ترجمة: سعيد بوخليط
«ولو في الحلم، لم يكن بوسعي تخيّل هذه الثورة!». الروائي المصري صنع الله إبراهيم الذي أصدر رواية عن حملة بونابارت، عبّر عن سعادته وهو يرى تبلور ثورة شباب مصر، في نفس أفق فكره.
«نعم، لم أترقبها، حتى وأنا أحلم!» هكذا، يصيح صنع الله ابراهيم. لذلك، انتقل من محل سكنه بضاحية هيليوبوليس Héliopolis، إلى وسط الازدحام بساحة التحرير في قلب القاهرة، كي يتحسس بمقلتيه ما كان مجرد خيال. تجمد الروائي، أمام شاشة التلفاز.
الأحد 6 فبراير، حينما ترأس كاهن قبطي قداساً وسط المتظاهرين، وقبله، عقد إمام قران زواج في الساحة نفسها التي جسدت واجهة للثورة على النظام، اغرورقت جفون صنع الله إبراهيم بالدموع، وهو العلماني والشيوعي السابق الذي قضى بسبب أفكاره خمس سنوات سجناً، زمان عبد الناصر. يقول: «لم نر هكذا مصر منذ تظاهرات 1919 من أجل الاستقلال». صنع الله إبراهيم البالغ من العمر 73 سنة، يذكر كيف أن وطناً بأكمله ـ رجال، نساء، مسلمون، مسيحيون، أغنياء وفقراء ـ هبّ إلى الشارع من أجل الإعلان عن نهاية الاستعمار البريطاني.
الثورة جارية «نعم ثورة وليست فتنة». لقد فاجأنا الحدث كلياً، «لم أنتظر قط شيئاً من هذا الشباب، الذي بدا لي أنه يضيع وقته على الفيسبوك» يعترف صاحب عمل: (العمامة والقبعة) روايته التاسعة المترجمة أخيراً إلى الفرنسية، تحت عنوان: «Turbans et chapeaux». مع ذلك، أليس هو القائل منذ سنتين تقريباً: «سيحدث أمر ما، ليس بمستحيل، نلاحظ انهياراً للرعاية الاجتماعية والتعليم» (جريدة لوموند، 19 شتنبر 2008). وصنع الله إبراهيم، أكثر من مجرد ملاحظ بسيط، يعيش بعيداً عن ضوضاء المدينة مع زوجته التي تقتسم معه أفكاره.
في سنة 2003، وبشكل أثار دهشة الجميع، رفض علانية جائزة القاهرة للإبداع الروائي، التي يشرف عليها المجلس الأعلى المصري للثقافة، وأفصح من فوق المنصة عن كل ما يجول بخاطره. موقف مشرف، لم يستسغه المسؤولون قط، جلب له تعاطفاً واسعاً: «في الشارع، أو داخل قطار الميترو، يعترض سبيلي أشخاص لا أعرفهم، كي يشدوا على يدي أو يقبلونني». ساهم، صنع الله إبراهيم، في نشأة حركة مناهضة لقيم العولمة، تعقد كل سنة مؤتمراً بالقاهرة. كان أيضاً، أحد الأعضاء المؤسسين لمجموعة صغيرة يتداول خطابها الجميع منذ سنة 2004. حركة متواضعة تبنّت لنفسها اسماً بسيطاً، لكنها انطوت على تأثيرات قوية يتعلق الأمر بـ: (كفاية). لقد اكتشف معها المصريون، وسيلة لمجابهة الفرعون الذي قبض على زمام الأمور طيلة 30 سنة. في لحظة من اللحظات، أحس الروائي بفقدان الثقة حيال «وطن تعفّن حتى النخاع» وشعبه القدري والمستسلم.
لكن حالياً، استعاد صنع الله إبراهيم ابتسامته، مؤكداً بأنه آمن بسقوط مبارك ومعه مجموع النظام، ولا يخيفه الإخوان المسلمون الذين بحسبه يفتقدون لشيء معقول يمكنهم اقتراحه، بالتالي فهم بعيدون عن تمثيل أغلبية الشعب المصري. يلاحظ، بأن الحركة الأصولية فاعلة اجتماعياً لكنها لا تناضل من أجل العدالة. ينبغي في نظر الروائي، وضع الإسلاموية والرأسمالية داخل نفس السلة.
صنع الله إبراهيم، ابن بورجوازية صغيرة تنحدر من القاهرة، أراد بداية أن يكون صحافياً، ثم ترك فصول الدراسة ملتحقاً بصفوف الحزب الشيوعي، قبل أن يعتقل سنة 1959. أول رواية له، جاءت تحت عنوان (تلك الرائحة) صدرت سنة 1966، وتعرضت على الفور للرقابة. تطرقت إلى فظاعات الاعتقال، وكذا العوز الجنسي لكثير من مواطنيه: «بين جدران السجن، فهمت بأن النضال السياسي، لم يكن سبيلي. فقط الكتابة ستجعلني حراً تجاه كل العالم والإيديولوجيات». مع ذلك، لم يمنعه موقفه هذا عبر أعماله التالية مثل: (اللجنة) و(ذات)، من فضح النظام البوليسي والفساد والهيمنة الدينية على المجتمع ووضع المرأة والشركات المتعددة الجنسيات وكذا غطرسة الغرب.
