الشاعر الذي دعا دون مواربة في "منازل الخطوة الأولى" قائلا: «علينا أن نقتحم الأمكنة والمفازات ... كي نفوز بلمسة إشراقة... " يجتاز ستة وخمسين مقطعا شعريا تتقاطع وتتشابك في بنية نصية كبرى ليقدم يوميات الأفق المفتوح التي تمثل إشراقات جديدة. الأفق بما يمنح من حرية النسق الشعري، حيث هو أنسب لاشتباك المصائر، و انهدام البرزخ الذي يحول بين ذاكرة الذات الشاعرة، وذاكرة الجماعة، وبين الإنسان والعالم، وبين المُدَى التي تقشر الزمان وتقدمه مجزأ، حيث ينساق الزمان في وحدة كلية يتجلى وقد تساوقت لحظاته معا في أمكنة حقيقية و أمكنة مجازية كالذاكرة وبياض الصفحة، الأفق المفتوح حيث سمو على افتعالات تقسيم واهية للبشر عبر حدود وأجناس وألسنة و أيديولوجيات مسخت وجود الإنسان في هذا الكون وهددت بقاءه.
تبدأ نصوص "من يوميات الأفق المفتوح" لسيف الرحبي من توق الأشجار و النهارات إلى عائلة السديم، وتنتهي بلحظة النشوة الخاطفة التي تتوق فيها الذات الشاعرة إلى ما قبل الخليقة والتاريخ، في البداية بدأ بتوق الطبيعة نفسها و أرجأ التوق البشري لأنه الأكثر وعورة في مسالك الخلاص، وعبر هذين التوقين اللذين ينشدهما الشاعر تتوالد حيوات و تنمحي وتعاود ميلادها، و تقلع الروح في معراج عبر الذاكرة والمكان -وعبر الذاكرة بوصفها مكانا وعبر المكان بوصفه ذاكرة، تقلع إلى اللامنتهى وهي تتخفف شيئا فشيئا من الأصفاد اللامرئية و أطواقها المطبقة عليها!، صيرورة الذات هنا تتشكل عبر سيرورة النص وصيرورته، ومكاشفتها لحقائقها الوجودية تمنحها الخلاص النسبي عبر لحظة نشوة مختلسة، وعبر تجسد الدلالات الشعرية في نسق ظاهر .
كيف إذن تحركت نصوص "من يوميات الأفق المفتوح" نحو الانعتاق المطلق، علينا أولا أن نطل على المقاطع الدالة على هذا المنحى الرؤيوي، وسأبدأ بآخر مقطع في النص الشعري الطويل لأنه يمثل مفتاحا دلاليا جليا تجسدت فيه رؤى الشاعر بشموليته النص كله:
(أكاد أطير من النشوة
في هذه اللحظة الخاطفة
التي تهجرني فيها الذاكرة والنسيان
الأحبة والأعداء
الطفولة والشيخوخة
الجنة والنار
المعرفة والجهل
الصيف والشتاء
خريف الشعراء
وكل أركان الزمان والمكان
نشوة الزمن التي تضرب برياحها
إلى ما قبل الخليقة والتاريخ)
عبر تكثيف شعري تنفتح الذات الشاعرة على خلاصها الكلي عبر هجرة كونية ما بين الوعي واللاوعي، وبرفضها لنستالجيا تلفها بحبلها السري أو تجرها لتهرم الجسد، كما أنها تتشتت بعيدا عن مصائر البشر التي تحكمها وتحجمها تأويلات علوية،هادمة بكل ذلك كينونة الحدث المرتبطة بالزمان والمكان لتصبح معلقة خارج شواغل الأحداث ومستردة كيانها الأزلي حين كانت جزءا من السديم، هذا بالضبط المنحى الرؤيوي الذي تطرحه «من يوميات الأفق المفتوح "
وحين ننكص باتجاه أول مفتتح لنلج النص من بابه نلقى انعتاق الطبيعة في حركة استباقية لانعتاق البشرية، يقول في المفتتح:
(الأشجار و النهارات الغائمة
تتسامق تميد إلى ما وراء الأفق
كأنما لا تريد أن تفارق
عائلة السديم والنجوم)
لم إذن يبدأ الشاعر بالأشجار ذاتها، الأشجار المتشبثة بيابستها عبر انغراسها وتجذرها فيها، الأشجار التي تنسحب ظلالها بعيدا بينما تظل هي ملاصقة لمساحة من الأرض تشهد ميلادها و تتنامي فيها فتية،ثم تتحلل في مكانها دون هجرة واحدة ممكنة،إن الشاعر هنا يستقرئ روح الكائنات المعطلة هجراتها ويلامس آلامها المكتومة و رجفاتها غير المدركة، ثم إن علاقة غريبة لتوق غريب من نوعه حين تتوق النهارات الغائمة، النهارات غير المتحققة، النهارات العاصفة بالدكنة إلى نقضيها على الدوام لرؤية النجوم الضاربة في البعد والتي تشاكس أنظارها في الماوراء !
