1- "لا للمجبى! لا للمماليك! ولا للدستور!"(1)
كان ذلك هو الشعار المركزي الذي اجتمعت حوله القبائل التونسية في انتفاضتها التي اندلعت في ربيع 1864 في عهد محمد الصادق باي(2) وفي ظل الحكم الفعلي للملوك مصطفى خزندار الوزير الأكبر(3) وبطانته الفاسدة من المماليك الآخرين وأعيان البلاد في المدن والحواضر خاصة. وقد عرفت هذه الانتفاضة باسم ربيع العربان(4) كما اشتهرت باسم قائدها علي بن غذاهم المساهلي(5). والجدير بالتذكير أن هذه الانتفاضة انطلقت بين قبائل الهمامة وماجر والفراشيش في وسط البلاد وفي وسطها الغربي ثم توسعت تدريجياً لتشمل كافة أرجاء البلاد باستثناء تونس العاصمة.
2- "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق!"، "شغل، حرية، كرامة وطنية!"
كان هذان هما الشعاران المركزيان الذين جمعا حولهما التونسيين في بداية انتفاضتهم الشعبية العارمة في شتاء 2011 في ظل حكم "المماليك الجدد"(6): الرئيس الفار وبطانته الفاسدة في مختلف المسؤوليات والقطاعات والجهات. كان ذلك هو "شتاء العربان" أو ما يصر عدد من التونسيين على تسميته ثورة الكرامة(7) والتي انتهت بفرار الرئيس المخلوع والشروع في التفكيك التدريجي لمنظومته الاستبدادية.
3- وهكذا يبدو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن في ظل شروط سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة
والثابت أن البؤس الاجتماعي والقهر السياسي والفساد المالي والظلم المستشري في البلاد(8) هو القاسم المشترك بين الحدثين، وكذلك الشأن بالنسبة للتركز المجالي لبؤرة الانتفاضة والقائمين على انطلاقتها. هل من الصدفة أن تنطلق هذه الثورة من سيدي بوزيد – المجال الجغرافي التاريخي لقبيلة الهمامة- ومن القصرين – المجال التاريخي المشترك لقبيلتي ماجر والفراشيش؟
والأكيد أيضاً أن القائمين على ثورة الكرامة في شتاء 2011 هم في الواقع أحفاد المنتفضين في سنة 1864 وهو أمر لا يقبل جدالا ولا يمكن إنكاره. وعلاوة على ما تقدم ، فإن أوجه الشبه بين الواقعتين تشمل توسعهما المجالي - إذا استثنينا بقاء العاصمة تونس خارج مجال انتفاضة 1864 - في الوقت الذي كان فيه دور العاصمة حاسماً في انتفاضة شتاء 2011.
ولئن تشابهت المقدمات والبدايات فقد اختلفت النهايات بين هذين الحدثين الجللين في التاريخ الحديث والمعاصر للبلاد التونسية.
4- ففي المقدمات كان فساد السلوك السياسي والجور الاجتماعي والحيف الاقتصادي
وهي ثوابت لازمت الطبقة الحاكمة التونسية وبدرجات متفاوتة منذ نشأة الدولة الحسينية سنة 1705 واستمرت بعد الاستقلال في ظل الدولة الوطنية الحديثة وبصورة لافتة خاصة بعد التغيير السياسي سنة 1987.
