إن الذي يطلع كل يوم على القراءات النقدية التي تغمر النصوص الأدبية الإبداعية اليوم شعراً ونثراً في بلادنا العربية، لا يجد لنفسه بُداً من أن يُصَير هذا القول ضمن نظرية أو نظريات نقدية معينة أهلت نفسها لمتابعة الإبداع، وهذه النظريات عينها لا يمكن أن تخرج عن إبدالات محددة سالفاً، ليست لنا نحن العرب يد فيها إلا ما تعلق بالترجمة التي قد تكون في الغالب اتباعية أو إبداعية في أحيان قليلة؛ وهذه القراءات النقدية يمكن أن تؤطر في الأنماط الثلاثة الآتية:
النظريات النقدية البرانية القبلية
ويمكن أن تدخل ضمنها النظريات التي سادت ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر، حيث خرجت من رحم الفلسفة الغربية باعتبارها آنذاك أم العلوم، واعتبرت الأدب جزءا من موضوعاتها كعلم النفس الذي يعود إلى كاتب الإبداع/ المبدع فيستجلي الدوافع النفسية التي حفزت الكاتب إلى تقيؤ ما يكتبه، والمنهج النفسي إذ يهتم بالفرد الكاتب من خلال دوافعه النفسية وغرائزه ومكبوتاته فقط دون أن يلتفت إلى جوانب العمل الأدبي كلها، فهو بذلك منهج براني بعيد عن الاهتمام بأدبية الأدب أو ما يجعل من إبداع ما ذا طابع أدبي، يميزه عن كل الكتابات الأخرى التي تختلف عنه في السمة اللازمة للأدب، إذ يجعل الإبداع فقط جزءا من مداخل الاهتمام بالفرد كيفما كان ونزوعاته النفسية، فالأدب ليس إلا مرآة عاكسة للبنية النفسية للمبدع.
أما المنهج الاجتماعي فينظر إلى الأدب باعتباره مؤسسة كباقي المؤسسات الاجتماعية وظاهرة اجتماعية كباقي الظواهر الاجتماعية الأخرى، إذ يمكن من خلال الأدب/ الظاهرة الاجتماعية الوصول إلى البنية الاجتماعية للمبدع وتنشئته، ومختلف الظواهر الاجتماعية المحيطة بها، والكشف عن التناقضات الاجتماعية الحاصلة التي يحبل بها المجتمع الذي ينتمي إليه المبدع، فالأدب مرآة عاكسة لمجتمع الكاتب.
أما المنهج التاريخي فينظر إلى الإبداع الأدبي باعتباره وثيقة تاريخية يمكن، بالنظر إليها وتحليليها، أن يصل الناقد التاريخي إلى الكشف عن طبيعة الحقبة التاريخية التي ينتمي إليها ذلك المنجز الإبداعي، فالأدب ليس إلا قنطرة للعبور إلى الأحداث التاريخية التي يعكسها، ومختلف العلاقات السياسية التي تجمع الحاكمين والمحكومين، وقد دعم هذا الاتجاه حضور النزعة الماركسية التحليلية في قراءة النصوص الأدبية، فكان الأدب مرآة للأديولوجيا والصراع الطبقي، فأصبح الأدب بذلك بوتقة لصراع الأيديولوجيات من منظور العلاقة الجدلية بين البنيات الفوقية والبنيات التحتية للمجتمع البورجوازي الحديث، كما كرس مبدأ الالتزام في الأدب، إذ لا بد للمبدع من أن يكون ملتزماً بقضايا عصره منصهراً في تداعياته وتناقضاته وإيديولوجياته. فاللإبداع ليس، بحسب المنهج التاريخي، إلا وثيقة تاريخية كباقي الوثائق التي يعتمدها المؤرخ في التأريخ المونوغرافي في الغالب، وليس الأدب نهاية إلا مسرحاً للصراع الأيديولوجي بناء على التحليل الماركسي للأدب.
تعد في نظرنا هذه المناهج أساس النظريات البرانية القبلية التي اعتمدت المنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي، وركزت من خلال ذلك على المفاهيم الإجرائية التي اعتمدتها هذه المناهج في أصولها، فلا يخلو الأدب أن يكون وثيقة أو ظاهرة أوتفريغاً لكبت أو مرض أو عقدة، لذلك غاب الإبداع، ونسيت الأدبية والخصوصية وبقي النقد. ومنه، هَمَّ البعض، إلى جانب هذه المناهج السالفة، باعتماد نظريات برانية أخذت من هذا المنهج وذاك، وحاولت التوفيق تداركاً للقصور الذي يحصل في اعتماد منهج براني بعينه، كالبنيوية التكوينية التي جمعت بين الداخل والخارج في قراءة النص/ الظاهرة الأدبية من خلال الجمع بين البنيوية (الداخل) وعلم الاجتماع (الخارج)، حيث يعترف كولدمان بعسر التمييز بين الداخل والخارج في قراءة النص، فما هو داخل هو أو في معنى من معانيه خارج، وما هو خارج هو أو في معنى من معانيه داخل كما أشارت الناقدة يمنى العيد.
