ليس هناك في هذه الحياة أي مستحيل. كل شيء يمكننا مناقشته بهدوء والوصول معاً إلى نتائج مقنعة للأغلبية. فقط لا بد من توفر النيّة الطيبة، والابتعاد عن العصبية والانفعال، والتحلي بالمنطق والرصانة والعمق في معالجة المشكلة. أما حكاية أنت معي أو ضدي في معالجة المشاكل فلن تجدي نفعاً. أنا لست معك ولست ضدك، ولست حتى في المنتصف. إن وجدت مكان وقوفي فلن أكون كاتباً. أنا قريب منك لكنك لن تراني .. أنا أيضاً لا أراك رغم نزفك في قلبي .. لست مشغولاً برؤية الناس وأماكن وقوفها تجاه القضايا. مشغول فقط بتأمل الطفلة العميقة التي فقدت عمها الوحيد في مذبحة بوسليم.
- أين عمي يا بابا؟
- مسافر..
- وهل سيعود قريباً؟
- سيعود قريباً يا حبيبتي ومعه ثورة حلوة لك..
- ولماذا لا يتصل بنا بالهاتف؟
- ليس لديه رصيد الآن، لكن سيملأ رصيداً وسيتصل قريباً يا حبيبتي.
- أعطني رقمه كي اتصل به أنا فلدي كرت "ليبيانا".
- أطلبي أي رقم محصور بين (1) و (1200 وقليل) وسيرد عليك
تقول لي الطفلة العميقة: "لقد طلبته وأجابني الهاتف أنه يصلي صلاة الجمعة، فنمت وحلمت به سريعاً يا أبي، إنه رجل طويل يلبس رداء أبيض ويطوف بضريح عمر المختار ببنغازي، ثم يركب حصانه الأبيض ويطير إلى السماء. لقد لوّح لي يا أبي وهو يبتسم بيده، ورمى لي وردة فوّاحة. عندما استيقظت من نومي لم أجدها في أصيص قلبي، لكن رائحة بنغازي بل ليبيا المالحة قليلاً ما زالت تفوح، خذ يدي يا بابا وشم حتى تتأكد، لن أغسل يدي اليوم ولا غداً ولا أي يوم، أحب أن تظل هذه الرائحة عالقة بي كل عمري".
قلت لها:
- اغسلي يدك ولن تغادر الرائحة، فالماء يطرد الأوساخ فقط وقد طردهم.
الثورة في بلادي اندلعت وحققت شوطاً مهما من النجاح على المستوى الداخلي والخارجي، ومع كل مدينة تسقط وتتحرر من النظام السياسي السابق وتشكل مؤسساتها المؤقتة لتسيير الحياة والدفاع عن حرية المدينة تنضم إلى ثورتها العديد من قيادات النظام السابق سواء كانت في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، حتى أنك ترى الآن أن الذي تغير هو العلم فقط من أخضر إلى أحمر أسود أخضر مع بزوغ الهلال والنجمة من اللون الأوسط الأسود المعبر عن الظلم وحقب الاستعمار التي عاشتها ليبيا منذ القدم.
وانضمام الجميع للثورة واختفاء الخلافات تم نتيجة الفرحة العارمة، التي تعيشها المدن التي تحررت وتذوقها لطعم الحرية الحقيقي حيث لا خوف ولا رعب والأجواء آمنة جداً، والعصبية والنرفزة التي كانت تميز الإنسان الليبي اختفت في لحظة. البلاد تسير بصورة آلية، لا سرقات، لا جرائم، لا مشاجرات، الكل يرغب في تقديم خدماته للمجتمع، لا يوقفه عن ذلك مطر ولا جوع، لقد غيرت هذه الثورة الوليدة الإنسان الليبي وأشعرته بأن هناك شيئاً اسمه حرية يجب أن يناله ولا يجب أن يتركه ليتمتع به الغير على حساب سعادته وعرقه وحياته.
مثلما ذاق الطغاة والفاشيون والنازيون طعم السلطة تذوق الشعب طعم الحرية ويا له من طعم رائع غير قابل للتخلي عنه أبداً، مذاق مس الضمير مباشرة، وأنعشه وبث فيه سعادة لا توصف. لم يكن لدي وقت للكتابة، كل الوقت أقضيه بين الناس، أفضل أن أعيش الثورة الآن ولا أكتبها، ثورة طازجة جداً، بدائية، لا رتوش عليها، ولا تقليد أعمى، ثورة بنكهة ليبية خالصة، خليط من الفلفل والملح والنور المصحوب برائحة البركة كالذي نشمه من قناديل الأولياء.