4-1: فالاستبداد السياسي معطى ثابت يتجلى من خلال حكم الفرد سواء في عهد البايات أو في العهد الجمهوري ولم تكن المؤسسات الدستورية – علاوة على ما تضمنته من عيوب عديدة- إلا مجرد ديكور. ومثل استلاب الإرادة الشعبية سلوكاً ثابتاً لمختلف القيادات التي تداولت على تسيير الشأن العام. فلقد ظل الأهالي ، أصيلو البلاد والمناطق الداخلية منها على وجه التحديد – إلا من لهج بمدح الحاكم وارتضى خدمته- مبعدين عن الشأن السياسي الذي انفرد به الباي ومماليكه و"البلدية"(9) الموالين لهم والبعض من زعماء القبائل وما يترتب عن ذلك من امتيازات وكان شعار هؤلاء: العربي خوذ ماله واقطع راسه(10) وكان ذلك مقصد الشعار المرفوع في انتفاضة القبائل سنة 1864: "لا للمماليك"، واستمر هذا الاستبعاد في ظل الدولة الوطنية الحديثة فقد ظل سكان دواخل البلاد مبعدين من المشاركة في حكم البلاد وفي مختلف مستويات المسؤوليات الإدارية الوطنية والجهوية – إلا من قبل منهم بدور التابع المطيع- ما خلف شعوراً حاداً بالغبن و"الحقرة" بين مجموعات بشرية تمثل الكرامة لديها معنى وجودها وحياتها.
4-2: ظل الجور الاجتماعي بمختلف مظاهره ملازماً لإدارة الشأن العام على مر القرون الثلاثة الماضية، ولئن اتخذ في عهد البايات وفي ظل حكم المماليك شكل نهب الممتلكات العامة وسلب ممتلكات المواطنين بشتى الحيل والأساليب- ولمصطفى خزندار الوزير الأكبر في عهد محمد الصادق باي ومصطفى بن اسماعيل الوزير الأكبر زمن استقرار الحماية وبعض أزلامهم مثل محمود بن عياد(11).باع طويل وإبداعات عجيبة في هذا الميدان- فقد استمر هذا السلوك الاجتماعي الذي يتسم بالجور في عهد الدولة الوطنية الحديثة تشهد على ذلك أعمال النهب والسلب والتحيل وتكديس الثروات غير المشروعة التي بدأت تتكشف بعد انهيار نظام الرئيس السابق والتي أصبحت رائحتها تزكم الأنوف بنفس أساليب التحيل والجور والتعدي.
4-3: أما الحيف الاقتصادي، فإن أبلغ تجلياته في عهد البايات والحاكمين بأمرهم من المماليك هو قيام العلاقة بين الدولة والمجتمع على جمع الجباية وقصر منافعها على العاصمة وبعض المدن المحظوظة في حين استأثر البايات وأتباعهم بالقسط الأوفر من ميزانية الدولة لتلبية نزواتهم مثل بناء القصور وحياة البذخ الفاضح، أما دواخل البلاد حيث القبائل المتنقلة فما من إنجاز يذكر وهو ما يفسر واقع التخلف الذي كانت عليه البلاد إبان الاحتلال الفرنسي سنة 1881.
وقد استمر سلوك الحيف الاقتصادي في الدولة الوطنية الحديثة إذ استأثرت المناطق الساحلية التونسية وكبريات حواضرها بالقسط الأوفر من الجهد التنموي الوطني في الوقت الذي أهملت فيه المناطق الداخلية نسبيا وهي نفسها التي كانت مهملة في عهد البايات. وليس أبلغ دلالة على ذلك مما شهدته هذه الجهات من احتجاجات مثلت شرارة ثورة الكرامة في شتاء 2011.
5- أما النهايات فإنها جاءت متباينة:
5-1: آلت انتفاضة ربيع 1864 إلى التراجع وانتهت إلى الاضمحلال سنة 1866 بسبب ضعف القدرات التنظيمية وبفعل التآمر عليها من قبل المماليك الحاكمين الفعليين للبلاد آنذاك الذين اعتمدوا الترغيب كالتراجع عن مضاعفة المجبى ووعد الثائرين بالعفو والتلويح بإغراءات مادية للبعض منهم... والترهيب عبر استثمار الخلافات التقليدية بين بعض القبائل والتناقضات بين أعيانها، وآلت إلى القمع الرهيب ضد الثائرين الذين انتشر بينهم الخذلان بفعل مناورات الباي ومماليكه وانتهى علي بن غذاهم أسيراً في كراكة حلق الوادي(12) وهناك قضى نحبه وفرضت على الثائرين غرامات مالية ثقيلة أنهكت اقتصاد البلاد وأفضت إلى إعلان إفلاس الدولة التونسية وتركيز الكومسيون المالي الأجنبي سنة 1869 للإشراف على المالية التونسية كمقدمة للاستعمار الفرنسي سنة 1881.