إن هذه المناهج البرانية لم تأخذ كما أسلفنا بعين الاعتبار خصوصية الإبداع وتميزه عن الموضوعات التي تهتم بها، ما دام منفلتا لا يمكن أن نأخذه من زاوية واحدة، وأيضا فإن الأدب ليس إلا إنتاجا للجمال، وهي المهمة الرئيسة التي يضطلع بها الإبداع، فليس وثيقة ولا أي شيء آخر إلا إنتاجا للجمال باعتباره ذاك المضاف الثقافي الذي يجعله بعيداً عن النفعي. وفي خضم هذه المعضلة النقدية حاول كثير من النقاد الغربيين الرجوع إلى أدبية الأدب، أي كل ما يجعل نصاً ما ذا طابع أدبي يميزه عن كل النصوص الأخرى، لذلك مالوا عن هذه النظريات البرانية السالفة ما دامت جعلت الأدب أرضا لا مالك لها وموطناً للوصول إلى أهدفها البعيدة غير الأدبية، فكان الاعتماد على مناهج داخلية أساس الحفاظ على أدبية الأدب في عرفهم.
النظريات النقدية الداخلية
عندما غاب الإبداع في النقد البراني السالف، حاول النقد الداخلي الاهتمام بأدبية الأدب وإرجاع الأرض إلى مالكيها من خلال البحث في علمية الأدب توازيا مع النزعة العلمية التي مافتئت العلوم الإنسانية، خصوصاً في بداية القرن العشرين، تنزع إليها في اللحاق بالعلوم الحقة بالنظر إلى تحديد الموضوع واعتماد جهاز مفهومي دقيق وتحقيق الكفايات الملاحظية والوصفية فالتفسيرية إن أمكن، حتى تصل إلى مستوى النظرية بكل تمفصلاتها، فكان للشكلانيين الروس دور فاعل في البحث في هذه الأدبية موضوع علم الأدب، عبر البحث في البنية الشكلية للنص خصوصاً النص الشعري منه، إذا كانوا متأثرين بدراساتهم الصوتية والفونولوجية ابتداء بحثا في البنية الصوتية وعلاقاتها المتعددة، غير أن الاهتمام بالشكل أفقدهم اعتماد المضمون في النص، فجعلوا النص قالباً فارغاً أجوف، ليس إلا علاقات شكلية، ولهذا نعتوا بالشكلانيين من قبل مناهضيهم سبة وابتذالاً، مبتعدين بذلك عن المنهجين التاريخي والمقارن الذي ساد الدراسة اللغوية قبلهم، كما أن العلمية مجافية ومنافية للإبداع المنفلت الذي لا يمكن أَسْره بمنهج علمي صارم قائم على الإحصاءات والتأويلات، فكيف نجمع بين العقل والوجدان (الإبداع) في الوقت نفسه.
وقد عضد هذا التوجه الشكلاني في دراسة النص الأدبي الاستثمار المفرط للنزعة البنيوية اللسانية التي تقف عند الكفاية الوصفية في دراسة النص الأدبي باعتباره بنية مغلقة نؤمن معها بموت المؤلف، وهي أيضاً مستويات في الدراسة قائمة على علاقات صوتية وصرفية ومعجمية وتركيبية، ولا تصل إلى مستوى الدلاليات بَلْه التداوليات، وهذا ما يجعل المنهج العلمي البنيوي قاصراً على دراسة الإبداع الأدبي ما دام لا يرى في النص إلا مجموعة من العلاقات التراتبية التي تصب في بنية مغلقة، ولا يهتم لا بالمؤلف ولا بالقارئ ولا بأي شيء من العناصر الضرورية للإبداع التي تخرج عن نسيج البنية المغلقة التي يراها موضوعا للدراسة.
ومن هذه المناهج الداخلية نذكر أيضاً الأسلوبية التي نهلت من أسلوب الكتابة، فالأسلوب هو الرجل المبدع، فلكل أسلوبه الخاص في الكتابة لابد أن نراعيه في القراءة النقدية، والأسلوبية منهج أيضا لم ينفلت من ربقة الاتجاه البنيوي اللساني عموماً إلا لماماً، والفرق فقط يكمن في اهتمام الأسلوبية بالكلام (الخاص) واللسانيات جعلت موضوعها اللسان (العام)، إذن فالفرق فقط إجرائي بين الاهتمام بالخاص أو النظر في العام. ولقد عمل المنهج التفكيكي أو ما بعد البنيوية مع جاك دريدا على اعتماد النص ليس بنية مغلقة، بل تفكيكه لإعادة بنائه من جديد باعتماد هيرمينوطيقا مخصوصة تجعل النص تتعدد قراءاته بتعدد القراء، فكل التأويلات ممكنة في قراءة النص، وكل قراءة كيفما كانت ليست إلا قراءة ضمن قراءات متعددة للنص تهدم/ تفكك من أجل إعادة البناء.
