منذ مدة لم أقرأ مجموعة قصصية شدتني كتلك التي قرأتها مؤخراً للكاتبة أمل عريضة، مجموعة أصدرتها دار الشجرة للنشر في دمشق، واختارت لها الكاتبة عنواناً ذا دلالة: (جمهورية السلحفاة). عندما تبدأ بقراءة المجموعة تلتقي بالنملة المرتبة والمجدة "هنية" التي تعيش مع البشر وقد تعلمت طرق التعايش والتعامل معهم، لكنك وأنت تتابع تلك الأحداث التي تتعرض لها في حياتها اليومية قد يصيبك ما أصابني حيث أحسست لوهلة أنني نملة مثلها، وقد مددت يدي لأتأكد من وجود قرني الاستشعار فوق رأسي!.
حالة "الالتباس النملي" هذه إن صح التعبير، والتي قد تصيب القارئ لقصص النملة "هنية" لا تأتي من فراغ، كون الكاتبة استطاعت بمهارة وبساطة وتلقائية نقل مشاعر "هنية" عبر وصف دقيق ومعبر لتفاصيل جرت معها في تعاملاتها مع البشر بجلافتهم ولامبالاتهم وسخريتهم واستهتارهم، وهي أحداث حياتية يومية ومتكررة تجري مع أي منا في مجتمعاتنا التي تعاني من الفوضى واللامبالاة وعدم احترام الإنسان، وخلال معايشتنا لها لا بد أن نشعر بأننا نمل صغير يحاول الوصول لأهدافه بصعوبة بالغة، في مجتمع لا يرحم ولا يهتم ولا يقدر جهد العاملين، ولا يحترم شخصياتهم، وليس بين أيدينا من إمكانات إلا بقدر ما تملك هذه النملة الصغيرة: طموح كبير، ورغبة في الحياة، وصبر وإصرار ... أو ربما، في حالتنا كبشر حقيقيين، صبر لا مفر منه، لأننا لا نملك غيره كوسيلة لتحقيق بعض ما نريد، وللحصول على أقل القليل مما يشعرنا بوجودنا وإنسانيتنا، رغم أننا سنصل لما وصلت إليه "هنية" من إحباط وحزن حيث: "غضب منها هذا الزمن المتعبد لطقوس ضعفه، وثار على خطواتها الصاعدة المتفائلة، فجذبها لترتد إلى القاع الأسفل، وتسير في ركب الأمة المناضلة بتؤدة وصبر عجيب" (ص 11).
ما يلفت النظر في هذه المجموعة هو قدرة الكاتبة المميزة على الوصف الدقيق المتشعب بصورة لا تبعث الملل إطلاقاً، بل تبث في روح القارئ شيئاً من روح الكاتبة وشفافيتها وإحساسها المرهف بكل ما حولها، فهاهي الكاتبة تصف لنا لحظات موت ناي، تلك الآلة الموسيقية البسيطة التي تملك القدرة على التعبير ولكنها لا تملك القدرة على إنقاذ عازفها من موت عاطفي بدا وكأنه حدث قديم، لكنه كالنار تحت الرماد، انتقل إليها فأحرقها حتى فقدت القدرة على الإحساس: "اليوم ما عاد يسكنني غير الخواء، ومرور مترهل للآخرين. ما يكاد عصفور يسكب في أذني شوق حنجرته حتى تردد أثلامي صداه أنيناً ضخماً مشروخاً. لا شيء ينمو هنا غير اغتيالي" (ص46).
وهاهي تتحدث بلسان المكتبة الوطنية، التي يمر عليها كل يوم طلاب وباحثون ومدعو ثقافة وفن، فتعرف أسرارهم كلهم دون أن تقدر على إنصاف مظلوم أو كشف مستور، وهل تريد ذلك بالفعل؟! إنها تحتوي الجميع وتفتح كنوزها للجميع رغم بلادة وسماجة وخداع وادعاء كثير من روادها: "في الحقيقة لم أعتد الإصغاء إلى هؤلاء البشر الذين يحملون بطاقات الانتساب إلي، كم فاتني من الطرافة في عهود الازدحام!"( ص89).
عندما كنت منشغلة بقراءة هذه المجموعة كنت بعد الانتهاء من كل قصة أسأل نفسي كيف استطاعت الكاتبة التعبير عن نفسها بهذا الشكل البسيط العادي؟ وأقول: "بسيط وعادي" لأنه كذلك بالفعل، صحيح أن هناك قصصاً قد لا ترتقي لمستوى أخرى من حيث أهمية الموضوع وجمال الصياغة، لكن يكفي أن الكاتبة، ورغم تناولها لموضوعات قد تبدو أنها ليست بذات أهمية تذكر، أو قد تبدو محشورة ضمن سياق المجموعة العام، إلا أنها استطاعت أن تشد القارئ للمتابعة بأسلوبها الشفاف. ووصف شفاف هو وصف مناسب جداً لأسلوب الكاتبة، لأنه يكشف عن حساسية عالية من جهة، ويُظهر من جهة أخرى دواخل الأشياء التي تتحدث عنها الكاتبة بوضوح مؤلم في أحيان كثيرة.
مازالت نتاجات كتابنا الشباب تتحدث عن الحزن والإحباط ومتاعب الحياة في مجتمعاتنا التي امتلأت بالضغوطات والقهر والغضب، وإنني أسأل نفسي بعد هبوب رياح الثورات التي انتشرت في أرجاء البلاد العربية هل سيأتي اليوم الذي سنقرأ فيه نتاجات شبابية أدبية تتناول المستقبل بإشراق وتفاؤل؟! آمل ذلك.