منذ سنوات كنت التقي بصديق قديم صدفة بين الحين والآخر في سوق الجمعة أو في مأتم أو عرس أو مباراة رياضية، الآن ألتقي بكثير من أصدقاء الطفولة في شوارع الثورة وأزقتها، جدران شوارع تحولت إلى جداريات، كلها مزدانة بمقولات جديدة تتغنى بالثورة وتمجد الشهداء وتتشفى في الطغاة المتغطرسين والمتجبرين وزمرهم الإرهابية، مقولات ذات أخطاء إملائية ونحوية فادحة لكن ذات صدق كبير وفن كبير فلحظة ولادتها كانت لحظة حرية وحياة. أقترح أن لا تطلى هذه الخربشات وتظل هكذا إلى أن تزيلها حرارة الشمس وأشك في أن تزيل الشمس نقوشا أبدية كهذه. لا نريد أن نتحدث عن المذابح التي ارتكبت فالعالم تابعها بالصوت والصورة. جرائم وحشية يندى لها الجبين، لكن الشعب انتصر، اقتحم الموت، لقد رأى بصيص الحرية وتتبعه حتى النهاية، لم يكن الشهداء كلهم شباباً أو صبية، بل من كل الأعمار ومن كل المستويات الدراسية والاجتماعية. لقد انتفضت ليبيا كلها على بكرة أبيها، نحن لا نقلد أحداً لكن لا ننكر أننا استفدنا من ثورتي تونس ومصر. لن نشعر بالسعادة في العالم وعلى رأسنا طاغية. كيف سيكون شكلنا عندما نزور تونس أو مصر؟ لا بد أن نكون شامخين مثلهما ومثل كل الشعوب الحرة. لقد صبر الشعب الليبي كثيرا، وصبره ليس جبنا، لكن انتظاراً لوصول لحظة الإلهام الحقيقي وعندما حانت هذه اللحظة، ووجد أن الفرصة مؤاتية جداً ولن تتكرر من جديد، سجل الهدف بفن وشجاعة وأدهش العالم.
لم تكن هناك أي أقراص مخدرة ولا خمور محلية سيئة لكن كانت هناك الحرية التي أطلت وكان لزاماً علينا أن نكرمها ونعانقها بحب ونذهب معها حتى إلى آخر الدنيا.
لم يكن الحسن الصباح لدينا والجبل الأخضر والغربي ومصراتة والبطنان وبنغازي واجدابيا وواحاتنا وصحراؤنا لم يكن بها قلعة (آلموت) التي استخدم تقنياتها عتاة المتطرفين والإيديولوجيين.
لقد كانت ثورتنا ثورة شعب، ثورة بسيطة. أناس وصل الظلم والروائح النتنة إلى أنفها، أناس كبدها درة، ما عادت تحتمل أكثر، ما عادت تنفعها إصلاحات أو أدوية، الدودة وصلت العظم، والسوسة دخلت النخاع و الاحتقان وصل مداه، فخرجت الجماهير وتظاهرت وأعلنت رغبتها بالتي هي أحسن بتغيير النظام فتمت مواجهتها مباشرة نظراً لعنجهية الطغاة بالرصاص الحي وبالدبابات وبذخيرة الطائرات والمدفعية، لا عصي، لا مياه ساخنة، لا غاز مسيلا ً للدموع. أحفاد عمر المختار هؤلاء الذي قال للمستعمر الإيطالي الغاشم: "نحن شعب لا نستسلم. ننتصر أو نموت"، تعاملوا معهم بالرصاص الحي الحارق الخارق على طول، وعلى الرغم من كل هذه القوة الضاربة القذرة فقد كان الله معنا، وصبرنا، ونصرنا، وأيدنا كل العالم، وقبل أن يؤيدنا هذا العالم احترمنا لشجاعتنا وبطولتنا ونظافة ثورتنا التي لم تتخللها أي أعمال نهب أو تخريب، فالهدف واضح هو إسقاط النظام الفاشي الرجعي الذي حولنا إلى كومة من البشر غير المرحب بهم عالميا على الرغم من أننا أنقياء وطيبون وأبناء عائلات ومجاهدون ولسنا مرتزقة أو أوباشاً أو أبناء عاهرات. المهم الآن السعادة تنشر بظلالها، وطعم الحرية تم تذوقه، والعالم كله معنا، وسنتعاون معه بتقدير ووضوح وشفافية، وسنجعله يثق بنا ويعول علينا وستتحول ليبيا إلى بلد حضاري ومنارة علمية وثقافية، وسيكون الرجل المناسب في المكان المناسب لا اعتبار لقبيلة أو إيديولوجية فالكل مقتنع بأن الحرية تحققت والآن فليعمل الجميع من أجل أمنا ليبيا، والثورة الآن تحتاج إلى موهوبين وليس إلى مخلصين على رأي الامبراطور الروماني آدريانو عندما تسابق أتباعه في الوفاء له بقطع أيديهم عندما أمرهم بقتله أو تجريعه السم نظرا للآلام التي يعاني منها في لحظات احتضاره.
