤلاء الغرباءَ حسرتَهم ولا لأضع الماءَ في النيل الذي يبدو مثل ثعبانٍ نائمٍ في الرسم المعلق في مواجهة الباب ولا حتى لأتأمل ذلك البهاء الذي لابد كان هناك في أعلى الرّكبة اليمنى لصاحب الدُّكان الأصليّ الذي أرى الآن صورتَه في زيّ الجنديّ ونيشانه دون أيّ ذِِكْرٍ لرِجْله الخشبيّة أو للماءِ الذي نزَّ من الصناديق. أنا لا أعرفُ لماذا أمرُّ من هنا حقيقةً لكني الآنَ أشهدُ بعينيّ بائعَ الخرائطِ مرعوباً ربما للمرة الأولى في حربٍ لم يجد وقتاً ليذهب إليها الحرب، هذه المرة، جاءت إليه. الحـرب أما عنّي، فأنا أقفُ على أطرافِ أصابعي منذ سنواتٍ، خلفَ شُبّاكه، أتلصّصُ عليه، لكني لا أستطيع متابعةَ الشاشةِ التي يتسمَّر أمامها، هكذا أفكرُ، أنه ربما لم يعد يرى شيئاً وربما نسى المشيَ، أنا أيضا فقدتُ القدرةَ على تحريك قدميّ منذ وصلتُ إلى هنا، وهذا ليس مهماً لأحد، ولكن بالتأكيد كل منّا ضروريٌّ جداً بالنسبة للآخر في هذه اللحظة التاريخية، وإلا لن يكون هناك ما نعمله في هذه الدنيا، التي لحُسن الحظ أعطتْ للكائنِ السمينِ شاشته وألهمتني أن أتلصّصَ عليه، ووفّرتْ سلسلةً يتفرج كلٌ منها على الآخر، حيث يوجد في أولها ما يراه الكائنُ السمينُ على شاشته، وهو نفسه ما لا أستطيع من موقعي أن أراه. أُخمن أن الألعابَ الناريةَ تنزلُ من السماءِ، تصعدُ ألوانُها المبهجةُ بين الأحمرِ والأورانج من الأرض، وقبل أن تتحوّل على الشاشة إلى مجرد دخانٍ أسودَ، يكون الطيارُ قد أنْهى نزهتَهُ القصيرةَ فوق مدينةٍ لم يزرها من قبل، وتكون يدُ طفلٍ متشبثة بجلبابِ أمه البيتيّ قد توقفتْ عن جذبها إليه. الطيار لم يرَ الألوانَ لأن تركيزَه كان على الريموت كنترول. ربما سمع الطفلُ صوتَ الانفجارِ ورأى السقفَ وهو يسقطُ فوقَه ولكنه بالتأكيد لم يشهد الألوانَ المبهجة. وحدهُ الكائنُ السمينُ يرى كلَّ شيء، بينما أنا أُبدِّلُ ثِقَلَ جسدي إلى القدم الأخرى، وأحاولُ أن أخمِّن سرَّ سعادتِه وهو يمضغُ ببطءٍ ؛ حيث أنه لم يغادر الكنبةِ منذ سنين ولا أتصوّر أن الله يرسلُ له الفرينش فرايز هنا كمتعبدٍ تطْعِمُهُ الدنيا طعاماً ليس هناك ما هو أشهى منه ولا أزكى. القصيدتان من المجموعة الجديدة للشاعرة (جغرافيا بديلة) القاهرة، دار شرقيات
دكَّانُ خرائط
بإمكانَك تخيله عائداً من الحرب تلك الحروب التي تنمو في مكانٍ آخر ليعود بعضُ أفرادِها بذكرياتٍ قد تبدو كافية لصناعةِ فيلمٍ شبه واقعي المُهم، أنه عاد من صحراء في شمال إفريقيا، وبخبرةٍ في العطش افتتحَ دكاناً لبيع العصائر. كان يضعُ الثلجَ فوق المشروبات الصحية التي أصبحت في أواخر الأربعينيات أمارةً على أمريكا في عهدها الجديد العادل حين اكتشف مياهاً تنزُّ من الصناديق فتهَيأ له بحر، يابسة، ثم جزيرة من هنا تولّدت لديه فكرةٌ مشوشةٌ عن الجغرافيا ثم جاء حفيدُهُ الذي لم يذهب أبداً إلى الحرب فحوَّل الدكانَ إلى مكان لبيع الخرائط.
