تنفرد الكلمة بنشر النص الكامل لرواية علي بدر الجديدة، قبل نشرها بأي شكل آخر. وهي رواية يواصل فيها الكاتب ترسيخ مكانته، ويطرح عبرها قضية مآل الثورة العربية، وسر الانحدار لمباءة الحروب الأهلية والتشرذم والانهيار.

الركض وراء الذئاب (رواية)

تقرير هام للوكالة

على بدر

 

"هنا شعبي الذي ينام، منذ أمد بعيد، وناسي لم يكونوا مجرد أحلام
سيارات عتيقة بلا محركات، مركونة في واجهة البيت"

Syrin Stimp

الفصل الأول: صحفي في الوكالة

 

يا أمريكتي !يا أرضي المكتشفة الجديدة

 

يا مملكتي الأكثر أمانا عندما تكونين محصنة برجل واحد

John Donne

أصل المسألة؟

كانت وكالة الصحافة الأجنبية، التي يطلق عليها المثقفون والصحفيون ومقدمو البرامج والسياسيون هنا مختصر "أم آي سي media in cooperation " هي التي أوفدتني بمهمة سريعة إلى أديس أبابا، وهذه هي المرة الأولى التي أقوم فيها بعمل خارج الوكالة، فبعد عشرين عاماً من العمل في الـ"أم آي سي"  ـ المثقفون هنا مولعون بالاختصارات ـ لم أبارح مكاني مطلقاً، حتى كدت أتعفن في أحد مبانيها.

أخيراً، وقبل شهرين من الآن، هكذا وببساطة شديدة، قالوا لي نريد منك أن تكتب لنا تقريراً صحفياً مفصلاً، مزوداً بالصور والوثائق، عن مجموعة من الثوار العراقيين، وهم من الماركسيين، أو من التروتسكيين تحديداً ـ المثقفون هنا مولعون بالتصنيفات ـ كانوا قد غادروا بغداد، صيف أحد أعوام السبعينيات، والتحقوا بالثورة العالمية ضد المصالح الغربية والشركات الكبرى التي اجتاحت ذلك الوقت آسيا وأفريقيا، وهذا من توجهات الوكالة الأخير: إعادة النظر بمشاكل الشرق الأوسط القديمة، ولا سيما بعد الإطاحة بنظام صدام.

كان الأمر مثل حلم بعيد، لم تكن أفريقيا، القارة السوداء، هي مجموعة الحيوانات التي لم نرها على نحو كامل تقريباً، هناك في بغداد حيث ولدت ونشأت على الأقل، مثل: الكوبرا، والفيل، والتمساح، والقرد، والخرتيت، والنمر، ولا هي الكومبو، وبيوت القش، والنساء العاريات، كما عرفتها هنا عبر شاشات التلفزيون الغربية والتي تقدم بين حين وآخر أفلاماً وثائقية عنها، حسب، إنما هي أعوام طويلة من القتال والثورة ضد المصالح الغربية ـ هكذا نسمي الاستعمار في الوكالة ـ على نحو غير مسبوق تقريباً، وهي عالم من الأخبار والتقارير الصحفية والأفلام الصغيرة التي تصور الثوار السود وهم يحملون البنادق الروسية الصنع، ويقاتلون القوات الحكومية المدعومة على الدوام من قبل الغربيين والأثرياء المحليين الفاسدين.

وهكذا وقفت أمام قرار سفري منذهلاً، ذهولي أمام أول خيال يمكنه أن يأتي من ذاكرتي عن أفريقيا: قمم أشجار لا مضيئة ولا معتمة، ونور شمس غير واقعية تماماً، وخيال يتجدد بصوت غير مسموع، وله القدرة على إيقاف الزمن عن الاستمرار.

*

ـ سعار..كانت سعاراً هذه الثورة التي اشتعلت ضد المصالح الغربية في أفريقيا وآسيا. قال مدير الوكالة وهو يخطط لما يمكنني أن أفعله: أولاً عليك أن تجمع من داخل العراق ما يمكنك أن تجمعه عن هؤلاء الثوار من معلومات.

كان الأمر بسيطاً جداً. "أمر في غاية البساطة.." هكذا أخذت رئيسة القسم تشرح لي الأمر بابتسامة ملهمة: كان هؤلاء الثوار قد نزحوا من بغداد نحو الأهوار ليشعلوا الثورة ضد الدكتاتوريين العسكريين، وبعد أن دعمنا الدكتاتورية نحن  ـ الأميركيين تحديداً ـ لندحرهم، هاجروا إلى أفريقيا ليشعلوا الثورة هناك ضد الشركات الاحتكارية الكبرى والأمراء الفاسدين، وقد ساعدنا، نحن، الأخيرين لندحر هؤلاء المتمردين، وها نحن اليوم قد تغيرنا. أصبحنا نبحث عن أولئك الأشخاص الذين دحرناهم وعذبناهم وأنهينا ثورتهم، أين هم؟ ما هي أسماؤهم؟ عناوينهم؟  حياتهم في العراق، أفكارهم السياسية، ما هي قصة سفرهم إلى أفريقيا واشتراكهم في الحرب ضدنا؟

اغتراب

لم أزر العراق، بلدي الذي ولدت فيه، منذ أن غادرته قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً. عمري الآن هو الخامسة والأربعون، وقد أمضيت أكثر من نصف عمري خارجه. لم أكن منفياً سياسياً أو لاجئاً أبداً، ولا محكوماً بالإعدام مثل كثيرين ممن أعرفهم هنا. ويندر أن تجد شخصاً مثلي يعترف بذلك. فكثيرون هنا يدعون أشياء لم يصنعوها في حياتهم، ولكنها تضفي عليهم هالة كبيرة كسياسيين ومنفيين ومناضلين وسجناء سابقين، حتى وإن لم يكونوا كذلك.

أنا لم أعمل بالسياسة يوماً قط، وإن كنت أخفي مواقف سياسية متعاطفة مع الشرق الأوسط، ومواقف سياسية متعاطفة مع قضايا العالم الثالث ضد الاستعمار، وهو ما يصنف تحته اليساريون عادة. إلا أن عملي في الـ"أم آي سي Media in cooperation" كان محايداً تماماً، فأنا أعمل فيها محللاً للأخبار السياسية والاقتصادية الخاصة بالعراق، وهي وكالة محايدة أيضا.ً تزود الصحافة وأصحاب القرار بالتحليلات والمعلومات عن الشرق الأوسط، وبعض المناطق الساخنة من العالم.

ومن جهتي أنا فقد درست هنا، وتعلمت أن أكون محايداً ونزيهاً في مهنتي. ومن البداية ألزمت نفسي بمهنتي وعملي وحياديتي، وكنت مثل الجراح لا يهمني الآلام التي أسببها للضحية طالما أن الأمر يتعلق بشرف المهنة ونزاهة العمل.  أما وجودي في أميركا فقد كان طبيعياً. قلت "طبيعياً" لأني مع أول فرصة للدراسة في الجامعة، قررت البقاء هنا. وبعد تخرجي، منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً شغلت هذا العمل، محللاً سياسياً لشؤون الشرق الأوسط في الوكالة الأجنبية للصحافة "الأم آي سي". عملت بشكل محدد خبيراً بالشؤون السياسية للعراق الحديث. ومنذ عملي هنا، كنت تخفيت تماماً عن كل ما يخصّ البلاد التي جئت منها خوفاً من وضعها السياسي الآسن في ذلك الوقت، وكخبير في شؤونها السياسية والثقافية قدمت تقاريري وتحليلاتي للوكالة باسم مستعار. فقد كان الاسم المستعار هو الصيانة الحقيقية لوجودي ولكياني، ومن خلاله أوجدت نفسي وقدمت عملي، ومارست جميع أوجه حياتي. ولا أحد يعرف اسمي الحقيقي حتى زوجتي التي قلته لها آلاف المرات، وكانت كل مرة تنساه، وتطلب مني أن أذكره لها. ومن ثم عشت هنا في نيويورك. وتزوجت من امرأة أميركية منذ أول عام دخلت فيه البلاد، ولدي أولاد يعيشون مثل أي أميركي آخر، يأكلون الهمبرغر ويتابعون أفلام هوليوود، ولا يعرفون عن البلاد التي جاء أبوهم منها غير القصص الخيالية الشهيرة مثل مصباح علاء الدين، والسندباد البحري، وهي القصص التي يعرفها كل طفل في أوربا وأميركا تقريباً.

*

عشنا أنا وزوجتي ماري ـ أطلق عليها ميمي للاختصار ـ في أماكن متعددة من أميركا. لم تكن حالنا أول زواجنا مثلما هو عليه الآن، أبداً، فقد تغيرت حياتنا عشرات المرات. لقد تغيرت مواقعنا مرة إثر مرة. وكنا نترقى ونتحول من موقع إلى آخر. في بداية حياتنا كان الأمر صعباً تقريباً، ولكنه مختلف جداً عما هو عليه الآن. فقد اشترينا شقتنا هذه، الواقعة جنوب شارع هيوستن، والتي نسكن بها أنا وميمي والأولاد مؤخراً. وهي شقة راقية جداً، وبصراحة: أنا أحببت هذا الشارع ـ شارع هيوستن ـ إلى حد الشغف. وأنا أطلق عليه "وطني"، ربما لأن أغلب الناس الذين تراهم هناك هم من المتبضعين لا من الساكنين، من المتنزهين لا من المتجذرين. وما أضاف عليه هذه القيمة الكبيرة هو تاريخ ساكنيه طبعاً، فقد جاءه في الستينات والسبعينات والثمانينات الفنانون بسبب الفراغات والأماكن الشاغرة، ثم ملأوا الحيّ بشكل تدريجي. وأنا أتذكّر إلى الآن كيف كانت بنايات هذا الشارع ذلك الوقت فارغة، فقيرة جداً. ثم تطور هذا الشارع، حتى أخذ يقطنه ممثلون مشهورون، رسامون، موسيقيون: مثل ساره جيسيكا باركر، ماثيو برودريك، وليني كريفتس والعشرات الآخرون..

في الواقع، كانت ميمي تخطط بشكل جيد. نعم أنا أعترف بذلك. إنها أميركية حقيقية، أميركية أصلية، وليست مزيفة من تلك النساء اللواتي بعد عامين أو ثلاثة من حصولهن على الجنسية الأميركية، يرتدّنّ إلى هويتهن الأصلية، ويغبن في عالمهن الذي جئن منه. ميمي امرأة مختلفة. حين أقول مختلفة، تمر بذهني كل أفعالها الرصينة بدءاً من شرائنا لشقة متواضعة في عمارة موصدة أمام حائط أسود ومبقع. شقة في الطابق الأرضي في البداية، كانت مطلة على فناء يقابله مطبخ حانة، ومطعم متخصص في البطاطس المقلية التي كان الغارسون الأسود يعدها على الأرض، ومن ثم انتقالنا إلى الدرب السادس، في الطابق الثاني من عمارة تقابل متاجر ضخمة، وفي شارع واسع وراق، حيث اشترينا شقة كبيرة، بل كبيرة جداً، قامت ماري بتزيينها وتأثيثها أثاثاً كلاسيكياً: بيانو كبير  ـ لا أحد يعزف عليه ـ فوتيلات كبيرة وواسعة، طاولات من الخشب الفاخر، وطلت الجدران بلون تفاحي باهت تتراقص عليها الشمس أول الصباح.

طبعاً هذه المسيرة التي أختصرها الآن بأسطر قليلة، كانت حياة مليئة بالتعب والمفاجآت. ولكن حينما يرقد المرء بعد طول تعبه على أريكة مريحة، ويصمت أمام شرفة واسعة، ويرى مكاناً مضيئاً، وشوارع فارهة، وعمارات راقية، ومتاجر كبيرة، ينسى دون شك ضيق الشقة القديمة، ونافذتها الصغيرة الوسخة التي تطل على حائط أسود، وشمسها التي لا تظهر إلا على حائط مبقع، ومن أسفله فوهة المياه الثقلية التي تتجشأ زيت قلي البطاطس.

تفكير وثورة

ربما وبسبب هذه النظرة المتعامدة، وبسبب هذين المكانين المتعاكسين اللذين عشنا فيهما، كنت أفكر دائماً بما يفكر به منظرو الثورات عادة: هل كان الثوريون يفكرون مثلاً بهذين المكانين المتناقضين ـ شقتنا الأولى وشقتنا الثانية، مثلاً ـ لكي يفكروا بإشعال الثورة؟ هل كانوا يقولون:

ـ لماذا نحن نعيش في هذا المكان ـ مثلاً شقتنا القديمة ـ بينما يعيش الآخرون في ذلك المكان ـ مثلاً شقتنا الجديدة؟

وهكذا كنت أتساءل دائما لماذا لا يفكر أحد بالثورة في أميركا، بينما نفكر نحن في العالم الثالث الكثير بها؟ بل أهدرت أجيال منّا عمرها بالثورات والانقلابات. ربما. ربما وبسبب هذا السؤال الغامض كانت الثورة تعني ـ من بين ما تعني ـ أن يحل ساكنو المكان الأول في المكان الثاني، وهكذا وإلى هذا الحد تنتهي المشكلة! أو في أحيان كثيرة، هي أن يتحول ساكنو المكان الثاني إلى جانب ساكني المكان الأول، ويتساوى الجميع، وتنتهي المشكلة؟

*

كنت أختصر الحياة كلها بفهمي للمواقع ذلك الوقت. كنت أفكر بهذه المواقع على الدوام. وهذا ما جعلني أقبل بهذا المشروع الذي طرحته علي الوكالة، وهو أن أذهب إلى أفريقيا، بل إلى أبعد نقطة في القارة السوداء، كي أعرف تاريخ الثوار وتاريخ الثورة. كنت أقول في نفسي ربما لأن الثورة بعد تفكير حقيقي بها نجدها هي أيضاً لعبة مواقع.. كانت البنيوية قد وصلت أميركا ذلك الوقت. وأصبحت هي الموضة في الجامعات وفي المجلات والوكالات. وربما كان مفهومي للمواقع هو مفهومي ذاته للبنية، ولكن عن طريق استخدام الكناية لا عن طريق استخدام المصطلح ذاته، والذي أصبح مبتذلاً جداً هذه الأيام.

لعبة مواقع

نعم إنها لعبة مواقع، ومن جهات متعددة بطبيعة الأمر.

أنا لا أسوق هذا المثال من تفكيري بهذا الأمر، لأنني أعمل خبيراً بشؤون الشرق الأوسط في الوكالة، فقط، إنما من حياتي أيضاً. من تجاربي. من نشأتي. من هجرتي. من زواجي بماري. من علاقتي مع الأولاد. من موقعي في الوكالة. من جلستي أمام التلفزيون. من حبي للكعكة والشاي في المساء، من كرهي الشديد لمشهد زيت البطاطس المقلية...وأشياء وأشياء كثيرة، أخرى. أشياء ربما لا يصحّ التكلم عنها الآن، ولكنها تفرض نفسها علي حتى في اللحظة التي أحاول أن أخفيها عنكم. وهكذا، أنتم ترون أن حياتي فَرَضتْ عليّ بطريقة ما، التفكير هكذا. ويا ما قلت لزوجتي إن حياتي هي التي فَرضتْ عليّ التفكير بالمواقع، لا موقعي أنا مثلاً داخل الوكالة، بالنسبة للناس الذين أعمل معهم، فقط، إنما أحيانا التفكير بموقعي الأصلي ـ فقد جئت من موقع مختلف ـ والحرب هنا وهناك هي أيضاً لعبة مواقع لا أكثر، حتى لو لم يكن الموقع حقيقياً، وهو بعد ذلك شيء مفترض مثلاً، وخيالي، ولكنه يمتلك قوة الحقيقة والواقعية، بالتأكيد، والناس لا تفكر به من نشأته، إنما من نتيجته.

وهكذا كانت حياتي في هذا المكان الجديد، المكان الواسع والمريح والكثير الإضاءة، هو لعبة مواقع لا أكثر. ما الذي تغير فيّ؟َ كنت أسأل نفسي.. لا شيء. ولكن الموقع تغير. وهكذا كان علي أن أقفز نحو الموقع التالي. ومع ذلك لا أصرخ بوجه ميمي قائلاً لها:

 ـ ميمي لقد تغير الموقع وصار أفضل. ميمي إنها ثورة.

ثورة ـ كنت أحاكي نفسي ـ ثورة. أليست هذه ثورة أيضاً، تصفية الموقع القديم. أليست هذه ثورة أيضاً؟ ولكني في الوقت ذاته كنت أسأل نفسي:

ـ كيف تحول الثوار من موقع الثورة إلى موقع المقهى؟ كيف تقاعدوا؟

لقد تقاعدوا مبكراً أليس كذلك؟ تقاعدوا وهم ما زالوا شباباً! هكذا كنت أزجي الوقت كله تقريباً بالتفكير بالثورة وما جرى من أحداث بعدها. فما بعدها هم المهم ذلك الوقت.

*

هكذا كنت أجلس كل يوم، تقريباً، بعدما أعود من الوكالة، بعدما أعود متعباً من عملي من الوكالة، أدخل شقتي التي أحبها، أخلع جاكتتي وأعلقها على المدخل، أخطو خطوات قليلة ثم أهبط ثلاث درجات إلى الصالة. أجلس على الأريكة السوداء المصنوعة من الجلد الفاخر التي اشترتها ميمي من ميداس. أنظر إلى الحائط المطلي باللون التفاحي الفاتح والمواجه لي. أنظر إلى التيبل لامب بالشيد الأخضر على الطاولة. أنظر إلى الكتب المجلدة في المكتبة إلى جواره. أنظر إلى المزهرية التي تحمل زهوراً نضرة من الجهة الأخرى. أنظر  إلى البيانو الذي لا يعزف عليه أحد. أنظر إلى كل الأشياء التي أحبها في الصالة. ومن ثم أفكر بشيء جديد، أقول في نفسي:

 شيء عظيم إني انتقلت من ذلك الموقع ـ الشقة المقابلة لحائط أسود مبقع ـ إلى هذا الموقع، في الدرب السادس في هيدسون ـ ولكن هل سيستمر هذا الأمر هكذا لفترة طويلة؟ أم إني سأضجر من هذا المكان أيضاً، وسأطمح إلى تغييره بموقع جديد؟

*

حينما جاءت الرحلة إلى أفريقيا فرحت جداً، لا لأني كنت أفكر بالثورة على أنها لعبة مواقع، وإني سأتعرّف قليلاً على أصل المشكلة، ومعرفة ما الذي كان يفكر فيه الثوار ذلك الوقت، إنما لأني ضجرت من موقعي في الوكالة، وضجرت من عيشي في هذا المكان، وضجرت من النساء البيض، وضجرت من أكلة الماكدونالد والهمبرغر، وضجرت من الناس الذين أعمل معهم، وصار لدي حنين شديد إلى أفريقيا، وإلى أناس جدد، ونساء غير اللواتي أعرفهن، والكتابة في موضوع جديد. أخذت أحن إلى موقع جديد لم أكن أعرفه من قبل.

قصة الأولاد أيضاً

الأمر أحياناً مرهون بأولادي أيضاً، وهذا الأمر يجب أن لا أهمله أبداً.

وعليّ أن أخبركم أيضاً، طالما أني أتكلم عن المواقع، وسيخطر في بالكم على الدوام أني جئت من الشرق الأوسط، ومن العراق تحديداً، وهذا ما يجعلني أتحدث عن الأولاد بطبيعة الأمر، لأنهم عاشوا هنا في أميركا، فهذا الأمر دون شك مهم جداً، فهل أولادي يشعرون بأنهم أيضاً مثلي جاءوا من الموقع الذي جئت أنا منه بالذات؟ هل يشعرون بأنهم ينتمون إلى بلاد والدهم، أو ينتمون إلى ثقافته؟

أقول لكم:

ـ إن أولادي لا علاقة لهم بالشرق الأوسط أبداً، ومن جهتي لم أنعش معلوماتهم بأي شيء إيجابي آخر عن بلاد أبيهم، ولم أقدم لهم أية معلومة عنها سوى أشياء بسيطة. ومن جانب آخر جعلتهم يرتعبون من كل شيء قادم منها، وفسرت لهم كل أحداثها من منظور مخيف ومظلم واحد. أما زوجتي ميمي فلم يكن يهمّها ما تكونها تلك البلاد البعيدة. وكلّ ما تعرفه عنها، أنها بسببها نحن نكسب المال. فلولا معرفتي بهذه البلاد التي يجهلها الأميركيون تقريباً، فما وجدت عملاً جيداً، ولا كسبت مالاً كثيراً.

وهذا الأمر يستحق التكلّم عنه قليلاً:

في الواقع يمكنني أن أقول: كنت أكسب امتيازاتي بسبب أصلي الشرق أوسطي لا بسبب أمريكيتي. فقد انتعش عملي كثيراً، وازداد الاهتمام بي بعدما بدأت المشاكل تعم الشرق الأوسط، وأصبحت حياته السياسية خطيرة. فوضعي المالي مرتبط بتذبذبات السياسة هناك، فكلما تفاقمت الأحداث في تلك البلاد، كلما وجدت هنا من يطلب مني تحليلاً سياسياً للتلفزيون، أو تقريراً عن الأحداث للوكالة، أو مقالة لإحدى الصحف الشهيرة. وهكذا أجد نفسي أكسب بشكل أفضل بكثير كلّما كانت هنالك حروب خطيرة، وقتال أهلي، وتهديدات جديّة للمصالح الغربية. ربما تظنّون أن هذا الأمر يخصّني وحدي. أبداً. هذا الأمر لا يخصّني وحدي. فوكالات الصحافة والتلفزيون ومعاهد الدراسات التي يسمّونها الثنك تانكس تتذكّر فجأة هذه النخبة الشرق أوسطية المهملة، تمدها الأولى بالمعلومات وتقابلها الثانية بالمال. وكلما كانت الأحداث والإنقلابات أخطر كلما كانت كمية المال أكثر. كما أن هذه النخبة المهملة والمتلفة وغير النافعة تجد في تلك الأوقات العصيبة من يهتم بها، ويحسن أوضاعها، ويغير من شروطها الاجتماعية والثقافية.

لنقل ببساطة تجد في هذه الأيام من يغيّر لها من مواقعها، حيث تجد نفسها وقد أصبحت فجأة مهمة ـ لاحظوا الموقع هنا هو المهم ـ وبدلا من قضاء الوقت في المقاهي والكازينوهات أو البحث عن لقمة الخبز في أعمال لا علاقة لها باختصاصاتهم، ستجد نفسها فجأة في الاستوديوهات، ومرتبطة بمواعيد مع الصحف والمجلات وغير ذلك. وكما تعرفون أن الميديا مهمة هنا جداً هذه الأيام، وهؤلاء المثقفون يصوغون الرأي العام لتكون الاجراءات السياسية مطابقة تماماً لها، ولا بأس أن تدفع هذه الشركات كمية من المال أكبر طالما أنها ستربح أكثر. هكذا هم ينظرون للأمور، ولا بد أنهم أيضاً سيفرحون بتفاقم الأحداث هناك، أقصد رؤساء الوكالات والصحف والتلفزيونات والمشرفون عليها، مثلهم مثل زوجات المثقفين الشرق أوسطيين، فلا بد أن زوجات المثقفين الشرق أوسطيين أيضاً سيفرحن لتفاقم الأحداث في بلدانهنّ كثيراً. لماذا؟

في الواقع، وهذا أمر جوهري هنا، ربما، لأنهن سيشعرن حينما يصبح الأزواج مهمين فإنهم سيكسبون كثيراً، وهذا الكسب دون شك ليس شيئاً بذاته، إنما عن طريقه سوف يغير هؤلاء الناس من شروط سكنهم، وحالات معيشتهم، ويستطيعون السفر، ويستمتعون بالمال بتغيير مواقعهم القديمة بمواقع جديدة، ومن هنا أيضاً سنرى لعبة تبديل المواقع. لاحظوا: إن الأمر لا يخص تغيير السياسات فقط، إنما يشمل حتى الناس، فهذا الأمر ربما ترونه شاملاً ويحدث على نحو غير محدود، فما أن يحدث حدث خطير في العالم، ستجدون أن التغييرات لا تطال المواقع الكبيرة، إنما المواقع الصغيرة وفي كل مكان، وهكذا ستشهدون فجأة: يهبط بعضهم جداً إلى مواقع متدنية، ويتراجع آخرون إلى أماكن لم يظنوا أنهم سيعودون إليها، وآخرون سيذهبون وسيحل محلهم آخرون. بعضهم يتزاحم مع بعض على مواقع متلاصقة. آخرون يتزاحمون على مواقع متباعدة. غيرهم سوف يتقدمون ويحلّون بها. آخرون ينتظرون. بعضهم بطبيعة الأمر تضرب معهم ضربة الحظ، وفجأة تجدونه في موقع لم يكن يحلم به من قبل أبداً. وبعضهم يسقط ويتهاوى إلى الحضيض.

ـ هذه هي الرأسمالية. قالت مديرة الوكالة.

أما السعادة بتفاقم الأحداث وتفجر الحروب والكوارث والانقلابات فهذا أمر غير مستبعد أبداً، نظرا لما رأيته من تجربتي وحياتي، ولا سيما في هذه الحالات، وفي هذه الأماكن بالذات، وأنا عن نفسي يمكن أن أقول ببساطة هذا حال زوجتي. في الواقع أنا لا أحشر أمر الزوجات هنا حشراً. ولكني أعترف أن زوجتي تفرح بشكل خفي بتفاقم الأمور. لا أقصد من كلامي هذا هنا الفضيحة أبداً، أو التشهير بزوجتي أو بزوجات الآخرين، إنما أتحدث عن شعور إنساني طبيعي، حتى وإن كنا نتفادى التفكير فيه، ولا نتحدث عنه لأنه مخجل ومحرج ولا أخلاقي. أنا أعتقد أنه شعور طبيعي، لا يمكننا أن نقبل به علناً ولكننا نتواطؤ معه سراً. وما يخفف الشعور بالذنب الأخلاقي أن زوجتي من جهتها لا تعرض هذا الأمر بشكل علني أمامي أو أمام الآخرين، لأنها تعرف جيداً، وربما أكثر من أي شخص آخر، أنه شيء لا أخلاقي، وغير مقبول بالمرة. وأنا أقول هذا الشيء بصراحة تامة، وأقول أيضاً إني اكتشفته اكتشافاً ولم نتصارح به حتى الآن. أقول اكتشفته. لأني لم أحدثّها به أبداً، ولم تحدثني به أو تعترف لي وكأني قبضت عليها وهي ترتكبه، مطلقاً، ولكني اكتشفته اكتشافاً ومن خلال مراقبتي لها أثناء حدوث أزمات أو كوارث في الشرق الأوسط، فما أن تسمع بواحدة من هذه المشاكل ـ وما أكثرها بطبيعة الأمر ـ حتى تراها تبدأ بالتفكير في تجديد المنزل، وتغيير الأثاث، وتحسين أوضاع الأولاد في الدراسة، والسفر، وما إلى ذلك.

كلما تتفاقم الأحداث في الشرق الأوسط كثيراً، أو كلما تتدهور الأوضاع السياسية هناك، حتى تبدأ زوجتي وعلى نحو مباشر بالتفكير في تغيير حياتنا وظروفنا وشروط معيشتنا، وتفكر بانتقالنا إلى منزل آخر. فهي تعرف ـ وهذا أمر طبيعي ـ أن ثراءنا يعتمد على تفاقم الأمور في هذه المنطقة، كلما كانت الأمور أسوأ هناك كلما احتاجوني هنا أكثر، كلما صعد الغليان الشعبي والسياسي وانغمست البلاد بالمشاكل والاضطرابات هناك كلما ربحت مالاً أكثر.

هكذا أقول اكتشفت الأمر اكتشافاً.

فقد كنت أشعر بأنها ترمقني بحبّ وهي تراني أغرق في الكتب والتقارير، كنت أراها فجأة وقد تغيرت لا في سلوكها فقط إنما في نبرة كلامها، ربما تشعر أن هذا الأمر الذي يحدث هناك، وهو دون شك سوف يحدث هزة في المواقع السياسية لا "هناك" فقط، إنما "هنا" أيضاً. وربما ينعكس الهناك بشكل إيجابي على الهنا، أو على نحو أوضح، ينعكس بشكل إيجابي على المنزل، بل من شأنه أيضاً أن يغير مواقعنا هنا أيضاً، وبمقدار ما كانت هي ترمقني وتراقبني، كنت أنا أيضاً أرمقها وأراقبها، بمقدار ما كانت تتابع خطواتي وترى انغماسي في العمل، وكتابة التقارير والتحليلات والذهاب إلى المحطات، أجد نفسي دون وعي مني أراقبها، وأراقب تصرفاتها التي تتغير فجأة، فهي تنشط وتتحمس، هكذا وبصورة مدهشة، أراها تتحرك في المنزل بسرعة، تستيقظ من الصباح لتفتش المنزل من جميع جوانبه، وهي ما تسميه عادة البحث عن "النواقص".  في الأيام التي يتفجر فيها الوضع السياسي في الشرق الأوسط تستحم زوجتي مرة أو مرتين في اليوم وهي عادة ما تفعله عندما تشعر فيه بالفرح. وتقوم بانتزاع الموكيت لاستبداله. أو تحاول تغيير ظليات المصابيح. أو تفكر باستبدال الطباخ. أو شراء مايكرويف آخر.

 ومن الصباح، كانت تفتح عينيها على الحديث معي حول تجديد بعض الأثاث أو شراء بعض الحاجيات، وعندما تخرج من فراشها أو من حمّامها تأتي حالاً إلى مكتبي لتقول لي شيئاً مهماً عن هذه الأشياء ـ النواقص ـ وتمضي. أنا من جهتي لا أبخل عليها بهذا المال الذي أكسبه من الوكالة، أو من الصحافة، أو من التلفزيون، أبداً. ويا ما قلت لزوجتي هذا الأمر. دائماً أقول لها إني لا أعمل من أجل نفسي، إنما أعمل من أجلك ومن أجل الأولاد. ويحدث مثلاً:

 في الصباح الباكر، أدخل الحمام، مرتدياً بيجامتي وقد وضعت المنشفة على كتفي. أقف أمام المغسلة لأغسل وجهي أو أغسل بالفرشاة أسناني. فتقف هي على مقربة مني، لتحدثني عن ما تريده من المال لتجدد به الأثاث أو لتلبي بعض احتياجيات الأولاد، أو لتشتري بعض النواقص. أو تسألني فيما إذا كان هنالك من الوقت الفائض ـ بعد انتهاء الأزمة بطبيعة الأمر ـ لنسافر إلى مكان آخر. وأنا أوافقها بطبيعة الأمر، لم أبخل عليها أبداً. البخل ليس من عادتي إطلاقاً. كنت أقول لها على الدوام:  أنا. ما نفع حياتي. فقد أتلفت شبابي في مشاكل الشرق الأوسط، أتلفت نصف حياتي خائفاً ومرتعباً هناك، والنصف الآخر أتلفته متخفياً هنا. فأنا لا نفع فيما قمت به لحد الآن من أجل نفسي، هل يمكنني الافتخار بأشياء حققها اسمي المستعار. أذهب مباشرة إلى الطاولة في المطبخ، أصبّ القهوة في الكوب، وأستمرّ محدثاً إياها:

ـ هل تعرفين ميمي. ليتك تعرفين. إن كل ما أفعله هنا. أجده ملكاً للشخص الآخر الذي يحمل اسماً مستعاراً وحياة متخفية، ومع ذلك رضيت، ذلك لأني أجده يحسّن من وضعك ومن وضع الأولاد، ويغير من ظروف حياتهم. فأنا كل ما أفعله اليوم هنا في أميركا هو من أجلك ومن أجل الأولاد. من أجل أن يعيشوا بشكل جيد. وأن يتخلّصوا من ذلك التنّين المرعب الذي ابتلعنا بنيرانه. (أقصد الشرق الأوسط بالتأكيد).

أولادي أيضاً!

 أما الأولاد فهم من جهتهم يفرحون أيضاً بهذا الأمر، فعندما تتفاقم الأحداث هناك يشعرون بأهمية والدهم هنا. عندما يكون هنالك قصف، وحروب، وقتال في تلك المناطق البعيدة، فجأة يرون والدهم وقد أصبح نجماً تلفزيونياً معروفاً، فما أن يلتفت مقدم الأخبار  ـ ركزوا على اسم القناة ـ في محطة الفوكس نيوز إلى الشاشة المقابلة له حتى تظهر صورتي، متعمداً أناقة خاصة ـ لكي يعرف الأميركيون كم هم مهملون في هندامهم ـ وفي هذه اللحظة بالذات سيصرخ الأولاد بصوت عال هذا دادي. هذا دادي. أنا متأكد بأنهم لا يفهمون مما أقوله عن وضع تلك البلدان ومشاكلها شيئاً، وهم لا يهتمون مطلقاً بما يحدث فيها، ولكنهم يجهدون أنفسهم بالاتصال بأصدقائهم ليقولوا لهم إن دادي على شاشة التلفزيون، ابنتي الكبيرة كاتي بالأخص، تتصل بصديقها بوب وتقول له: افتح الفوكس نيوز بسرعة. بسرعة، سترى دادي على الشاشة.

