لم يكن ما كشفته وثائق ويكليكس "اللبنانية" عن حرب تموز خاصةً، أمرًا سريًا جدًا، فقد كان ما كُشف هو لسان حال اللبنانيين ووشوشاتهم في صالوناتهم، وكان كثر يتحدثون عن تواطؤ لبناني واستدراج للاسرائيلي لغزو لبنان، وعن تحريض ومعلومات استخبارية ورصد تحركات المقاومة قام بها أحد الوزراء تسببت في مقتل اللبنانيين والاغارة عليهم، ولو أن ما كان يقال لم يكن مثبتًا أو معلومًا بتفاصيله.
وبعد التسريبات المتعددة لويكيليكس، حددت المقاومة عبر أمينها العام السيد حسن نصرالله، خطتها للتعامل مع ملفات ويكليكس اللبنانية وخاصة في مسألة ما كشف من وثائق عن حرب تموز 2006، حددته بأمرين: المسامحة والعفو عن المتورطين في شق منها، والمقاضاة في الشق الثاني التحريضي على القتل.
بالنسبة للشق المتعلق بالادعاء أمام القضاء اللبناني، فان المقاومة المتمثلة بحزب الله، وأهالي الضحايا المتضررين من العدوان الاسرائيلي على لبنان، يمكن لها أن تلجأ الى القضاء لانصافهم في هذه القضية، ولتحديد الجرم الذي اقترفه هؤلاء ومدى تورطهم في التآمر على الوطن وابنائه، وبالتالي الفصل في مدى "صدقية" هذه الوثائق وصدقية ما نقل عن اللبنانيين فيها، بالرغم من أن بعض ممن اشارت اليهم الوثائق اعترفوا بصحتها، كوليد جنبلاط الذي لم ينفِ بل أكدها معتبرًا ما قيل هو من ضمن مرحلة شكّلت نقطة سوداء في تاريخه، أما سمير جعجع والسنيورة فقد أكدا ما ما نُسب اليهما، بل ان جعجع تمسك به واعتبره مفخرة على قاعدة انه لا يقول كلامين ولا يملك موقفين، بالاضافة الى عدم صدور نفي جدّي عن الآخرين وإن كان بعضهم قد حاول أن يدلي بتوضيحات ويصدر بيانات تؤكد صحة الوثائق أكثر مما تنفيها.
أما الشق الآخر من "خريطة طريق" تعامل المقاومة مع تسريبات ويكليكس، فيتضمن مسامحة وعفوًا من قبل حزب الله، عن بعض الاشخاص الذين حددهم السيد نصرالله بمن تورطوا في تحليلات ومواقف ونصائح للاميركيين في كيفية التعامل مع المقاومة وتصور لحلول أنسب لكسب الحرب واحتواء حزب الله وتجريده من سلاحه. لكن المسامحة والعفو لها شروطها، ومعاييرها القانونية والدولية، وخاصة ضمن ما يعرف بآليات العدالة الانتقالية التي باتت تستخدم عالميًا، في فترات الانتقال السياسي في بلدان عانت من ارث من انتهاكات حقوق الانسان.
واذا كان لا بد من عفو ومسامحة عن الجرائم المرتكبة بحق الوطن، التي كشفتها وثائق ويكليكس وبالرغم من تباين الافعال الجرمية المرتكبة من هؤلاء، فلا بد للعفو من أن يقترن بشروط وعوامل عدة أهمها:
أولاً: لا يمكن العفو المسبق عن هذه الجرائم بدون تحويلها الى القضاء، لتحديد مدى خطورة الجرم المرتكب، وتحديد المسؤوليات لان ذلك يخرق حق الضحايا في الانصاف، ويشجع ثقافة الافلات من العقاب.
لطالما ارتكز داعمو المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، على فكرة أساسية جوهرها أن انشاء المحكمة يقوض مبدأ الافلات من العقاب الذي كان سائدًا في لبنان، مرجعين ذلك الى تاريخ طويل من الجرائم التي ارتكبت في لبنان والتي بقيت من دون عقاب اما لغياب الإرادة السياسية لمحاكمة مرتكبيها او لغياب النصوص القانونية التي تجرّم هذه الأفعال او لعدم استقلال القضاء الوطني وقدرته على مباشرة إجراءات المحاكمة ...