من أجل هذا الانعتاق المطلق يجتاز سيف الرحبي الأمكنة والمفازات التي قد تتشابه، أو تتناقض طارحا نصا ذا رؤية غير ثابتة على الدوام، فهو يبني دوالا ثم ينقضها، ليعبر عن التناقضات الكامنة في الذات الإنسانية، فمثلا الطفولة التي انتبذها في مقطع الختام يظهرها في مقطعين متتاليين مرة كمخلص من الآلام حين تنجز رحيلها الكامل، ومرة كمخلص حقيقي يأتي ليقتنص الأرواح من سأمها ونفورها من اللحظات الآنية في الليالي المسودة فيها أقمارها، ويرصد ذلك المقطعان الآتيان:
(حنون أمر هذا الليل
أحن من سلفه بكثير
لأنك أيتها الطفولة
لوحت بيدك الغضة
من النافذة
وواصلت الرحيل)
هنا تشبث بانعتاق من الجذور الأولى لخلاص الذاكرة حيث كل الممكنات لا تؤهل لعودة متحققة في الزمان، لكننا نجد مباشرة المقطع الذي ينسف هذا الانعتاق المفخخ بالحنين الجارف للطفولة ذاتها:
(ليس غيرك
أيتها الجميلة
المختبئة بين الأشجار والأكمات
و أقمار مائلة
بلطختها الداكنة
تتبدى في شكل وعول تركض في الفلاة
ليس غيرك
أيتها الطفولة
من ينقذ هذه الأرواح الهالكة)
ليضعنا الشاعر على حافة التناقض متأرجحين بين نقيضين، إنه هنا لا يقرر لنا المصائر نيابة عنا، كما يعبر عن القلق الإنساني العارم حين يتجاسر المرء ويخوض المفازات. هذا التناقض تقنية ملازمة للنص تعبر عن صيرورات الرؤية، فبسبب أن «العمر ينفرط في البحث عن الوطن والمكان «يتوق الشاعر إلى اللامكان، و تتقمصه ذاتان متعاركتان:
ذات تنشد خلاص الحياة من هاجس الفناء: (قالت الغيمة لجارتها: لقحي فحل السماء الهائج / كي لا يدمر البيادر والحقول)، وذات مضادة تنشد خلاص الكون بزجه في الفناء:
(يصغي إلى اضطراب الكواكب في بساتينها
إلى صراخ الأجنة في أرحام الأمهات
وإلى اقتراب نجمة مهولة
من هذه الأرض
ببطء تقترب
رويدا رويدا
وبشبق لا نظير له
حتى تنجز اللقاح البهيج
وتكون النهاية)
وعبر مقاطع نصية تتوالى يمكننا القبض بإحكام على بعض مبررات رغبة الذات الشاعرة في الانعتاق المطلق: أول مبررات هذا الانعتاق هو العبثية الكامنة في تقاطع الحرب والحياة:
(جنود ذاهبون إلى الحرب
لا أحد في وداعهم، لا أحد يذرف الدمع أو يلوح
بمناديل شبحية من خلف الشرفات على
الراحلين إلى الديار التي لن يعود منها أحد)
إنه يشير إليها هكذا ثم يلمح لها عبر رمزية شفيفة حيث يرمز للكيان البشري بطائر حياته معلقة بشجرة يلبد على غصنها، وقد غادر سمة تنقله، واستكان بجناحيه، مما يجعله عرضة للزوال:
(أعتذر منك
أيها الطائر اللابد على غصن الشجرة
فالريح ستقصف بعد قليل
عشك المبلل بأمطار
البارحة)
وثانيها: غزيرة الكشف عن حقائق الوجودية التي لا يستطيع الشاعر الفكاك منها وهي كتوق الحصان الذي يندفع برغبة عارمة في اجتياز المسافات، أو كرغبة الناسك في مكاشفة بزوغ الرؤى في حدائق الروح،أو كانجراف الفراشات وراء الضوء فروحها تتوق للامتزاج به بينما جسدها قد يتلاشى في ذلك الذوبان،إنه قدر العارف أن يكاشف حدوسه، وأن تفنيه تلك الحدوس يقول:
مندفعا
هذا الحصان الأصهب
في الفراغ المحتشد
وحين يصل الذروة
تحفه الفراشات
والملائكة والأطفال
مندفعا
هذا الناسك
في حدائق روحه
شاردا في ملاعب رؤاه
لقد أوشك على بلوغ الذروة
التي وصلتها
اندفاعة الحصان والفراشات .