أعود أحياناً إلى المنزل في الدرب السادس جنوب هيوستن متعباً من العمل في الوكالة، أو من مقابلة في التلفزيون، فأجد كاتي منفعلة وغاضبة، لأن صديقها بوب رفض أن يرى "يور فكنك دادي" وهو يحلل "فكنك إيراك"، وفضل أن يتابع فيلم ماكس ثري على قناة الأفلام.

أنا لا أقول إن أولادي هم بلا مشاعر، أبداً. ولكن فرحة ظهوري على شاشة التلفزيون تطغى على كل انفعال. بلا شك هم مهتمون بدرجة ما بما يحدث من مآس وكوارث في العالم، والعالم كلّه لا في هذه المنطقة حسب، ولكنهم لا يعيرون هذه الأمور كثيراً من اهتماماتهم، فهم مشغولون كثيراً بحياتهم هنا، وأنا في واقع الأمر لا ألومهم على هذا اللااكتراث أبداً، لا أشجّعه، ولكني لا أريدهم أن ينخرطوا بمشاكل سوداوية لا حل لها وفي بلاد لن يروها مستقبلاً أبداً. أقول لهم:

ـ حياتكم هنا، عيشوها كما هي. هنا في هذا المكان، ولا تنشغلوا بأشياء أخرى، وتضيع حياتكم، كما ضاعت حياتنا.

أقول لهم:

ـ هذا العالم الثالث ـهذا اسمه أثناء الحرب الباردة ـ مثل التنين بلع حيوات شباب كثيرين، فلا حل لكوارثه ولا لمشاكله، عيشوا حياتكم هنا في هذه البلاد. ولا تلتفتوا إلى أي شيء آخر. عيشوا في هذه البلاد التي تعرف كيف تستثمر مواردها وموارد العالم الثالث أيضاً. فهي تأخذ موارده وطاقته البشرية وتتركه للخراب والنسيان. فما نفع ذهابكم إليه، والاهتمام به؟

ولكني أطلعهم بطبيعة الأمر على ما أقوم به من أعمال، لا من باب المعرفة والاهتمام أبداً، ولكن من باب اطلاعهم على أمورنا المالية، فالأمور المالية مهمة جداً وسط هذه التقلبات الاقتصادية العالمية وحالات الكساد، وطالما يخضع ما نكسبه للضرائب الباهضة وازدياد سلم الحاجات، فإن الأمور المالية تصبح في أعلى الأولويات، لأنها بواسطتها فقط يتم تغيير المواقع.

*

حينما انتدبت لهذه المهمة قلت لعائلتي كلّفتني الوكالة للذهاب إلى أفريقيا لكتابة تقرير عن شيوعيين عراقيين، ثوار وأبطال ـ لا أدري لماذا أضفت هذه الجملة الأخيرة، ربما من باب التباهي أمام أمريكيتهم بعراقيتي ـ وقد تركوا من جانبهم السؤال عن الثورة والبطولة، وصرخوا بصوت واحد:

 هييييييييي...

 لقد فرحوا كثيراً. وسألوني عن المال الذي سأكسبه من هذه المهمة. وبدت زوجتي ودودة جداً معي. هي ودودة دائماً ولكن ذلك اليوم كانت ودودة بشكل أكبر، لذلك قبلتني مرتين. وهذا الأمر كثيراً ما تفعله حينما تكون فرحانة، وقالت أخيراً وجدنا الوسيلة لتلبية طلبات سام (ابني الذي يصغر كاتي بعامين)، كما أننا سنصنع زواجاً رائعاً لكاتي وبوب (مختصر روبرت ـ خطيب كاتي). وهكذا فرحت أنا أيضاً. وبدأت أعدّ أوراقي وكتبي لهذه المهمة الجديدة، المهمة التي وجدتها من نوع مختلف تماماً عن كل ما قمت به لحدّ الآن.

 فأنا وللمرة الأولى لا أحلل المعلومات فقط، كما كنت أعمل في الوكالة، إنما أنا من يجلبها، بمعنى أنا من يصوغ كل شيء، على عكس ما كنت أقوم به في الماضي، ولا سيما وسط المتغيرات الكثيرة لعمل الوكالة ومواقفها وأهدافها، فأنا من جهتي لا أسمح بأي اتهام أبداً، ولا أسمح بأيّ شكّ من قبل الذين أعمل معهم، فقد كنت محايداً حقاً، وكنت أقوم بما ينبغي عليّ القيام به.

وبسبب معرفتي للغتين العربية والإنكليزية معاً، كان عملي يتوسع ويزداد أيضاً، بين أن أجمع الأخبار، وأقدم المعلومات وأحللها، وبين كتابة التقارير، وترجمة بعض الخطابات والمقالات من الشرق الأوسط، فهنا قد ازداد اهتمامهم كثيراً بما يرتأيه ويفكر به الناس هناك. ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

 وهكذا يبرز من بين أوراقي التي عليّ أن أعدّها للوكالة متطلبات زوجتي الكثيرة، ومشاكل الأولاد التي علي حلّها.  بين هذه الفوضى التي لا حدّ لها أجد نفسي وقد ضجرت حقاً، فالأشياء تتسارع في العالم، ومعها تتسارع حركة المنزل، وهنا في الوكالة تضطهدني رئيسة القسم ـ تضطهدني كلمة كبيرة ولكني مرغم على استخدامها ـ إنها تتهمني أحياناً بالانحياز للعالم الذي ولدت فيه وجئت منه. قلت لها ألف مرة إني لا أنحاز لأحد، ولكني لا أعرف بالضبط توجّهات الوكالة، فالوكالة مستقلة، ولكن لها أيضاً أهداف وسياسات وهذا أمر طبيعي جداً، وأنا أقبل به، ولا أعترض عليه، ولكن المشكلة أن السياسات تتغير، وتتغير بشكل كبير جداً يصعب بعض الأحيان اللحاق بها أو التكهن بها، وهذا ما سأوضحه فيما بعد.

الميديا والمواقع

أنتم تعرفون أن الميديا مهمة جداً هذه الأيام، لأنها هي التي تصوغ الرأي العام، لا هنا في أميركا فقط، إنما في العالم كله، وهي التي تقرر السياسات العامة وأحياناً تصنعها، وفي أحيان كثيرة تخضع لها. إنه نوع من السيطرة على العالم بأيد ناعمة. بلد صغير في الشرق الأوسط، في الخليج تحديداً، لا جيش ولا صناعة ولا زراعة، لكنه يمتلك محطة فضائية قوية، يرهب بها ويخيف مثل أية دولة عظمى. خبر واحد أحياناً، خبر. يأتيك من مكان بعيد، وبعيد جداً، يمكن لهذا الخبر أن يقلب كل الأفكار والسياسات في العالم. وأنت تسأل بسذاجة أحياناً من أعطاه هذه القوة أو الصلابة لكي يكون هكذا؟  أما المواقف فأمرها أكثر تعقيداً، هنالك تغيير مواقف وتقلبات تحدث بسرعة فائقة.

يا إلهي..أقول أحياناً، المواقف تتغير بسرعة لا يتخيّلها العقل، ولا سيما لدى الأميركان، كل الأشياء تتحرك بسرعة هائلة بحيث يصعب عليك اللحاق بها، مواقف اليوم لا تشبه مواقف الأمس، وغداً لا تدري ما ستكون عليه، لأنها واقعة وسط هذه الزحمة الكبيرة من مواقع الناس، وأنت وناسك أيضاً تقعون في مواقع أخرى في الخارج، والكل يتزاحم. المواقع هنا هي شديدة التعقيد، سواء أكانت في الداخل أم في الخارج، وهي تؤثر دون شك على حياتك، كنت أقول في نفسي: يا إلاهي لا أستطيع أن أضبط عيني على الحروف والأرقام التي تتسارع، موقعك هنا ـ قالت لي ميمي مرة ـ مرتبط بالبورصة، انظر إلى هذه الأرقام التي تتغير بسرعة، كانت اللوحة أمامي سوداء والأرقام البيضاء تتحول من شكل إلى شكل آخر. يصعب أحياناً ضبطها أو السيطرة عليها. وأنا أفكر أن حياتي مثلاً وحياة الملايين من الناس تتحول على ضوء هذا التغيير، على ضوء اختلاف هذه الأرقام، هذا يعني بلغتي التي أفكر بها أن عدداً غير محدود من المواقع يتغير يومياً: فقراء يصبحون أغنياء. أغنياء موسرون يصبحون في عداد العاطلين والمشردين. شركات تظهر وشركات تختفي. منازل تتجدد ومنازل تنهار. حياة. حب. أحقاد. أشياء كثيرة تتغير.

ـ وعليك أنت أيضاً أن تتغير بسرعة حبيبي! قالت ميمي دون أن تنظر نحوي.

الشيء ذاته قالته لي مديرة القسم:

ـ العالم يتغير. المصالح تتغير. الحياة تسير بسرعة فائقة.

هكذا وجدت نفسي هنا. هكذا وجدت نفسي راكضاً وراء هذا ووراء ذاك. وكان علي أن أتغير بسرعة وأن لا أبدو جامداً أو منحازاً. أمر ثقيل جدا ومتعب أليس كذلك؟  الحياة هنا سريعة جداً. الأشياء تتغير بسرعة. فجأة تجد نفسك وسط مجموعة من المحللين السياسيين وهم يصرخون بوجهك عليك أن تأخذ المتغيرات بنظر الاعتبار. ولكن المتغيرات سريعة. وحتى هناك ـ أقصد في الشرق الأوسط ـ فهم بحاجة إلى وقت طويل لفهم المتغيرات والتعامل معها. ووسط كل هذه المتغيرات التي كان علي أن آخذها بنظر الاعتبار هنالك زوجتي، ومشاكل العائلة، وحياة الأولاد العاصفة، ومتطلباتهم الكثيرة، ولا سيما هذه الأيام. أقول لكم وسط كل هذه الفوضى السياسية التي تعم الشرق الأوسط، ومن بين صور القتال الأهلي، أو الاجتياحات المتكررة، أو صور المعارك والحروب، أو الغزو والاحتلالات، وتهديم البنى التحتية والحصارات، يبرز وجه زوجتي ليقول:

ـ أين سنقضي الويك أند؟ أين نتعشى الليلة؟

تحدث أشياء غريبة حقاً في حياتي، تحدث في الغالب بين انشغالي بعملي وبين حياتي الزوجية التي لا أريدها أن تنهار: أكون، مثلاً، جالساً على الصوفا، وأمامي كأس عصير برتقال ـ هذا ما أفعله دائماً عندما أجلس أمام شاشة التلفزيون لأستمع للأخبار ـ ويحدث أن تبثّ إحدى وكالات الأخبار صوراً لقتلى في بلادي، ويحدث أن ابني الصغير سام يريدني أن أشتري له عدة كاملة لرياضة الركبي، فقد سجل بفريق في المدينة ولا يمكنه التراجع عن ذلك. أن أقول له مثلاً إني مشغول، أو حدث شيء خطير في الشرق الأوسط، حدث كبير في الصراع الدائر هناك، فهو لا يفهم ولا يريد أن يفهم لأن هذا الأمر بعيد تماماً عن حياته. هذا الأمر في موقع بعيد تماماً عن الموقع الذي يعيش فيه. فيزعق بوجهي ويضرب على الطاولة. كل هذا والصور تتلاحق، والتحليلات تتدفق من هنا وهناك. هو يزعق والمذيع يقول شيئاً خطيراً، أو معلومة أريد أن أسمعها. يزعق سام ونصف الكلام الذي أريد أن أسمعه ينسحق تحت صراخه وصوته.

أحياناً يذهب سام إلى التلفون ليتصل بأمه ويشكيني لها، ويطلب مني أن أذهب إلى التلفون حالاً، يقول لي ماما تريد أن تحكي معك. أنهض من مكاني وعيناي معلقتان على الشاشة الصغيرة، أصغي إلى زوجتي على التلفون، تقول لي عليّ أن أهيء السلطة، والكاجاب، وأن أعد بعض المايونيز من الثلاجة، أما هي ستأتي بوجبة الفاست فود معها من الماك ـ هكذا نسمي "الماكدونالد" هناك ـ وعليّ أن أشتري عدة الرياضة للولد، وتختمها بأنها سعيدة لأني سأقضي اليوم كله معهم في المنزل. أنا لا أخترع هذا الأمر اختراعاً، إنما أقول أن هذا الأمر حدث عشرات المرات. هو ذاته. أو أحداث مشابهة له. يحدث أحياناً أن أتوهم في صور القتلى أناساً أعرفهم من بغداد، أو أقرباء لي، ومع ذلك عليّ أن أنسى كل شيء، وأخضع للحالة الآنية التي يتطلبها المنزل.

ليس اتهاماً

أنا لا أتهم ميمي إطلاقاً بأي شيء مسيء أو معيب، ولا أعتقد أنها قصرت في يوم معي أو مع الأولاد، بل بالعكس أنا أجدها على الدوام طيبة معي وودودة جداً، ولا أقول إنها تجبرني على أفعال أنا لا أرغب بها أبداً، أحياناً أقول لها سأفعل، لا أعترض على ما تريد مطلقاً، أجيبها أحياناً دون التفكير كثيراً بما تقول، ولكني أتهرّب بطبيعة الأمر ولا أفعل أي شيء مما تقوله لي، فهي والحقّ أقول ستغضب إن قلت لها، لا، وستناقش كثيراً، وستحاول إجباري على قول نعم، ولكنها فيما بعد لا تبالي إن فعلت هذا الأمر أم لم أفعله، لا تبالي إن نفذت ما قلته لها أم لا. هذا الأمر لا علاقة له بباقي جوانب شخصيتها، فهي ليست من الزوجات اللواتي يقلبن حياة الزوج إلى جحيم، وربما هي عكس الأميركيات التقليديات ـ وإن كانت بدينة مثلهن ـ فهي تتفّهم عملي وإن كانت لا تهتم به أبداً، وهي تراعي مشاعري جداً وهذا ما يجعلني أقدّرها. ربما لأنها عمليّة، وتجد أن مراعاتها لي ستجعلني أعمل بشكل جيد وهذا ينعكس على موقعنا كعائلة.

أقول لكم: أنا أقدر ميمي كثيراً لأنها تخطط بشكل جيد. أعترف بذلك، فهي براغماتية وعملية بشكل صحيح، تعامل المال الذي أجلبه باقتصاد مذهل. وهي التي توجهني وتعلمني الكيفية التي أتعامل بها في الوكالة مع الأميركيين. ومنذ أن تعارفنا في الجامعة ـ كانت فتاة نحيفة، شقراء، ترتدي نظارات طبية، بهرتني ذلك الوقت، لا بجمالها، فقد كان متواضعاً، ولا بذكائها فقد كان متوسطاً، ولكن بعقليتها الأميركية البراغماتية والتي تقدس المصلحة. كانت تقول: ببساطة الحقيقة هو ما ينفعني ويفيدني. هي مصلحتي.

كنت أتفاجأ مثلا وأنا أقرأ الجملة ذاتها لدى فلاسفة كبار. "طالما الحقيقة متكثرة ومتعددة فإن الحقيقة الوحيدة هي التي تخدمني" عند وليم جيمس مثلاً، أو عند جون ديوي. كنت أقول هؤلاء الأميركيون يرضعون البراغماتية من المدرسة ومن التلفزيون ومن السياسية أيضاً، حتى وإن بدوا طيبين وساذجين، وهذا ما أدهشني أيضاً، صحيح إني لا أؤمن بهذه الفكرة على نحو عملي، أو على الأقل في حياتي، ولم أمارسها كما تفعل ميمي مطلقاً، ولكني كنت أعتقد بأني أستفيد منها فائدة كبيرة. أعترف بأني لم أفعلها في حياتي، ربما إلا بزواجي منها، ولكنّي على نحو آخر كنت أشعر بأني مدين لها بأشياء كثيرة.

قلت ذلك الوقت: أوكيه. أذا أردت العيش هنا علي أن أرتبط بامرأة تدمج الحقيقة بالمصلحة! ولأنها بيضاء، أي أميركية أصلية ـ من مدينة صغيرة تدعى آسبن في الغرب الأميركي ـ ترتدي على الدوام الجينز، والكنزة الصوفية، وتناقش بشكل فعال في الشؤون الأميركية، قررت الزواج منها. كان واحداً من دواعي إعجابي بالغرب وهجرتي إليه، هو الجنس بطبيعة الأمر، وهذا رأيي من الأول، إن العالم ينقسم إلى قسمين، أو بلغتي: ينقسم إلى موقعين. الموقع الأول مترف في الجنس، ثري بالأجساد المشتهية، ومستمتع أيضاً. يضعف التابو فيه لأن الجسد طليق وحر وغير معوّق. وهنالك، الموقع الثاني: عالم المجاعات الجنسية من كل نوع.

وحتى حين أردت أحلل موضوع الإرهاب حللته بطريقتي التي لم تعجب رئيسة القسم في الوكالة، حللته كما أراه، ضمن هذه الفكرة التي تستحوذ علي غالباً، وهي فكرة المواقع: قلت لها الغرب مثل امرأة جميلة، طويلة، سوبر سكسي، ثرية أيضاً، وحين لم يستطع هؤلاء الإرهابيون مضاجعتها، قرروا قتلها. الضرب هنا هو نوع من السادية الجنسية صدقيني. إنهم معجبون، ومنتصبون، والتهديم هنا هو نوع من الاغتصاب لا أكثر. ضحكت مني. أدارت ظهرها لي، ومثل أية أميركية متغطرسة خرجت من الغرفة، وأغلقت الباب.

هذا ما كنت أفكر به دائماً، كنت أفكر على الدوام أن ميدان الصراع تغير، ويمكنني أن أرى هذا الأمر بسهولة اليوم، على الأقل من ناحية الشكل، فقد كان الصراع الطبقي وهذا ما كان يفكر به الثوريون عادة يتركز في قضية من يأكل ومن لا يأكل، الفقراء والأثريا يصنفون عادة وفق سلم الحاجات المادية، غير أن الطعام صار أكثر وفرة، البروليتاريا ما عادت هي التي لا تأكل والبورجوازية هم أصحاب الكروش الذين يأكلون كثيراً، بل يمكنك أن ترى أن المعادلة قد تغيرت تماماً:

هنا ينفق البرجوازيون أمولاً طائلة كي يصبحوا نحيفين، أي صورة من صور البروليتاريا الرثة أيام القرن التاسع عشر، ليبدو وسيمين بشكل أكبر، وتصبح جاذبيتهم الجنسية أكثر قوة وفعالية. فكلما كانت أجسادهم صورة من صور المجاعة الضاربة: الوجوه الممصوصة والأضلاع البارزة، كلما كانوا أكثر وسامة وجاذبية جنسية. أما الفقراء هنا فهم يأكلون كثيراً، هم صورة من صور الأثرياء في القرن التاسع عشر، أصحاب الكروش العظيمة أيام كارل ماركس والذين يتنفسون بصعوبة، ومؤخراتهم ترتد إلى الوراء بصورة مشوهة.

ولكن من هي البروليتاريا هذه الأيام:

لقد تحولت البروليتاريا من طبقة إلى شعوب برمتها. هنالك شعوب بروليتارية من ناحية الجنس مثل الشرق الأوسط وبعض الدول في آسيا، وهنالك شعوب برجوازية مثل أميركا وأوربا وبعض دول أفريقيا. وحين جئت إلى أميركا، قلت في نفسي ما الذي يجعلني أعود للتقشف الجنسي والتصحر الطاحن، هناك في بلدي؟ ما الداعي لذلك؟ فلأبقى هنا وأعيش الحياة الأميركية، وباسمي المستعار جورج باركر، أكون قد حققت شيئاً من نفسي، فذكائي وقدراتي لا تتلاءم مع العالم الذي جئت منه. أبداً، أبداً.

الحياة الزوجية

الحياة الزوجية السعيدة ليست على الدوام سعيدة.

هذا ما كنت أقوله مع نفسي. الزواج السعيد جحيم مثل الزواج التعيس وربما أكثر، وحين أضجر من المنزل أخرج مسرعاً، أقول لزوجتي علي أن أذهب للوكالة سريعاً، لأنهم طلبوني هناك ـ أكذب عليها دائماً بهذا الأمر ـ وهي الوسيلة التي أعلل بها هروبي من المنزل حين أشعر بالضجر منها أو من الأولاد، وهي من جانبها لا تأبه لكذباتي التي تكتشفها بسرعة كبيرة أحياناً، ولا تغضب أو تتوتر.

 كنت أقول: الزواج هو الآخر نوع من لعبة مواقع، أنت تتحول من رتبة إلى رتبة أخرى، وفي الرتبة الكثير من التوهمات، والخيالات، والفانطازمات، ولكنك تكتشف حتى لو متأخراً هذا الفراغ، تكتشفه عارياً أمامك ومكشوفاً، ربما تغضّ النظر عنه أول الأمر، ولكنك فيما بعد تستسلم لحالة جديدة تقربك شيئاً فشيئاً من البحث عن تعويض ما، أو البحث عن إكمال نقص ما، أو إشباع رغبة ما. لا يمكنك أبداً أن تنفلت من أسر هذا الشيء، ربما هو شيء بعيد، شيء غريب ومطلوب  تدرك أنه موجود في امرأة أخرى، فجأة تشعر أنت بحاجة إليه وتريده، ولكنه ينفلت من يديك، شيء تريده وترغب به ولا تجده في المرأة التي تعيش معك، لا تجده في الموقع الذي أنت فيه إنما في موقع آخر، في موقع المرأة الأخرى.

 وهكذا تجد نفسك تبحث عن جزء من نفسك في موقع جديد.

 أقول لكم:

 إن العشيقة في واقع الأمر هي الموقع الجديد، الموقع الخفي الذي يقع تحت موقع الزوجة وأحياناً فوقه أو عليه، هو الاستبدال الممكن، هو ممارسة الخيال إلى أقصاه حينما لا يكون الخيال كافياً في موقع الزوجة، وهكذا كنت أقول لا يمكن أن أجد امرأة عملية وبراغماتية وفي الوقت ذاته مثقفة مثل عشيقتي التي سأحدثكم عنها فيما بعد. طيب ولكن ما الذي يجعلني أهرب من موقع الزوجة إلى موقع العشيقة؟

في الواقع كنت أهرب أكثر الأحيان من المنزل، لأن ميمي لا تستطيع أن تضع خطاً فاصلاً بين طبيعة عملي وبين متطلبات العائلة. هكذا كنت أقول في نفسي: يا إلاهي أنا لا أستطيع العمل وسط مشاكل الأولاد وزعيقهم. لا أستطيع الموازنة بين متطلبات العائلة الأميركية ونوعية المشاكل التي تحدث في الشرق الأوسط، والتي أجهد نفسي كي أوفر عنها المعلومات والتقارير والمفردات.

صورة حقيقية من حياتي

أعطيكم صورة حقيقية عن حياتي، صورة حقيقية وليست متوهمة أبداً، وأرجو أن تصدقوني في الأمثلة حتى لو كانت غريبة بعض الشيء، فما أفعله من خلالها هو أن أقرب لكم الصورة لا أريد أصدمكم أو أدهشكم: مثلاً، الجيش العراقي يهاجم الكويت، أو قوات الحلفاء تهاجم بغداد وتهدمها، أو إسرائيل تجتاح بيروت، أو أسعار النفط ترتفع فجأة، أو يحدث انقلاب، أو شخصية سياسية تغتالها فئة مجهولة، وبين أن أبحث عن المعلومات وأطور الأفكار حولها وأحللها، تدخل زوجتي المكتب وتطلب مني أن أذهب معهم في رحلة إلى ولاية أخرى، أو تقول لي أن كاتي وسام يريداني أن أصحبهما إلى الدزني لاند. أرتبك لأني أشعر على الدوام أن هنالك فارقاً كبيراً بين عالمين مختلفين تماماً، هذا عالم وذاك عالم آخر، لا أتحدث فقط عن العمل، إنما أتحدث عن الفضاء، أتحدث عن المجال الذي تحدث فيه أشياء متقاربة، وهذا ما كنت أقوله في نفسي دائماً: إن الموقع الذي أحدثكم عنه وهو الذي أفكر به على الدوام في حياتي، هو ليس فقط رتبة ووظيفة وزوجة وبلد وأشياء مادية وملموسة فقط، إنما هو فضاء، إكسسوارات لازمة، وخيالات، وإضافات معنوية وروحية، وأشكال عديدة تشكله، وكنت أشعر بأني بحاجة دائمة إلى أجواء وفضاءات قريبة من المنطقة التي أعمل عليها، كنت بحاجة إلى إكسسوارات قريبة من أجواء عملي وفضاءاته، غير أن هذه الطلبات الأميركية ـ عفواً لهذا التعبير ـ بعيدة تماما عن الأجواء والحياة الشرق أوسطية.

في الواقع هذا ما يجب أن أذكّر به دوماً: إن متطلبات الأولاد بعيدة كل البعد سواء في نظام التفكير أو المعاناة عن تلك التي تحدث هناك. لو كنت متخصصاً بالشؤون الأميركية، مثلاً، فلن أجد تناقضاً كبيراً بين انتخابات الكونغرس والذهاب إلى الدزني لاند. ولكن بين ضرب قوات الحلفاء لمدينة بغداد وبين ذهابي إلى الدزني لاند تناقض كبير.  في البداية قلت: سيكبر الأولاد وأتخلص من مسؤلياتهم، وستكبر ماري وتصبح أكثر بدانة وأتخلص من مسؤلياتي تجاهها، وسأكبر أنا في الوكالة وتقل مسؤلياتي، ولكني كنت على خطأ كبير.

 فقد كبر الأولاد، غير أن المشاكل والطلبات في تزايد مستمرين. وكبرت ماري وأصبحت أكثر بدانة غير أنها تعلقت بي بشكل أكبر من قبل بكثير. أما الوكالة فأمرها أكثر تعقيداً بطبيعة الأمر من قبل، فقد ازدادت المشاكل في الشرق الأوسط، وزادت الحاجة لي بشكل كبير.

*

كنت أحاول أن أبقى ساعات طويلة، ممداً على الصوفا، وعيناي مصوبتان نحو الثريا الكرستالية المتدلية من السقف، كأنني في فيلم روسي ـ كانت زوجتي الأميركية فيما مضى صديقة لفنان روسي وقد تأثرت به كثيراً، وصنعت أثاث المنزل كما لو كنا في بطرسبرغ في القرن التاسع عشر ـ أو أجلس في مغطس الحمام وأنا أرقب انقشاع بخار الماء الساخن، ومن ثم تحوله إلى قطرات دقيقة تنساب على طول الجدران. أو أن أنظر إلى حائط الحجرة المملوء بالصور وكأني في بطرسبورغ القرن التاسع عشر، أو أرقب عبر النافذة الكبيرة الأشكال المتعددة التي يصنعها الطير على الشجر، أو إلى مياه المطر التي تتجمع في الحفر.

موقع معقد

هل وضعك هنا معقد. قالت صديقتي البولونية التي أخفي علاقتي معها عن زوجتي. قلت لها لا ولكني أشعر أحياناً بأني مرتبك. كنت شربت كأسي مع فيرسلوفا ـ كنت أسميها فيفي للاختصار أيضاً ـ في مقهى لافيلا في المدلاند آفنيو، وعدت على عجل إلى ضاحية سوهو، الدرب السادس، جنوب هودسون حيث يقع منزلي، أول ما دخلت الصالة، خلعت جاكتتي ورميتها على الكرسي، ثم جلست على الصوفا أمام شاشة التلفزيون، كانت إحدى المحطات التلفزيونية قد أعدت مقابلة مطولة معي قبل يومين، وعلي أن أراها في الساعة الخامسة مساء، كانت أحداثاً عاصفة في العراق: القوات الأميركية في ساحة الفردوس، وبعض صور القتلى في كل مكان، والسلب والنهب يعم البلاد والقوات الأميركية لا تفعل شيئاً. لقد قلت لهم في المقابلة لا يمكن ترك الحدود مفتوحة. يجب الحفاظ على المؤسسات. وحذرت من أشياء كثيرة كانت قد فاقمت الأوضاع السياسية فيما بعد. كنت جالساً على الصوفا أرقب المقابلة وأنا منفعل جداً ذلك اليوم، وابني سام يجلس إلى جانبي بيده الموبايل ويبعث المسجات إلى المحطات. كنت أحلل ما هي ستراتيجية الجيش الأميركي وما كان عليه أن يفعل في بغداد، وكانت عيناي تذهبان رغما عني كي أقرأ في المانشيت الصغير الذي يسير أسفل الشاشة رسائل سام القصيرة التي يبعثها من الموبايل الذي بيده إلى المحطة:

فاك يو جيني. آم سام. يو هاف تو كس يور آس.

ثم نهض من المكان وذهب إلى حجرته وفتح المسجلة على أعلى صوتها ليسمع أغنية لجيمي هاندركس.

هوية وهوى

أنا رجل قديم، قادم من الشرق الأوسط، أعيش هنا في نيويورك، متزوج من امرأة أميركية، وأخونها مع مهاجرة بولونية، ولدي أولاد أميركيون طيبون، لا يعرفون شيئاً عن الشرق الأوسط ومشاكله، كنت مؤمناً باليسار، وبالحركات الثورية، ومتعاطفاً مع القضية الفلسطينية ومع الاستقلال، وأعمل في مؤسسة أميركية يملكها مردوخ، أكبر كارتل صحافي هنا في الغرب. أنا يساري من الداخل ولكني مؤمن بالديمقراطية وبحقوق الإنسان مثل أكثر الغربيين، يميني في الوكالة ومنفتح مع عائلتي جداً، لم أكن يوماً ضد الحداثة أو معادياً للغرب، كنت أقول في نفسي لم يكن ليو شتراوس على خطأ أبداً، لم يكن مخطئاً حين قال أن الديمقراطية يمكن تعميمها على العالم كله بالقوة.

درست في جامعة شيكاغو، قرأت ليو شتراوس ومايكل ليدن وكل منظري المحافظين الجدد، وأنا مؤمن بكل ما كتبوه، وقد قلت لمديري في الوكالة، وهو من أصل ألماني طبعاً:

ـ نعم! الديمقراطية يجب تعميمها بالقوة. ربما لا يمكننا أن نجعلها مثل الماء والهواء، ربما لا يمكننا أن نفصلها على مقاسنا ونبيعها هنا وهناك بأبخس الأثمان، ربما لا نستطيع أن نجعلها مثل بنطلون الجينز، وإن كان أميركي الصنع ولكننا عمّمناه على العالم بصورة شاملة، عممناه إلى درجة أن أصبح اليوم موضة شائعة في كل مكان. قلت لهم:

علينا أن ندرك الفرق. فهنالك فرق كبير بين نظام الزي ونظام السياسة، فالديموقراطية لن تصبح مثل الماكدونالد التي أصبحت أكلة شعبية في الصين، أليس كذلك؟ ومع أن الكثير من قيمنا ـ هذا التعبير أميركي صرف ـ تغزو العالم، أليس كذلك؟ ولكن أمر الديمقراطية أمر مختلف، الديمقراطية مختلفة بطبيعة الأمر.

مختلفة. نعم..نعم. ربما تحتاج إلى أن نفرضها في البداية بالقوة، سنفرضها على الناس رغماً عنهم، ولكنها سرعان ما ستصبح مرغوبة ومشتهاة من قبل كل الناس..ستصبح أمراً واقعاً، تصبح عادة مثل أية عادة أخرى، ولا يمكن للناس الاستغناء عنها، إن من يعيش في داخلها فترة طويلة لا يمكنه أن يتخلى عنها ببساطة، إنها الصحيح، والصحيح وحده الذي يدوم.

قلت مرة لصديقتي البولونية: نعم يمكننا فرضها بالقوة، ما الداعي أن نخاف من تغيير العالم، ليتغير العالم، لتتغير كل الأنظمة السياسية على الأرض. لم لا. ما الضرر في هذا، ما الضرر قولي لي؟ وشرحت لها الأمر هكذا: كانت أميركا تدعم الدكتاتوريات في العالم العربي بسبب الحرب الباردة، كنا نسميها المتغيرات السياسية في الوكالة، هذا لايعني أننا كنا نؤمن بشكل عام بهذه الأنظمة، لأنها مختلفة تماماً عن نظامنا وقيمنا ـ لاحظوا أنا أستخدم التعبيرات الأميركية بوصفي أميركياً ـ هل فهمتِ يا فيفي ما أقوله. ولكنها المصالح، اليوم نريد من أميركا أن تكون أميركا المبادئ. ما الضرر قولي لي؟

قالت صديقتي بامتعاض ظاهر: كانوا يدعمونها كي لا يصل الشيوعيون إلى الحكم حتى لو أرادتهم شعوبهم عبر الانتخابات.