أما البلاغة الجديدة مع جماعة مو وغيرهم فقد ركزت على إعادة النظر في المفاهيم البلاغية التقليدية واستفادت من التطور اللساني والأسلوبي والتداولي، وجعلت دراستها في الغالب منصبة على الشعر باعتماد الطاقة الكلامية التي شهدت أوجها مع الاتجاه التداولي أو لسانيات الكلام أو الخطاب التي رجعت إلى دراسة المقام التواصلي المسيج للإبداع الأدبي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المناهج الداخلية رفدت من بعضها البعض، حتى إنها تداخلت فيما بينها وعسر التمييز بينها إلا إجرائياً في كثير من الدراسات النقدية الداخلية التي تعد في أبهى تجليها قاصرة عن دراسة النص الأدبي، إذ تعتمد كسابقاتها البرانية على دراسة جزئية من الإبداع لا يمكن أن تقدم نتائج يمكن أن تعمم. فإذا كانت المناهج السابقة نفت في الغالب النص والقارئ، فإن الدراسات الداخلية نفت الكاتب أحياناً كثيرة والقارئ حيناً.
النظرية البرانية البعدية
يتعلق الأمر في هذا المستوى بنظرية التلقي الألمانية التي اهتمت بالقارئ الذي بخلت عنه النظريات السابقة، ولم تعره الاهتمام الذي يليق به في إنتاج النص الأدبي، وقد اهتمت نظرية التلقي بالقارئ على اعتبار أن الكاتب يضع أمامه قارئاً ضمنياً يحاوره افتراضياً، ويضع أمامه أفق انتظاره، فالقارئ إذن يساهم في إنتاج النص وإليه نرجع في الحكم على النص بحسب طبيعة التلقي، وطبيعة الموسوعة الإدراكية أو الذخيرة التي تجمعه بالكاتب، فلا وجود لكاتب يكتب لجميع القراء، بل يختار منهم قارئا نموذجيا تكون بينهما ذخيرة مشتركة، فلهذا لم تهتم هذه النظرية بالنص الأدبي إلا في علاقته بالقارئ، حيث إن الكاتب نفسه حين يصبح قارئاً لإبداعه فإنه قد يخرق أفق انتظار نفسه ولا يصبح بالضرورة قارئاً نموذجياً لما كتبه من قبل.
ومنه، نخلص إلى أن أغلب النظريات، سواء منها البرانية القبلية أو الداخلية أو البرانية البعدية، تأخذ الإبداع من جانب مخصوص من جوانبه، قد يكون القارئ أو الكاتب أو النص بمختلف تمفصلات هذه الجوانب، والإبداع عينه لا يقف عند عنصر معين، بل تتداخله عناصر متعددة، فهو متعدد العمادات يدخل فيه الاجتماعي والنفسي والتاريخي والإيديولوجي والذاتي والموضوعي والأسلوبي..وهلم جرا، بل إن الإبداع تعتوره كل هذه الأسس التي تعجز عن الوصول إليها مجتمعة هذه المناهج القاصرة، مما لزم طلب منهج، نعتبره جامعا في دراسته لهذه العمادات المتعددة في الإبداع، منهج توفيقي أصيل وُجِد في النظرية السيميائية التي نعدها اليوم أم العلوم بوصفها تأخذ من كل علم بطرف، ويتحاقل معها في بناء منهج متكامل في دراسة الإبداع الأدبي وغيره، أليس الأدب في الأصل أخذا من كل علم بطرف!