في روايته ما قبل الأخيرة (التلصص) «Le petit voyageur» (Actes sud 2008)، الأكثر حميمية قياساً لسابقاتها، يحكي صنع الله إبراهيم عن فترة مضطربة من طفولته. لكنه، سيغير النوع هذه المرة، مع مولوده الجديد (العمامة والقبعة) (Turbans et chapeaux) يقول: «منذ مدة، سكنتني رغبة أن أكتب رواية تاريخية». الحقبة المنتقاة، تتميز خاصة بغناها، ما دامت تتعلق بحملة بونابارت على مصر (1798-1801) والتي واصلها كل من الجنرالين كليبر ومينو.
بالنسبة لفكر الفرنسيين، كان غزواً ثلاثي الأبعاد:
1ـ وازع عسكري: كي ينتشلوا من الإنجليز بلداً غنياً ومتموضعاً بشكل جيد في الطريق نحو الهند.
2ـ وازع سياسي: من أجل ضم المصريين و"جعلهم يكتشفون الأنوار".
3ـ وازع علمي: يتمثل في دراسة هذا البلد الساحر. بالنسبة للبعض، الصدمة بين ثقافتين مكّن من إيقاظ مصر العثمانية وإدخالها عهد الحداثة، بعد أن ظلت نائمة لقرون. بينما، رأى البعض الثاني في ذلك، أول اعتداء غربي أثناء الحقبة المعاصرة ضد الشرق المسلم.
احتار صنع الله إبراهيم، حول الرجوع إلى وثائق بالفرنسية أو الإنجليزية. نجد، إلى جانب النصوص الرسمية، مئات الحكايات لفاعلين وشهادات عن الحقبة دون احتساب المؤلفات التحليلية. أما، المصريون فلديهم أشياء قليلة وأهم وثيقة تلك التي تركها "عبد الرحمن الجبرتي". أديب ينتمي إلى أعيان القاهرة، أصدر جريدة، طيلة ثلاث سنوات من الاستعمار. بيد أن هذا البورجوازي الكبير، لم يهتم إلا قليلاً بالعوام. سيتخيل صنع الله إبراهيم، بالموازاة، عموداً صحافياً بقلم السكرتير الشاب لعبد الرحمن الجبرتي.
لا تكشف الرواية، عن رؤية، لكن وجهة النظر المتبناة من طرف المؤلف ستمنحه إمكانية الحديث عن هذه الحقبة من تاريخ مصر، بشكل غير معهود قط. صنع الله إبراهيم، الذي يؤمن بأن الرواية "فن التفاصيل" أعاد ثانية بدقة استحضار الحياة المصرية كما سادت في تلك الحقبة. التغذية أساساً، حاضرة جداً بمختلف أذواقها. أما، حين يستدعي الجبرتي سكرتيره، فسيكون ذلك فرصة كي نزور كل المنزل قطعة، قطعة.
الكاتب، استحوذت عليه الشهيرة "بولين فوريس" «Pauline Fourès» زوجة ضابط، امرأة جريئة صارت عشيقة لـ بونابارت وبعده انتقلت إلى راويه الشاب، الذي يلم قليلاً بالفرنسية، فاشتغل مساعداً لمحافظ مكتبة المعهد المصري. ماذا، أتت تفعل هناك الجميلة "بولين"، الملقبة بـ "كيلوباترة" (كتب عنها "ستيفان زفايج" مسرحية تحت عنوان: نزوة بونابارت)؟ إنها تدعي، رغبتها في تلقين الموسيقى إلى الشاب صاحب العمامة. أطراف السيقان في الهواء، بعد كل حصة بيانو، تسترخي بكثير من الحساسية. يتبدى هنا، مظهر آخر لموهبة صنع الله إبراهيم، بيد أننا نجد صعوبة في استيعاب صلة بعيدة الاحتمال.
الجريدة التي يديرها السكرتير سريا، تلخص أحياناً في سطرين: "السبت 1 غشت، وللمرة الأولى، منذ اغتيال كليبر، أجبرنا على تنظيف المراحيض وتلميع الأدوات النحاسية". لا مغالاة، وبدون تعليق. مع ذلك، نستشف مماثلة بين الحملة على مصر وكذا الاحتلال الأمريكي للعراق، لكن على القارئ إدراك ذلك.
بين طيات هذه الصفحات المباشرة جداً، يفترض أن الوقائع من تتكلم.
(Le monde: vendredi 11 F2vrier 2011)
مراكش، المغرب