بالمناسبة كانت فيفي تكره الشيوعية جداً، بسبب عيشها طويلاً تحت نظام شمولي في وارشو. حسن هذا أمر معروف لكل واحد منا، ولكن أميركا تغيرت هذه الأيام، أميركا ما عادت ذاتها أميركا أيام الحرب الباردة. أميركا تغيرت بسب المحافظين الجدد ـ بالمناسبة كان معظمهم من التروتسكيين ـ لتكن الديمقراطية الدائمة هي الثورة الدائمة. قلت لها ذلك وأنا متمدد عارياً على السرير في شقتها. بينما نهضت هي من الفراش لترتدي كالسونها المرمي على الأرض. أشعلت سيجارتها وذهبت لتصبَّ لنا كأسين من الويسكي. قدمت لي كأساً وأخذت تنظر من النافذة وهي تدخن سيجارتها، وتشرب من كأسها.

هل تعتقد أن أميركا اليوم تؤمن بأن الديمقراطية هي الحل، ويجب فرضها بالقوة، قالت لي.

نعم نعم ما الضرر حبيبتي؟ ما الضرر في ذلك؟ قلت لها هذه الجملة وأنا أحدق بجسدها الفتي. وهي واقفة شبه عارية قرب النافذة، وفي يدها كأسها. كم أحبّ أن أناقش فيفي في السياسة وأنا أحدّق في شعرها، أحدق في لونه الكستنائي الداكن، وفي خصلاته المنسابة على الكتفين، وفي ألوان جسدها المتدرجة. أحدثها عن المحافظين الجدد، وأنا مسكون ومخدر برؤية جسدها البضّ، برؤية شعرها المنفلت والطليق والذي يتطاير مع أية نسمة تهب. في الواقع كنت أحصل على أعظم نشوة وأنا أتحدث معها، أتحدث معها بينما عيناي تحدقان بجسدها. كنت أنظر بوله طاغ إلى صدرها، إلى انحناءة ردفيها الجميلين. أتحدث معها عن كتابات برنارد لويس وفؤاد عجمي وكنعان مكية وأنا متمدد على السرير شبه عار على مسافة منها، كنت أتنشق عبير عطرها الذي تعبق به الغرفة كلها، أتنشق هذا العبير الذي يعمل على إثارتي مجدداً، مرة بعد مرة. كنت أشعر بالنشوة وأنا أحدثها عن العراق وهي خارجة من الحمام عارية، مضوعة رائحة الشامبو في الغرفة، أو وهي تسير على البلاط بقدميها الصغيرتين الحافيتين اللتين لم تكن أصابعها مصبوغة بطلاء الأظافر أبداً.

 أتكلم عن المحافظين الجدد وأنا أحدق بشعرها المبلل المنسدل على كتفيها، مفترشاً ظهرها.

المحافظون الجدد هم ثوار العصر الجديد بعد أن تقاعد الثوار وجلسوا في المقاهي حبيبتي. لم تعد الثورة هذا الحيوان الهائج الذي يجرف العالم كله نحو التغيير أبداً. ما عاد الثوار في المواقع والخنادق يرفعون أسلحتهم ويطالبون بالتغيير. لقد استسلم العالم كليا أتعرفين. هل يوجد اليوم  جيفارا مثلاً. هل هناك هوشي منه. هل هناك باتريس لومومبا كي يدوخ العالم. الثوار الآن يدخنون في المقاهي. ويشربون البيرة في البارات ويتذكرون أيام النضال التي غادرت ولن تعود. لقد أنهينا ـ أقصد نحن الأميركيين ـ الثورة في العالم دون أن نطلق طلقة واحدة.

وقفت فيفي عند النافذة. رفعت قدمها قليلاً فلمحت انحناءة أحد ردفيها، رفعت قدمها وهي تحدثني عن نهاية التاريخ. أو صراع الحضارات ـ الموضوعات المفضلة لدى المثقفين بعد نهاية الحرب الباردة ـ ثم مدت يدها وتناولت علبة سكائرها والقداحة، تكلمت بصوت مبحوح، وتحركت قليلاً فتمكنت من رؤية منحنيات ردفيها بالكامل. ثم بدأت تتحدث وأنا على درجة شديدة من الإثارة إلى حد أني ظننت إني سأقذف أمامها، أشعلت سيجارتها كما لو كانت تؤدي طقساً من الطقوس. ناولتني واحدة وجعلتني أدخن، وأنا أراقبها: نهداها الصغيران اللذان لم يريا حمالة أبداً لم يكونا كبيرين جداً، لكنهما كانا يتأرجحان على نحو يسيّل اللعاب، هالتان داكنتان، وحلمتان مدببتان. وهي تقف عند النافذة مستمرة في شرب كأسها. وأنا مستمر في الحديث: إنه متغير سياسي يجب قبوله والإيمان به ـ أبلع ريقي وأنا أنظر إليها ـ الثورة اليوم. نحن الذين نقودها. بول وولووفتز هو جيفارا من دون لحية. زلماي خليل زاده هو هوشي منه من دون صلعة لامعة. عالم متغير حبيبتي. أنت تتكلمين عن أميركا قديمة. كان ذلك أيام زمان، أميركا اليوم هي أميركا المبادئ. أميركا اليوم هي التي تقود الثورة صدقيني. هذا العالم لا يمكنه أن يعيش دون ثورة. هذا العالم لن يستمر دون ثوار. تدير لي ظهرها العاري الذي تخلبني انحناءاته، شعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها، مؤخرتها الصغيرة تبرز بشكل شهوي، ترفع كأسها إلى فمها بهدوء، وترمقني أحياناً بعينيها الزرقاوين الذكيتين من وقت إلى وقت وهي تردّ على تساؤلاتي.

يا إلاهي ليس هنالك ما هو أعظم من أن أكون ممدداً على السرير شبه عارٍ في شقة فيفي. لا لأني سأطور أفكاري فقط، إنما أشعر بأني نجوت من عالم أسود كان يمكنه أن يبتلعني، هناك، في الشرق الأوسط، ويخفيني، كنت أشعر بالراحة التامة معها، وحتى في شقتها التي لا يوجد فيها إلا القليل من الأشياء:

 أبجوران جميلان. جدران بيض. طاولة خشبية. كرسيان. فراش. ومغطس في الحمام. إنها حميمية إلى حد كبير. كل شيء محسوب وموضوع في مكانه. لا وجود لشيء زائد إطلاقاً. لا وجود لمؤن كثيرة لخوفها من أن يبقى منها شيئ في الثلاجة التي ينبغي أن تكون شبه فارغة. مثلها مثل جرارات كومودينها، وأرفف خزاناتها، ومكتبتها، وصفحات ألبومات صورها. لا وجود للصور البالية التي تملأ منزل ميمي، والزهور، والكنبات الخشبية الثقيلة في وطن الأثرة الأميركي.

زوجتي ميمي أميركية تحب أن ترى الأشياء في المنزل متراكمة على بعضها، كل ما تراه في الإعلان تنقله في اليوم التالي إلى منزلي، وعلي أن أتعود على الحاجة الجديدة المنقولة هنا، وبعد أن أتعود عليها أجدها في الزبالة بعد مدة، ليحل محلها شيء آخر، وعلي أن أتعود على رؤية الحاجة الجديدة في المنزل..وهكذا، شيء لا يمكن احتماله، شيء أكبر من طاقتي لتحمله، لذلك أجد نفسي مرتاحاً جداً في منزل فيفي الصغير والفقير والمتواضع.

فيفي موقع آخر، غير موقع ميمي. وإن كان موقع ميمي مهماً جداً لمهاجر جاء من الشرق الأوسط إلى أميركا، موقع ميمي كان مهماً  ـ ركزوا على كلمة كان ـ لمهاجر يصل إلى عالم، هو غير عالمه تماماً.

مهاجر لم يجد لإدامة حياته واستمرارها في هذا المكان، غير اكتشاف كل شيء. كنت أكتشف كل شيء وحدي، كنت أكتشف حسب الصدفة الشخصيات التي كنت أحتاج إلى معرفتها، والجمل المهمة التي في الكتب، وموسيقى الإسطوانات التي تجعل مني شخصاً مندمجاً، وصور الممثلين في السينما (الشيء الضروري والمكمل لمثقف يعيش في أميركا)، بل وحتى طعم الجاتوهات كان عليّ أن أتعرف عليها وحدي، مثلها مثل كل أنواع النبيذ التي كان علي أن أحتسيها في الحفلات والدعوات وإن لم تكن كثيرة في أميركا.

ولكن بعد أن تعرفت على ميمي صارت حياتي أسهل بكثير، صار هذا العالم الذي كنت أحلم بالتعرف عليه موجوداً في منزلي وتحت تصرفي، أصبح هذا العالم قريباً مني وفي متناولي..لقد تعرفت على الحياة الأميركية من خلال ميمي، كانت مهمة لي وأنا كنت محتاجاً لها، كنت محتاجاً لموقعها ومعرفة كل شيء في هذا الموقع، كنت محتاجاً لها لأنني عن طريقها سأتعرف على الكائنات الأميركية التي هي من لحم ودم، أعرف ما هي وما تكون، كنت محتاجاً لأن أعرف تناقضاتها وانفعالاتها، معرفة أمة بأكملها-صدقوني- لا تتمّ إلا على السرير.

أنت لن تتعرف على شعب مطلقاً، وتكون واحداً منه، إلا بعد أن تطرح إحدى نسائه على سريرك. صدقوني أتكلم عن تجربة. بعد أن تعيش معها وتتعرف على جسدها وانفعالاتها وحياتها، ستتعرف على أمة ربت وعلّمت وشكّلت وكوّنت. ولذلك حين كنت أذهب للوكالة كنت أدرك انفعالات الشخصيات بسهولة، وأعرف ردود أفعالها بسرعة، ويمكنني أن أحزر نواياها أيضاً. يكفي مقاربتها من ميمي كي أمسك بمنطقها مهما كان تعقيدها واختلافها.

موقع فيفي، ماهو؟

أما موقع فيفي فهو الآخر كان مهماً في حياتي. كان الحديث معها والنقاش اليومي يجعلني أميز جيداً بين الواقع واللاواقع، بين الحقيقة والوهم، بين الذكرى والاختلاق. كانت حجرتها هي محترفي الوحيد والرائع، والذي أجرب فيه كل أفكاري، كنت أجد نفسي معها في مجال مفتوح على تجريب كل الاحتمالات، وكانت شخصيتها، بطبيعة الحال، وتجربتها في بلد من حيث النظام السياسي قريب إلى بلدي يجعلنا نتقاسم التجربة ذاتها والأفكار نفسها. وهنالك طبعاً ما نشعر به من حرمان وعدم رضا، كمهاجرين في أميركا.

وهكذا كنت أجد أن نقاشي الدائم معها هو الذي يجعلني أطور أفكاري، هو الذي يعمق تحليلاتي، وأنا من جانبي كنت أطلعها على كل الأبحاث والدراسات التي أكتبها. بينما زوجتي ميمي لا يهمها أمر عملي بتاتاً، ومن حسن الحظ أن لي فيفي، ربما كان اختياري موفقاً لأنها هي أيضاً قد عاشت أكثر حياتها تحت نظام شمولي، وتعرف ما يحدث في البلاد التي جئت منها، في حين كانت زوجتي ميمي أميركية تافهة، وعفواً من هذا الاستخدام، أقول تافهة لأنها لا تفهم ما يحدث وغير قادرة على فهمه أيضاً، وأنا أعترف أنني في كلا الاختيارين كنت موفقاً، فقد اخترت ميمي في أعوام شبابي الأول؛ وقد علمتني الحياة الأميركية التي كنت بحاجة ماسة لها، واخترت فيفي في أوج عملي لأن لها أفكار سياسية، وتحليلات ممتازة، قد أفادتني كثيراً في عملي في الوكالة.

كانت فكرة سفري إلى أفريقيا مثيرة لصديقتي البولونية لأنها تحمل مدلولين متعارضين، ومتشابهين في آن واحد. والفكرة كانت مثيرة لزوجتي لأني سأكسب من وراء هذا التقرير الكثير من المال، لنتدبر به زواج كاتي وطلبات سام الكثيرة والمتنوعة. والفكرة كانت مثير للوكالة أيضاً من باب اهتمامهم بتاريخ الشرق الأوسط، وتلك الحقبة بالذات. ونسبة لي فضلاً عن كل الأسباب التي ذكرتها، كان سفري إلى أفريقيا أمراً عظيماً بعد أن تعفنت طويلاً في الوكالة محللاً باسم مستعار، بعد أن عشت خمسة وعشرين عاماً بوصفي مهاجراً خائفاً من بلاده القديمة، غير مطمئن لبلاده الجديدة، يقف بقدمين خائرتين، واحدة هنا وواحدة هناك، دكتاتورية في البلد البعيد، ومصالح متغيرة في البلد الجديد. مهما تفعل، مهما تقول، ينظرون لك بوصفك كاتباً منحازاً، حتى لو أظهرت بجلاء قرفك من جمهورية الخوف ـ الاسم الذي استخدمه كنعان مكية لوصف البلاد التي جئت منها ـ وبالرغم من فرحة زوجتي الظاهرة إلا أنها أظهرت قلقاً خفياً، ولا سيما بعد مزاح كيتي اللعينة معي، حين قالت لي وعلى مسمع أمها: حسناً دادي. اذهب إلى أفريقيا. واجلب لنا المال، ولكن حذار أن تجلب معك الإيدز.

*

كانت الفكرة والموضوع الذين سأذهب من أجلهما مثيرتين حقاً لا بذاتهما فقط، إنما وبعد هذه السنوات الطوال التي عشتها متغرباً، بعد السنوات الطوال من الدراسة والعمل، أجد نفسي للمرة الأولى وقد أصبحت قادراً على لقاء العراقيين هنا في أميركا، والحديث معهم عن تأريخي وحياتي. وهذه المرة الأولى التي ألتقي بها بهؤلاء الناس باسمي الحقيقي، وليس باسمي المستعار، للمرة الأولى أسترد الإسم القديم، وأخفي الاسم المستعار والذي استخدمته في الكتابة والعمل على مدى عشرين عاماً في الوكالة. يمكنني أن أقول بأنني للمرة الأولى التي أسترد فيها هويتي التي أخفيتها طويلاً عن رجال ونساء بلدي، لقد وجدت فجأة الهوية الخفية وقد عادت لي، لقد وجدت الشخصين المنفصمين للمرة الأولى وقد تطابقا، وجهي الذي أخفيته طويلاً عاد لي. وملامحي التي ذابت واضمحلت قد تكونت من جديد، وها أنا أسير بثقة وألتقي الناس دون خوف، أو رعب كما كنت أفعل من قبل.

*

في البداية، ومن أجل أن أجمع المعلومات والصور والوثائق عن الثوار، كان علي أن ألتقي بمجموعة من الأشخاص هنا في أميركا، وبدأت بجدول عمل، وبمجموعة من الخطوات التي كان علي اتباعها حتى أصل إلى أفضل صورة عن هؤلاء المعنيين بالتقرير. طبعاً كان علي أولاً قراءة مجموعة من الكتب الموضوعة حول هذا الموضوع، غير أني وجدت فيها الكثير من المبالغات، فعدت إلى  بعض الصحف التي نقلت المعلومات عنهم ذلك الوقت، وجدتها هي الأخرى ملأى بالزيف. ثم عمدت إلى قراءة بعض التقارير الاستخبارية عنهم، ومن ثم جمع الشهادات والمعلومات الأخرى مثل الصور والشهادات. وقبلها كنت كتبت إعلاناً في الصحف، واتصلت ببعض المهتمين بهذه المواضيع، وببعض بائعي المعلومات، وهؤلاء مهمون جداً، كيف؟

في الواقع هنالك مجموعة من الشهود الذين يعرفون الكثير من المعلومات، بعضهم من السجناء السياسيين، والبعض الآخر من الجلادين، أي من ضباط الأمن والمخابرات الذين أفادوا من قوانين أوربا ولجأوا إليها، وهؤلاء يمتلكون الكثير من المعلومات حول هذه الأحداث وهم مستعدون لبيعها، شرط أن لا تذكر أسماءهم، إنهم يعيشون اليوم جنباً إلى جنب ضحاياهم، وربما في العمارة ذاتها دون أن يتعرف بعضهم إلى بعض، وكنت أحياناً أذهب للعمارة ذاتها التي أقابل فيها عائلتين، واحدة كان أحد أفرادها في حرب العصابات من الشيوعيين، والعائلة الأخرى كان أحد أعضائها من رجال الأمن من البعثيين.

وفي بغداد كلفنا أحد المراسلين أن يشتري لنا بعض الوثائق المهمة والخطيرة من السوق، فهذا الأمر أصبح معروفاً جداً هذه الأيام. فيمكن لأي شخص أن يشتري الوثائق السياسية في بغداد كما يشتري الخيار والطماطم من السوق. فهذا البلد الذي كان بوليسياً يوماً ما، ويتصف بندرة المعلومات عنه، أصبحت وثائقه وتاريخه معروضة للبيع في السوق بعد احتلاله وسقوط نظامه. وقلت لا بأس طالما هذا الأمر يفيدني في موضوعي، ومع إني لم استفد كثيراً لا من الوثائق ولا من الأشخاص الذين التقيت بهم في أميركا لأسباب عديدة. منها: أن الوثائق أكثرها مزيفة. أما الأشخاص الذين التقيت بهم فهم يدعون أشياء لم يفعلوها. غريب أمر الثوار، ما أن تنتهي الثورة بهزيمتهم، حتى يبدأ كل واحد منهم بتسطير بطولات وهمية عن نفسه لا مثيل لها، وأنت تسأل:

لو كانت كل هذه البطولات حقيقية، إذن كيف فشلت الثورة؟

*

أكثر المنفيين هنا هم من أنصار الشيوعية القديمة الذين أطاح البعثيون بهم بمساعدة الأميركان في السبعينيات. أما المنفيون الجدد فهم البعثيون الذين أطاح بهم الأميركان بمساعدة الشيوعيين الذين لجأوا إلى أميركا أواخر السبعينيات وأصبحوا أميركان.

قلت في نفسي: الرأسماليون الجدد هم الشيوعيون القدماء وهم الذين أطاحوا بالرأسماليين القدماء "أقصد البعثيين الهاربين بعد الاحتلال". الرأسماليون الجدد هم الذين قاتلوا في حرب العصابات في الجبال شمال العراق، وفي الأهوار في الجنوب، وكانوا أتباع جيفارا وهوشي منه وتروتسكي فيما مضى، وهم أتباع ليو شتراوس ومايكل ليدن ووليام كريستول اليوم.

الرأسماليون القدماء (البعثيون الهاربون إلى أميركا وأوربا بعد الإطاحة بصدام) أصبحوا هم الثوار الجدد في العالم، بل أصبحوا هم مقاومو الإمبريالية والرأسمالية العتيدة، هم الثوار بعد خدمة خمسة وثلاثين عاماً في خدمة الإمبريالية المتوحشة من أجل الإطاحة بالشيوعية القديمة. وهم اليوم أتباع جيفارا وهوشي منه. عجيب أمر الثورات في العراق. صورة ليست مقلوبة تماماً، صورة هؤلاء الثوار المتقاعدين والذين يحبون الجلوس في المقاهي. والحديث الدائم عن بطولات لم يبق منها أي شيء اليوم.

شخصيات ثائرة في أفريقيا

من كل هذه المقابلات التي أجريتها مع ثوار متقاعدين التقيت بهم هنا في أميركا وأوربا، ومن كل الوثائق التي وصلتني، أو التي حصلت عليها من العراق. أو الوثائق التي حصلت عليها عن طريق الوكالة، هنالك ثلاث شخصيات ركزت عليها قبل الرحيل إلى أفريقيا، الشخصية الأولى، هي:

الصحفي جبر سالم: ثوري معروف، كان يعمل صحفياً بالقطعة، جاء من الناصرية إلى بغداد في الستينيات، وقطن في حجرة قذرة في البتاوين وسط العاصمة، وكل الوثائق التي بين يديّ تعرفه بأنه ثوري نادر.

 الشخصية الثانية هو أحمد سعيد:  ثوري عقائدي، عاش طفولته وشبابه في بغداد، ثم التحق بالثورة الشيوعية في الأهوار، وقد شارك في حرب العصابات في الجبال أيضاً، ثم انتقل إلى بيروت بعد أن أطاح البعثيون بالثورة (بمساعدة الأميركان طبعاً) ثم انتقل إلى أديس أبابا بعد صعود الضابط الشيوعي منغستو إلى السلطة في أثيوبيا.

الشخصية الثالثة هي ميسون عبد الله التي أحبها أحمد سعيد ورافقته في مسيرته النضالية، من الأوكار الحزبية إلى حرب العصابات، واشتهرت بمقاومتها الضارية للبعثيين في ذلك الوقت، وكسجينة سياسية عانت من أكثر صنوف التعذيب شراسة ووحشية.

*

طبعاً في البداية بهرني هذا الصحفي الذي قرأت عنه في الوكالة تقارير متعددة، متناقضة بعض الأحيان، لكني انسحرت بجرأته، وانجذبت شيئاً فشيئاً إلى روحه الثورية، أما محاولاتي العديدة لكتابة تقرير شامل عنه فقد باءت بالفشل، لتناقض التواريخ، وتناقض الروايات وتقاطع المصائر، ومع ذلك هنالك ملاحظات أساسية يمكن إجمالها عنه، وقد دونتها على شكل جمل متقطعة في دفتري، أهمها أنه وصل أديس أبابا وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، رافق الثوار كثيراً في المواضع، له أسلوب خلاب في كتابة التقارير عن ذلك الوقت. وسجلت ملاحظات كثيرة عنه، وجدتها متناثرة في الصحف والمجلات، مكتوبة بطريقة أدبية محضة. مثلاً:

"الثوري الحقيقي لا تطيح به الشهرة، ولا يفت العمر من ثوريته" ما معنى هذا الكلام؟

"حتى لو أصبح الآن في الستين، لم يتوقف قلمه لحظة واحدة عن الكتابة، فاتحاً ذراعيه أمام حياة يتقزز منها ويلتهمها، حياة ملؤها الفشل والصخب والهزيمة والفرح، يعيش على أمل الثورة وتحققها". جمل أدبية جميلة!

إحدى الوثائق تصف تقاريره الصحفية التي كان يكتبها من خنادق الثورة في أفريقيا: "تقاريره عن الثورة لا تنجو أكثر الأحيان من الانحياز". وهذا أمر ستواجهه حتما مع كل الصحفيين الثوريين الذين كتبوا عن الثورات والثوار بدءاً من (عشرة أيام هزت العالم) الذي يحكي قصة الثورة الروسية. وانتهاء بكتاب (ثورة في الثورة) لريجيس دوبريه. بينما يصفه أحد الكتاب بالجمل القصيرة التالية: "الكاتب النادر هو ثوري في الحقيقة، الثورة ليست درباً للأسى، حتى لو كانت فاشلة، قصة حب جديرة بالذكر في الخنادق الكثيرة التي عاش فيها، وهي كافية لتدلل على شخصية فذة."

هكذا كان يمكنني أن أتابع طريقه ومسيرته مع الثورة:

 من العمل الشاق في الحركة السرية الثورية في بغداد حيث كان يجلس في مقهى المعقدين ومقهى البرلمان، إلى بيروت حيث عمل مع الثورة الفلسطينية، ثم التحول الشديد، والذي يشبه انكساراً أول الأمر في مسيرته الثورية. جملة عارضة سجلتها من مجلة الطريق وهي مجلة شيوعية تصدر في لبنان: "أحمد سعيد وصل إلى أديس أبابا بسرعة. أما الصحفي جبر سالم فقد التحق بوكالة أجنبية في بيروت أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، وأخيراً تعرف على صحفية شيوعية من أديس أبابا تدعى سوسينا." ثم تابعت تقارير متعددة عن هذه المرحلة فعرفت أن سوسينا هي التي مدته بالمعلومات عن الثوار العراقيين، وهي التي رتبت له الاتصال معهم. ثم سافر إلى أفريقيا والتقى بهم.

صورة الثوري في شبابه

صورة الثوري في شبابه منقولة عبر بلاغة رائعة وملهمة، وهذا ما أحببته في كل تلك الأشياء المذكورة عنهم، كنت منسحراً بهذه اللغة التي تصفهم، وتصف حياتهم:

"لقد عاش الصحفي المغامر حياة الثوار في الأوكار السرية والمعسكرات. وغطى أكثر المعارك ضراوة في أفريقيا ذلك الوقت. وهو يعيش الآن في أديس أبابا."

الوثائق تتراكم دون شك. ولكن هذه الوثائق تذكر، في أكثر الأحيان، الأفكار ذاتها، والعبارات نفسها. وفي أحيان قليلة جداً أعثر على أشياء جديدة غير مذكورة من قبل. ومع ذلك كنت أقرأ أحياناً وثائق فيها معلومات عن ثوريين آخرين، ومن وقت لوقت كنت أتعرف على طائفة كبيرة من الثوريين الجدد، وما هو مهم في تطور المعلومات هو حصولي على تقرير نادر يصف بدقة تعارف هذا الصحفي الذي انسحر بريجيس دوبريه على الثوري أحمد سعيد الذي تأثر بجيفارا: كان هذا الصحفي (يقصدون جبر سالم) قد آمن بالثوري أحمد سعيد، لماذا؟ كان نسبة له جيفارا العصر العربي. وبما أنه كان متأثراً بشخصية الصحفي الفرنسي ريجيس دوبريه، وقد قرأ كتبه في بغداد، فقد رحل وراءه ـ وراء أحمد سعيد ـ إلى كل مكان، لكي ينقل وقائع الثورة. تصف إحدى الوثائق، لحظة التعرف عليه: صرخ في وجهه: (جبر أنا أختلف معك في بعض الأفكار. ومع ذلك أوافق على أن ترافقني في المعارك). وهكذا حين بدأت بالبحث عن هؤلاء الثوار، كنت بحثت عن المعلومات والوثائق التي تخص حياتهم، ونشأتهم في مدنهم، ومن خلال معايشتهم لجيلهم، وتربيتهم من قبل أهلهم، وطبيعة مهنهم، وحياتهم مع أصدقائهم، كي أستجلي من وحي وجودهم وكينونتهم، العبقرية الثورية التي جعلتهم فيما بعد صامدين هناك، في أفريقيا. وكنت أتساءل على الدوام كيف قادوا تلك الأيام حرب العصابات ضد الحكومة في الأهوار؟ عمل عظيم. ذلك الذي قادهم إلى فكرة الثورة.

عمل عظيم أن نسمع النشيد الأممي الذي يصعد إلى السماء مع طيور السمان التي تدور على أعلامهم التي ترفرف. وعلى دخان سمك الشبوط الذي يشوونه غداء للثوار. وعلى صوت البنادق الروسية الصنع، وتكتكات الطابعات التي تطبع المنشورات. عمل عظيم أن نسمع النشيد الأممي وهو يصدح من حناجرهم إلى أعلى. وفي دمهم تصعد فورة الأخوة في النضال. هذا الرباط المقدس الذي جعلهم ينتصرون على القوات الحكومية. في الأيام الأولى على الأقل. أدهشتني هذه المعلومة:

لقد أسقطوا طائرة هليكوبتر حكومية بأسلحة بدائية، وربما ببندقية بسيطة. وكانوا قد أسروا الكثير من الضباط والجنود وعاملوهم معاملة الأسرى. بل هنالك العديد من الأساطير حول بطولاتهم وحياتهم.

*

عُرف أحمد سعيد، أثناء شبابه كشاعر، لديه محاولات أدبية عديدة سرعان ما طورها ونشر العديد منها في الصحف المحلية، وقد كانت حياته ومغامراته في تلك الفترة مثيرة حقاً ـ ربما تحولت على يد رواة حياته الى نوع من الأسطورة البوهيمية الخاصة عن حياة ابن الشارع الذي عاش حياة العالم السفلي وعبثية الحياة بكل عنفها، وسخونتها ـ حياة ابن الشارع الذي لا يعرف الثقافة إلا عراكاً متصلاً مع الحياة، وربما تقبل مصيره في البداية بقدرية كاملة، إلا أنه سرعان ما تمرد عليها وثار. وحين قرأت أشعاره المخطوطة ـ لم ينشر ديوانه حتى الآن ـ كانت تحمل عناصر أساسية من سيرته الذاتية، وربما أضافت صيغة الأنا التي كتب بها أشعاره ميزة خاصة، فقد كشفت هذه الصيغة الكثير من خفايا حياته، وإن بقيت بعض الأسئلة الخاصة بوجوده قبل الثورة في ذلك الوقت غامضة. ومع ذلك تجد الصورة التي تكرس وجوده كبوهيمي هي مركز ثقل كل الكتابات التي كتبت عنه قبل تحوله إلى الثورة. ثقافة الجيل الذي يجد أهميته وقد نبعت من حضورها اليومي، وما الكتابة هنا سوى سرد طويل ومتقطع يحتوي على حكايات كثيرة، ومفارقات لفظية، واستعارات خاصة، يزرعها الشاعر في قلب النص ليعرض لنا صورة عن التوتر والقلق الذي كان يعيشه.

*

تقرير جبر سالم عن أحمد سعيد:

بعد أن كتب جبر تقريره الشهير عن الثوار، والذي نقلته الكثير من الصحف العربية في ذلك الوقت، ازداد عدد التقارير عن الثورة، وكان علي البحث عن المزيد من الأشياء الأخرى، مع إني وجدت أن جميع التقارير المكتوبة عنهم معتمدة على تقارير جبر أصلاً وهو يصف الثوار العراقيين وهم يعيشون شهراً آخر من شهور الثورة الساخنة في أديس أبابا. قلت في نفسي: كل التقارير معتمدة على تقرير جبر، ولكن حفنة التقارير الجديدة ستحسن مزاج الثورة لدى القراء طبعاً.

فقد كان هذا الأمر طبيعياً جداً، ذلك أن أحمد سعيد، الثوري والشاعر هو الذي رسخ إيمان جبر  بالثورة، بل رسخها في جيل كامل من الشباب ذلك الوقت، لقد أصبح هذا الجيل أكثر صلابة وهو يقرأ ليلاً ونهاراً، تقارير عن الثورة منشورة في المجلات الشيوعية العربية. والنقطة الأساسية هنا والتي تركز عليها التقارير هي: كان أحمد سعيد يريد أن يقرن شعره بالثورة على غرار شعراء شيوعيين في العالم، وعلى خلاف الكثير من الشعراء الذين استمروا على بوهيميتهم وعدميتهم في العراق ـ وإن بدء حياته بوهيمياً هو أيضاً ـ فقد تحول مباشرة إلى الثورة، يعني: كان يكتب المناشير ويوزعها ويشارك في المظاهرات ويقوم بأعمال كثيرة. غير أنه كان يتردد كثيراً على مقهى البرلمان، وهناك ادعى مرة أنه لا يكتب إلا تحت تحت تأثير المخدر أو السكر. ثم..لم تكن كتابته تحتاج إلى معاناة كي تظهر ـ هذا ما يقوله دائما وأبداً ـ كتاباته يجب أن تكون

مثل غائط ساخن في الصباح التالي لليلة ثملة. والجميل فيه هو توثيقه للحياة التي عاشها أو شاهدها، خاصة فقر وقلق بغداد. كان يريد أن يسجل كل شيء عن نفسه، ولا سيما وهم وخيالات الطفولة والمراهقة، إلى أن تعرّف على الثورة. فأصبحت هي حرفته.

يصف تقرير جبر الثوري أحمد سعيد، وهو جالس مع سلاحه برفقة الجرذان في الخنادق، أما المكان فقد كان ضيقاً دون شك وهو يكتب، ومع ذلك يواصل كتابة قصائده عن الثورة، وحين يعود إلى الفندق يجد قناني البيرة مكدسة في الحمام، إلى درجة أن لا أحد يستطيع الاستحمام. أما ملابس الثورية ميسون عبد الله فكانت في صندوق كبير للثياب، وسريعاً لم يبق مكان للحمرة وأدوات الماكياج. في كل مكان هناك كتب، قناني بيرة، ملابس عليها عرق وغبار، أوراق، أجهزة اتصالات، مسدسات، طابعة رونيو، رزم رسائل، كانوا يتحركون بصعوبة في الحجرة الضيقة في فندق من فنادق أديس أبابا، وهم يسمعون الناس تتكلم عنهم بحذر شديد، وتقول:

ثوار من الشرق الأوسط جاءوا هنا لمساندة الثورة.

هكذا تصبح الأرض نافعة لأن تكون سريراً، صناديق صغيرة من الخردوات تصبح هي السلم، الكوة هي النافذة، ولا متسع للجلوس إلا على الكرسي والطاولة وكتابة التقارير عن الثورة. تدخل ميسون صارخة: سأجن! الجرذان والصراصير في كل مكان، بينما تتجرع آلة الرونيو التقارير والمنشورات الثورية.

ثوريون، نعم، إنهم ثوريون: أحمد وجبر وميسون وهنالك الكثير غيرهم وقتها.