لكل هذه الاسباب أيضًا، ولمواجهة ثقافة الافلات من العقاب السائدة، يحتاج الشعب اللبناني الى فتح ملف وثائق حرب تموز الويكليكسية أمام القضاء، لتحديد المسؤوليات، ومحاسبة ومساءلة وكشف كل متورط أظهرته الوثائق مقدمًا النصح والارشادات والاقتراحات للعدو الاسرائيلي أو لداعميه الاميركيين.
ثانيًا: لا يمكن العفو عن هذه الجرائم بدون كشفها أمام الرأي العام من قبل هيئة قضائية مستقلة وموثوقة، فمنذ عام 2005 ولغاية الآن، تطرح على الساحة السياسية اللبنانية عناوين، وتنظم تظاهرات تحت شعارات "الحقيقة" وضرورة معرفتها. وتأييدًا لهذه المطالب والعناوين، الشعب اللبناني يطالب أيضًا بمعرفة الحقيقة، كل الحقيقة، حول من استدعى اسرائيل لاحتلال لبنان، ومن حرّض ومن سهّل وحتى يريد أن يعرف من أعطى الاقتراحات والنصائح لنجاح العدوان. هناك حاجة لبنانية لمعرفة الحقيقة في من تسبب بقتل المواطنين اللبنانيين في عيتا وبنت جبيل ومارون الراس وبيروت والضاحية وسواها، ومن شجع وساهم وحرّض على تدمير البنية التحتية اللبنانية... هي حقائق تهم الشعب اللبناني تمامًا كما أهمية معرفة الحقيقة في من حرّض ونفذ جريمة اغتيال رفيق الحريري.
ثالثًا: لا يمكن العفو مسبقًا عن هؤلاء، لأن ذلك قد يعطي انطباعًا بأن التعامل مع العدو على مستويات عليا مسموح، بينما العمالة "الاصغر" فهي مدانة وتعرّض صاحبها للاشغال الشاقة او الاعدام.
كما ان العفو المسبق عن الجرائم قبل تقديم مرتكبيها للمحاكمة يمكن أن يقوض أسس الردع من خلال نشر فكرة مفادها أن الجرائم الخطيرة يمكن ارتكابها دون التعرض للعقاب مما يؤدي بالتالي الى تكرارها. ولنا عبرة في ما نشر في الوثائق الصهيوينة منذ فترة عن تعامل بعض اللبنانيين مع الوكالة اليهودية، وقيام بعض سياسيي فترة الاستقلال اللبناني في خمسينيات القرن الماضي، بدعوة اسرائيل الى اجتياح لبنان للانقلاب على بعضهم البعض. فلو تمّ محاكمة هؤلاء وفضحهم أمام الرأي العام اللبناني في تلك الفترة، لما تجرأ سياسيو اليوم على القيام بنفس الفعل بدون خشية من عقوبة أو فضيحة سياسية.
رابعًا: إذا كان العفو والمسامحة عاملان ضروريان للمصالحة الوطنية في لبنان، ولارساء السلام والاستقرار، لا يجوز الصفح والعفو عن أناس لم يعترفوا بجريمتهم أو يتوبوا عنها ولم يتقدموا من الشعب اللبناني بطلب المغفرة عما سببوه، بل هم يفاخرون كل يوم بما فعلوا، مستعدين لتكرار الفعل. فكيف يمكن العفو عن اشخاص لم يطلبوا العفو اصلاً؟
لا يمكن بأي حال من الاحوال، العفو عن تلك الجرائم المرتكبة بحق الوطن من أجل مد اليد لمصالحة من لا يريد مصالحة، ولا يجب ان تصبح المصالحة في بعض الأحيان بمثابة كلمة السر التي تعني الإفلات من العقاب. فالسلام والاستقرار لا يمكن أن يبنى على طمس الحقائق ومقولات "عفا الله عما مضى" التي يتقنها اللبنانيون حتى باتت جزءًا أساسيًا من ثقافة الفساد لديهم. كما إن المصالحة في مفهومها الحقيقي لا تعني النسيان والتستر على الافعال الجرمية المرتكبة وطمسها، بل تعني تمحيصًا ناضجًا وواعيًا وعلنيًا للماضي من أجل الاعتراف وإدانة الانتهاكات وتغيير السلوك للحيلولة دون ارتكابات مماثلة في المستقبل.