طيلة الزمن الذي سبق الثورة لم نكن سعداء، دائما نعيش في رعب، العسس يحيطنا، المخابرات تحيطنا، القوادون لا يفارقون ظلنا. في أي لحظة يمكن أن تعتقل أو تقتل أو تغيب، لا أحد يمكنه أن يتدخل، لا قضاء لا محاماة لا حقوق إنسان لا أي شيء، في لحظة واحدة ارتكب الطاغية وزمرته ومرتزقته جريمة بشعة، قتل في سجن بوسليم عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين أكثر من ألف ومئتي سجين وتم قبرهم في مكان مجهول. سجناء من كل مدن ليبيا ومن كل الأعمار، ومن دون محاكمة حتى وإن كانت صورية. الطريف أنه في مدينة بنغازي تم افتتاح مستشفى جديد يتسع لـ 1200 سرير وقد قمت بتوظيف هذا الأمر في روايتي "ملح" الصادرة عام 2010 عن دار الحوار والتي تناولت فيها روائياً مذبحة سجن بوسليم الرهيبة الذي كان أخي الوحيد أحد هؤلاء الضحايا الشهداء. ومن بعدها أصدرت روايتي "فرحة" في نفس العام عن دار الحوار في سورية تتقاطع مع "ملح" في عدة أمكنة حول موضوع المذبحة لأتبعها بعد ذلك بروايتي الجديدة التي صدرت في نهاية عام 2010 عن دار ميريت وتناولت أيضاً هذه المذبحة التي كانت شرارتها من أسباب هذه الثورة المجيدة حيث بدأت أسر الضحايا المظاهرة ليلتحق بها شباب الثورة الذين لم يستطيعوا الصبر حتى يوم 17 شباط (فبراير) اليوم المتفق عليه من الجميع.
كل شيء قبل الثورة معد لمصلحة الطاغية وأسرته، كل شيء موظف من أجل ذلك، العلم، الجيش، الشرطة، الماء، الثقافة، التعليم، الفنادق، المطاعم، الصحة، كل شيء لا بد أن يكون في خدمة السلطة. حتى الزواج، قد لا تتزوج حتى يقيم لك النظام عرساً جماعياً أو يجعلك تسهر الليالي في الطوابير من أجل الحصول على قطعة ذهب أو غرفة نوم لعرسك.
الآن البلاد صارت جميلة والنساء والفتيات الليبيات صرن أجمل من ذي قبل، الابتسامات أظهرت عذوبتها والقلوب غنت مواويلها والمرضى الآن لم يعودوا يحتاجون إلى دواء، لقد كانت هناك غمة تسبب كل الأمراض، غمة اسمها الدكتاتورية الحمقاء وقد زالت عن أرض ليبيا إلى الأبد.
الناس الآن أخوة، من كنا نحبهم ونشتاق إلى رؤيتهم واللقاء بهم والاتصال بهم من ليبيين أحرار أو عرب الآن سنلتقيهم ونعانقهم دون خوف من أي بصاص بشري أو الكتروني حقير. ما هذه الحياة؟ أينما نذهب نجد هناك مشاكل، هؤلاء يريدون منا الإمام الصدر، أولئك لوكربي، هنا دعم جيش ايرلندي، هنا طيارة فجرناها، هنا مشكلة سببناها، هنا فضيحة ارتكبتها مجموعة مقربة من النظام. في كل بلد من بلاد العالم هناك إصبع يشير إلينا. أي بلاد نسافر إليها يقول لك موظف الجوازات: "انتظر"، وحتى عندما نخرج أو ندخل إلى بلادنا ليبيا لا نعامل باحترام وتقدير.
يا عالم نريد أن نعيش مثلكم، أناساً راقين أنيقين فنانين عشاق حب وسلام وحرية ومشاركين في تنمية العالم وتقدمه ورقيّه.
الدول التي كانت متحفظة على الليبيين كلبنان ودول الغرب والشرق بسبب مشاكل لا دخل للإنسان الليبي فيها سترحب بنا، لقد أقنعنا العالم بأن الخلل ليس في الشعب الليبي الثائر الطيب الشريف إنما في النظام السياسي الديكتاتوري البشع والمحظوظ أيضاً لأن الله جعله يضع يده على ثروة كبيرة من النفط والغاز يساوم بها العالم ويتملقه ويبيع بواسطتها كل الأخلاق وكل الشعب وكل القيم الإنسانية النبيلة.
ولكن الحمد لله لقد تفجرت الثورة وانتزعت من هذا النظام كل مخالبه وأنيابه القذرة وحولته إلى حثالة كان بإمكانه أن يتجنبها لو أحس ولو للحظة بأن ليبيا ليست هو فقط إنما نحن أيضاً.
* روائي ليبي من مدينة بنغازي، كل رواياته طبعها على نفقته الخاصة. صدر له: "المداسة"، "تقودني نجمة"، "نواح الريق"، "شرمولة"، "يانا علي"، "سرة الكون"، "عسل الناس"، "شكشوكة"، "ملح"، "فرحة"، "وزارة أحلام".
كل الروايات صدرت عن دار الحوار في سورية، ودار ميريت في مصر، ودار الانتشار العربي في بيروت، ودار ليبيا للنشر في القاهرة لصاحبها الناقد الليبي ادريس المسماري، وهو معتقل الآن بسبب اتصاله بقناة الجزيرة في بداية تفجر الثورة.