أحمد سعيد وحياته في بغداد هي المهم، فهذه الحياة القاسية هي التي صنعت منه جيفارا العصر الجديد. جيفارا العصر العربي. الحياة القاسية، المعاملة الظالمة، الفقر المدقع، الأمال الكسيرة، الطموحات الشخصية التي ترتد بلا رحمة، وبلا أدنى شفقة، إذن لا طريق سوى الثورة، كان يعرف خطورتها ويدرك مرارتها وقسوتها، ولكن ما يدفعه هو سيرته، وهذه المزقات المدمات من روحه والتي تحفل بآثامه وأفراحه وتشرده. كان كادحاً حقيقياً أمضى أيامه الأولى في بغداد متنقلاً من عمل الى آخر: سائق تاكسي، غاسل صحون، حارس كراج، ساعي بريد، عامل في مسلخ بهائم. حتى أصبح الثوري العبقري. الثوري الهارب من السلطة، والمتخفي في الأوكار والبيوت السرية. وربما كي لا ينتحر، كان يكافح، يضاجع، يشرب، يقرأ كتب لينين وتروتسكي. وما بين سكرتين تقريباً، ما بين سكرة وأخرى، يصل ساحة النضال كي يدافع عن الثورة، كي يقاتل من أجل  العلم الأحمر، ومن أجل البروليتاريا. المجد من رأس الثورة إلى قدمها، الرحيل إلى أفريقيا للدفاع عن الثورة هو الهدف. الرحيل هناك، بعد أن هزمتهم الإمبريالية هنا. الثورة انكسرت هنا فلا بد أن تشتعل هناك.

وهكذا رحل إلى أديس أبابا مع ميسون عبد الله صديقته الثورية، ثم التحق بهما الصحفي الثوري المتأثر بريجيس دوبريه وكتابه (ثورة في الثورة)، وقد عاش هذا الثلاثي المقدس (التعبير الذي كانت تطلقه الصحف الشيوعية العربية عليهم) حياة الثورة العملية، والنقاشات النظرية، وهنالك أيضاً كتابة التقارير الصحفية وكتابة السيرة الثورية للأفراد والمناضلين في الخنادق.

ميسون

لم تتحوّل ميسون عبد الله المرأة إلى ميسون عبد الله الظاهرة إلاّ بعد صدور مقالة جبر سالم "خبر عن الثورة البعيدة" في العام 1981 في مجلة الطريق اللبنانية، وقد نشأت فيما بعد عنها العديد من السجالات، وكُتِبت العديد من المقالات حول هذه المرأة ـ الظاهرة، بين المدافعين عنها والمتهجّمين عليها، بين الذين رفضوا وصفها بـ"الثورية"، والذين تحمّسوا لما اعتبروه منها تصحيحاً للأخطاء وعملاً ثوريّاً جباراً. لقد برزت ميسون عبد الله كرمز للنسويّات الثوريات واللواتي يطالبن بحرية أكبر للمرأة، وعلى المستويات كافة. ومنذ النقاش الإضافي الذي جعل أحد المخرجين العراقيين المقيمين في بولونيا يشرع بإنتاج فيلم سينمائي مقتبس عن المقال، تحولت ميسون عبد الله إلى ظاهرة حقيقية في الإعلام اليساري ذلك الوقت، ثم بروزها إلى الواجهة في حروب زيمبابوي والصومال، وهنالك حديث طويل حول إمكانية كتابتها لسيرتها الذاتيّة.

في المقابلة التي أجراها معها جبر سالم هنالك جرأة حقيقية ولا سيما في حديثها عن اغتصابها في السجن. وقد سردت تفاصيل هذا الاغتصاب من كونه برنامجاً سياسياً محدّداً للبعثيين بالضد من الشيوعيين. وهو عرض فج ومباشر لاستخدام السلطة، يعيِّن الحاكم وينظِّم قوانين لعبته السياسية حيث تسمح له بممارسة سلطته دون أيّ قيد. وبعد هروبها من السجن تسللت إلى دمشق ثم وصلت بيروت، وبعد ذلك لجأت إلى الدعارة لأغراض ماديّة، محاولة إصلاح ضرر الاغتصاب السياسي وإعادة ما سلب منها بالقوة، فجسدها ملكها ويمكنها تأجيره مرات ومرات وتقايضه بثمن دون أن تخسره تماماً.

ماذا كانوا يفهمون من الثورة؟

ماذا كانوا يفهمون من الثورة ذلك الوقت؟

الثورة هي النقاش والسكر والقصائد أيضاً.

الثورة هي الشعور بالتحليق الكامل. الشعور بالأخوة العالمية والتصالح مع الأشجار والحيوانات. الثورة هي العلم الأحمر وهو يرتفع عالياً على منازل القش في القارة السوداء. ربما تسكر طويلاً وأنت تغازل أفريقية في عتمة الحانات، لكنك عظيم حتى لو لم تملك فلساً واحداً. العظمة في النساء اللواتي يجادلن حول فائض القيمة. في السود الذين يصنعون الحقيقة ويكشفون الكذبة اللعينة في التاريخ. وأشياء أخرى كثيرة. تقولها بمزاج ثوري مرتاح.

 حين وصل جبر إلى أديس أبابا كان يبحث بعض الوقت عن القليل من الطعام، وما يكفي لإيجار علية. لكي تستمر الثورة. شيء لا يمكن وصفه، لا يمكن وصف الثورة في أفريقيا. لا يمكن إدراكها إلا من خلال مرآة هائلة حافلة بمشاهد لا تحصى، كان مستمتعاً بمشاهد الرجال والنساء وهم يحملون الأعلام الحمر والبنادق ويذهبون إلى زمبابوي وأنغولا، كان مستمتعاً بمشاهد القادمين من كل مكان، من الصين، من أميركا، من الشرق الأوسط. كان مستمتعاً بمشهد البيض الذين يؤمنون بالسود ويساعدونهم على الانتشال من قدرهم. صحفيون، ثوار لم يفوتوا فرصة واحدة للنضال، لم يفوتوا سطراً واحداً للكتابة.

نعم. نعم! إنها الثورة التي تحتفي بالحياة ـ هكذا كان يقول في نفسه ـ الثورة التي تؤمن بالحياة كي تخلص حياة الناس من الجنون والفقر والرعب. كي تدع الشعراء يكتبون القصائد في أماكن واسعة ومريحة، كي يموتوا وهم يضاجعون المؤخرات السود، ويشربون البيرة! فلتنته حياة المهمشين السود في شوارع أديس أبابا إذن. طالما لا يمكن الاحتفاء إلا بنبل الحياة وسقوط بذاءتها، إلا بانهيار برجوازيتها ياللعفونة! الحياة تستمر: قصائد، منشورات، ترانيم عظيمة للبراءة.

هذا هو جبر الصحفي الثوري. الصحفي الذي يكتب عن الفقراء وهم يتوجعون، حيث البرجوازيون يستمعون ويضحكون عندما يثملون. كان يدرك أن الثوار متهمون بالسطحية والاباحية، نعم، ربما بسبب القرف والفرح، غير أن الثورة هي الرهان الحقيقي، هي الحب والسرير والمرحاض، وفي الجانب الآخر هنالك اللصوص، والقتلة، وصحفيون معتوهون يكتبون تقارير للفئران لا لعصافير الدوري. اكتب. سرعان ما تجد نفسك الثوري الذي يكتب كتاباً كبيراً عن الثورة، أو ينام في الخنادق حتى الزوال ـ يصرخ في البار ـ إذا كان البرجوازي الفاسد في العالم الثالث يذهب إلى الروليت، فإن الثوري أيضاً بإمكانه أن يكون خاسراً جميلاً. الثوري الذي لا ينتظر مساعدة من أحد. الثوري الذي يحب الثورة، والنساء في الخنادق، وكتابة المنشورات السرية، وشرب الكثير من البيرة، والتبول في شوارع أفريقيا وآسيا.

*

بهذه الطريقة كتبت ملاحظاتي الأولية عن الثوار والثورة. كتبتها كتمهيد لتقرير عليّ أن أقدمه إلى الوكالة، وقبل سفري إلى أديس أبابا بأيام تقريباً أعددت كل شيء للرحلة: الحقائب، والأوراق، والكتب التي تبحث في شؤون القارة، والمسجلة التي سأستخدمها في تسجيل المقابلات مع الثوار، وجهاز اللاب توب، وبعض الحاجيات الضرورية التي قلت في نفسي ربما سأحتاجها لمقابلة العراقيين الثوريين الذين يعيشون اليوم في أديس أبابا، والذين ربما تزوجوا من أثيوبيات، ثوريات سابقات، أو من أفريقيات من أنغولا أو من الصومال، أو من أي مكان آخر. كل شيء أعددته من أجل مقابلة هؤلاء الثوار. وفي أفريقيا أيضاً.

الفصل الثاني:  صيف ساخن في أديس أبابا  

في أفريقيا

لم يكن انتقالي من أميركا إلى قارة أفريقيا فجائياً بطبيعة الأمر، فقد انغمست طويلاً في موضوع القارة السوداء قبل أن أذهب إليها، ومع ذلك كانت التجربة بحد ذاتها مثيرة حقاً، لا بقاموسها الشائك والمعقد: معاداة الثورة، مناصرة الثورة، باتريس لومومبا، فرانز فانون، الحرب الأهلية، التوتسي والهوتو، الثوار، حرب العصابات، إنما بالانتقال حقيقة من موقع إلى موقع آخر. من موقع ميمي وفيفي إلى موقع جبر وأحمد وميسون وآدم وسوسينا وغيرهم.

أفريقيا موقع وفضاء لا يشبه أي موقع ولا أي فضاء آخر. قلت لفيفي ذلك بعد أن عدت من الرحلة طبعاً.

من يعرف. ربما لا يمكن أن تلتقي هذه المواقع إلا بتحسس شديد.

ـ فيفي أنت تقولين لا فرق بينهما. هذا الأمر يضحكني، يضحكني حقاً، فرق شديد بين المكانين. فرق يمكنك أن تشعري به دون عناء، ربما تشعرين به من أول وهلة وأنت جالسة في الطائرة: الوجوه البيض، الشعر الأشقر، العيون الملونة هذا يعني أن الزنجي أمام الأبيض دون وجود يذكر. هذا يعني أن فرديته وذاتيته لا تعرّف إلا بوجود آخر. آخر متعال جداً، بلونه وبملبسه وبموقعه الذي جاء منه!

ـ من أين أنت؟ سألني ضابط حدود.

ـ من أميركا. قلت له.

هكذا انتهت ذاتيتي الأولى كعراقي ـ صفة غير شعبية هذه الأيام في العالم وهي مجاورة طبعاً لأفريقي بسبب الحروب والفوضى ـ وحلت محلها واحدة أخرى، أميركية بطبيعة الأمر! أمكنني أن أقولها ببساطة شديدة وقد تعينت تماماً في الموقع الذي كنت أريده، وهذا الموقع هو أميركا.

*

يا إلاهي! ها أنت تريني الآن أمامك دون أن تعرفي مثلاً أني تهت مرات ومرات في أفريقيا، تهت وأنا أتنقل من الكونغو إلى النيجر، من السودان إلى أديس أبابا، تهت كأبيض ـ لست كذلك في أميركا ـ وسط السودات والسودان، وقد قال لي آدم الصحفي الأثيوبي الذي أصبح صديقاً حميماً لي فيما بعد، قال لي وهو ينفث الدخان بوجهي مثل أي أبيض في كيب تاون أو في إيتوري: يقولون لنا حين يحبوننا نحبكم رغم لونكم الأسود، وحين يكرهوننا يقولون لنا لا علاقة للونكم بهذا الكره. أطلق دخان سيجارته وأكمل: إننا متعينون في أفريقيا بالسواد فقط، إننا عبيد للوننا ولمظهرنا. نحن أسرى موقعنا.

كنت أسأله عن الثورة والثوار، دون أن أدرك ذلك الوقت أن الموقع يتحدد رغماً عني، يتحدد ذلك الوقت في أفريقيا كصورة منقولة لنا عبر وكالات الصحافة والتقارير التلفزيونية كمزيج من الحيوانات الضخمة والفقر.

لكني كنت أقف بصمت كامل ومذيب أمام هذا الجمال الذي ينطق، أمام فضاء صاف، مشبع بالضوء، فضاء يغشاني أبيض مثل نقاء الثلج، مشبع بلون معدني، وبمطر يتساقط على رأسي من خلال أوراق أشجار ضخمة. كنت أتنفس الصعداء حتى أكاد أن أبكي أمام هذا الجمال الذي يتوحد في ذاكرتي مع نغمات منسابة من موسيقي أسود، ونغمات مرتجفة متواصلة تشبه اهتزاز قطعة من الفضة على سطح من المرمر. قلت لآدم، الصحفي الأثيوبي الذي تعرفت عليه في أديس أبابا:

ـ أنا أبحث عن هؤلاء الشباب العراقيين الذين جاءوا ليحرروا هذه المنطقة بالثورة. أبحث عنهم هل أجدهم؟

فوقف أمامي مثل تمثال زنجي قديم دون أن ينطق بكلمة.

*

قبل أن أصل إلى أديس أبابا كنت غير متأكد تماماً مما سيواجهني هناك بالتأكيد.

كنت على الحدود مثل ضائع. وبعد أن قضيت ليلتي الأولى في حجرة ضابط الحدود القذرة، بين القناني الفارغة، بين الفرش والملاءات الوسخة على الأسرّة المتهرئة، وكانت الجرائد وأعقاب السجائر متناثرة في كل مكان على الأرض، صفن بوجهي طويلاً قبل أن يدلي بكلمة.

أخيراً وجد الحل: الركوب على ظهر دراجة هوائية، أما السائق فهو: عاهرة ريفية من المنطقة الحدودية البعيدة ستنتقل في الفجر إلى مركز المدينة بحثاً عن الرزق!

عاهرة ودراجة هوائية

غادرت المدينة الحدودية عند الفجر على المقعد الخلفي من دراجة هوائية تقودها عاهرة زنجية مؤخرتها كبيرة بشكل لا يصدق، ترتدي نظارة شمسية جعلتها تبدو مثيرة للضحك، وتنورة قصيرة دون كالسون، وكانت قدرتها على حفظ توازن الدراجة الهوائية شيئاً من الجمال النادر.

 قالت لي ـ ونحن في الطريق ـ إنها ضاجعت فيما مضى رجلاً فرنسياً، وآخر أميركياً! وتحسرت لأنها لم تذهب مع أي منهما، فقد كانت تحب أفريقيا! ثم ضربت على رأسها وقالت:

ـ كنت ذلك الوقت غبية!

مرت بي خلال مجاميع كبيرة من العمال الذين يعملون بكباين الطابوق، ويمارسون عملهم بمشقة، كلهم كانوا يعرفونها. عمال زنوج يتصببون عرقاً بينما تتصاعد سحابات من الدخان على مقربة منهم، يجمعون الكتل الطينية من برك موحلة كبيرة، أما الطرقات المؤدية لهم فقد تحولت إلى مستنقعات تبعث رائحة الأرض الشهية.

ـ آه لو العالم الغربي يعرف بي. قالت بحسرة!

 كانت تعتقد أن الغرب ـ الخبير الوحيد بشؤون الفوضى الأفريقية ـ هو منقذها، وأن نجماً سينمائياً وسيماً من أميركا يتبرع لشؤون العاهرات الأفريقيات على الدوام يمكنه أن يتزوجها، وأنها حصلت مرة على قليل مما أرسله لهن. كانت عيناها تفضحانها، تغرقان بالدموع وهي جالسة أمامي في مطعم ريفي على الطريق، تحدق في طبق من طعام غير محدد الشكل والطعم، ذلك لأن الغرب ـ الخبير الوحيد بشؤون الفوضى الأفريقية، وربما هو خالقها ـ لا يعرف بمواهبها.

كنا نعبر من قرية إلى أخرى، وفي الطريق نلتقي بمجاميع مسلحة تقطع الطريق وتأخذ مني الأتاوة، حتى شككت لحظة أنها تمر بي متقصدة في هذه الأماكن، ثم زال شكي حين اقترحت على ثلاثة مسلحين أن يضاجعوها بالدور مقابل أن يفرجوا عني، فهذه المناطق المتأخرة جدا تقطنها أخطر المليشيات، ويسيطر عليها قتلة الحروب الأهلية التي اندلعت في أفريقيا، ويعرف الناس عنهم قصصاً مروعة ومثيرة: قتل، وسلب، وذبح، وعمليات تعذيب عابثة لا سبب لها، وإبادات مجانية تذكر بأيام جوزيف كونراد في هذه القارة الثرية والتي يهجم عليها الأوربيون من كل مكان.

غير إني كنت أسأل نفسي: لماذا فشلت الثورة، ولماذا أدى هذا الفشل إلى الحرب الأهلية، والفقر حتى ينعدم أي معنى للفقر، وكل هذه الأحقاد الأثنية، والصراعات التي لانهاية لها.

*

كنت أتساءل كيف انتهت الثورة إلى هذا؟ كنت أفكر بالثورة مختنقاً بأسئلة لا تحصى، وأنا جالس بشكل مضطرب خلف هذه العاهرة الزنجية التي أركبتني على دراجتها الهوائية العتيقة، وما أن أخذت تدور الدواسات بقوة، حتى أخذت ترفع مؤخرتها الكبيرة عالياً، فأصبحت مؤخرتها بمواجهة وجهي، دون كالسون. يا للروعة. أما توازنها عبر الطرق المطيرة والوحل فكان شيئاً مثيراً حقاً. تتكلم. وتتكلم. إنها لا تتوقف عن الكلام. ترفع مؤخرتها في وجهي وهي تدفع الدواسات بقوة. أضحك يختل التوازن. وهكذا أبقى صامداً وممسكاً بسدل الدراجة، وجهي بمواجهة مؤخرتها تماماً. وحين أحرف وجهي قليلاً عن مؤخرة تمرات ـ هذا اسمها ـ أرى أفريقيا بكل أساها وروعتها:

ضفاف أنهار مملوءة بالتماسيح. غابات سافانا مشبعة ببخار الماء وهو يتصاعد على أشعة الشمس الشتوية. خمائل أشجار صغيرة تنيرها أشعة شمس لا حد لجمالها. أوراق مبتلة. ثراء طبيعي مذهل. لون أثيري يخترق السهول الممتدة. ظلال بلون الحبر المخفف بالماء. عيون أفريقية تعكس الضوء بلونها الداكن. قطرات عرق تتلألأ فوق وجوه بنية. وامرأة شبه عارية تربض، ممسكة حربة خلف جذع شجرة تتربص بحيوان سيمر.

الثورة

الثورة! يا إلاهي هذا الأسم الذي يتكرر في أفريقيا منذ أكثر من سبعين عاماً! هذا السحر الذي ينبعث من الأصوات التي يطلقها هؤلاء الزنوج لإفزاع الحيوانات. سحر الرجل المستثار وهو يستعد للانطلاق في ظلال الغابة خلف قرد صغير. فرح الموت الذي يفاجئ الأفارقة تحت النباتات ذات الصمغ الذي يخرج بين النسغ واللحاء. فرح الشابات وهن يتضاجعن تحت النور الذي يتكون من إمبراطورية إعجازية غامضة الألوان. سحر الرجل الذي يغازل حبيبته تحت الحزم البيض اللاهبة مثل الألماز.

كيف أرى الثوار الآن وبأية صيغة؟

هل هم هؤلاء الذين يتربصون بالبرجوازيين كما يتربص الزنجي بالحيوانات؟

ماذا كانت تفعل أوربا هنا ـ كنت أتساءل خلف مؤخرة العاهرة الزنجية ـ هل كانت تريد إنقاذ هؤلاء الناس بالاستعمار؟

الاستعمار مثل الثورة إنه تغيير مواقع، من موقع ما قبل الحداثة إلى موقع الحداثة. من العاري إلى الكاسي، من النيّء إلى المطبوخ، من العسل إلى الرماد، تنقلهم من موقع كل شيء: الغابة، والجنس، والتصالح مع الحيوانات والأشجار إلى موقع اللاشي، أي موقع العبيد والأجراء والخدام، من موقع المشاعية التي يتساوى فيها الجميع إلى مجتمع الطبقات، أنت تقولين الحداثة حلم هذه المجتمعات. نعم إنه حلم بالتأكيد، حلم أن تتحول الغابات إلى مصانع! لكن الحداثة، يا فيفي، لم تكن غير النفط الذي يستخرجه الأوربيون لهم من باطن الأرض، نفط ولا شيء آخر، النفط سيذهب للأوربيين. أما هم  ـ الأفارقة ـ فإنهم سيجلبون من أوربا البضائع البلاستيكية: نعالات، طناجر، أدوات أخرى مصنعة. وبعد أعوام سترين الثورة عند الذروة، والناس على الشفير الأخير من الهاوية، الثورة تندلع، وستعم الاحتفالات لمدة عام أو عامين، غير أن أحد الثوار سيسرقها من الآخرين، وسيقتل رفاقه بسرعة كبيرة، وستظهر أدبيات جديدة وكتب ومنظرون يتحدثون عن المنحرفين والمنشقين، ومن ثم تأتي المرحلة الطبيعية للثورة وهي: ثورة داخل ثورة، أو المرحلة التصحيحية للثورة، وفي هذه المرحلة تقريباً تعقد الصفقات، أو في هذه المرحلة تقريباً تفكك الدولة وتباع سلعاً في السوق السوداء، وعندها فقط سنرى النساء شبه عاريات وهن يفتشن عن حبات القمح في الوحل.

*

صورة ما بعد الثورة ترينها في أفريقيا وآسيا في نفس البرواز تقريباً، يا فيفي. وسأنقلها لك كما رأيتها تماماً:

نساء ينحنين عند الخصر ليحملن بضائع ساقطة في الطين، نساء نحيلات هزيلات ضامرات، عيونهن تلمع من الاجهاد ويعاملن من قبل الجميع بخشونة وعنف، يعاملن من قبل الأسياد مثل محظيات، يضاجعونهن ويتركونهن لمصيرهن. وهنالك يبحثن في الأرض عن بعض الأرز في التراب، عن ملابس داخلية ترميها السيدات الشقراوات، أو عن قوارير بنزين وعلب كوكا كولا. ومع ذلك للمثقفين وعي زائف بكل شيء:

ـ آه..ماذا خلف الاستعمار لنا؟ قال أحدهم ـ كنا جالسين في البار ـ بحسرة كبيرة.

قال آخر: ماذا خلفنا نحن مما أبقاه الأستعمار؟ ثم استأنف كلامه: لقد شيدوا لنا مدناً كبيرة ولكننا دمرناها. شيدوها لهم، وحين خرجوا تدمرت. هل كان يمكن الاحتفاظ بها أو تطويرها؟

لن يسمحوا لنا بذلك.

مثقفون يقرأون فرانز فانون ونجوجي واثينجو وإيميه سيزير وديريك والكوت وول سوينكا، ويتحدثون كثيراً عن الثورة والثوار، يتحدثون عن أشياء كثيرة ومهمة تحدث في كل العالم، لا في عالمهم فقط، يتحدثون عن عالم أبيض بعيد لا يعترف بهم، وعالم آخر يحلمون بوجوده ولكنه يمتنع ويبتعد عنهم.

الثورة هي ذلك الحلم الذي يجدونه في أعين الرجال الذين يقودون الحمير التي تحمل الأسلحة وتتقدم في مزابل القارة. أو في أعين النساء اللواتي يتدحرجن بعيداً، يحملن أسرار الثورة، هابطات منحدرات التلال، بصبر نافد.

أفريقيا ما بعد الحداثة

أفريقيا ما بعد الحداثة هي أفريقيا ما قبل الحداثة. قالت لي مثقفة متؤربة في بار.

 قال صديقها الأوربي الذي يعمل في منظمة إنسانية هناك:

نحن نُعرّف ما بعد الحداثة على أنها شك وتدمير وتخريب.

قالت له: ألم أقل لك إنها أفريقيا يا عزيزي.

*

أفريقيا ما بعد الحداثة تمشي نائمة إلى نوع من الحلم المحموم بعد أهوال الحرب، ثورة. حروب أهلية. فوضى. تدهور يفوق الخيال، فقد ذهبت الكتب الماركسية والرجال المؤمنون ولم يتوقف الاقتتال فيها أبداً. طرق مسدودة بالطين، مختنقة بالشجيرات، طرق تتلوى مئات الأميال قرب مياه تندفع بقوة ثم تنحسر موجاتها مخلفة وراءها الحداثة الغربية: بنيد سيارة بيكب صديء، مزرعة بن تحولت إلى أرض قاحلة، مدن محطمة، طرقها لم تعد طرقاً، بيوت تجاهد كي تبقى على قيد الحياة، رجال جوعى متوترون وصامتون، عالم يتم تفكيكه ليباع سلعاً، أواني من الألمنيوم، أعقاب سجائر، ملابس مصنعة كالتي تحملها قوافل الدراجات، وفي المقابل، يأتي الرجال البيض ليحصلوا على كل شيء. كميات هائلة من الأخشاب واللحوم والذهب تتدفق خارجة من الغابات إلى أوربا، حيث يسلب تلك الثروات من المواد الخام تجار بيض وسماسرة سود غير أمناء.

*

قال الأوربي الأشقر الذي يذكر بأبطال روايات المغامرات الأوربية في أفريقيا: دول كثيرة انهارت بهذا الشكل الكارثي لتعود أسوأ مما كانت عليه من قبل، تبتلي أولاً بالكولونيالية، ثم تأتي الثورة لتخلص الناس من نير الحكم الكولنيالي، لكن الثورة يقودها دكتاتوريون يعيدون السياسة الكولنيالية بصورة أبشع من السابق، وهكذا تبدأ الانشقاقات ويتم اجهاض الثورة. ولكن الأمر لا ينتهي إلى هذا الحد بل تبتلي البلاد بالحروب الأهلية والفوضى.

*

أين الثورة؟ كنت أتساءل في نفسي وأنا أسير في كل مكان. كنت أتساءل عن أفريقيا الحداثة فوجدت أفريقيا ما بعد الحداثة، أي أفريقيا ما بعد الثورة وهي مثل امرأة سوداء تحمل شوالاً ضخماً مكتضاً بأحذية من البلاستيك الرخيص، على مقربة منها شحاذ يحتضر. اسمعيني فيفي أرجوك خذي هذه الصورة من واقعين متقابلين: بالتقابل مع الأحرار المستعدين أن يفقدوا كل شيء من أجل مسيرة الثوار ذوي الملابس الرثة، والفقراء الذين يقطعون الطرق التي بناها الأوربيون بعد أن تحولت إلى طرق ريفية مهدمة، هنالك المليشيات التي ترتدي الملابس العسكرية المتهدلة التي وردها لهم تجار السلاح غير الشرعيين. وأمام العاهرات المسكينات في عباءاتهن الحمر القانية، واللاجئين الغائري العيون، وعمال المناجم الذين طال بحثهم عن نسائهم اللواتي اختفين في الحرب الأهلية، والباعة الباحثين عن قوت يومهم، هنالك مجموعات من مثيري الحروب الأهلية، وميليشيات الإبادة الجماعية الملطخين بالدم البشري.

الوصول إلى أديس أبابا

هبطت من التاكسي في شارع دبرتسايت في أديس أبابا. كان الوقت ضحى، وقد شعرت بقطرات عرق قليلة تقطر من جبيني. هواء صباحي بارد يبشرك بشمس الشتاء، وما أن تنتهي من طريق طويل حتى تدخل آخر، من مكان إلى آخر تتبخر أحلامك مع صهد شمس ساطعة، وظل بارد، وعيون سود لامعة.

توقفت عند الرصيف وسط هورنات/زمامير السيارات التي تتداخل مع بعضها، وعلى مقربة من شجرة يوكالبتوس/كافور عالية، كان هنالك كيوشك خشبي يبيع الصحف والكتب والمجلات، تنطلق من داخله أصوات موسيقى أفريقية. أديس أبابا عصرنة استهلاكية مزيفة تفصح عن وجهها حولك في كل ناحية: شركات سياحية، مطاعم راقية، مكاتب تصريف عملة، مروجون للمكالمات المخفضة عبْر الإنترنت، مراكز بيع بطاقات الموبايلات، دعايات عن فنادق فخمة، دعايات عن أزياء أوربية جديدة، وإعلانات عن استثمارات في كل شيء تقريباً. كان الظل بارداً ومنعشاً تحت شجرة اليوكالبتوس/الكافور الضخمة، وزقزقات العصافير تتداخل مع الموسيقى العذبة، وعند كيوشك الصحف والمجلات وقفت شابة جميلة، ترتدي بنطلوناً من الجينز وتي شيرتاً قطنياً. حملتُ حقيبتي الجلدية في يدي وقطعت الرصيف متجهاً نحوها، كانت الشمس ساخنة، وبضعة غيوم متفرقة في سماء زرقاء، سماء أفريقية لم أر مثل صفائها أبداً.

 ـ من فضلك أين أجد فندق المسكال.

 ـ فندق المسكال طيب، خذ يمين. ثم شمال، وبعد حوالي مئة ياردة من مكتب البريد ستجده أمامك..

هذه هي المرة الأولى التي تلتقي فيها عيناي بعيني أثيوبية، عينان عذبتان جميلتان، ملامح وسيمة ناعمة، وجسد فتي أسمر ينبض.

*

وصلت الفندق، وضعت حقائبي في الحجرة، وهبطت إلى الصالة. قالت لي ماريام، وهي نادلة في بار الفندق: ـ هنالك محطتان للحافلات واحدة في تيرا قرب ميركاتو، والمحطة الأخرى تقع في رأس ميكونين، وكل الحافلات تقريباً باستثناء الذاهبة إلى نازريت وأبرزاي تنطلق من تيرا. شكرتها وأسرعت نحو أديس أبابا لأتوغل فيها. في العمق. كان عليّ أن أتنشق هواء المدينة العذب، أن أشم خضرتها النضرة، وأتدفأ بشمسها الذهبية. وبعد مسيرة طويلة في شوارعها عدت إلى الفندق، فسألت عن الثوار العراقيين الذين جاءوا هنا قبل ثلاثين عاماً.

ـ الثورة لم تعد موجودة بطبيعة الأمر. قالت لاليت التي عرّفني عليها صديقها الصحفي آدم والذي يعمل في صحيفة محلية. الثورة تبخرت. ما بقي هنا هو مملكة أكسيوم التاريخية.

كنا جالسين في الصالة الدائرية على مقاعد مريحة من الجلد، وهنالك نادلة الفندق بملابسها البيض وبيديها تحمل الصينية.

ـ منغستو لم يعد له وجود، وزمن الثورة حاكمناه على جرائمه وسجونه وعمليات اختفاء الناس.

*

آدم كان ثورياً فيما مضى، ماركسياً على نحو أدق ومن أتباع منغستو. مثل لاليت طبعاً. أما اليوم فقد تغير.

ما قالته صحيح. ويمكنني طبعاً أن أرى أديس أبابا شامخة فوق الجبال، وأكسيوم التاريخية هي الأسطورة وهي الواقع لا منغستو.

ـ ولكن كيف نسوا جرائم هيلاسي لاسي بسرعة كبيرة، كيف اختفت هذه الفضائع من ذاكرة الناس، وهؤلاء الذين هدموا تمثاله وبصقوا عليه أين ذهبوا؟

ـ ربما جرائم الثورة مسحت جرائم العهد القديم وبسرعة أيضاً. قالت لا ليت.

كنت أنظر إلى ساقي محدثتي الجميلتين، وهي تضع ساقاً على ساق، وتنفث الدخان في وجهي بشكل واثق ومثير حقاً. كنت أحاول أن أرى أثيوبيا الآن وفي هذه اللحظة، في جسدها الفتي والبض، في حركاتها الحرة الطليقة، مثلما كنت أراها في شارع تشرشل الواسع في قلب أديس أبابا، لا في ضريح الملك منليك قرب كاتدرائية السان جورج، كنت أرى أثيوبيا في قدرة محدثتي على إثارتي، لا في تمثال أبيون بيتروز المشيد في أرادا، حيث واجه الأبّ فرقة الإعدام بشجاعة متحدياً الفاشيين. كنت أراه في هذا التعامل الحر مع الجسد لا في نصب تغلاشين أمام مكتب البريد، أو في الشهادة الباقية من المعركة المشهورة ألادوا في العام 1896 حيث انتصرت أفريقيا على الكولنيالية الغربية. كنت أقول في نفسي لماذا يتركون الجسد مهملاً ويتحدثون عن برج الحرية في أرات كيلو، وعن نجاحات أثيوبيا ضدّ الإيطاليين، وضدّ الخيانة السياسية للبريطانيين؟ شيء مخيب أليس كذلك؟ قلت في نفسي.

كنت أفكر بمصدر هذا العذاب الذي تسبب للناس. ومن جانبي ما كنت قادراً على السكون أبداً، استمرأت الجملة الأخيرة وسكت. غير أن الحديث استمر بعد ذلك. دون أن أعيره كبير اهتمام، إذ إني كنت مشدوهاً فجأة، مأخوذاً عن الكلام الذي يغشاه الأثيوبيون، ولا أشعر بالتحسن على رنات كؤوس البيرة والنقاش والضحك، ثم يتغير الحديث تقريباً، على الأقل في نبرته، ولكننا نستمر في البحث عن أفريقيا ومجاهلها.