وثالثها: الموت الذي يقتنص الأحبة تباعا وعلى خلاف ما إليه ذهب خالد الدهيبة حين تعرض «لمقبرة السلالة «حين كتب: (شكل الموت موضوعا للاشتغال في هذا الديوان (يقصد: مقبرة السلالة) حيث يقدم الشاعر على التأمل في عوالمه اعتمادا على آليات خاصة تبلور معرفة بالموت لها سمات مميزة، تضعنا أمام تاناتولوجيا شعرية أول ما يسمها هو تلقائية التفكير. إذ أنها رد فعل على واقعة الموت. ومن ثم فانه لا يحضر فيها بوصفه موضوعا تأمليا مجردا، بل باعتباره حدثا موضوعيا تفاعلت معه الذات الشاعرة، وإذا كان هذا الحدث متعددا في حياة الشاعر فان اللحظة المؤسسة فيه هي موت الأم) فهذه الرؤية التي كانت صالحة كمدخل لمقبرة السلالة تصبح منعكسة في «من يوميات الأفق المفتوح «ليصبح المتركز هنا إن الموت لا يحضر فيها باعتباره حدثا موضوعيا تفاعلت معه الذات الشاعرة بل بوصفه موضوعا تأمليا مجردا، يقول سيف الرحبي:
(الليل ينتشر بين أضلاع
الغابة
وفي عيون حبيب
غيبه الموت
فثوى في السديم )
هذا الهاجس الذي يربط الشاعر بالموت بصوره المختلفة، ويجعله يطور رؤاه ليصل إلى عتبة التأمل المجرد للموت يمثل واحدا من أهم مبرر للانعتاق المطلق، فثمة عبثية ما كامنة في الوجود، حتى إن الشاعر يعقد مقارنة بينه وبين أبي العلاء المعري مؤكدا أن رهين المحبسين كان في ظلام المحبسين أكثر جمالا ورأفة من مجالسة الشعراء والحاكمين وعامتهم على السواء «نظرا لسعيهم البليد وراء شهرة وسلطة ينخرهما الوهم والنفاق، وحضور أبي العلاء المعري يمثل دلالة كبرى على رغبة الشاعر سيف الرحبي في خوض معراجه الكوني ليس إلى جنة أو نار، ولكن إلى العدم المطلق:
(أكاد أطير من النشوة
في هذه اللحظة الخاطفة
التي تهجرني فيها الذاكرة والنسيان
الأحبة والأعداء
الطفولة والشيخوخة
الجنة والنار
المعرفة والجهل
الصيف والشتاء
خريف الشعراء
وكل أركان الزمان والمكان
نشوة الزمن التي تضرب برياحها
إلى ما قبل الخليقة والتاريخ
حيث الهباء سيد
و الهلام إله)
ولعلنا هنا لا نبالغ حين نقرر أن نظرة عدمية تحكم دوال الشاعر ومدلولاته، بل هي تتسع لتتعمق، متجذرة في بنية خطابه الشعري، ونؤيد هنا ما ذهب إليه الناقد والشاعر فتحي عبد الله سابقا حين قال - وهو بصدد قراءة "مقبرة السلالة" -:
«اقترب الشاعر من الرؤية العدمية التي تتساوى فيها كل الأشياء والأفعال, ووجد نفسه مفردا في مواجهة العالم, لم يعثر الشاعر علي منقذ من هذا الحالة, يربطه بالحياة وما يحدث فيها من تقلبات كثيرة سوي الحنين إلي مكان الطفولة والميلاد, بكل ما فيه من أساطير وطقوس. «لولا أن الشاعر هنا تخفف من حنينه إلى مكان الطفولة بحنين مضاد إلى اللاحنين لكن الحس العدمي مطرد في بنية النص، متعمق في ثناياها، يقول الشاعر:
(لا فرق بين الريح العاصفة
في خرائب مهجورة
أو في المدن العامرة والحقول
آمال يعلل بها الموتى وجودهم)
إن نصوص "من يوميات الأفق المفتوح" هي وداع حار واستباقي للحياة، ومعراج كوني إلى انعتاق الجسد.
· نشرت القصيدة مؤخرا في عدد نزوى الخامس والستين.
· كاتب وشاعر من مصر .