5-2: أما انتفاضة شتاء 2011 فقد تصاعد زخمها بصورة ملحوظة وتبلورت أهدافها بين جماهير القائمين بها تبعا لتوسعها المجالي وتعزز صفوفها بمزيد الثائرين خاصة بعد تتابع سقوط الشهداء الأمر الذي قطع خط العودة على الجميع : الثائرون و"المماليك الجدد" الذين يحكمون البلاد. ولعل طرد رأس النظام – رمز الظلم والاستبداد والفساد الذي توعد الشعب التونسي في خطابه الذي لم يبق منه في ذاكرة التونسيين سوى عبارتي "بكل حزم" - كان المطلب الرئيسي في مرحلة أولى وهو ما تحقق بشكل كامل يوم 14 جانفي/ يناير 2011. ولضمان عدم الالتفاف على ثورتهم والسير بها إلى النهاية المنطقية بما يحقق لهم الطموح في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، يواصل التونسيون نضالهم اليوم لتقويض منظومة الظلم والاستبداد والفساد.
وهكذا تبدو ثورة الكرامة في جملة من أوجهها مواصلة لثورة القبائل في ربيع 1864، بما يجعل منها ثأرا للثائرين الأول ، ثأر يقوم عليه أحفاد يتسلحون بالعزيمة ويوظفون ما يتيحه العصر من وسائط وآليات لضمان نجاح مسعاهم.
6- وبعد، يبدو ضمن قراءة أولية أن الثائرين في شتاء 2011 لم ينطلقوا من فراغ!
فهم ورثة نفس ثوري متأصل وحملة وجع تاريخي لحمته الغبن وسداه الإذلال والتهميش ، وجوهره شوق عارم إلى حرية مشتهاة، وجع مدفوع الثمن من دماء الأجداد منذ ما يربو عن مائة وخمسين سنة ومن دماء الأحفاد طيلة الأسابيع الماضية، وجع ممتدة جذوره عميقا في التاريخ الحديث للبلاد التونسية. وإن في إصرار الأحفاد على بلوغ ثورتهم نهاياتها المنطقية التي تقطع مع التسلط السياسي والفساد الاجتماعي والحيف الاقتصادي استبطان لا يخفى لتجربة أليمة يختزنها وجدان حي وذاكرة جماعية استعصت على الموت ولم تفلح آلة القمع في تغييبها، وذلك هو عنوان الشعوب الذكية الحية المتوثبة والأصيلة.
فهل ترى يكمل الأحفاد في ما بدأه الأجداد ويفتكون مكانا تحت شمس تونس يليق بتضحياتهم وبتضحيات هؤلاء الأجداد؟؟؟ الأيام القادمة كفيلة وحدها بالإجابة على هذا السؤال.
تونس
الهوامش
(1) - المجبى: ضريبة على الأشخاص كانت تبلغ 36 ريالا وتمت مضاعفتها لتصبح 72 ريالا سنة 1864 في إطار السعي إلى معالجة العجز المتفاقم لميزانية الدولة التونسية آنذاك.
- الدستور: هو دستور 1861 الذي غير قواعد اللعبة السياسية بالبلاد وزاد في تهميش السلطة التقليدية لزعماء القبائل.
- المماليك: هم من أسرى حملات القرصنة البحرية أو ما يسميه البعض " الجهاد البحري" وكانوا غالباً من أصول صقلبية وشركسية، تتم تربيتهم في قصور البايات ويستأثرون بمختلف شؤون الدولة ومنهم مثلاً خير الدين باشا، مقابل استبعاد الأهالي.
للمزيد أنظر: توفيق البشروش، "ربيع العربان" :أضواء عن أسباب ثورة علي بن غذاهم سنة 1864، سلسلة وثائق تاريخية، بيت الحكمة، 1991.