وإن كانت أفريقيا ـ نسبة لكثيرين ـ هي الذهب المنهوب من باطن الأرض، والمجاعة المهولة رغم الأبقار الكثيرة. والحروب الأهلية والمليشيات الباقية التي تطوق الطريق، وحروب القبائل والمتمردين، ولكن أفريقيا الحقيقية نسبة لي هي في هذا الجسد الذي ينطق دون أن يعير الصراعات الكائنة في كل مكان أية أهمية. حين تنطق أجسادهم فهي تصرخ، تغني أو ترقص أو تمارس الجنس، أو تتحرك.

مع ذلك، هنالك لغة المثقفين المتشابهة في كل مكان تقريباً: حديث يتوزع ويتشعب ويختلف حول كل شيء: لغة الاستعمار. الماركسية. البنيوية. السيميولوجيا. آثار الصورة. ما بعد الكولولنيالية... والخ الخ. إنهم يجترون الكلمات ذاتها. خليط بين عبودية وتحرر. مزيج بين ثقافة وكراهية. تقليد أوربي وتراث أفريقي فاضح. ثم غبت قليلاً. حتى لم أعد أميز الغمغمات المتداخلة من حولي، وبين رنات الكؤوس كنت أسمع جملاً متداخلة عن أفريقيا، عن التاريخ الثقيل من اللون الأسود، عن العبودية وجرم الرجل الأبيض، بعد ذلك انعدمت الأصوات تماماً، والوجوه غابت.

بحث

في اليوم التالي كانت الجلسة المبهجة ذاتها في مطعم الفندق، وهما ـ لاليت وآدم ـ يتناولان غداءهما معي:

طيب هل تعرفون جبر سالم وأحمد سعيد وميسون عبد الله؟ الثوار العراقيين الذين جاءوا هنا قبل ثلاثين عاماً للقتال في الجيش الأممي الذي أسسه منغستو..

ـ طبعاً نعرفهم!

ـ عظيم!

ـ كيف الوصول إليهم؟

ـ مكانهم معروف ..

ـ رائع ..لقد جئت من بعيد من أجل أن أعرف هؤلاء الثوار وأتعرف على حياتهم.

ـ طيب. ونظر الواحد بوجه الآخر.

كنت أحاول أن أعرف من خلالهما كل شي تقريباً ولكن دون جدوى. كلما أسأل سؤالاً يلتفت الاثنان إلى بعضهما وينظران لي، وكأنهما يهيئاني إلى مفاجأة.

ـ هل ستعطياني عناوينهم؟

 ـ هم لا يعيشون معاً، كل واحد منهم في مكان.

قال آدم: أرى ميسون في أحيان كثيرة مع أحمد، ولكني أعتقد أنها فارقته.

ـ عظيم! قلت لهم. هل هما في علاقة حب. رباط ثوري مثلاً..!

التفت الواحد للآخر، ولم يجيباني إلا بتمتمات قصيرة.

ـ اكتبي لي العنوان هنا. قلت لها.

رفضت ... لماذا؟

*

في البداية لم أكن مقدراًِ للموقف تماماً، لم أسأل لماذا رفضا إعطائي عناوين الثوار الذين جئت من بعيد كي أقابلهم، اعتبرت المسألة حذراً طبيعياً، هذا الحذر الذي يركز عليه الثوار دوماً حتى بعد أن يتقاعدوا، إنهم يتصورون على الدوام أن هناك من يراقبهم، هناك من يهتم بتصرفاتهم وسلوكهم، هناك من يعتقد بأنهم ما زالوا خطرين، هذا الحذر تجده دوماً وأحياناً بصورة مريعة لدى الثوار المتقاعدين، وربما بصورة أكثر مبالغة حتى مما كانوا عليه في الخدمة ـ أقصد حينما كانوا ثواراً بعد، وحينما كانت الثورة قائمة ـ الأمر في "ما بعد الثورة"، أقصد نهاية الثورة ـ وهذا التعبير يصح بمقدار ما تصح ما بعد الحداثة على الحداثة، وما بعد البنيوية على البنيوية، وما بعد الكولنيالية على الكولنيالية ـ ما بعد الثورة هي المرحلة الخطرة جداً، ذلك أن الثوري يعتقد أن هناك من يتقصده، أو يريد تصفيته جسدياً.

*

في الظهيرة خرجت من الفندق وحدي لأسير وأكتشف أديس أبابا.

قليلة جداً شوارع أديس أبابا التي لها أسماء، الأسماء موجودة على الخارطة. ولكن لا يستخدمها أحد. تقرأ الاسم على الخارطة وحين تسأل أحدهم يندهش من هذا الاسم، ومن ثم تدرك أنكما في الشارع المجهول ذاته. طريق تشرشل. الطريق الرئيسي الذي يقود إلى مكتب البريد، أو المسكال. أو المحطة. أو ميدان ميركاتو. بعض الشوارع لها اسم واحد على الخريطة، وأسماء أخرى بالاستخدام العام.

بعد يومين أخذتني لاليت في جولة في أثيوبيا. (دون أن تدلني حتى الآن على عناوين الثوار العراقيين أو أماكن وجودهم). أخذتني على شواطئ بحيرة تانا. ودرنا على تيس إيسات الملوكي، حيث يبرز قصر هيلاسي لاسي، وذهبنا إلى حوض صنع الزوارق حيث كان الكهنة الفخورون يجربون قارباً كبيراً بدلاً من مخطوطات كنوزهم الإكليروسية، ثم زرنا جزيرة زيغا، وتجولنا ـ لاليت وأنا ـ في السوق المشيدة بالقش القصير والملون. وبعد ذلك عدنا إلى أديس أبابا المختلفة تماماً عن المناطق الأخرى: ملامح عصرنة في شارع واسع، بنوك كثيرة، وكالات سفر وسياحة، سوق على الطراز الإفرنجي، ستوديو كنج آرثر، أماكن أخرى انطلق منها التصوير العصري، أما شارع تشرشل فهو ذكرى الزمن الجميل.

*

قلت يومين أو ثلاثة أيام وسأجد الثوار العراقيين الذين جئت من أجلهم إلى أفريقيا، هكذا وعدني آدم وهكذا وعدتني لاليت، سيرتبان لي معهم موعداً في غضون الأيام المقبلة، ولم يزيدا في الكلام أبداً غير ذلك. في البداية كان آدم يرافقني على الدوام أما لاليت فكنا نلتقيها في المساء أكثر الأحيان، وكنت من جانبي راغباً بإقامة علاقة مع لاليت، فسألت آدم إن كانت على علاقة بأحد ما. قال: لا أبداً. وأظن أنها هي أيضاً راغبة في إقامة علاقة معك. فرحت كثيراً ذلك اليوم، وحين انتظرناها في المساء لم تأت، وهكذا انطلقنا آدم وأنا إلى بار دبرتسايت، تحارشنا بالنادلات والراقصات عند محل فطائر وحلوى سويت سويسرينا، توقفنا طويلاً عند طرزية الميني جوب بانتظار صديقته مولوكين التي كانت عازفة طبول في فرقة تمرات تاديس. ثم ذهبنا لنرقص مع المثقفات في مقاهي الماركسيين وباراتهم.

وفي اليوم التالي أخذت لاليت تنام معي في الفندق.

ثوار وأنبياء دائماً

في المساء كنا في عمق أثيوبيا.

 ويمكنك أيضاً أن تسمع أسماء كوزموبوليتانية مميزة: تشرشل مثلاً، أو مونتغمري، أو كنج برغر، وأحيانا كايرو أو كوبا كوبانا.

ـ أين أجدهم إذن.؟ أين أجد الثوار العراقيين الذين جاءوا لتحرير أفريقيا؟

هكذا كنت أقول لكل واحد كنت ألتقي به في أديس أبابا.

ـ يحررون أفريقيا؟ من هذا الخراء الذي جاء ليحرر أفريقيا؟ قالت مولوكين صديقة آدم وهي تضع قرطاً ذهبياً زائفاً في آذانها.

ـ أوه. هذه عنصرية قلت لها. إنهم الثوار الذين أشعلوا الثورة جنوب العراق وجاءوا هنا ليشعلوا الثورة في أفريقيا.

ـ الثورة انتهت، هكذا يقولون. كل شخص كان ثورياً فيما مضى، يعيش الآن حالة من السكر المتواصلة، الذعر لا يتلاشى بسرعة، ولا ينام الناس طويلاً بعد الحرب الأهلية جيداً، وفي الساعة الثانية عشرة من الليل تصحو الملاهي كلها تقريباً، وتضج بالثوار والسكارى والمخبرين والعاهرات، أما البرجوازيون والحكام المحليون فإنهم يواصلون التغوط على الناس، وكل مرة يتغوطون فيها يصبح الفقراء أكثر إفقاراً بطبيعة الأمر.

*

أديس أبابا. عدن. أسمرة. مصوع. والذهاب إلى سنار.  هكذا أهيم في أفريقيا. في القرن الأفريقي تحديداً أبحث عما تبقى من الثورة. خطر في بالي بعد أن التقيت امرأة إثيوبية حراقة تعمل في مزارع السمسم قرب كمبو قبائل الدنكا هناك ـ كان الكمبو عبارة عن قواطي من القش يأتي إليه المزارعون الموسميون من كل مكان ـ خطر في بالي أن أشعل الثورة أنا أيضاً..

فما أن تطأ هذا المكان حتى تشعر بنفسك إما أنت قائد ثورة أو نبي..

هذا الشعور كان يرافقني وأنا أصعد السيارة اللاندروفر القديمة وأتجه في الطريق الذي يفضي إلى دارفور أو الكونغو أو أنتوتو الذي كان رائقاً كعادته، هذا الشعور كان يهيمن علي عندما أعبر بالقارب الصغير نهراً مملوءا بالتماسيح. دقائق معدودة في انطلاقته شبه الملتفة، كي يصل بك إلى الطرف الآخر من نهر يبدو منكسراً ويكسوه حزن قديم. أصرخ.

ـ يا إلاهي ... أنا إما جيفارا الثائر أو أنا نبي.

وحينما توغلت في أفريقيا أكثر، محاولاً الدخول إلى المدن تهدمت أوهامي كلها وتحطمت:

مليشيات تقاتل على أطراف المدن قواتٍ حكومية، أحزمة من التراب شديدة الجهامة، جفاف قاس يمتد لأعوام، جفاف يحيل الأرض إلى بقع هائلة من اللون الداكن، أشجار مثل أنصبة خشبية منزوعة الأوراق، ومن بين تلك الاكمات الترابية التي تظهر من بعيد، أشبه بخناجر حجرية متجهة إلى السماء هنالك السحب البيض التي تبدو وكأنها قطع منثورة من القطن، وتصادف بطبيعة الأمر هجرات قاسية، نزوحاً مستمراً، جثثاً مرمية، فقراً مدقعاً، صراخ نساء، شجراً يموت وسط سماء حارقة، وقبائل تهاجر وهي تحمل أسلحة مدهونة وتقاتل.

*

كانت أحاديثي كثيرة مع المثقفين الأثيوبيين عن الثوار العراقيين الذين وصلوا إلى أفريقيا في ذروة الثورة في أفريقيا، قلت لهم: سأصل لهم حتماً، والواسطة هو آدم ولاليت بطبيعة الأمر، ولا أحد يجيب، تمر أيام. وأيام أخرى دون أن أعثر على أثر منهم، ومن هنا بدأت مرحلة الشك عندي، وكنت أتساءل لماذا يتهربان من أسئلتي؟ ومن ثم ظهر شيء آخر، إنهما  ـ لاليت وآدم ـ لا يتركاني أبحث عنهم وحدي، حتى شعرت بأنهما يحتجزاني بطريقة ما، في البداية قلت في نفسي، يا إلاهي ربما أصبت أنا أيضاً بعدوى الثورة والثوار: مرض الشك الدائم، فهذا المرض ملازم للثوار، ما أن تصبح ثورياً حتى تصاب بهذه العدوى: الكل يتآمر ضدك. وحينما تكون لديك السلطة، والسلاح، والقوة، وكي تحافظ على نفسك ووجودك تعلن بداية قطع دابر المؤامرة (المصطلح الذي كان يستخدمه صدام ومنغستو لتصفية معارضيه)، وهكذا تبدأ حملة التصفيات بالمنشقين ـ أو المشكوك بولائهم ـ ومن ثم تتحقق أسطورة الثورة، الثورة مستمرة يعني أن الجريمة مستمرة بأبشع صورها.

ـ يا إلاهي هل أصبحت ثورياً، فأنا أشك كثيراً بسلوك وتصرفات لاليت وآدم؟

كنت أشك بأنهما يحتجزاني بصورة ما، لا يتركاني أذهب وحدي للبحث عن الثوار العراقيين ولا يحققان مطلبي في معرفة أماكنهم.

ـ هؤلاء الثلاثة كيف أجدهم؟ قلت جازماً.

ستجدهم طبعاً ... طبعاً يقولان ذلك لي، نحن الآن نعد الترتيبات، وصلنا النهاية تقريباً.

ولكن يبدو أن الأمر مفتوح ولا نهاية له. في الصباح أسأل نفسي عن تصرفاتهما وسلوكهما، أقول لماذا؟ من هنا يهيمن علي الشك. ويسيطر على تفكيري، فأنا أستيقظ منتصف الليل في الفندق أخرج علبة سجائري وأدخن وأنا أنظر أشباح أديس أبابا وسط الظلام الحالك، فأشعر بأني أصبحت ثورياً حقيقياً بطبيعة الأمر.

جمال وحيد

العراقي الذي تعرفت عليه وحدي هناك، لم يعرفني عليه لا لاليت ولا آدم، هو شخص غريب الأطوار اسمه جمال وحيد. كنت تعرفت عليه في الفندق وبصورة مثيرة حقاً. فقد كنت أجلس دائماً على منصة بار الفندق وأغازل ماريام النادلة الجميلة والعذبة. مريام سمراء سمرة محببة، فارعة في طولها، وملامحها سكسية حراقة، كان يعجبها أن تتحدث معي بصوت عال وتضحك ضحكاتها المغرية، كلما يأتي أحد الزبائن تؤشر بيدها لي كأنها تقول: "أنا عائدة"، تقدم له طلبه بسرعة وتعود لنواصل كلامنا. كنت أقضي معها أكثر الأوقات إثارة ومرحاً لاسيما قبل أن يأتي آدم أو لاليت، فتنسحب ببطء موحية لي بعينيها، بحركة صغيرة من العينين اللامعتين الذكيتين أنها تتركني، وكانت تعرف بطبيعة الأمر أن كل مغازلاتي لها هي سدى، لأن لاليت معي طوال الوقت. 

طبعاً أن يقول شخص ما لامرأة بأنه عراقي، فهي صفة غير شعبية في كل مكان تقريباً، نظراً لما يراه الناس من مشاهد قتل وتفجير في التلفزيون ـ في الغالب أقول أميركي ولا سيما مع الشرطة أو مع الموظفين الرسميين ـ مع ذلك لم تبال ماريام بهذا الأمر سوى أنها قالت هناك شخص جذاب يأتي هنا ليشرب العرق، وهو شراب قوي جداً مصنوع من تخمير السمسم، قالت لي إنه عراقي أيضاً، وسألتني إن كنت أعرفه أم لا. طبعا توسلتها أن تدلني عليه حالما تراه، وتملقتها بكل كلمة إطراء ممكنة، وداهنتها، وتوسلتها أن لا تذكر شيئاً من هذا الأمر أمام لاليت أو آدم. فتجمدت ملامحها في وجهي لحظة، ثم وافقت.

طال الوقت طبعاً، كنت أسألها كل يوم ولكن دون نتيجة.

وفي يوم هبطت في الساعة الثانية عشرة ظهراً، استيقظت متأخراً جداً بسب سهرة طويلة في الليلة الماضية، كانت لاليت قد غادرت فراشي مبكراً، وربما جاءني آدم ليتناول إفطاره معي ولم يجدني فغادر هو الآخر أيضاً.  فجلست عند ماريام على البار لأتناول إفطاري من القهوة وإلى جانبي كان يجلس شخص بشعر طويل نصف أشيب، طويل ونحيف ومن ملامحه بدا لي لأول لحظة بأنه من الشرق الأوسط ـ صفة نطلقها على العرب في أميركا ـ مع إني لم أنظر بوجهه مباشرة، ومن الملفت للنظر أنه في هذه الساعة من الظهر كان يشرب العرق.

يصب في الكأس الذي أمامه قليلاً من الشراب. ينتظره طويلاً، ينظر إلى أمام بشكل صامت ويدخن ببطء، ثم يمسك الكأس بيده ينظر له نظرة قصيرة وبحركة سريعة يعبه في جوفه دفعة واحدة. طبعاً من الطريقة هذه في الشرب عرفت أنه عراقي، طريقة في الشرب معروفة جداً لدى بعض الناس في بغداد. مع ذلك لم أتكلم معه، كما لم أسأل ماريام عنه، ولم أبادر بأي شيء إزاءه أو إزاءها، بل كنت أنتظرها هي التي تقول لي شيئاً عن ذلك. جلست أمام ماريام على الستول العالي قبالة البار الخشبي وأخذت أشرب القهوة، كان الصداع قد فلع رأسي، ولم أكن قادراً على الضحك أو المزاح أو المغازلة، مع ذلك كنت أحاول بكلمات قليلة استدراجها، وكنت أتصنع المزاج الرائق ولم أكن أملك منه شيئاً، وكنت أضحك معها، وأشير لها ببعض الكلمات الموحية مثل كل يوم، وهي كانت ترن بجرس ضحكتها وتتخطف بحركتها السريعة والرشيقة.

ولكن ما أتعب أعصابي فعلاً، وجعلني لحظة أشك بأني أخطأت في تقديره، هو أنها لم تنطق بكلمة واحدة عن هذا الشخص الجالس على مقربة مني، ولم تقل بأن هذا هو العراقي الذي حدثتك عنه. أبداً. وكانت تلبي طلبات الزبائن بصورة سريعة، وتعود لي مثل كل مرة وتقترب مني لتوشوش في أذني كلمة، وتهرب مسرعة لتغسل الكؤوس في المغسلة، أو تصب القهوة أو البيرة لتلبي طلب زبون ما، ثم تعود لي لأقول لها كلمة، وأنا أشرب القهوة وأدخن، بينما كنت أشعر بأن رأسي من الصداع أصبح بحجم الحجرة، مع ذلك لم تفتر رغبتي بمعرفة هوية الجالس على مقربة مني، وأخذت أتكلم معها بصوت عال، وذكرت لها شيئاً مثيراً للانتباه، قلت لها بأني أريد الاتصال ببغداد اليوم تلفونياً، منتظراً ردة فعلها أو ردة فعله هو أيضاً، غير أن كلامي مر عابراً ولم يثر لديها أي شيء، كما أنه لم يثر لدى الشخص الجالس على مقربة مني أي شيء أيضاً، فهو لم يلتفت نحوي، أو ينظر لهذا الشخص الذي سيتصل اليوم ببغداد، مع أن جملة من هذه ستجعل أي شخص لو كان عراقياً بطبيعة الأمر أن يلتفت، ويقول على الطريقة العراقية أنت من بغداد؟ وبعد ذلك نتبادل كلمات مجاملة قليلة، أو أسئلة من طبيعة الأسئلة التي تسأل في تلك الأيام، ولا سيما أسئلة الفضول العراقي الموسوسة والتي تنغر في التفاصيل، من قبيل: من متى وأنت هنا؟ ما هي الأوضاع هناك؟ وطالما كنت أدير في رأسي وحدي هذا الأوهام شعرت بأن الأمر كان محبطاً من أوله إلى آخره.

بعد نصف ساعة تقريباً، وبعد أن يئست تماماً من أي أمل، وشعرت بأني علي العودة إلى الحجرة لأتناول قرصاً آخر من البنادول، طلب منها هذا الشخص شيئاً ما، قال لها بالأمهيرية شيئاً لم أفهمه، فجأة تجمد وجهها بوجهه لوهلة، سكنت ثم تحركت عيناها صوبي بسرعة وصوبه أيضاً، ثم التفتت لي وأشرت بيدها لتجمع بيننا الاثنين، وقالت بالإنكليزية هل أنتما تعرفان بعضكما؟ ثم التفتت لي بشكل خاص وقالت لي هذا العراقي الذي حدثتك عنه! التفت لي هذا الشخص الجالس على مقربة مني، وهي المرة الأولى التي ينظر لي فيها منذ جلوسه، فقد كان ينظر إلى أمام، يشعل سيجارة بعد أخرى، ويشرب بهذه الطريقة القاتلة.

نظر لي مرتبكاً بطبيعة الأمر، تبلبل من سرعة الأحداث المتلاحقة، ودون أن أدعه يفلت مني، هبطت من على الستول العالي على المنصة، وتقدمت نحوه لأصافحه، ارتبك قليلاً أمامي بكلمات متعثرة، ثم غير السيجارة من يده اليمنى إلى اليسرى، وصافحني دون أن يهبط من الستول.

وسألته هذه الأسئلة الفضولية المعتادة، منذ زمان وأنت هنا؟ قال: نعم! من متى؟ سألته. قال: من العام 1983. فعرفت من التاريخ أنه من الذين أبحث عنهم. غير أنه لم يسألني أي شيء لا عن عملي، ولا عن وجودي هنا. ولا عن العراق ولا أي سؤال آخر، لقد اكتفى بأجابتي على أسئلتي بكلمات مقتضبة.

فجأة خطر في بالي أن أدعوه على غداء في الفندق يوم غد. قلت له أنت معزوم على الغداء هنا في مطعم الفندق، انتظرك غداً في الساعة الثانية ظهراً، ابتسم لي، ولم يعتذر، وافق بسرعة، ربما أخذ عنوة فلم أترك له الوقت كي يفكر أو يعتذر، وربما لأن طعام الفنادق الغالي مغر لكل ساكن في أثيوبيا فهو الوحيد الذي يقدم وجبات عالمية لا محلية. ثم انسحبت منه بسرعة، وصعدت إلى حجرتي. طبعاً طلبت الغداء في الثانية ظهراً لأني عودت آدم ولاليت على تناول غدائي في الساعة الرابعة عصراً، قلت سأكون قد انتهيت من كل شيء في الساعة الثالثة.

وبالفعل، كان قد جاء في الساعة الثانية ظهراً، كان طويلاً، نحيفاً، شعره الطويل مشدود إلى وراء، وقد وخطه الشيب قليلاً، ملامحه وسيمة، وعيناه ذكيتان، تصافحنا بهدوء وتبادلنا عبارات مجاملة، ثم جلس أمامي بهدوء، وأخذنا نتكلم على الغداء أشياء عارضة عن أثيوبيا وعن الوضع السياسي هناك، وعن العراق، والاحتلال، ولم يبد أي موقف أزاء الأميركان مع أني حاولت استدراجه، ومن تحليله ومواقفه عرفت أنه من الشباب الذين غادروا بغداد في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات حينما بدأ صدام حسين حملته بمطاردة الشيوعيين وقتلهم. ثم اعترف لي بأنه كان سجيناً سياسياً في الثمانينات، وأنه هرب أولاً إلى الاتحاد السوفيتي، وعمل في وكالة نوفستي، ثم جاء أديس أبابا بعد حكم العقيد منغستو.  من هنا بدأت أسأله عن العراقيين الذين جاءوا هنا ذلك الوقت، وسألته عن جبر سالم وميسون وأحمد سعيد، قال أنه يعرفهم ولكنه يجهل مصيرهم هذه الأيام لأنه يعمل منذ زمن بعيد خارج أديس أبابا، ولم يذكر أي شيء عن الجيش الأممي، أو عن المثقفين الذين التحقوا به ذلك الوقت، أو عن العراقيين الذين كانوا يقطنون أديس أبابا.

ـ وماذا تعمل الآن؟ قلت له.

ـ أعمل في شركة أجنبية. أوربية وأميركية لحماية الحيوانات البرية. فنحن نطارد العصابات التي تحاول اصطياد الحيوانات البرية، الذئاب تحديداً، تقتلها وتصدر جلودها إلى أوربا، ونحاول أن ننشئ بمساعدة بعض المنظمات ودول الاتحاد الأوربي محميات طبيعية للحيوانات البرية في أفريقيا. كان هذا عمله. وقال أنه غادر أي عمل سياسي منذ أن جاء إلى أديس أبابا. قال أنه عرف خدعة وزيف الشعارات المرفوعة منذ كان في بغداد. وذكر معلومة عارضة عن القيادات السياسية في العالم الثالث قال أنهم يهربون ويتركوننا للتعذيب والسجون والهوان. قالها بشكل سريع وهو يشرب كأس النبيذ على الغداء، ولم يبد أية ملاحظة مهمة أخرى، ومن كلامه بدا أنه غير راغب بالمرة في هذا الحديث، وقبل أن أنهي كلامي، طلب الرحيل قال أنه على موعد مع أحد العاملين في الشركة في شارع تشرشل وعليه أن يذهب، غير أنه التفت لي التفاتة سريعة وقال لي متى أنت عائد إلى بغداد؟ طبعاً لم أذكر له إني أحمل الجنسية الأميركية، وإني أعمل في وكالة للصحافة ولا أعيش الآن في بغداد. قلت له بعد أيام سأغادر إلى السودان، ومن هناك سأغادر إلى عمان، ومن ثم إلى بغداد، قال لي قبل أن تذهب أدعوك لتناول الغداء معي في منزلي. فوافقت بطبيعة الأمر، نهض ونهضت معه، شكرني على الغداء، وتصافحنا، وبخطوات سريعة أصبح خارج الباب.

آدم

كنت أعتبر آدم ثرثارا جداً وهو يتحدث لي دون انقطاع عن صداقته لميسون وجبر وأحمد ـ الثوريين العراقيين الذين جاءوا إلى أديس أبابا في الثمانينيات ـ فهو صحفي وثوري أيضاً، ولكنه لم يعد اليوم كذلك، بل بالأحرى كان ثورياً فيما مضى، أما الآن فقد شفا تماماً. الثورة مرض بالتأكيد، نعم إنه مرض يصيب الناس الذين ليس لديهم خبرة واقعية بالحياة، أما الناس الذين يجربونها فإنهم سيشفون منها حتماً، هذه تأكيداته هو وملاحظاته، لا ملاحظاتي أنا بطبيعة الأمر.

كان يذهب معي في اليومين الأوليين إلى كل مكان كنت أذهب إليه تقريباً، كان يرافقني مثل ظلي، فهو من جهة يعمل في صحيفة محلية صغيرة، قليلة التوزيع، كاتب ريبورتاجات صغيرة عن أديس أبابا، وهذا ليس عملاً ثابتاً إنما بالقطعة، لكنه لم يستقر في أديس أبابا إلا في الشهور القليلة الماضية، كان يعمل فيما مضى مراسلاً في الجنوب، قرب الحدود، ثم انتقل منذ زمن قصير إلى هذه الصحيفة القليلة التوزيع، والتي يعمل فيها بعض الماركسيين القدماء..منذ زمن الثورة.

*

جاءني آدم في الساعة الأولى من وجودي في الفندق. التقينا في البهو: كلمات قليلة، تبادل تحيات، تعارف، ثم اختفى تماماً عن ناظري. لا أدري أين؟ بعد ساعتين ظهر مختلفاً تماماً في ملبسه، أكثر أناقة ـ لكنها أناقة عتيقة ـ أكثر لباقة ـ لباقة رثة في واقع الأمر ـ وعلى مدى الأيام القليلة الأخرى ـ كل يوم تقريباً ـ يبادرني وأنا أتناول فطوري في مطعم قريب من شارع تشرشل، ولمدة أسبوع كان يصيبني الفزع كلما أراه من وراء الزجاجة العريضة للمطعم، فهو يأتي ليشاركني فطوري. يتكلم كثيراً بإنجليزية واضحة ولا يحيد ببصره عني، يشاركني شرب القهوة والتدخين  ـ من سجائري طبعاً ـ ويرافقني في شوارع أديس أبابا وباراتها اليوم كله ـ أنا الذي أدفع بطبيعة الأمر ـ يسير معي وهو يتحدث لي طويلاً عن أصدقائه العراقيين الذين تعرف عليهم إبان الثورة دون أن يوافق أن يأخذني إليهم، فهو يقول لي إن اللقاء بهم  يتطلب موافقتهم أول الأمر.

*

 في البداية كنت أكره وجوده معي، كان مفزعاً بطريقة مكشوفة، وفي نهاية الأمر صرت أشعر بالضجر حين يفارقني. لا أعرف أحداً في المدينة إلا من خلاله، وكل النقاشات والجدالات الثقافية والسياسية كان يديرها بيني وبين الآخرين ببراعة، في الواقع كان الرجل مهماً ـ بالنسبة لي على الأقل ـ فقد تعرفت من خلاله على الكثير من المثقفين والمثقفات في المطاعم والبارات، ولا سيما لاليت الجميلة ـ والتي انتقلت بعد أيام معي في الغرفة ذاتها في فندق المسكال ـ وأكثرهم من الماركسيين طبعاً. وكان هذا الأمر مهماً جداً، لي على الأقل، وهنا في موضوعي على أقل تقدير. وهناك ما هو مخيب في المشهد كله، ولا سيما تصوري الأول عنه ولم يكن في محله: صورة مخبول بلحية كثة، ثوري قديم وإن لم يكن كبيراً في العمر، ضحكاته التي تحتضر سريعاً دون أن أعرف السبب، الحديث عن البديهيات والمطلقات دوماً تقريباً، تاريخ لا يفضي أكثر الأحيان إلى شيء ذي بال، البوح بأسراره ولا سيما عن زوجته التي هجرته، شروده وضياعه في أحيان كثيرة، وذهابه في النهاية مع عاهرة، فيطلب مني المال لمضاجعتها.

*

آدم ... هكذا عرفته، قطعة من أديس أبابا لا يمكن لأحد أن ينتزع المدينة في ذهني عن شخصيته: طويل. نحيف. أسمر. عذب الملامح. مبتسم على الدوام. مثقف عصري. ثرثار على نحو غير مسبوق. ولكن صوته العذب يخفف هذه السمة بجدارة كبيرة، وهناك من جهة أخرى أديس أبابيته إن جاز التعبير، فهو ملتصق بهذه المدينة، ويعرفها معرفة موسوعية، وهذا ما يجعله دون شك مهماً. ولكن بصراحة ليست المعرفة بالمدينة وحدها هي المهمة، إنما هذا التماثل بين الشخصيتين، شخصية المدينة، وشخصية آدم على التوالي. ولنقل من جهة أخرى إن أديس أبابا تمنح آدم مميزات وحياة نادرة، فهو شخص متواضع إلى حدّ فقدان الهيبة، وطيب إلى حدّ السذاجة، مثل المدينة بالضبط. بدأ حياته مراسلاً محلياً جنوب المدينة، وشاعرا مؤمناً بالمسيحية والأفكار الكهنوتية، وكان صديقاً مقرّباً من راهب شهير في أديس أبابا، ثم أصبح لاحقاً قسّيساً نباتياً زاهداً وملحقاً بصفوف جيش هيلاسي لاسي، غير أن التطورات الأخيرة في حياته وثقافته، دفعته أن يتحول إلى الماركسية ويتخلى تماماً عن رجال الدين. السبب ربما هو هذا التواطؤ الكهنوتي مع السلطة الملكية.

كان آدم يتحدث بمنطق الماركسيين، ولكن ربما هناك ومن داخله هذه النزعة الأممية المسيحية التي جعلته يتوائم كثيراً مع الماركسية وأفكارها.

*

لكن ما معنى الماركسية نسبة للأفريقي؟ إنها تعني الروح الثورية في تحرير الناس. إسقاط عبودية رجال الدين. تحرير الأرض. الخلاص من عبودية الأرستقراطية الملكية الهيلاسيلاسية. ومن ثم وجد آدم نفسه منخرطاً في صفوف الثوار، ومتورطاً في عمليات تهريب المطلوبين إلى خارج البلاد، كان في الحركة السرية للمثقفين كـ"أندر غراوند" للثورة التي كانت على الأبواب، لقد أصبح واحداً ـ من كثيرين طبعاً ـ ممن استجابوا لحركة التمرّد التي أطلقها الضابط الشاب منغستو، هذا العسكري الفذ والذي أطلق كلمة ـ ثورة ـ عالياً في سماء أديس أبابا. لقد تحول كلياً إلى الثورة. وقد آمن آدم المثالي بمبادئ وأفكار هذا العسكري المتمرد، والإيمان هو الذي دفعه للانطلاق من حيّز التنظير إلى ميدان الممارسة، وإن كان آدم مثالياً، فهذا قدره الطبيعي. غير أن فلسفته المثالية ومفاهيمه الأخلاقية ودوغمائيته هي التي سببت له الكثير من الخيبات ـ فيما بعد  ـ بطبيعة الأمر.