لو مررتَ من هنا يوماً، في هذا الشارع الذي يشبه شرياناً مسدوداً في قلب مانهاتن سترى أُناساً ليسوا من هنا يدخلون ويخرجون ونادراً ما يشترون شيئاً أنا مرةً رأيتُ امرأةً تمسحُ الترابَ عن جبلٍ وبنتاً ترسلُ خصلةً من شَعْرها في بحيرةٍ وسمعتُ آخر يحاولُ أن يصفَ لآخر معه موقعَ بيته البعيدِ في قريته البعيدة بالقرب من مدينةٍ بعيدةٍ تظهر مثل نقطةٍ في خريطة بلده البعيد.
أنا أمرُّ من هنا لا لأشارك هؤلاء الغرباءَ حسرتَهم ولا لأضع الماءَ في النيل الذي يبدو مثل ثعبانٍ نائمٍ في الرسم المعلق في مواجهة الباب ولا حتى لأتأمل ذلك البهاء الذي لابد كان هناك في أعلى الرّكبة اليمنى لصاحب الدُّكان الأصليّ الذي أرى الآن صورتَه في زيّ الجنديّ ونيشانه دون أيّ ذِِكْرٍ لرِجْله الخشبيّة أو للماءِ الذي نزَّ من الصناديق.
أنا لا أعرفُ لماذا أمرُّ من هنا حقيقةً لكني الآنَ أشهدُ بعينيّ بائعَ الخرائطِ مرعوباً ربما للمرة الأولى في حربٍ لم يجد وقتاً ليذهب إليها الحرب، هذه المرة، جاءت إليه.
الحـرب
أما عنّي، فأنا أقفُ على أطرافِ أصابعي منذ سنواتٍ، خلفَ شُبّاكه، أتلصّصُ عليه، لكني لا أستطيع متابعةَ الشاشةِ التي يتسمَّر أمامها، هكذا أفكرُ، أنه ربما لم يعد يرى شيئاً وربما نسى المشيَ، أنا أيضا فقدتُ القدرةَ على تحريك قدميّ منذ وصلتُ إلى هنا، وهذا ليس مهماً لأحد، ولكن بالتأكيد كل منّا ضروريٌّ جداً بالنسبة للآخر في هذه اللحظة التاريخية، وإلا لن يكون هناك ما نعمله في هذه الدنيا، التي لحُسن الحظ أعطتْ للكائنِ السمينِ شاشته وألهمتني أن أتلصّصَ عليه، ووفّرتْ سلسلةً يتفرج كلٌ منها على الآخر، حيث يوجد في أولها ما يراه الكائنُ السمينُ على شاشته، وهو نفسه ما لا أستطيع من موقعي أن أراه.
أُخمن أن الألعابَ الناريةَ تنزلُ من السماءِ، تصعدُ ألوانُها المبهجةُ بين الأحمرِ والأورانج من الأرض، وقبل أن تتحوّل على الشاشة إلى مجرد دخانٍ أسودَ، يكون الطيارُ قد أنْهى نزهتَهُ القصيرةَ فوق مدينةٍ لم يزرها من قبل، وتكون يدُ طفلٍ متشبثة بجلبابِ أمه البيتيّ قد توقفتْ عن جذبها إليه. الطيار لم يرَ الألوانَ لأن تركيزَه كان على الريموت كنترول. ربما سمع الطفلُ صوتَ الانفجارِ ورأى السقفَ وهو يسقطُ فوقَه ولكنه بالتأكيد لم يشهد الألوانَ المبهجة.
وحدهُ الكائنُ السمينُ يرى كلَّ شيء، بينما أنا أُبدِّلُ ثِقَلَ جسدي إلى القدم الأخرى، وأحاولُ أن أخمِّن سرَّ سعادتِه وهو يمضغُ ببطءٍ ؛ حيث أنه لم يغادر الكنبةِ منذ سنين ولا أتصوّر أن الله يرسلُ له الفرينش فرايز هنا كمتعبدٍ تطْعِمُهُ الدنيا طعاماً ليس هناك ما هو أشهى منه ولا أزكى.
القصيدتان من المجموعة الجديدة للشاعرة (جغرافيا بديلة) القاهرة، دار شرقيات