(2) حكم الإيالة التونسية بين 1859 و1882 وتم في أواخر عهده انتصاب الحماية الفرنسية بتونس.
(3) مملوك تولى منصب الوزير الأكبر بين 1837 و1873 في عهد ثلاثة بايات هم أحمد باي ومحمد باي ومحمد الصادق باي واشتهر بسرقته للمال العام بأساليب عجيبة!
(4) أنظر توفيق البشروش، "ربيع العربان" :أضواء عن أسباب ثورة علي بن غذاهم سنة 1864، سلسلة وثائق تاريخية، بيت الحكمة، 1991.
(5) هو قائد انتفاضة القبائل التي انطلقت في أفريل 1864 ، ينتمي إلى فرع أولاد مساهل من قبيلة ماجر، وكان له إلمام بالقراءة والكتابة. أنظر أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان ، الجزء الخامس، الدار التونسية للنشر، 1990.
(6) يجدر التنويه إلى أن عبارة " المماليك الجدد" تشير بالأساس إلى نمط من السلوك السياسي يذكر بسلوك مماليك البايات في القرن التاسع عشر وهو سلوك يقوم على الاستئثار بالسلطة والثروة وبالنهب السافر لخيرات البلاد وبالتعالي عن سكان البلاد وإقصائهم التام عن إدارة الشأن العام، وهو لا يتضمن تشكيكاً في الأصول العرقية لهؤلاء الحكام وأتباعهم.
(7) تتردد أسماء كثيرة لهذه الثورة ومن ضمنها " ثورة الياسمين" وهو اسم أطلقه عليها المؤرخ الفرنسي بيار فيرميرن في إحدى الصحف الفرنسية بتاريخ 19-1-2011. وتم تبني هذه التسمية من قبل وسائل إعلام دولية مختلفة، وقد لمست لدى التونسيين ميلاً جلياً إلى رفض هذا الاسم وتفضيلاً لتسميتها بثورة " الكرامة"، فحيث انطلقت الثورة لا نعرف الياسمين ولا رائحته وكل ما نعرفه هو العمل المضني ورائحة العرق التي انضافت إليها طيلة أيام الثورة رائحة الدماء على الإسفلت في منزل بوزيان والرقاب والقصرين وتالة ودوز وحيثما سقط الشهداء.
وعلاوة على ذلك ، يخطئ من يعتبر هذه الثورة عند انطلاقتها ثورة جياع، لقد كانت في البدء ثورة على "الحقرة" والإذلال والإهانة والتهميش.
(8) أنظر: الرحلة الحجازية، الجزء الثاني، محمد السنوسي، تحقيق الأستاذ علي الشنوفي، الشركة التونسية للتوزيع، 1981، وعلى وجه التحديد الملحق عدد4، ص475 وما يليها وخاصة تقرير "فرانسوا فيللي".
(9) عبارة تونسية تشير إلى ساكنة المدن وخاصة العاصمة تونس وهي مشتقة من كلمة "البلاد" وهي عبارة تشير إلى الحاضرة أو المدينة، ولا تزال متداولة إلى اليوم في بعض الجهات مثل محيط مدينة القيروان والكاف. وتحمل عبارة " البلدية" معاني التعالي على بقية مكونات المجتمع التونسي، فهؤلاء والأعيان منهم على وجه الخصوص يحتكرون السلطة الدينية والنفوذ الاقتصادي ويتمتعون بالوجاهة الاجتماعية وكانوا ولا يزالون طرفاً أساسياً في الحكم.
(10) أنظر "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" ، الجزء الخامس، الدار التونسية للنشر، 1990 وخاصة المداولات التي جرت في مجلس الباي حول مضاعفة المجبى كسبيل لمعالجة عجز الميزانية.
(11) من كبار رجال الدولة في عهد أحمد باي (1837-1855)، هرّب أموالا طائلة إلى فرنسا ، حمل الجنسية الفرنسية بعد فراره من تونس واستقراره بفرنسا.
(12) سجن حلق الوادي.