ثورة وتحولات

كان آدم كثير الحديث عن تلك المرحلة، مرحلة التحولات من قسيس إلى مناضل شيوعي، من راهب متبتل إلى زوج لإحدى المناضلات. كان حديثه معي تتخلله مشاهد وأحداث متفاوتة زمنياً يتم استعادتها بأسلوبه الثرثار والإعلاني، ورغم رغبة آدم في أن يكون صادقاً مع زوجته، إلا أنه بقي عاجزاً عن تحريرها من أوهامها عنه. فقد كان يدرك ابتعاد الثورة تاريخياً وأخلاقياً عن أفريقيا، وكان يتحسس وحشيتها إزاء الناس، أما على صعيد معاناته وخيبات أمله المتلاحقة بنفسه وبالثورة، فقد كانت جراء اكتشافه الفرق بين تنظير الماركسية وتطبيقاتها على الواقع ـ جملة يرددها دائماً الخارجون عن الثورة، ولنسمهم منظرو ما بعد الثورة ـ وجراء عجزه التام عن التأثير في مجرى الأحداث، أو الحدّ من سفك الدماء، أو تغيير الطريقة الوحشية التي كانت تدار بها هذه الثورة رغم عدالة قضيتها، أخذ آدم يتغير شيئاً فشيئاً. غير أنّ أكثر ما كان يؤرق ضمير آدم، إخفاؤه عن زوجته حبه ومشاعره الحميمة تجاه امرأة جميلة ومتعلمة التقاها في البار، ومن ثم شاهد بنفسه تعذيبها واغتصابها من قبل البوليس لأنها لم تكن تؤمن بالثورة.

*

كنا نلتقي آدم ولاليت وأنا كل يوم تقريباً، نتحدث طويلا عن الثورة وعن الثوار، عن الزمن الذي مضى وخلف آلاف الضحايا والمفقودين، وكنت أشعر بأن لهما الرغبة في الكلام كثيراً، كان يدرك أن كل واحد من ثوار ذلك الوقت ـ لا أحمد سعيد العراقي وحده ـ يظن أنه جيفارا. وقال لي آدم إن كل ثوري ربما يصحو من النوم ليسأل نفسه هل كنت أنا حينما ذهبت إلى الثورة أم كان شخصاً آخر؟ ذلك أن كل ثوري يحلم أن يصرخ شخص ما أين..جيفارا؟ فيجيب:

ـ نعم، أنا هو!

يعني، يمكن أن تكون أي شخص، إلا أنت. هكذا قال آدم ببساطة شديدة وهو يشرب كأس البيرة الذي أمامه.

*

في الواقع، حدث ذلك في يوم جهنمي من الحرارة الأفريقية اللاهبة، كنا جالسين وجهاً لوجه على مقاعد من البامبو في مقهى صغير في شارع تشرشل في أديس أبابا، كان مكيف الهواء معطلاً، والذباب يزحف بنهم على الطاولة، وعلى صوت الجالسين أخذ آدم يتحدث لي بالتفصيل عن حياته الماضية، وكنت أدون ما يقوله على ورق مخطط أمامي، ومنشغلاً بكش الذباب عن يدي ووجهي.

كنت أرشح عرقاً تحت الحرارة اللاهبة، وألاحق نظراته التي تتبع فتاة ترتدي كنزة خضراء خفيفة، وشورتاً أبيض، قلت في نفسي: إنه بعد الأربعين من العمر وهو ينظر إلى النهدين الصغيرين والأظافر المقلمة.

كان يتحدث عن حياته بلغة جميلة، وكنت أستشعر مع اللغة الحية التي يستخدمها قلقه الدائم مما يحيط به، وشعوره الكبير بعدم الراحة..كانت ملابسه وهيئته زرية إلى حد كبير، ومن صوته كنت أعرف الطريقة التي يتعفن فيها الثوري بعد سقوط الثورة.

لا وجود لأبطال في الثورة. لأنهم بعد فترة سيقتل أحدهم الآخر. لأسباب لا علاقة لها بالثورة. للتنافس على أشياء كثيرة ليست الثورة من بينها. يعين آدم الأحداث اللاحقة للثورة بدقة هائلة، فالتنظيم الحقيقي للثورة يدفع الناس إلى نسيان المؤثر الأول الذي يحفزهم للهروب إلى الثورة، ينسون روحهم، ولكن بعد سقوط الثورة، كل واحد يبدأ بالبحث عن روحه، ولكنه لا يجدها إلا وسط حمى القتل والترويع.

معلومات

كان يمكنني أن أجمع منه أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الثورة، وعن الثوريين في ذلك الوقت، وعن أفراد حرب العصابات وحياتهم، مع أنه لم يكن يأخذني على محمل الجد ـ ربما بسبب أوهامه عن نفسه، أو بسبب سكره الدائم ـ ولكنه مع ذلك كان يزودني على الدوام بحوارات لم أصدق في يوم بأني سأحصل عليها. كان يتحدث عن شخصيات ثورية عظيمة لم أكن أعرف عنها شيئاً، وهي موجودة دائماً وسط التوافه العادية للحياة، يتحدث عن الأشياء البسيطة والرخيصة والتي تستحوذ على فكر الثوريين وتدفعهم إلى التنافس الدائم، أما المثقفون فهم دائما ذيل وذنب هؤلاء الثوار لتبدأ سلسلة أخرى من الانحطاط: الكتابة المبتذلة لجمع المال والتي يطلقون عليها (استمرار الحياة)، المفردات السياسية اللقيطة، الخطابات المناسبة للبالوعة، والإحساس المفرط بالانتقام. "هم الذين يحرضون السياسيين على القتل والترويع والإثارة." قال لي وأنا أصغي له. وكنت أشعر أن الثورة تنقلنا من التوافه إلى ما بعد التوافه، مثلما الثورة هي العدالة وما بعد الثورة هي الجريمة بدلاً عنها، ذلك أن الحديث عن الأشياء المروعة تنقلنا من الحلم بالعدالة إلى ظلام شوارع السقوط، تنقلنا إلى الكشف الخاص عن الابتذالات العامية أسفل الرتبة، والتي يستخدمها المثقفون عادة ـ وهم يعبرون عن كراهيتهم للنساء البرجوازيات اللواتي يهتممن بالقطة والمطاط وساعات الجيب! تنقلنا إلى مناورات الانقلابات الفاشلة، والشخصيات الغامضة، حيث ينتهي الثوار ولم يعودوا يتسكعون عند المكتبات الحمراء بحثاً عن كتب لينين، وتروتسكي.

ثورة وسأم دائم

يقول: كانت مشكلة الثورة أنها سرقت.

قلت له كل الثورات سرقت، لماذا يا ترى؟

أو حين يتكلم عن المثقفين: "مشكلتهم واحدة: ثورتهم الكلامية دائمة." أما الثورة فهي نسبة له أعظم من حياة الأفراد بكثير:

 "تعر ـ قال وهو ينظر بعينين شاردتين ـ الثورة هي المثيرة حقا لا الكتابة عنها، ولكنها سرقت من قبل اللصوص والمحرفين".

دوماً هناك لصوص وهناك محرفون.

*

ثوار أفريقيا مثل ثوار العراق يعيشون زمن ما بعد الثورة، يمضون يومهم الطويل المضجر مع شعراء مغمورين، مع ندل فقراء، مع خادمات يعدن في المساء لشرب كأس رخيص، ويتاقسمون الحياة في أماكن أبعد ما تكون عن الثورة. في الصباح النوم في شقق الفنادق الرخيصة، وفي المساء: عاهرات، حانات، صفقات، نساء يتغوطن بالتناوب، وتهديدات من كل نوع. ولأسباب تافهة، يصرخ على صديقته الأفريقية:

ـ "لا تقولي هذا وإلا سأسمر مؤخرتك على الحائط".

وفي العمق كانت هنالك أفريقيا التي حلم بها الجيل السابق لجيلي في العراق، جيل الثورة كله تقريباً، جيل الثورة الذي حول حياة جيلي إلى هراء وخراء. فضاءات أديس أبابا المفضلة لدى الثوار، شوارع العواصم الخلفية والأقبية السرية، حانات المجرمين والثوار العاطلين، عاهرات الملاهي اللواتي يقدمن لك على حسابهن الخمور الرخيصة، القتال في نوادي القمار من أجل سنت واحد، الركض وراء النساء المطلقات والاستمناء في التواليتات العمومية، وأخيراً هنالك الصحفيون الذين يبحثون عن الفطنة في الظلام الروحي.

*

هكذا أمضيت وقتي مع آدم ولاليت.

 لقد جربت أسلوباً جديداً تماماً في الحياة، الأسلوب الأفريقي، إنه الأسلوب الواطيء والمتقطع واللين والبسيط. لقد عشت هناك وأنا أرقب يومياً عامل البار الأسود المتملق، الرجل الأشعث ذا الشعر الأبيض والجلد الأسود، عشت هناك وسط القذارة والوسخ ولكنها أعظم من كل مكان نظيف ومريح عشت فيه، لقد نمت مع النادلات السوداوات في علية البارات وقبلت شفاههن الملونة كالدخان.

أفريقيا الثورة

أفريقيا الثورة بحاجة إلى بضعة أشياء كي تتوضح، إلى بضعة عناصر بسيطة كي تخطط وجهها ويكتمل المشهد:  ثوري متقاعد يجلس في بار يشبه البارات في المتربولات البعيدة في الستينات، رجلان يرتديان قبعتين قديمتين ويغازلان امرأة تحمل سلة خيزران ولها مؤخرة كبيرة. نادل يرتدي الملابس الأوربية العتيقة ويقدم مشروبات قليلة ولكنها مسكرة جداً. امرأة سوداء، عاهرة ربما، تجلس وهي ساكنة سكوناً أبيض. فريق جاز غريب الأطوار يعزف بلا انقطاع حتى الصباح. ساعي بريد مثالي يدخل الملهى، ولا يعود حتى يسلم الرسالة إلى صاحبها. وشاعر يقرأ قصيدة إيروتيكية بأقل التضاريس الأدبية الممكنة.

*

كنت سرت مع آدم الذي قاتل في أديس أبابا في الثمانينات على طول شارع تشرشل، وهو يصرخ:

ـ "ذهب منغستو. لقد سرق الثورة. وانتهت معه."

تروتسكي قالها عن لينين أيضاً.

رفاق صدام قالوها عن صدام ـ الرفاق الذين بقوا على قيد الحياة طبعا، وهم قلة بالتأكيد ـ رفاق منغستو قالوها عن منغستو، الثورة موجودة على الدوام، والخارجون عنها كثر، بعضهم لا ينامون إلا في قبر، وآخرون يتوزعون على السجون والمنافي.

*

كنا نسير ببطء على الرصيف، وعلى مقربة منا كلب وسخ يتشمم العشب في دوائر شاردة، سكير منطرح على الأرض وقربه قنينة بيرة فارغة، رجل عجوز هزيل في شتائه الأخير تقوده فتاة بثوب كاثوليكي. عيناه تلاحقان فتاة أخرى في الطريق، عيناه تلاحقان فتاة تهزّ ردفيها وهي تسير أمامنا، تنظر لإعلانات تملأ الواجهات عن أفلام هوليوود، ثم نسير في طريق آخر مليء بالسكارى والمجانين، وعند ركن كل شارع تقريباً هنالك رجال ونساء يتبادلون القبل في السيارات.

لاليت وأنا

أما لاليت فقد كانت من طراز خاص، انتقلت بعد أيام معي في حجرتي الصغيرة ذات السرير الواحد والكومدينو والحمام بالدوش في فندق المسكال. طبعاً. كان الأمر بسيطاً جداً، بسيط جداً مثل كل شيء في أفريقيا، سهل وبسيط وبلا ملامح بارزة، السعادة زائلة، الجنس مثل الماء سهل البلع للناس الأصحاء، كل شيء قابل للمشاركة: الحياة، السرير، الجسد، الثقافة، الطعام، الحمام، المرحاض، الأسرار. وفي الأسفل كل ما هو ممتع لرجل مثلي: تمدد طويل في الظهيرة معاً على السرير، جمل قليلة وحماسة مفرطة، عبارات مثيرة وأصابع تعبث بالنهود الصغيرة، سيجارة في المنفضة تنتهي دون أن يمسها أحد، كتفان قويتان وإزاحة الفرش عن السرير بسرعة، أما أنفاسنا في الحجرة فقد كانت لا تتريث أبداً، إنهما الشهيق والزفير الصاخبان في الجنس، واللذان يختلطان مع خيال المنظفة الزنجية في الممر، والذي كنا نشعر بها من خلف شق باب الحجرة.

*

أما الحديث فقد كان بشكل خاص عن الجنس، مستخدمة كل الكلمات الجريئة والمتهورة، حديث صلب وصادم في آن واحد، لي أنا على الأقل، أنا، الذي أستخدم الكلمات المتقشفة والمحرفة في هذا الموضوع بالذات، تضحك. ثم تمد جذعها الطويل والممشوق فوق وسطي، لتدير مفتاح الراديو الصغير على الكومدينو، تعود لتترجم لي كل ما قاله المذيع بالأمهيرية.

وأنا أتمدد إلى جانبها، ألامس جسدها العاري، وهي ترفع ساقيها وتمدهما دون حرج وكيفما تجد نفسها مرتاحة. العقد الفضي يزين عنقها، السلسلة الناعمة البيضاء على خصرها تجعلها مثيرة، حرة. طليقة.

تتناول الصحيفة وتقرأ بها، تنهض إلى التواليت تجلس لتشخ شخة طويلة دون أن ترد الباب، وعيناها البقعاوان تتلاقطان في الفراغ، رائحتها الوحشية تملأ الحجرة، أشعر بنفسي مهزوماً أمامها.

*

 يا إلاهي لا أستطيع أن أتعامل مع جسدي مثلما تتعامل هي مع جسدها. أتمدد وأنظر نحوها، الهواء الرطب الثقيل تدفعه المروحة البطيئة الحركة على رأسي، وحرارة الشتاء الساخنة هي الملمس الطبيعي لقدوم الربيع المزهر.  سماء زرقاء صافية بغيوم بيض متفرقة، والصراصير الحمر، صراصير أفريقيا تتحرك بسرعة في الزوايا المظلّمة. تنهض في الصباح من الفراش، تزيح الشرشف وتهبط بخفة من السرير، تدخل الحمام، تقف تحت الدوش دون أن تغلق الباب.

*

أفتح عيني ببطء دون أن أشعرها بذلك، وأنظر إلى جسدها الأسمر الفتي الناعم، إلى نهديها الصلبين، إلى شعر عانتها الأسود المغسول بالماء الساخن، أنظرها وهي تمرر يدها على مناطق جسدها الحميمة، تستدير فتصبح مؤخرتها العالية بمواجهتي، تأخذ المنشفة وتضعها على رأسها، تجلس في التواليت دون أن ترد الباب أيضاً. بعد دقائق تنهض وتسحب السيفون وتخرج عارية أمامي والماء يقطر من جسدها الأسمر البض والرطب. تقف أمامي! نهداها الصلبان السمراوان، ساقاها الرشيقان، تنفض شعرها الكث والثقيل، تتناول القميص وترتديه دون سوتيان، وترتدي البنطلون دون كالسون، تلتفت نحوي وكأنها تعرف بأني أراقبها.

 ـ هل تريد شيئاً. أنا خارجة؟

-لا ..لا.. أقول مرتبكاً.تخرج وتترك في المكان رائحتها الوحشية.

*

أصبحت الحجرة مجموعة من الروائح والأشياء المرمية بلا اعتناء في نواح كثيرة. أوراقي، ملابسي، رائحة لبانها ممزوجة بأعقاب السجائر في المنفضة، قناني البيرة الفارغة والأقداح المكومة من الليلة الفائتة. ومن النافذة المواجهة لسريري كانت تأتيني أصوات السيارات وأصوات الباعة والموسيقى الأفريقية، وصوت المذيع الأثيوبي وهو يذيع الأخبار بالأمهيرية. بالأمس بكت لاليت وهي عارية في فراشي، نشجت، وفاضت الدموع من عينيها البقعاوين، وقالت بحسرة شديدة: هل بقيت أفريقيا على حالها؟ هراء. الثورة ماتت، الثورة انتهت. لم تعد هناك ثورة ولا أي شيء من العلم الأحمر. أفريقيا عبودية للسود في النهار، وفي الليل بغي للرجال البيض الذين يركبون نساءها وينهبون ثرواتها.

شيء عن لاليت

أنا هنا في أفريقيا منذ أسبوع فقط، ولكن مظهري يدل على أني أعيش هنا منذ أعوام. كل شيء سهل وبسيط، ويمكنك التعود عليه بسرعة. كنت أتمدد مثل أي أفريقي يجلس على شجرة بامبو ولا يتزحزح. كنت أعيش الكسل الأفريقي الذي أحبه، الكسل الذي حرمتنا الرأسمالية منه، أنام وأنا أشخر كما أريد، آكل وأنا على الفراش دون طاولة أو ترتيبات، لا أرفع الصحف المبعثرة عن الارض، أقرأ العناوين ذاتها وأنا آكل، الصحف متناثرة على الأرضية، أدوس عليها وأنا أسير، ولا أحملها، أو أرميها في الزبالة، نشرب ـ لاليت وأنا ـ فوق السرير، أحياناً تنسكب البيرة على الفرش، ننكتها بأيدينا، وننام فوقها، ليس بالأمر المهم.

أسمع موسيقى أفريقية ممتزجة مع الضجيج القادم من النافذة، الأصوات التي لا أفهمها ولا أميزها، وأعشق الحجرة الفوضى التي تعطيني نوعاً من الراحة التامة. فأقول: ليس صعباً أن تأكل وتشرب وتنام وترقص وتموت بأمان كامل. نسي ماركس شيئاً مهماً، أفريقيا هي المكان الملائم للشيوعية، لأنهم لا يفكرون بالملكية مطلقاً.

*

أستفيق في الساعة الحادية عشرة صباحاً. مريضاً ومصاباً بالغثيان. دماغ فارغ. أجلس أمام أوراقي البيض وأدون بعض الأشياء: ولدت لاليت في "جينكا". كان والدها قاضياً ذلك الوقت، وقد شاركت أيام دراستها بالمدرسة الثانوية في أديس أبابا ـ كان عمرها ذلك الوقت خمسة عشر عاماً ـ في عدة مظاهرات مؤيدة للعقيد منغستو. ثم بعد أن استلم العقيد الحكم ذهبت إلى المناطق الريفية في إطار حملة لمحو الأمية، ولما خاب أملها هناك، عقدت علاقة حب مع شخص كان ينتمي إلى حزب الشعب الثوري الإثيوبي، ثم بدأت تتنظم في الكفاح ضد السلطة الجديدة بدعوة الطلاب والشباب إلى العودة من المناطق الريفية إلى أديس أبابا. غير أن النزاع لم يكن سهلاً، فقد أفضى إلى ما سمي "بالرعب الأحمر"، وإلى القضاء بوحشية على فصائل معارضة المجلس العسكري، ثم بدأت موجة أعمال من القتل العشوائي. ألقي القبض على لاليت ونقلت إلى معسكر اعتقال حيث قضت عاماً كاملاً هناك.

*

أثناء اعتقالها أُخضعت لعمليات إعدام كاذبة وإلى غسل دماغ، وكان يسمى هذا التعذيب: "التعميد على يدي منغستو". ثم انتهى "الرعب الأحمر"عندما أيقن النظام القائم من مقتل جميع زعماء الحزب، فتم حينئذ إطلاق سراح عدد كبير من السجناء السياسيين.

ـ ولكنك ماركسية.

ـ نعم أنا ماركسية.

ـ وضد منغستو.

ـ نعم.

ثم نقلت إلى سجن "كيرشيلي" حيث قضت أربعة أعوام، كانت تجبر على التجول وهي عارية وتعرضت أكثر مرة للاغتصاب. وهذه المرة الأولى التي تتعرف فيها على ميسون العراقية.

ـ أوه الثورية العراقية؟ نعم ... كانت معي في السجن.

ـ ولكن لماذا فهي شيوعية.

ـ كل السجناء كانوا من الشيوعيين والسجانون كانوا شيوعيين أيضاً.

هل سأصل إلى الثوار

طبعاً كنت أعرف أن آدم لا يريدني أن أصل إلى مقابلة الثوار العراقيين مباشرة، فلا شيء يصلني إلا عن طريقه، كما أنه يبطء في هذا الأمر حتى يستغلني لفترة أطول. وكنت أتساءل إن كان ما يزال يعمل مخبراً لدى السلطات الجديدة، والتي تواصل وإن بدرجة أقل الرعب الذي بدأه العقيد منغستو؟ ثم قررت مواجهته في لوبي الفندق، حيث كان واقفاً يدخن ويتكلم مع امرأة كبيرة السن، أظنها قادمة من جامايكا:

ـ آدم إن لم تدلني عليهم سأذهب أنا في البحث عنهم.

قال: لا .. أنا أنتظر منهم الرد.

قلت له: آدم لا تحاول أن تعبث معي.

قال: هل نشرب كأساً معاً اليوم؟

تعال عندي في الشقة. قلت له!

صرخ ورائي:

عمل ساذج هذا الذي تقوم به أليس كذلك؟

حملت حقيبتي الصغيرة على ظهري، دسيت يدي في جيوبي. هرولت بحثاً عنهم.

*

عدت دون أن أعثر عليهم بطبيعة الأمر، فحاولت كسر حالة اليوم الكسولة التي كنت أعيشها، بالسير في الشوارع دون هدف، ثم هرعت إلى البار، فوجدت آدم بانتظاري، وحاولت أن أقنعه بأني سأظل أصرف عليه لأيام أخرى، حتى وإن وجدتهم، أو حتى بعد أن آخذ منهم التصريحات أو المقابلات الصحفية التي أعددتها بشكل جيد، سأبقى بضعة أيام، هناك ومن ثم سأعطيه بعض المال تثميناً للعمل الذي قام به معي.

*

سكر هو، وأنا كذلك. طبعاً. وأخذ يتجادل معي بصوت عال. كان البار مملوءاً بالنساء والرجال الذين يرقصون أو يتطوحون على مقربة منا، صرخ بلسان متلعثم وهو يضرب على الطاولة: الثورة. خراء. الشيوعية هراء روسي سمموا عقولنا بها. لا وجود لثورة ولا أي شيء من هذه السخافات، كانت هنالك حرب باردة في أوربا، انتقلت إلى أفريقيا وآسيا. روسيا استخدمتنا. وأميركا استخدمت الآخرين. استخدمت الحكومات. وهكذا وجدنا أنفسنا نتقاتل، بينما هم يعقدون الصفقات، ويتآمرون علينا.

*

كنت مختنقاً بهذا الكلام، ولم أكن أحتمل منه الكثير، وما حاجتي بهذا الكلام في ذلك الوقت. كنت أريد الوصول إلى الثوار بأي صورة. قلت من غير المعقول أمكث أسبوعاً دون الوصول إليهم. حين عدت إلى الشقة كانت لاليت نائمة، رفعت الغطاء عنها ودسست نفسي خلف مؤخرتها. كانت رائحتها طيبة، وشعرها الكث ينغز وجهي فيهيجني. نقرتها بأصابعي وكما لو سقطت في بئر من النشوة، أصدرت صوتاً متهدجاً، صدى قوياً، رعشتها مثل قرع دف خفيفة ومرتعشة، ثم ابتلعتني لذتها بعيداً في هوة سوداء بلا قرار.

كان الليل في الخارج أسود فاحماً، شجرة حمراء طويلة لم تنل غايتها من ماء المطر عند النافذة، وعند الباب سطل يتدلى وقاعدته مبقعة بصدأ أحمر.

سحر أفريقيا في الحجرة. ومن النافذة كنت أشعر بالعابرين المتلصصين المبتهجين، بالضفائر المجدولة، بالشفاه التي تلمس رِقاباً عارية، أشعر باللحم الأسود وهو يتشابك ببعضه، بالوعود الكبيرة وبالتنهدات.

هل لهم وجود؟

بعد أيام ضجرت، قرفت، شعرت بأن ما يحيط بي مثير للشك والريبة، شعرت بأن لا لاليت، صديقتي الحميمة، ولا آدم، يريدان إيصالي بالثوار العراقيين. ومن هنا دب الشك في تفكيري بسرعة. من جهة فكرت بالأمر على النحو التالي:

ـ ماذا لو كانا مخبرين يعملان لدى السلطات المحلية، ويدبران أمراً ضدي. أنا أعرف أن السلطات في العالم الثالث يمكنها أن تقتل أي شخص بمجرد أن تشك به لأدنى سبب، أحياناً تقتله بمجرد أنها لا تعرف نواياه، أو تجد تصرفاته غامضة ولا تستطيع أن تحل لغزه، هكذا ببساطة ترسل له شخصاً أو شخصين، في الغالب بينهم امرأة، وتحاول أن ترصد تحركاته، وتعرف أسراره، وكنه المهمة التي جاء من أجلها، فإن شكت في طبيعة عمله ستخلص عليه وتنهي الأمر بسهولة، والأمر لا يحتاج ذكاء كبيراً، يقتل من قبل عاهرة لأجل السرقة، وأحيانا تدبر الخطة بأكثر الوسائل بدائية. في تلك اللحظة شعرت وقد اقشعر بدني كله، أمر في غاية الخطورة، ماذا لو كان رفيقاي الماركسيان عميلين رخيصين لدى الحكومة.

الأمر الثاني هو: ماذا لو لم يكن هناك أي واحد من الثوار، والأمر برمته هو فبركة روسية أيام الحرب الباردة. ماذا لو كانت حتى الثورة مفبركة، ماذا لو كان الأمر برمته محض خيال، ماذا لو كان الأمر مؤامرة، على الطريقة التي نفكر فيها في العالم الثالث، وبذلك ستكون الإمبريالية هي التي اخترعت هذه الشخصيات وهي التي خدعتني بالذهاب إليها، كله لأغراض كولونيالية محضة؟!

*

انتظرت قدوم لاليت من الساعة الثانية ظهراً حتى الرابعة، وأنا أسير جيئة وذهاباً في الغرفة، ووضعت في رأسي كل الاحتمالات الممكنة، حتى إمكانية هربي ووصولي إلى المطار مباشرة. على العموم كان الأمر كله شبه مهزلة، فأنا أريد إخافتها، وتهديدها، وفي الوقت ذاته أنا خائف منها وأشعر بأني مرتعب أيضاً، ولا سيما حينما وضعت احتمال أن تكون مخبرة تعمل لدى السلطات ضدي احتمالاً وارداً.

*

دخلت لاليت حجرتي في الفندق. دفعت الباب ودخلت، فوجدتني قبالتها مباشرة، رفعت رأسها مندهشة، التقت عيناها بعيني مباشرة، وكأنها شعرت بشيء غير طبيعي، ابتسمت بعينيها الجميلتين. ما أرقها، وما أجمل قوامها. فجأة شعرت بأني مسلوب الإرادة أمامها، شعرت بأني غير قادر تماماً على تصديق شكوكي إزاءها. ولكنها شعرت بشيء غير طبيعي. ابتسمت، اضطربت وخجلت.

قلت لها: لاليت. تعالي، لن أتركك اليوم تذهبين دون أن تقولي لي هل هنالك ثوار؟ هل يوجد هؤلاء الأشخاص هنا؟ لم آت من ذلك المكان البعيد لتسخري مني سمعت، لقد سئمت. ابتسمت لاليت بعينيها المرحتين، وقالت: اسمع هؤلاء الثوار كانوا هنا، ولكن بعد رحيل منغستو وسقوط الثورة رحلوا إلى أوربا. باستثناء شخص واحد وهو ثمل على الدوام، كان صحفياً شيوعياً جاء لينقل وقائع الثورة هنا ثم تزوج من امرأة أثيوبية وبقي في أديس أبابا، ولكن بعد سقوط الثورة انهارت حياته تماماً، وهو يعيش مشرداً في حانات وبارات أديس أبابا. بقي لأنه كان متزوجاً من أثيوبية، ولا أظنه الآن يعيش معها. ولكنه موجود ويمكنني أن آخذك له.

ـ هذا جبر سالم، قلت لها.

ـ نعم هو.

ـ أريد أن أراه لا تضحكي علي. ها أنا فهمت خدعتك. تريدين ابتزازي.

ـ لم أفكر بابتزازك. ولكني كنت أفكر بأن تبقى معي هنا أطول فترة ممكنة.

*

تسارع حفيف الشجرة الحمراء عند النافذة، شعرت بالدفء والرطوبة معا في الحجرة، رأس لاليت الجميل والداكن على كتفي. شفاه عذبة تتكلم. ابتسمت، ابتهجَت، أسرعت في الابتعاد. كانت سعيدة ذلك اليوم، فقد تقاطعت سنين عمرها مع عمر الثورة، عاشت سنوات في موسكو، كانت مهووسة بالمسرح، وبالفودكا، عادت إلى أديس أبابا. وجهها كان نحيفاً أكثر من ذي قبل، أردافها أكثر امتلاء، وشَعرها الخريفي الأسود مشذّبَ بلون رمادي. وبدت خطوات قدميها في الصندل أكثر ثقةِ بينما هي تَقتربُ مِني.

الشيء الغريب الذي شعرت به أن لاليت تعرف مكان الثوار العراقيين أيضاً، ولا تريد أن تدلني عليهم، وأقنعت نفسي أن هذا بسبب الحب، لكي تجعل علاقتنا أطول ... ربما. قالت لي لاليت: أحمد سعيد وميسون هاجرا إلى أوربا بعد الإطاحة بمنغستو، لا يمكنهما أن يبقيا بعد الإطاحة بالنظام. غير ممكن.

ـ لماذا غير ممكن. أنا لدي معلومات أنهما هنا، لا يمكن أن يذهب شيوعيان بعد أطاحت الإمبريالية الغربية بهما إلى الغرب، شيء لا يمكن تصوره.

ـ أبداً هذا ما يحدث دوماً، تحدث الثورة يهرب الزعماء إلى أوربا، تطيح الإمبريالية بالثورة يهرب الثوار إلى أوربا. هكذا الأمور، وهي دوماً تحدث هكذا.

جبر سالم

في اليوم التالي ذهبنا لا ليت وأنا إلى بار في شارع تشرشل، كنت أعددت حقيبتي بصورة جيدة: جهاز اللاب توب، المسجلة وقد وضعت فيها شريطاً فارغاً، أوراقا بيضاء، أقلاماً، الكامرا التي سألتقط فيها الصور لأحد الثوار العراقيين الذين جاءوا هذا المكان في الثمانينات، كنت متوتراً قليلاً، متأثراً ومهتماً. هذا اللحظة كنت أنتظرها منذ زمن بعيد أليس كذلك؟ وربما أسهم هذا التأجيل الذي تعمده آدم ولاليت على جعل هذا الحدث مؤثراً. ومؤثراً جداً.

كان جبر سالم شخصاً مهدماً، شعره أبيض، ويسير بصعوبة بالغة.

ـ أنت الثوري العظيم!

مازال يحتفظ بكبريائه، مازال يحتفظ بصورة ربما موهومة عن نفسه، ولكنه كان يرفع رأسه بكبرياء ظاهر، يتحدث ببطء أول الأمر وبمرح كثير، لم يكن كئيباً أو متحفظاً، وكان يعرف لاليت بصورة جيدة، كانت ملابسه رثة إلى حد كبير، غير أن حذائيه كانا جديدين، ربما طلبهما من شخص آخر، وكان يتحدث بلهجة عراقية مرحة، بينما يلتفت إلى لاليت ويحدثها بالأمهرية التي يتقنها جيداً، الوسامة ذابلة لم يبق منها شيء، يمكن أن نميزها في تقاطيع وجهه الوسيمة، وفي شعره الأبيض المسترسل إلى الوراء، لم يكن قذراً أو وسخاً أبداً، كان نظيفاً إلى حد كبير، غير أن ملابسه كانت عتيقة جداً، كانت رثة إلى حد كبير. وبعد ذلك طلبت له كأساً من الويسكي وهو يحدثني عن أشياء مختلفة، وحين طلبت منه أن أسجل له بعض الأشياء أراد أن يعرف من أين وجهتي.

أميركا.

أوه في البداية رفض، ثم وافق:

وها أنا أسجل كل ما قاله كما كان في المسجلة كلمة ... كلمة.

*

لقد خدعوني. لم أكن أعرف أن أفريقيا كلها زبالة، الثورة هراء، لا وجود لثورة ولا لثوار ولا أي شيء من هذه التفاهات. لا بل أقول لك: الثورة ماخور مظلم دخلنا فيه ولم نعرف كيف نخرج منه، وإن هؤلاء الذين تسميهم ثواراً لم يكونوا غير قوادين وعاهرات. لا تقل لي لا. أقول لك لم يعد على الأرض ثوار ولا قنادر في أديس أبابا. صرخت بوجههم يا كلاب وهربت. كادوا أن يقتلوني بسكينهم، قالوا أنت عميل جئت كي تتجسس علينا، هل هذا الكلام معقول، بعد كل الذي عملته من أجلهم يتهموني بأني جاسوس قذر جئت لأنقل المعلومات عنهم، هل هذا الكلام معقول؟ يتهموني هذه التهم القذرة بعد أن ضحيت من أجلهم، بعد أن تركت حياتي خلفي وتركت كل شيء من أجل مساندتهم في حرب التحرير. هل هذا الكلام معقول؟! طبعاً اليوم اكتشفت أن كل شيء باطل، كل ما قالوه وكتبوه هو كذب وخداع. حتى ما كتبته أنا ليس له أي حقيقة. واكتشفت بأني أحمق حين جئت إلى هذا المكان النتن. كنت أحمق حين جئت إلى أديس أبابا.