لقد حاولت السيميائيات أن تصل إلى الإبداع من خلال نواحيه وجوانبه المتعددة سواء تعلق الأمر بسيميائيات الخطاب (جنيت) أم بالسيميائيات السردية (كريماص) أم بسيميائيات الثقافة (إيكو)، أم بسيميائيات التواصل وغيرها، فالسيميائيات ترفد من اللسانيات بمختلف نظرياتها: البنيوية والنظرية التوليدية التحويلية والنظرية الوظيفية، والتداوليات وفلسفة اللغة والبلاغة وعلم النفس وعلم النفس المعرفي والبيولوجيا والمنطق والفيزياء وعلم الاجتماع والتاريخ وغيرها، وكلها علوم حاولت السيميائيات استثمارها في بناء تصور نظري وتكوين جهاز مفهومي كبير يعسر على كثير من النقاد أن يشتغلوا عليه، مما يطرح سؤال القيمة على كثير من الكتابات النقدية التي تأخذ المنهج السيميائي أساسا لها ومرجعا، أي أن هذا المنهج نفسه خلق مجموعة نقاد حاطبي ليل، وجعلوا السيميائيات موضة تتزين بها قراءاتهم من دون أن يرجعوا إلى أصول المنهج ويفكرونه في إبدالاته النظرية المتعددة، حيث غدت السيميائيات في التداول العربي عند الكثير مقصلة نقدية بدلا من تكون قيمة إضافية للمشهد النقدي العربي وإثراء له، نستثني من ذلك طبعا بعض الأقلام النقدية التي يُشْهَد لها بالإلمام المنهجي المثمر لهذا الحقل المعرفي الصعب الذي لا يهب نفسه ذلولا لقلم الناقد.
تركيب وانفتاح
يمكن بناء على ما سبق التأكيد على أن هذه النظريات مع تعددها واختلافها واستثمارها في ضوء الإبداع العربي شعراً ونثراً لم نبدع فيها شيئاً مضافاً، فنحن متبعون فيها لا مبدعون، مما يطرح علينا إشكالا كبيراً: ما الذي دفع الآخر وساعده في إنتاج هذه الترسانة النقدية المتعددة حديثا؟ في حين أننا عاجزون اليوم عن إنتاج نظرية نقدية مأصولة عربياً، مع العلم أن التراث النقدي العربي، على الأقل، فيه كثير من الإبدالات النظرية التي يمكن الرجوع إليها وإعادة قراءتها تمهيداً لإنتاج هذا المنجز النظري المأمول، بعيدا عن الإسقاطات التي أمست من الماضي، ومثالها أن عبد القاهر الجرجاني والسكاكي سبقا التداوليات في كثير من المفاهيم التي اعتمدتها في التنظير، أو القول إن سيبويه سبق تشومسكي في القول بالنحوية والمقبولية، وابن خلدون سبق أوجيست كونت في علم الاجتماع، وأبو حامد الغزالي سابق لبيرس في القول بتعدد مراتب الوجود (الوجود في الأعيان، والوجود في الأذهان، والوجود في الألفاظ) وغير ذلك من الإسقاطات الكثيرة التي تدفع بأصحابها إلى الركون لا النقد، فعوض أن نستقرئ التراث ونحتويه، فإنا نفرغه من محتواه ومن إطاره التداولي بفعل الإسقاطات تلك.
إن السؤال النقدي سيبقى مطروحاً علينا دوماً، فأين كنا أمام هذا الزخم النقدي الغربي؟ وأين سنكون أمام ما خلده الأوائل؟ ما سر هذا العجز الذي نعانيه في التحديث والتجديد المأصولين في النقد العربي؟ ألسنا اليوم في حاجة ماسة إلى نظرية عربية مأصولة تعيد للمنجز النقدي العربي هيبته ونبتعد بها عن التبييء الدائم للمفاهيم والمصطلحات؟ هل بإمكاننا أن نكمل ما بدأه واجتهد فيه الرعيل الأول خصوصاً مع السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في إعادة قراءة التراث ونقد النظريات الحديثة واستطاعوا تكوين مدارس في النقد؟
أظن أن الجواب لا يمكن أن يكون إلا بوضع استراتيجيات ثقافية، فبدون مشروع ثقافي واضح لا يمكن للنقد العربي اليوم إلا أن يعيد ما كتبه الرعيل الأول إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، أما الإبداع والإضافة العلمية الرصينة، فلا يمكن أن تكون إلا بالعمل الجماعي رؤية ومنهجا، ما دمنا وَلَيْنا ظهورنا للمثقف الكوسموبوليتاني الذي يأخذ من كل علم بطرف، وما موت المثقفين الكوسموبوليتانيين المعدودين (محمد عابد الجابري، محمد أركون، نصر حامد أبوزيد، عبد الكبير الخطيبي) إلا نذير بهذا التأخر النقدي الذي سيطالنا نحن الذين لم نصل إلى مستوى المثقف الموسوعي، فمع نهايته باعتباره الصانع الوحيد للنظريات أو المنظر الوحيد، وذلك ما أثبتته النظريات نفسها التي أسلفنا الحديث عنها فلم يكن واضعوها سوى مثقفين كوسموبوليتانيين، فإن البديل إذن عن هذا النوع من المثقفين في بلادنا العربية لن يكون إلا بتضافر الجهود من أجل وضع نظرية نقدية تأخذ بالمأصول وليس بالاتباع.