مدينة وصورة

ثم أخذ يتحدث لي عن أديس أبابا، وينقل صورة غير الصورة التي نقلها هو في تقاريره المنشورة في مجلة الطريق اللبنانية وفي الثقافة الجديدة العراقية:

هذه مدينة فاسدة وقذرة. وليست مدينة ثوار. وأنا بصراحة انخدعت، ها أنا أمامك وأقولها لك صراحة أنا مخدوع، كنت في ذلك الوقت حالماً بأشياء تافهة تصورتها ذلك الوقت عظيمة. ومن السهل القيام بها، ما كانت عندي تجربة أصلاً. من أين تأتيني التجارب. جئت من الناصرية إلى بغداد، أواخر الستينات، أكتب مقالات أدبية وسياسية في صحيفة النور، كل يوم أجلس في مقهى ياسين، أو مقهى البرلمان، وأحلم أن أصبح مثل ريجيس دوبريه، الصحفي الفرنسي الذي ذهب وراء جيفارا ليدوّن يوميات الثورة، كنت قرأت كتابه ذلك الوقت، وحلمت أن أصبح مثله، أن أصبح الصحفي الذي يقطع آلاف الأميال من القارات والمحيطات ليدوّن بمذكراته يوميات حروب الثورة في أمريكا اللاتينية. وفي المساء كنت أسكر في بار شريف وحداد، وأحلم أن أصبح من ثوار البحر الكاريبي، أشرب كأس عرق أو كأسين وأتخيل نفسي أحد أنصار حرب العصابات في نيكاراغوا. هذه الصورة هي التي سحرتني في ذلك الوقت، مجرد صورة لثائر يصعد الجبال ويقطع مياه المستنقعات بقوارب من مطاط، صورة شعرية أو سينمائية لثائر ينام في الخنادق وهو يلبس الملابس الكاكية.

لا تضحك علي أرجوك.

كنت أقرأ الكتب الحمراء التي تحرض على الثورة. أتصور نفسي بنشوة السكر بلحية صغيرة مثل لحية هوشي منه، أو لحية عريضة مثل لحية جيفارا. أو نظرة قاسية مثل نظرة تروتسكي. طبعاً أنت تضحك على هذه الأشياء وتعتبرها من الترهات، اعتبرها مثل ما تريد، بس كانت بالنسبة لي في ذلك الوقت عظيمة، مهما صغرت الأشياء بعيون الآخرين كانت بعيوننا شيئاً آخر، كنا نحلم بالثورة الدائمة، بالفوضى والإرباك الذي يمكننا أن نصنعه للإمبريالية والكولونيالية والبرجوازية والإقطاع. كنا مسحورين بهؤلاء الثوار الشباب بشعورهم المنكوشة، ولحاهم الخفيفة على الوجوه الناعمة، بملابسهم الكاكية الوسخة، ببساطيلهم الثقيلة، بالكتب التي يضعونها في الجيوب، بصورهم في الصحف الكثيرة في العالم، بوجوههم في الأفلام القصيرة في التلفزيونات، بأخبارهم في الإذاعات. كل شيء كان يسحرني بهم، كل شيء كان يجذبني نحوهم: رائحة عرقهم، لون بشرتهم التي لوحتها الشمس، شبابهم، فتوتهم، أسلحتهم المدهونة، كتبهم، قبعاتهم، ملابسهم الكاكية، أكياسهم التي يحملونها على ظهورهم، كل شيء فيهم ... كل شيء!

كنت ذلك الوقت أتعفن في مقاهي بغداد بلا ثورة ولا بطيخ. كنا نسير في ساحة التحرير في صيف بغداد الساخن، وقطرات العرق المالحة تهبط على شفاههنا، متجهين نحو شارع السعدون، نمر على مكتبة المثنى كي نشتري آخر إصدارات الكتب الثورية، فنجلس في مقهى المعقدين، أو مقهى ياسين، ومن ثم وجبة رخيصة على حساب أحدهم في مطعم نزار، وفي المساء نهرع إلى البار كي نشرب عرقاً رخيصاً ونتداول آخر أخبار حرب العصابات في الشمال والجنوب، نتحدث عن الرفاق الأشداء ذوي القناعات المطلقة بقضية الشعب المقدسة. وكيف أن يمين الشيوعيين يبحث عن سبيل آخر للتحالف مع الانقلابيين البعثيين. هل ننجرف مـع خط الكفاح المسلح؟ يسار.. يمين .. انقلابي .. ثوري .. اشتراكي .. طوباوي . هكذا كانت تسمياتنا في ذلك الوقت، نضعها وندخل الناس الذين نعرفهم في تصنيفها هل هذا يميني أم يساري؟ هل هو عملي أم طوباوي؟

تهمة ومؤامرة

صرخت بوجههم يا كلاب وهربت. هل هذا الكلام معقول. أنا جاسوس ومخبر!؟ كنت أذهب إلى المقهى كي أسمع آخر الأخبار عن الثوار، وفي ذلك الوقت تعرفت على مجموعة من الصحفيين والكتاب يجلسون على التخت البعيد، يشاركونني الاهتمام نفسه، والشعور نفسه، كنا نشعر بالتعفن في تلك الأماكن الرطبة والوسخة، وبعد أن تغيب الشمس كنا نذهب إلى بار شريف وحداد لنسكر بصحة الثوار في أمريكا اللاتينية أو في أفريقيا.

ـ صحة جيفارا الثائر.

ـ بصحة الرفيق هوشي منه.

ـ بصحة ماو.

ـ تروتسكي أعظم ثائر على الأرض ألم تقرأ النبي المسلح.

كنت أقف في البار مستندا بيد على حافة الطاولة، أرفع الكأس بطريقة مسرحية إلى الأعلى، وأضع سيجارة في طرف فمي، وألوك الكلمات لوكاً بقول جيفارا المعروف:

"الثورة أيها الرفاق قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن."

لا تضحك أرجوك. كانت هذه الجملة التي قرأتها يوما لجيفارا تجعلني أنتشي انتشاء عالياً، تجعلني أسير وأنا مبتهج، تجعلني أشعر بأني متوحد في قوة عظيمة من البشر، جاءت مثل عاصفة عاتية لتهدم الظلم وتبني مجتمع السعادة، لا تسخر مني صدقني، ما جاء بنا هو حلمنا بتأسيس مجتمع السعادة لا شيء آخر. ولكني بعد فترة وجيزة قرفت من هذه الحياة التافهة والعقيمة في بغداد، قرفت من الثورة النظرية، وأردت أن أجربها حقيقة وواقعاً، فقلت لماذا لا أذهب وراءهم، لماذا لا أحمل أمتعتي وأصبح واحداً منهم، وبدلاً من أن أتحدث عنهم وأبحث عن بطولاتهم، سأصنع بطولاتي بنفسي، سأصبح أنا البطل الذي يتحدث الناس عنه. فقطعت آلاف الأميال شرقاً وغرباً كي أصبح واحداً منهم، أو على الأقل أصبح الصحفي الذي يكتب عنهم. في البداية أردت أن أذهب إلى كوبا، إلى بوليفيا، إلى نيكاراغوا، إلى تشيلي. لأصبح واحداً من مقاتلي أمريكا اللاتينية ولكن لم تكن لدي بطاقة طائرة، ولم تكن لدي إمكانيات السفر الغالية الثمن، وأنا بلا عمل في ذلك الوقت باستثناء المقالات القليلة التي كنت أكتبها في صحف الستينات، ثم فكرت أن أذهب إلى مكان قريب، فقلت لأرافق الثوار في ظفار مثلاً، أو أذهب إلى اليمن السعيد، أو إلى فلسطين، أو لبنان، كانت الفرصة أسهل بكثير، وبالفعل ذهبت هناك عن طريق سوريا، ووصلت إلى بيروت، بقيت هناك من العام 1970 حتى العام 1980. عشر سنوات. وفي غمرة الحرب الأهلية كنت أسأل أين الثورة؟ .. أين؟

الجملة التي كان يرددها دائما وهو يتحدث:

ـ أنا المخبر يا كلاب ألم تعرفوني في بيروت ... صرخت بوجههم يا كلاب وهربت.

ثم استمر في الكلام:

أنا أعرف هذه الألاعيب من بيروت. بس في بيروت أنا تقززت من المشهد كله، تقززت من المشهد كثيراً، قرفت من كل شيء. لم يكن الثوار هناك هم نفس الثوار الذين حلمت أن أكون واحداً منهم، تعرف لماذا؟ لأنهم هم أنفسهم الذين كانوا معي في مقهى المعقدين، ومقهى ياسين، هم أنفسهم الذين كانوا يأكلون الكبة في مطعم نزار، وهم نفسهم الذين كنت أسكر معهم في بار شريف وحداد كل ليلة وأشرب معهم نخب جيفارا وتروتسكي وماركس، هم أنفسهم وقد سبقوني إلى هذا المكان، وأخذوا المواقع الأولى بوصفهم الثوار، لا يمكنني أن أقتنع بأن هؤلاء الذين كانوا يشربون الشاي معي في المقهى، ويأكلون الكبة والتشريب في مطعم نزار هم الثوار الذين قطعت آلاف الأميال كي أنقل وقائع حياتهم. فقررت العمل في المكتب الإقليمي لوكالة الأنباء البريطانية في الشرق الأوسط وأفريقيا في بيروت، فقالوا لي أنت عميل. لأنك تعمل في وكالة برجوازية وإمبريالية. قلت لا يهم ... ما دام هم الذين يوفدون في ذلك الوقت الصحفيين إلى أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، وفي يوم صرخت وأنا في التواليت، وبعد أن سحبت السيفون الذي شفط سكرة الليلة الفائتة: سأذهب وراء الثوار العراقيين، الثوار الذين هربوا من بغداد وذهبوا إلى أديس أبابا، ليؤسسوا الجيش الأممي ويقاتلوا مع منغستو في أفريقيا. فهؤلاء لم يكونوا معي في المقهى، ولم أسكر معهم يوماً في بار شريف وحداد، ولم أرهم في حياتي أبداً، سوى أنهم طوروا حرب العصابات، بدلاً من القتال في أهوار الناصرية وإسقاط طائرة هليكوبتر حكومية، ليتحول رئيسهم بعد شهر من القتال إلى عميل يوشي برفاقه في التلفزيون، إلى ثوار في أفريقيا، للقتال مع جيش منغستو ضد البرجوازية الإثيوبية والقتال مع مليشياته ضد أرتيريا.

وها أنا أمامك الآن. بعد أن تعفنت عشرين عاماً في أديس أبابا.

لقد اكتشفت إني جئت إلى حفنة من اللصوص والقوادين والعاهرات. وجدت نتانة وقاذورات، وجدت أحمد سعيد. كان يسمي نفسه في ذلك الوقت جيفارا العراقي، وجواد الوسخ. تعرفه هذا الحارس في عمارة أنتوتو كان يسمي نفسه هوشي منه البصري، وهذه ميسون التي كانت تريد أن تكون مثل جميلة بوحيرد وصارت عاهرة رخيصة في فنادق الدرجة الثالثة. لقد اكتشفت ولو بعد فوات الأوان أن الثورة هربت، الثورة ماتت بعد أن شمت رائحة تعفن هؤلاء الفاسدين والفاشلين والكذابين.

أنا مخبر يا كلاب! أقول لك لم يعد على الأرض ثوار ولا قنادر في أديس أبابا. كل شيء تعفن وخرجت رائحته، وتفرق القوادون واللصوص كل واحد في مكان ليقاتل الآخر، ولينتقم من الآخر، كل شيء رحل ولم يعد أي شيء هنا يستحق الاهتمام فلماذا جئت أنت هنا؟

سقط رأسه على الطاولة، تناول كأسه بسرعة بيده، وشربه مرة واحدة، ثم أنزله بقوة على الطاولة، بينما كانت الإضاءة الخافتة ترسم على وجهه وجعاً ظاهراً.

حين أفكر اليوم بالحماقة التي ارتكبتها، الحماقة التي كادت أن تودي بحياتي، أشعر بقشعريرة في بدني كله، لا أعرف كيف نجوت من هؤلاء القوادين والعاهرات القذرات الذين كادوا أن يفتكوا بي في أديس أبابا؟ هؤلاء الذين أرادوا قتلي أمام ملهى دبرتسايت، بطعني بالخنجر في بطني وصدري مرات ومرات، أنا الذي قطعت آلاف الأميال من أجلهم. أنا الذي اعتبرتهم رفاقي، فجئت كي أنقل وقائع بطولاتهم. طبعاً بعد أن سقط منغستو كنت أدخل للبار وأعفط لهم وألوي وجهي وفمي منهم بطريقة ساخرة، كنت أبصق عليهم كلما أسمع حديثهم عن قتال القوات البرجوازية والاستعمارية وما لا أدري أيضاً.

الجيش الأممي، يا للمهزلة ..

طبعاً من حقك أن تشتمني وتسميني أحمق. أو غبي. لأني ضيعت حياتي كلها وراء هذه التفاهات، ماذا فعلت بحياتي، وكيف أضعت نفسي مع هؤلاء الفاشلين. ضاع عمري تصور. ضاع عمري ولم أفعل أي شيئ نافع على الإطلاق، بل أقول لك إني نادم على كل ما فعلت. لا أنا رأيت ما حلمت أن أراه، ولا فعلت ما كنت أريد أن أفعله، ولم أر أي شيء كنت أظن بأني سأراه هنا في أفريقيا، بعد أن أصبح من المستحيل علي رؤيته في بغداد. أين الرايات الحمراء التي سمعنا أنها ترفرف خفاقة في سماء أفريقيا؟ أين آلاف الرفاق الذين يغنون النشيد الأممي على قرعات الطبول الأفريقية؟ أين الرفاق القادمون من أفريقيا وآسيا ليؤسسوا حلم ماركس ولينين؟ أين الأبطال الذين كنا نسمع عنهم مثل باتريس لومومبا وغيره من الزنوج الأفارقة الذين دحروا المستعمرين والمستبدين؟

صرخت بوجههم أنا مخبر يا كلاب ...

كادوا أن يقتلوني بسكينهم، تصور، قالوا أنت عميل لصدام حسين، وجئت كي تتجسس علينا. هل هذا الكلام معقول، بعد كل الذي عملته من أجلهم يتهموني بأني جاسوس قذر جئت لأنقل المعلومات عنهم للمخابرات العراقية، هل هذا الكلام معقول؟ يتهموني هذه التهم القذرة بعد أن ضحيت من أجلهم، بعد أن تركت حياتي خلفي وتركت كل شيء من أجل مساندتهم في حرب التحرير. هل هذا الكلام معقول!!

لقد أرادوا قتلي بطريقة قذرة ومخادعة، تصور، لقد استدرجوني إلى الزاوية المظلمة هناك. بهذا المكان بالذات. وهناك حاصروني وحاكموني.

ـ أنت عميل جئت تتجسس علينا يا قذر..

ـ عميل قلت لهم. كيف تفكرون بهذا الأمر؟ لا بد أنكم سكرتم ولا تعرفون ما تقولون.

ـ بل أنت عميل قذر اعترف يا ابن القحبة ... اعترف! من أرسلك ضدنا؟

ـ يا إلاهي أنتم تعتبرون أنفسكم مهمين جداً، وأن العالم كله يتجسس عليكم، وأنتم لا تفعلون شيئاً هنا، سوى أن تسكروا وتتناقشوا وتتضاجعوا ... لا تفعلوا أي شيء من أجل الثورة.

اسكت يا ابن القحبة، واعترف وإلا...

ـ اعترف على ماذا؟

ـ اعترف لمن أنت تكتب التقارير وتتجسس علينا؟

يا إلاهي وما هو الشيء الخطير الذي تفعلونه يومياً كي أتجسس به عليكم، هل أنقل أخبار سكركم في بار المسكال، أم أخبار عركاتكم على العاهرات في ملهى دبرتسايت، أم عركة أحمد سعيد مع العاهرة الإثيوبية التي ضاجعها ولم يعطها أجرتها، لو عركة سلمان وكاظم على القميص الذي يدعي كل واحد منهم بأنه سرقه من الآخر، لو أخبار ميسون مع القواد النايجيري في شارع أنتوتو؟ ورفعوا السكين إلى الأعلى وهبطوا بها نحو صدري. أقول لك. رأيت الموت بعيني تلك اللحظة، رأيته متجسماً في السكين التي رفعوها بوجهي، لو لا أن برقت بعد أن سقط ضوء الباب الخارجي للملهى عليها لكنت مت، فجأة وأنا سكران لمحت الموت في وهجها الشديد وهي ترتفع لتهبط على صدري، لقد أرادو أن يغلوها في قلبي، أرادوا قتلي أمام الملهى، ومن ثم رميي في برميل الزبالة. هؤلاء الثوار أرادوا قتلي، وأنا الذي جئت كي أكرس قلمي من أجلهم.

سبب آخر

طبعاً مو فقط هذا السبب. أنا اعترف لك الآن كان أيضاً بسبب هذه العاهرة الأثيوبية سوسينا، الصحفية التي كانت تعمل معي في المكتب الإقليمي لوكالة الأنباء البريطانية في الشرق الأوسط وأفريقيا، هذه العاهرة السوداء هي التي خدعتني وأغرتني أن أذهب إلى أديس أبابا. كانت تحدثني عنهم كثيراً.

ـ أنت عراقي. أول ما رأتني.. أوه لدي أصدقاء عراقيون في أديس أبابا..

ـ كيف؟ أنا صرخت.

ـ طبعاً ثوار عراقيون؟

ثم أخذت تسرد لي حياة هذه المجموعة من العراقيين الهاربين من حرب الأهوار جنوب العراق، ثم إلى أوربا، وبعد ذلك انتقالهم إلى أثيوبيا، ثم أعطتني عناوينهم، عناوين حفنة من شيوعيين عراقيين وأفارقة، وشلة من عاهرات زنجيات وأثيوبيات يقطن في شارع دبرتسايت في أديس أبابا. قالت إنهم شيوعيون هاربون أواخر السبعينيات من سجون صدام حسين إلى أثيوبيا. وشرحت لي كيف أنهم جاءوا هنا كي يقاتلوا مع مليشيات العقيد منغستو، جاءوا من بغداد إلى أديس أبابا كي يكونوا في مليشيات منغستو التي قاتلت في أرتريا.

كان حلمي هو الثورة، ولكن يبدو أني وصلت متأخراً، فبعد أن وصلت وجدت الثورة وقد تحولت إلى هذا الهراء، لم تكن أكثر من مجموعة من الأخبار الملفقة، صدقني ليست أكثر من ذلك، الثورة العظيمة التي حلمت بها لم تكن سوى عصابات. فرق عسكرية. كتب ماركسية رخيصة، عرق في الملاهي. نساء في الليل حتى الصباح. صراخ. فوضى. كذب. خراء. وما لا أدري أيضاً. وهذه صورتهم الآن بعد أن سقط منغستو، فقد تحولوا مباشرة إلى حثالة، تحولوا إلى أنصاف عبيد بيض في شارع دبرتسايت. تحولوا إلى سكارى وحشاسين ومجتري كلام وسخافات وما لا أدري أيضاً. ولم يعودوا كما كانوا أيام زمان، حين كان كل واحد منهم يحمل في جيب جاكتته كتاباً عليه صورة لماركس أو للينين، أو عليه صورة لجيفارا، أو لباتريس لومومبا، يجلس على بار الخمارة أمامك، ويضع كأس البيرة أمامه، ويده على مؤخرة صديقته السوداء، ويحمل في اليد الأخرى سيجارته، ينظر نحوك بعينين مغمضتين، يسحب نفساً عميقاً ثم ينفث الدخان في وجهك وهو يقول: هل تعرف إن التحليل الماركسي الناقد لماركوزه يحمل النظام الاجتماعي الرأسمالي مسؤولية إخفاقه في صنع نظرية اجتماعية شاملة؟

نفايات هذه النظريات ... توافقني بهذا الرأي؟ نفايات استهلكها الغرب وفرغها من محتواها ورماها لهذه الأمم المتخلفة كي تجترها. وإلا ما الذي يجعل نخبة من الشباب تهاجر من بعيد كي تأتي هنا في هذا البار وتجلس لتتناقش بالطريقة التالية: أنا أحدثك عن معنى الأيديولوجيا وما ترسخه في بنية المفاهيم الذرائعية لثقافة البرجوازية المتحججة بالعلم الاجتماعي. لا تضحك أرجوك! كانت نقاشاتنا نوعاً من التفريغ الحقيقي للعقول، كانت مراواغات لمجموعة من السكارى هنا في هذا البار، كانت مشاكسات ضد التاريخ، من أجل اغتصابه أو مصادرته أو نحره، كنا نعتقد أننا نصنع التاريخ، لم نكن نعرف أن التاريخ لا يصنع هنا. التاريخ يصنع في الغرب، وما كنا نفعله هو استمناءات نظرية في البارات، ما كنا نعرف أن هذه الأفكار قد أنتجت في بلدان صناعية ضخمة، ومع سياسة الاستهلاك صدرت نفاياتها لنا. ما كنا نعرف أن الإيديولوجيات انتهت في الغرب وانتهى معها الجدل السياسي لأنهم تجاوزا ثقافتها، غير أنهم صدروا نفاياتها لنا، إلى البلدان المتخلفة، حيث أن تخلفنا لا يسمح لنا بتجاوز هذه الثقافات، ولذلك ترانا نتجادل من الصباح إلى المساء، وحين تشحب نقاشاتنا وتجف وتستهلك، نركض مرة أخرى للغرب نأخذ منه شوية نظريات جديدة لأنه هو مخترعها. نقاشات من الصباح إلى المساء، نقاشات في كل مكان، في المطعم، في الشارع، في البار، نقاشات حتى نسقط هنا تحت الطاولات من السكر. نتناقش عن ما قاله راديك في نقد الخط التروتسكي، والنقد التروتسكي لستالين، والخط التكتيكي البلشفي عن الفكر الماوي، وإياك أن تأكلك واحدة من هذه التهم مثل، برجوازي، أو يساري طفولي، أو محرّف، أو منشق. فواحدة من هذه التهم كافية أن تجعل رفاقك يشدون وثاقك على عمود ويطلقون عليك الرصاص، ثم يرمون سيجارتهم على وجهك ويبصقون عليك. كنت مهووساً بهذا الهراء المجنون، كنت أحب هذه العقول المخربة. كنت أتبعهم في كل مكان، في الملهى، والشقة، والفندق، والمعسكر، والشارع، في كل مكان. في الشمال في الجنوب .. وكنت أكتب عنهم. كتبت المقالات الطويلة عنهم .. تصور.. أنا أول من كتب عنهم.. طبعاً كله كذب وهراء. كنت أقول لنفسي المهم أن أكون معهم. لا بل أقول لك أخذت أقلدهم، طبعاً أنا الآن أعترف لك بأشياء كثيرة وأريد أن أكون صادقاً معك حتى لو تضحك عليّ. أنا في ذلك الوقت كنت مسحوراً بهم. وبدأت أقلدهم. أقلدهم في في كل شيء تقريباً، كنت مسحوراً بطريقة كلامهم، طريقة مشيهم، وحتى في ملابسهم، ملابس الثوار في أفريقيا وآسيا، ملابس مختلفة بطبيعة الأمر لا كما تراها الآن، وهكذا اشتريت من شارع تشرشل قبعة، وبنطلوناً كاكياً، وقميصاً أبيض، وفي المساء جئت مرتدياً كل هذه الملابس ووضعت القبعة على رأسي، وأخذت سيجاراً كوبياً ووضعته في فمي، ومع كأس البيرة كنت أنفث الدخان، وأحلل الثورات في العالم:

 ـ قرأت اليوم كتاباً رائعاً عن الثورة في نيكارغوا. كنت أقول لهم وأنا أنفث الدخان في الهواء، أضيق عيني وأنظر بصورة متقززة مما يحيط بي. وهو يقول لي

ـ كتاب الكفاح المسلح لديترشي كان كتاباً رائعاً.

ـ هل أكملت كتاب جيفارا نعم بالتأكيد.

طبعاً هذه الحياة التي تراها أنت وأراها أنا الآن مملوءة بالكذب والتفاهات والقذارات، كانت عظيمة نسبة لنا. كنا نجتر كل شيء دون فهم كثير، كنت أقول ما الذي نريده من الفهم، ماذا نفعل به، علينا أن نسحق النظريات في النهار ونعيدها في الليل، طالما تشعرنا بمتعة كبيرة، والمتعة الحقيقية طبعاً هي في استخدامنا كلمات مثل: كفاح مسلح. ثورة شاملة. طوباوية. ديالكتيك ثوري. أو استخدام أسماء مثل: تروتسكي .. جيفارا .. لينين!  متعة كبيرة وبهجة كبيرة تأتيك مع رائحة البيرة، ودخان السيجار الكوبي ورائحة زناخة الزنجيات، وحين تضرب الكحول برأسك تصرخ بأعلى صوتك: إنها الثورة يا رفاق. تعالوا لنحلم بتغيير العالم، تعالوا لنهز قصور المستثمرين والمستعمرين، تعالوا لنهدم منازلهم، ونأخذ نساءهم. ثورتنا مثل ثورة الصين. تعالوا، نحطم ونهدم ونخرب، تعالوا نضرب ضربة واحدة فيصبح العالم كله في قبضتنا. ساعة. أو ساعتان من الأحلام، ساعة. أو ساعتان في النقاش ثم يتغير العالم برمته. يتغير كل العالم، وتنتهي الإمبريالية بلحظة واحدة، تنتهي الإمبريالية وتتأسس الإشتراكية وتتشيد مستعمرة السعادة، حين يأتي الثوار يرحل المستعمرون، حين تأتي البروليتاريا تهرب البرجوازية النتنة، وسيحكم العمال بعد أن يناصرهم الطلاب والفلاحون، وأسلحتنا هي هذه المفردات الصغيرة: طلاب .. بروليتاريا .. شغيلة .. موظفون .. برجوازية صغيرة. 

هكذا كان علينا أن نعيش في العالم الثالث .. الثورة. يصرخ أحد السكارى في وجوهنا، فنتطوح بين الكؤوس على صوت الموسيقى الصاخبة، على الصياح والصراخ المجنون في فضاء من الدخان ورائحة البيرة والويسكي، على صوت النقاشات الصاخبة التي سنحرر بها الأرض من المستغلين. فليحيا هذا العالم الذي علينا أن نعيش فيه مع هؤلاء المجانين، والقوادين، ومع هاته العاهرات القبيحات.

طبعاً هنالك الكثير من الشباب الذين كانوا يقاتلون ويموتون، كانوا يعتقدون أنهم يقاتلون من أجل البروليتاريا وهم في الواقع كانوا يقاتلون كي نسكر نحن يومياً ونتضاجع ونتناقش، والكثيرون كانوا يعتقدون انهم يقاتلون من أجل الوطن، وهم في الحقيقة كانوا يقاتلون من أجل رجالات الحزب، وكثيرون كانوا يقاتلون ويقتلون معتقدين أنهم يموتون من أجل حرية الناس، وهم في الحقيقة كانوا يموتون من أجل اللصوص الذين يخوزقون الناس في السجون. مهزلة صدقني كانت هنالك مهزلة حقيقية.

في بغداد كنت معجباً بعزيز الحاج الذي قاد حرب العصابات في أهوار الجنوب. إلا أنه خذلني حين ظهر على تلفزيون بغداد ليشي برفاقه، فقررت الهرب بعيداً كي أصنع الثورة في أفريقيا بعد أن عجزت أن أقتنع بأي واحد في بغداد، وما كنت طبعاً أذهب لهؤلاء المجانين الوسخين الذي يعيشون في الزبالة لو لا هذه الصحفية الأثيوبية الزنخة سوسينا، هذه المتكبرة كانت ترى نفسها شيئاً عظيماً، وهي لم تكن، سوى منحطة تؤيد منغستو على العلن، ما كنت آتي إلى هذه القذارة الصريحة التي وجدت نفسي غارقاً فيها، لو لا هذه السافلة التي كانت تبحث عن من يضاجعها. ولو سألتني لم أنا أشتمها الآن ومع ذلك كنت صدقتها. ذلك لأني كنت مختلفاً في ذلك الوقت عن الوقت الحاضر. صحيح ما كان علي أن أصدقها مطلقاً، ما كان علي أن أقتنع بكلامها وأنا أكرهها كل هذه الكراهية، ولكني في ذلك الوقت كنت اقتنعت بكلامها كي أكتب هذا التقرير الخراء للوكالة عن زمرة هؤلاء المنحطين والقوادين في دبرتسايت.

سوسينا

كانت سوسينا تتنافس في الوكالة مع روبرت البريطاني المنغلق في بياضه وتفوقه، وكانت تريد أن تثبت له إن المرأة السوداء شديدة التوهج والجاذبية.

ـ "تشوهات عرقية..وأمراض برجوازية" قلت لها ووضعت ساقاً على ساق مقلداً ثوريي البحر الكاريبي.

مهما يكن استنتاجي قاسياً، ولكني كنت مكرهاً عليه، وإلا لماذا هذه الدونية التي تواجه فيها روبرت والاستعلائية التي تواجهني بها، وأنا قلت لها صراحة لا تحاولي أن تكوني ثورية فتصرفاتك تفضحك.

ـ "كيف .." قالت.

ـ " كل امرأة سوداء تتمنى أن تتزوج من أبيض".

ـ "كل بروليتاري يتمنى أن يتزوج من امرأة برجوازية". وكلمة بروليتاري وبرجوازي كنا نستخدمها بدلا من كلمتي فقير وغني للدلالة على هويتنا السياسية والثورية.

ـ "أين الثورة إذن؟".

لا أحد يجيب بطبيعة الأمر، ثم سكرنا سكرة طويلة، وكان في نيتي أن يجري بيني وبينها الحوار التالي بعد أن أراها منجذبة لي:

ـ "سوسينا أنا لا أحب مضاجعتك"

ـ "أنت عنصري"

ـ أبداً.. ولكني لا أستطيع. لم أتعود. لم أفعلها. أنا أحب الشقراوات. أحب الشقراوات، هذا ليس ذنبي، لست مسؤولاً عن هذا الأمر، ماذا أفعل، أمر في غاية البساطة، في غاية السهولة، شيء ليس بحاجة لتبرير، في جزء ما في نفس كل شخص غير أوربي يحب الأوربيات، وحين تحبك الأوربية تدلل على أنك مقبول من الثقافة البيضاء والجمال الأبيض، مثل الأسود الذي ضاجع امرأة شقراء لأول مرة في حياته، أسود من أجمل السودان مع امرأة شقراء حراقة، وفي لحظة النشوة والانتعاظ صاح بها:

ـ "ليحيا شولستر"

 وشولستر هو الرجل الذي تبنى سياسة تحرير العبيد في فرنسا ذلك الزمان.

هل ذنبي أن أكون كذلك، هل هذا ذنبي، إما أن تستطيع أو لا تستطيع، قد أتغير فيما بعد، هذا شيء لا أعرفه، وفي ذلك الوقت لم أفكر فيه على الأطلاق، لم أتساءل عنه، لم أشكك فيه، يا إلهي لا أستطيع أن أتخيل نفسي مع سوسينا بشعرها الأجعد الكث، بشفاهها العريضة، يعينيها البقعاوين، وهي تنقلب فوقي وتشخر، الصدر العالي، المؤخرة المرتفعة، وهذا اللون البني الذي يشبه القهوة. بينما كنت منجذباً لصحفية بريطانية جميلة، شقراء، وجهها أبيض مثل الحليب، صدرها بارز من خلف القميص، كنت أقف أمامها وأنا مستثار إلى درجة كبيرة، كانت تنظر جهة بنطلوني فأشعر بالحرج، حين تكلمني أتهالك على الأريكة، أتناول قدحاً من الماء عل الماء يصرف انتباهي، كان قلبي أحياناً يخفق، أحياناً تجلس أمامي فتنزاح تنورتها القصيرة كاشفة عن جمال فخذها المكتنز والصلب، فيختنق صوتي، فتبتسم فأبعد عيني جهة الباب.

*

أعود إلى سوسينا التي سيهملها بوب، وتأتي باكية وتصرخ هذا الإمبريالي البشع، هذا المستغل المجنون الذي ستطيح به الثورة وبأهله، ثم تشرب كأساً من الماء وهي تشرق به وتسألني:

ـ هل أنت مختون؟

ـ نعم ..

ـ أريد أن أراه مختوناً..

كانت سوسينا تعتقد أن الثورة تعني أن نطيح بهؤلاء الإمبرياليين ونخطف أموالهم، ندحرهم ونحتل بيوتهم ونشغلهم عبيداً في مزارعنا، ونفرض عليهم عقوبات اقتصادية، ونحاصرهم، وحين يهرب شبابهم من دولهم إلينا سنعاملهم كمهاجرين، بعضهم نعيدهم إلى بلدانهم والآخرون يحملون أعلام أثيوبيا ويقولون أحب أثيوبيا أحب أثيوبيا. قالت سوسينا: سيخرج رئيسنا في حديقة البيت الأسود، وخلفه كلبه بوبي ويقول على أميركا أن تمتثل للقرارات الدولية. وهكذا سيصبح الأسود فجأة محل الأبيض، ستقوم الثورة بتزنيج العالم. وفي تلك اللحظة بدأت أرى سوسينا على نحو آخر، كنت أنظر إلى صدرها ولم أعد قادراً على التحكم بدقات قلبي. لقد تغيرت مباشرة، صرت أعبد لونها الثوري، ورائحتها الثورية، ولغتها الثورية، وأعبد كل شيء ثورياً فيها. وعندما لفتّ ساقاً على ساق، تباعد رداؤها أكثر. وانكشف فخذاها السوداوان كلاهما. ولمحت من فوقهما انحناءة أحد ردفيها، وكذلك لمحت، وهذا لم أكن أحلم به، جزءاً من.

ـ "ألا توافقني في الرأي؟"

ـ "ماذا؟"

ـ "إن تحليل آلتوسير للرأسمال كان متوافقاً مع نظرية ماركوزة لمفهوم الإيديولوجيا. من الناحية النظرية على الأقل".

أرغمت نفسي على التحدّيق في قدحي، كانت الثورة تلوح في الأفق، آلاف من الجنود الذين يحملون العلم الأحمر، وشواجير الرصاص، والمدافع الصغيرة تندفع من الجنوب إلى الشمال، رايات كثيرة ترفرف، سفن كثيرة تندفع في الماء، جماهير هائلة سوداء وصفراء وسمراء تندفع نحو الشمال. يا إلاهي دقت ساعة الصفر، صور لجيفارا في كل مكان صور لكاسترو وهوشي منه، صور كثيرة وفي كل مكان تقريباً، وبدلا من الإعلانات عن ملابس بيير كاردان وإيف سان لوران هنالك إعلانات عن الملابس الكاكية والرصاصية الموحدة، إعلانات عن بيريات مثل تلك التي كان يرتديها جيفارا، كاسكيتات مثل تلك التي كان يرتديها ماو. الثورة. وأشرب كأس العرق أمامها. قالت: نحن نتعرف على الرفيق منغستو من خلال رفضه للمجتمع القمعي القائم والثورة عليه من خلال تأكيده على الدور الحاسم والثوري للعقل في حياة الانسان، وعدم النظر الى المجتمع من رؤية ذات بعد واحد!

ـ "نعم.. لكن.."

رفعت هذه المرة، ساقها عن الساق الأخرى، كنت وأنا أفكر بالثورة أحدق بلونها، كنت أنظر إلى الأماكن المغرية فيها، جسد سكسي وثوري معاً، وهي تتكلم عن الثورة كشفت قدراً أكبر من فخذيها السمراوين، وتمكنت من رؤية فرجها وهي ترد ساقها نحو الساق الأخرى، شيوعية قلت .النساء اللاتي لا يرتدين كالسونات شيوعيات. النساء الللاتي لا يحلقن شعر عانتهن، وآباطهن ثوريات. راح العرق البارد يتصبب مني. أحسست بيديّ ترتعشان. نظرت إليها. ابتسمت. مرة أخرى، شعرت بأني يجب أن أقول شيئاً. علي أن أفعل شيئاً في هذه اللحظة بالذات، علي أن أبادر نحوها، أو أن أجذبها نحو تواليت البار، في الفسحة المقابلة للبار اصطدمنا براقصين وراقصات، توهجت الأضواء الحمراء والخضراء في عيوننا، في الممر اصطدمنا براقصات خلعن تنوراتهن وبقين بالكالسونات، وبراقصين بلا بنطلونات ولا كالسونات، خلف أبواب التواليتات نسمع نشيجاً وتأوهات عالية، تأوهات زنوج وزنجيات يمارسون الحب أمام المباول والمغاسل، نسمع من بعيد خوارهم، وأصواتهم وهي تتداخل، ضربات أخرى على باب التواليت.

ـ اخرج سأفعلها على نفسي! من ساعة وأنت وعاهرتك هناك!

 صوت الموسيقى يعلو، ألوان كثيرة على الحائط وشعارات الثورة في كل مكان، روائح أبخرة عرق وويسكي يفوح، بوب بوبوبوبوبوب ... والراقصون يغيبون في حركاتهم عن الوعي، كؤوس ترتفع وكؤوس تهبط، صرخات، وأنا أمسك بها وهي تمسك بي، اللون الأسود يرتفع في دمي، أشعر بكل شيء يتحول إلى اللون البني، أقبلها، أهرص صدرها بصدري، بنطلوني وتنورتها تسقطان معا، كالسوناتنا تخلع، قبعتي يا إلاهي صارت تحت أقدامها، قميصي طار عند المغسلة وتنقع بالماء، سيجاري في مكان ما يسحقه الآخرون بأعقاب أحذيتهم، ورائحة البول الممتد من الباب تفوح في الفضاء فتهيجني، وفي لحظة وهي من أشد اللحظات ابتهاجاً، شعرت بالنشوة القصوى، شعرت بامتنان للثورة، شعرت بعظمة كل شيء حولي. وفي غمرة الانتعاظ والقذف صرخت بأعلى صوتي:

ـ "فليحيا منغستو..". 

الهروب من أديس أبابا

كنت أبحث عن جمال وحيد، وأحاول الاتصال به، سألت ماريام عدة مرات عنه غير أنها لم تكن تعرف عنه أي شيء، قالت أنه يظهر ويختفي بصورة مفاجئة، حسب العمل أو حسب ظروفه التي لا تعرف عنها أي شيء، وقبل سفري بيوم واحد تقريباً ظهر هكذا فجأة في البهو، لمحته بين مجموعة من الزوار الأوربيين بشعره الطويل الذي شده إلى وراء، مرتدياً بدلة رصاصية دون رباط، وقد كان مظهره أليفاً جداً، كان نحيفاً جداً، فارع الطول، وكانت ملامحه عذبة. خف بخطوات سريعة نحوي وصافحني وقال لي:

ـ ها أنت لم تسافر حتى الآن؟

ـ غداً طائرتي. قلت له.

ـ حسن أنت معزوم عندي في المنزل اليوم، سأرسل لك التاكسي لتقلك من هنا. من الفندق في الساعة الثالثة ظهراً.

ثم غادرني بسرعة إلى أصدقائه الأجانب ووقف معهم.

*

في الساعة الثالثة ظهراً هبطت من حجرتي إلى لوبي الفندق، وقفت قليلاً في الردهة، حتى شاهدت من باب الأوتيل الزجاجي التاكسي وهو يتوقف، وهبط منها سائق أثيوبي يرتدي طاقية حمراء، وملابس رثة. جاء نحوي مباشرة، لأني الشخص الوحيد غير الأثيوبي في اللوبي. وقف أمامي وبإنكليزيته المتعثرة أفهمني أن المستر جمال وحيد بانتظاري في منزله، فسرت معه إلى التاكسي، فتح لي الباب. وصعدت. انطلق التاكسي في الشارع العام من قرب محطة السيارات في تيرا، وبعد ذلك انعطفنا في طرق غير معبدة وملتفة على نفسها، دخلنا في أديس أبابا في العمق، ذلك أن العاصمة الأثيوبية مدينة جميلة من ميدانها العام ومن شوارعها الراقية وبناياتها الإيطالية المشيدة منذ العشرينيات والثلاثينيات، هذا الطراز الأوربي الكولنيالي المبهر، والمحلات الكبيرة الراقية، والأوتيلات الفخمة، وهنالك الكثير من الأجانب الشقر الذين تراهم يتجولون هناك، أو يتناولون طعامهم في أفخم المطاعم، أو يشربون في البارات، أو يرقصون مع أجمل النساء الإثيوبيات. ولكنك ما أن تذهب بعيداً قليلاً، ما أن تنحدر قليلاً عن الشوارع الرئيسية حتى تشاهد حياة أفريقيا الحقيقية، ستجد نفسك مباشرة في أفريقيا في العمق، هذا يعني أنك في: الفقر والبطالة والدعارة والمخدرات والعصابات وما شابه.

*

وصلنا إلى منزل مرتب تقريباً، يختلف عن كل المنازل المحيطة به، وأمامه شجرة عالية. هبطت من السيارة، فأشار السائق إلى الباب السوداء، وقال هنا. طرقت الباب، فخرج لي جمال وحيد مسرعاً وأدخلني إلى الداخل. كان المنزل عبارة عن باحة جرداء من خلف السياج تحتوي على مرحاض. وهنالك حجرة واحدة مستطيلة مقسومة إلى قسمين. في القسم الثاني يوجد طباخ صغير وكومدينو للأواني، أما القسم الذي دخلناه فلم يكن سوى سرير حديدي نظيف ومرتب بصورة شديدة. الشراشف بيضاء ناصعة، وطريقة الترتيب تبين مدى الحرص والدقة، الجدران جرداء من أية صورة، هنالك مكتبة صغيرة فيها القليل من الكتب، بعضها كتب ماركسية كلاسيكية باللغة العربية: مثل لينين استيقاظ آسيا، خطوة للأمام خطوة للوراء. بعض الكتب الحمراء بالأمهيرية، وروايات لغائب طعمة فرمان ولنجيب محفوظ. أما الأرضية المعبدة ببلاط رديء فقد كانت نظيفة جداً. ورأيت لديه قليلاً من الملابس المكوية على الرف، وهنالك طاولة عليها الطعام وأمامها كرسيان من الخشب.

ثم رأيت ما هو ملفت ومثير حقاً: كان هنالك في الزاوية فخ للحيوانات، وأدوات جارحة في حقيبة كاكية، وعلى مقربة منها جلد ذئب. سألته مندهشاً: ما هذه؟

قال وقد ذهب إلى القسم الثاني من الحجرة، توقف قليلاً عند الكومدينو ليجلب لي كأساً من النبيذ.

ـ هل صدقت إني أعمل في شركة لحماية الحيوانات.

ـ  قلت له: نعم.

قال لي بثقة كبيرة وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة:

ـ أكثر الشركات الغربية هنا هي شركات وهمية، عملها عكس شعاراتها تماماً.

ـ تقصد شركات المحميات الطبيعية؟

ـ أكثرها من أجل قتل الحيوانات وأخذ جلودها، هم يقومون بحمايتها فعلاً يربونها ومن ثم يستغلونها.

ماذا تعمل بالضبط؟

ـ كل شيء.. قال ساخراً.

ـ مثلاً؟ سألته.

ـ حتى لو صائد حيوانات ما الضرر؟ أنا أذهب إلى أماكن بعيدة لمطاردة الحيوانات..

وحين رأى لهجة استغراب مني واستنكاراً، غضب.. وقال:

ـ أنت متأثر على الحيوانات. والله عجيب كأنك مو من العراق. هو الإنسان عندكم عنده حقوق وهذه المرة تريدون تدافعون عن حقوق الحيوانات..

جلس على الكرسي أمام الطاولة وطلب مني أن أجلس أمامه، جلسنا، أكلنا، شربت أنا قليلاً من النبيذ، بينما هو أخذ يشرب العرق، وعلى طريقته القاتلة.

كنت سألته أسئلة متعددة ومتباعدة، وعن أشياء كثيرة، وأكثر ما سألته هو عن حياته في العراق وكيفية هروبه، فحدثني بقصة عجيبة لا تخلو من الترويع والإثارة، حدثني عن سجنه، وكيف قاسى في السجن أنواع وصنوف التعذيب. كان يتكلم بغضب تقريباً، وبمرارة أيضاً. ولكني لم أستشعر حالات الغضب الحقيقية إلا بعد أن بدأ يسكر فعلاً. لقد أصبحت لهجته حادة، وأخذ صوته يتغير، وعيناه كانتا تزوغان بصورة غريبة، ثم أخذ يوجه كلامه إلى شخصيات غائبة عنه، أخذ يتكلم بهذيان تقريباً عن الخيانات وعن القتلة والمجرمين وعن هؤلاء الذين عذبوه ودمروا حياته.

ثم قال أنهم أطلقوا سراحه.

ـ لماذا وكيف؟ لم يقل لي أي شيء عن هذا. كيف أطلقوا سراحه في الثمانينات؟ كان تحليلي لحظتها، ومن وضعه النفسي المعقد والمركب، أنه وشى بأصدقائه فأطلقوا سراحه. ومن جراء هذا الفعل هو يعاني اليوم من هذه الأزمة النفسية الكبيرة. كل هذه الشتائم والآلام والعذابات التي لا تنتهي بسب هذه الوشاية والتي أجبر عليها. أي أنه اعترف في التعذيب على أصدقائه. قال لي أنه لم يكن يتحمل الكهرباء، لم يكن يحتمل أن يضرب بقوة على أعضائه التناسلية وانخرط ببكاء حار. لم يقل لي أنه اعترف على أصدقائه ولكني شعرت واستنتجت في الحال، أولاً أطلق سراحه، وفي ذلك الوقت لم يكن الأمر ممكناً، وبالتالي فإنه اعترف وكوفئ ولكن ما أثار حقاً عذابه هو مصير أصدقائه. قال جملة مهمة وضرب بيده على الطاولة .. .قال المثل البابلي الذي كان نبوخذ نصر يكرره على ضحاياه على الدوام:

ـ اتبع مصيرك..

وحدثني عن مصير أصدقائه، كانوا يعدمون بوحشية، ثم يدفنون سراً في الصحراء. كان البعثيون يعدمونهم ويدفنونهم في شقوق في الأرض، يرمونهم واحداً فوق الآخر ... ويهيلون عليهم التراب.

*

حين أطلقوا سراحه، شعر أن السلطة لن تصبر عليه طويلاً، وستطيح برأسه لا محالة. قرر الهرب، هرب إلى تركيا عن طريق كردستان. هربه المهربون وهو يرتدي ملابس ضابط في الجيش. ثم وصل الاتحاد السوفيتي. عمل فترة في وكالة نوفستي غير أن تاريخه كان يطارده. هذا الاعتراف كان يطارده. اتهمته إحدى خلايا الحزب بالوشاية والاعتراف وبذلك اتهم بالخيانة فهرب من الشيوعيين من الاتحاد السوفيتي وجاء إلى أثيوبيا. عمل بأعمال مختلفة، حتى وجد له عملاً ثابتاً في شركة أجنبية. ومن ثم وجد مطاردة الحيوانات البرية عملاً مربحاً. تنقل بين جنوب أفريقيا ووسطها وغربها. وهو يعمل الآن في أثيوبيا.

قال بصوت عال:

هربت من الذئاب وها أنا أطارد الذئاب.

*

في البداية، شعرت بخوف كبير من جمال وحيد. لا أدري لماذا. كانت شخصيته الودودة والصامتة تحولت فجأة إلى شخصية ثرثارة وعدوانية، وكان تأثير السكر عليه تأثيراً سيئاً جداً، كانت ملامحه تتشوه بصورة وحشية، وقبضته تهدد بصورة ثابتة في الهواء، وما زاد هذا الفضاء المرعب طبعاً وجود الفخ والآلات الحادة وجلد الذئب، فضلاً عن حجرة شبه فارغة في أفريقيا، وقد خيم الظلام تقريباً في الخارج ولم يعد خروجي ممكناً في هذا الوقت المتأخر. هكذا وجدت نفسي فجأة أمام شخصية عصابية مريضة وموسوسة. شخصية خطيرة بدرجة ما، ثوري وشى بأصدقائه، وهو يطارد الحيوانات البرية، ويمتلك كل هذه الأدوات القاتلة، سكر أيضاً وقد طبع السكر عليه تأثيراً سيئاً، وها هو أمامي: يشعر بعذاب حقيقي. عذاب كنت استشعره من كلامه بقوة، كنت أشعر به وهو ينغلّ بعيداً في نفسه وفي روحه مثل خنجر، كنت أرى صوراً معذبة وقاسية جداً تنفلت منه على شكل شتائم واتهامات يوجهها إلى أشخاص يراهم أمامه وهم غائبون عنه. كان يريد أن يفرغ عذاباته، كان يريد أن يرد على القسوة التي تعرض لها. ينخرط أحيانا في بكاء حار، وأحياناً ينظر لي بعينين مفزوعتين، ويشير بيديه، وكأنه يشير لي، ويسب ويشتم.

*

فجأة قال لي:

ـ تعرف..أنا أرى الناس مثل الحيونات، كل شخص له هيئة حيوان، ويحمل خصائص هذا الحيوان أيضاً. البعض يشبه القرد. أنا أراه أحياناً قرداً أمامي، له هيئة القرد وشكله. أنظر له بعمق، أجد أن صورة قرد خلف هذا البني آدمي. البعض أراه يشبه الأفعى، صورته صورة الأفعى، وبعد ذلك أكتشف أن سلوكه مثل سلوك الأفعى. تماماً. هكذا أنا أتعامل مع الناس.

في الواقع وأنا أسمع هذا الكلام وهو يتحدث به عن سجانيه وعن رفاقه وعن الشخصيات التي تعرف عليه، ويحاول أن يقارب شكل كل واحد منهم بالحيوانات التي يعرفها، فمثلاًهذا  يراه شبيهاً بالفيل، بعد ذلك يكتشف أن له تصرفات تشبه تصرفات الفيل، أو ذاك يشبه الكلب ويكتشف أن له صفات وخصائص كلب. خطر في بالي أن أسأله عن نفسي. خطر في بالي هذا الأمر لأني لما كان هو يتحدث عن شبه الناس الذين عرفهم للحيوانات، مر في ذهني كل الأشخاص الذين أعرفهم، وقاربتهم مع الحيوانات، ووجدت النتيجة قريبة من النجاح، قاربتها على آدم وعلى لاليت وعلى ميمي وعلى فيفي وعليه وعلى الجميع، ولكني لما أردت أن أستذكر شكلي، والحيوان الذي أشبهه، فقد فشلت. لم أجد في نفسي شبهاً بأي حيوان لا في الشكل ولا في السلوك.

فقلت لماذا لا أسأله عن نفسي:

ـ وأنا ماذا أشبه؟

نظر لي بعينيه الزائغتين وقال أنت تشبه الذئب. عيناك نظراتك أسنانك.

لا أدري لماذا حين قال هذه الجملة شعرت بالرعب، لا أقول شعرت بالخوف فقط. لقد شعرت بفزع يخنق أنفاسي، فجأة أقشعر بدني كله، وشعرت بأقدامي لا تقويان على حملي، شعرت بأن هذا الرجل الذي أمامي سيصنع لي حفلة اصطياد الذئب، أو حفلة الركض وراء الذئاب، سيضع أقدامي في الفخ، ويقوم بسلخي.

نهضت من مكاني، قلت له أنا ذاهب للمرحاض الموجود خارج الحجرة، وكانت عيناي تتوجهان نحوه ونحو الحائط، مهيئاً نفسي للركض إلى واحدة من السكاكين هناك لو فكر بالهجوم علي. وحين أصبحت في الخارج تنفست الصعداء، وصلت إلى البوابة الخارجية فتحتها، وحينما أصبحت في الشارع، أطلقت ساقي للريح.

الفصل الثالث : تقرير هام الوكالة

"لقد عشنا بما يكفي عشنا كل الأوهام

التي لم يكن ينبغي أن نعيشها"

Journal XIX

 التقرير المقدم للوكالة

كنت جالساً في البار بانتظار فيفي. قلت لميمي أنا ذاهب للوكالة كي أحدثهم عن كتابة التقرير، وأناقشهم في بعض تفاصيله، واتصلت بفيفي بعد ذلك قلت لها: عدت لتوي من أفريقيا وأنا بانتظارك في البار.

جلست على الطاولة الموضوعة عند الزجاجة مباشرة كي أرقب ازدحام الناس في الشارع، جاء النادل بمريوله الأبيض، وتقدم نحو طاولتي بخطوات سريعة، كان بسحنته العالمثالثية يشبه الثوري المحترف، الثوري الذي قال عنه سان جوست يوماً لا يستطيع أن ينام إلا في قبر! قبل أن يسألني عن طلبي، كنت أحدق بوجهه، ربما يشبه أحد أولئك الذين جروا البشرية إلى الخنادق.

ـ نبيذ أحمر من فضلك. نبيذ .. أريد أن أشرب نخب الثورة. ونخب الثوار. هل تشربه معي؟

ـ ماذا؟

تعرف. أنا أفكر بالثورة كما لو كنت في العالم الثالث، طبعاً لو أخرجت رأسي الآن من باب هذا البار ونظرت إلى البنايات، وناطحات السحاب، والتي تضم هذا الخليط المتنوع من البشر، ونظرت ازدحام السيارات، والبنايات، ووفرة البضائع، والباعة من كل الجنسيات، لضحكت على نفسي. لا يمكن أن تحدث الثورة هنا. الثورة بحاجة إلى نوع من التوحد، إلى نوع من الوحدة لا إلى نوع من الاختلاف، الثورة بحاجة إلى طبقة متجانسة من البشر، إلى ناس متشابهين ومتفاهمين ومتناغمين مع بعضهم البعض، وهذا غير موجود هنا أبداً، أبداً. وليكن. قلت له ـ وهو يفغر فمه أمامي متعجباً من كلامي ـ لتندلع الثورة. وفي كل مكان.. ماذا يهم.. نخب الثورة من فضلك.

نخب الثورة..يا محمد. نخب الثورة يا جان. نخب الثورة يا تشي.

*

يا إلاهي أين الثورة؟ أين هذا المصنع الهادر الذي سحب أمماً بأكملها بحبله السميك وجرها إلى ميدان القتال في الشوارع، هذا الذي جعل الشباب يتقافزون من شارع إلى شارع، من منزل إلى منزل، من بلاد إلى أخرى وهم بإيديهم المناشير، أو البنادق، أو اللافتات؟ أين كيوبيد العصر. هذا الذي جعل النساء البرجوازيات مغرمات بصورة هؤلاء الشباب المغامرين، أبناء الفقراء من العمال والفلاحين، أو من القادمين من أحزمة الفقر في المدن، وهم بذكائهم ووسامتهم؟ أو من الأغنياء الرومانتيكيين الحالمين بدولة العدل والمساواة؟ أين الثورة التي فرقت أبناء الطبقات الكبيرة والموسرة بجاذبيتها العذبة عن أسرهم. جذبت كل أولئك الحالمين الرومانتيكيين وقد أطلقوا لحاهم الصغيرة وشعورهم المنكوشة تشبهاً بالفقراء أو بالصوفيين المتبتلين والمنقطعين عن الحياة، وجعلتهم يتركون كل شيء وراءهم: النوادي الراقية، المطاعم، البارات، القصور، الأسرّة النظيفة، والوظائف وراحوا إلى الأدغال، أو الجبال، أو الأهوار.

الثورة هنا

لماذا لا تحدث الثورة هنا، الآن وفي هذا الوقت؟ في أميركا مثلاً، أو في أوربا، بل غادرت حتى آسيا وأفريقيا، ما عادت هنالك ثورات كما كنا نراها ونسمع عنها كل يوم تقريباً. أين ثورات أميركا اللاتينية التي كنا نترقبها كل يوم؟ هذا الشرق الأوسط مكان أسوأ الثورات في العالم انكفأ هو الآخر عن الثورة، هل من الرفاه الزائد؟! أم لأن تغيير المواقع السريع يحرف تفكير الناس من التفكير بثورة تطيح بمواقع ثابتة وتحل محلها مواقع أخرى، إلى تغيير تدريجي وساكن ومهادن؟ أم لأن الثوار القدماء ـ الحكام هذه الأيام ـ سدوا كل المنافذ على الثوار القادمين؟ عصر ما ـبعد الثورة البطاش لن يسمح بأن يحل محله ثوريون آخرون، فالشاطر من ينشل الثورة من جيوب رفاقه، يقتلهم ويصبح أعتى من جلاده. الثورة مثل صولجان الساحر من يأخذه بيده يقضي على غيره. طيب هنالك أمر آخر: ألم يكن الشرق الأوسط بحاجة إلى هزهزة. إلى خلخلة .. شيء من التغيير؟ في الغرب مثلاً ما عادت البروليتاريا هي الفقيرة والمحرومة جداً، إنما الكل يأكل، والبحث عن الجنس يحرف الناس من التفكير بأشياء كبيرة إلى التفكير بأشياء صغيرة: الوسامة مثلاً، الملابس الأكثر إثارة، الجسد السكسي القادر على إثارة غرائز الآخر. إنه ببساطة الرضا عن النفس. أما الرضا عن النفس في الشرق الأوسط فهو قليل جداً. بما أنك لا يمكن لك أن تتعرف على نساء كثيرات، فإنك تعيش في ضيق نفسي دائم، تريد أن تحطم كل شيء لكي تجذب انتباه الآخرين. وهنا الثورة واحدة من الرموز الإيروسية لجذب انتباه النساء.

ولكن أين هؤلاء الذين اتخذوا من الثورية عملاً لهم وذهبوا إلى التغيير دون أن تستطع أية قوة على الأرض أن توقفهم؟ أين الجماهير التي كانت تخرج وتخرب كل شيء أمامها باسم الثورة؟ أين الحلم بالتغيير والذي كان قدر عصرنا؟ حتى الحداثة المجلوبة والمنقولة من الغرب كان أصحابها يسمونها ثورة.. لا الشيوعية والاشتراكية وحدها كانت الثورة أبداً، حتى الرأسمالية كانت ثورة أيضاً. كان ابتكار الثورة هو عمل من يفكر بشيء وراء الأسطورة الداعية الى حل الأزمة الإنسانية برمتها. إنها اليوتوبيا مرة أخرى. يعني أن يقودنا الحالمون وراءهم نحو سراب التغيير.  والعراق هو الآخر ركض. ركض وراء قاسم، أو وراء صدام حسين حتى انزلقنا شيئاً فشيئاً وأصبحنا في الوحل.

لقد تراجعت الأسطورة كثيراً وعاد الحالمون من السجون أو المواضع إلى منازلهم، وظهر شبح آخر، شبح الإرهابي الذي يريد أن يخرب دون أن يحصل أحد على شيء، فهو يذهب إلى الجنة ـ هكذا يعتقد ـ ويترك وراءه الناس إلى الخراب والدخان.

من يشرب اليوم نخب الثورة؟

الشيوعية تراجعت كثيراً، والرأسمالية ما زالت تتخبط حتى اليوم، وتتعثر بالفقراء والكادحين والمهاجرين والمتدينين، وبمقدار ما صنعت من العولمة عالمية، أصبحت مهددة بالهويات الفرعية ومن داخلها، ما حل إذن باليوتوبيا؟  حين جاءت فيفي وجلست أمامي لتشرب نخب الثوار معي، وهي تضحك ـ كانت تتصور أني أتحدث للسخرية لا غير ـ ..قلت لها:

 تعرفين فيفي ... إلى الآن، ومنذ سقوط الشيوعية لا أحد يخترع لنا يوتوبيا لنركض وراءه، حتى فكرتها اضمحلت وتراجعت. لم يعد هناك أنبياء للثورة. حتى صورهم وراء الواجهات الزجاجية في المتاحف لم تعد مثيرة لأحد. لم يعد دخان التبغ يتصاعد من سيجار الشباب وهم يخططون في الغرف الصغيرة مصير العالم. لم تعد الكلمات المتصلبة تصعد من الكتب الجديدة. لم تعد الثورة ترافق دخان التبغ الصاعد من المناقشات الحادة وحوارات المثقفين في المقاهي، أو مع خمرة المتحمسين في البارات. لقد أصبح العالم مائعاً، وأكثر خنوعاً بكثير، وأكثر امتثالية. يا إلهي ماذا حدث للناس! ألا يمكن أن تعود خيبة الأمل واليأس من الثورة إلى ثورة؟

فيفي اسمعيني أرجوك لا تضحكي مني هكذا. لا لست سكراناً أرجوك. طيب. أنا موافق ولكني أسألك سؤالاً: كيف يمكن لجيفارا أن يحقق هذا الرقم الهائل من المعجبين ويغطي حتى على الأكثر شهرة في السينما؟ كيف يمكن لجمال عبد الناصر أن يسحر هذا العدد من المعجبين العرب وهو يسحق بحذائه اليساريين المدافعين عن الفقراء في مصر؟ ماهي عناصر التشويق لديه ليسحبها من عمر الشريف أو فاتن حمامة؟ ومع أننا مسحورون بالأبطال الجدد، ولكن من دون ثوار طبعاً. أين هؤلاء الذين يبحثون عن التغيير بأذرعهم العارية؟ أين الراكضون وراء الأوهام؟ لا تقولي لي: هؤلاء المهاجرون وهم يضعون أيديهم على رؤوسهم أمام هراوت الشرطة في المظاهرات. لأن المهاجرين هم الذين كشفوا عن زيف اليوتوبيا. ولا تقولي هؤلاء أصحاب اللحى والدشاشيش القصيرة الذين يفجرون أنفسهم وسط الناس، لأنهم أيضاً بلا يوتوبيا. بل هم أعداء كل يوتوبيا ممكنة. هل يمكن أن تصبح الثورة هي الجلوس في الكافتريا، والشك بقدرة العلم على صنع السعادة، أو اليقين بعدم قدرة الرأسمالية الجديدة على صنع الرفاه. هكذا نجلس وننتظر ما سيحدث مستقبلاً. حيث ينتهي الطراز العتيق من الرومانسية ويأتي طراز جديد من الواقعية الساكنة.

أوكيه الثورة خرافة. أو أفيون مثقفين. أنا موافق ولكننا بحاجة إلى حركة كي نتحول من هذا الخمول إلى الفتوة. ألا توافقيني.  طيب طيب والله أنا أوافقك ... ولكن اسمعي فكرتي جيداً ... أنا لا أؤمن أن الثورة ستغير العالم رأساً على عقب. كما حدث ذلك في الثورة الفرنسية أو الأميركية أو الروسية. طبعاً نحن في عصر المعلومات وكل شيء تغير، والله أعرف ... لا تقولي لي إنك شهدت تساقط الرموز والشعارات والتماثيل في بلادك وانتهت الثورة إلى حيث لن تعود. حتى لو لم تعد الثورة كما كانت عبادة الثورة، وأنبياء الثورة لم يعودوا هم الصوفيون الذين يظهرون من جديد. فأنا لن أصرخ:  ها نحن من داس التاريخ بقدميه. ولن أصرخ مع تمثال لينين المرمي في المزبلة ليكن العالم عامية بلا طبقات.

ولكني أقول إننا تغيرنا، لم نعد كما كنا قبل مئة عام. لا خرافة الماركسية في وحدة العمال، ولا خرافة ماو في وحدة الفلاحين، ولا باص الثورة الذي مر في أميركا اللاتينية وهو يقل فيدل كاسترو وتشي غيفارا إلى حرب العصابات هو الصالح، ولكن شكل آخر للتغيير غير الذي يريده بن لادن أو الزرقاوي بالموت والفناء، غير النسخة الإيرانية أو الإفغانية للتغيير. والتي تنقلنا إلى عالم ما قبل الصناعة. يعني كما نقولها بالعربية: خطوة للأمام لا خطوة للإمام. هل فهمتيني ... فيفي؟

خيال وثورة

دعيني يا فيفي أتخيل هذا المشهد:

فرانز فانون يضرب بقدمه الأرض وأنا أتخيله الآن ببذلته الأوربية، بربطة عنقه الحرير، بغليونه الجميل في فمه، بسواده اللامع ساحراً للإفريقيين الحالمين بالثورة والتغيير. ساحراً للأفريقيات اللواتي وجدنه رمزاً إيروسياً للثوري الفحل والمخصب والمندفع للأمام بقوة. طبعاً هو صورة مقلوبة لثوارنا الجدد، أصحاب الدشاديش القصيرة واللحى أو أصحاب العمائم السود، الذين يشكل الجنس لديهم انتكاسة روحية في الأرض، وشهوة مستديمة في السماء، فبعد تفجيرهم لأنفسهم سيضاجعون سبعين حورية للأبد ـ إنهم هنا في أفريقيا. كلهم حالمون بقدوم ثورة تحوّل كل شيء إلى كنز أو لعنة أو كليهما معاً. ولا أحد يسأل فيما إذا كانت الثورة والحرب والقتال والموت هو قدرهم. فالثورة وإن كانت حباً فقد كانت كراهية أيضاً أليس كذلك؟ الكل يعلم ذلك يا فيفي صدقيني. الكل يعلم إن الثورة نداء لشيء بعيد. إنها تحول كل شيء من سكون إلى حياة، إنها تحول السجن من صحراء إلى حياة ضاجة بالبشر.

اسمعيني يا فيفي جيداً:

الكل مسكون في بلداننا بنداء الثورة الذي سيصحبهم إلى الجبال في كردستان أو إلى الأدغال أو الأهوار. الكل مسكون بنداء الحرية والبحث المضني عن النفس. مسكونون بالنداء الذي لا ينتهي إلا بهلاكهم. هذه الثورة ماذا تعني؟ إنها تعني إذا تناولت سلاحاً فاستخدمه. أما ما بعد الثورة فهو توزيع الظلم بين الناس: الخيانة والفساد والتعذيب والقتل.

 من هنا تبدأ الثورة: الحلم بالسعادة والخلاص. ولكن لا سعادة ولا خلاص.

 ثم يبدأ عالم جذّاب وغريب ومتوحش. الثوار يتعرون في الحيّز الواقعي، تتعرّى الطبيعة الإنسانية حتى العظم، ثم يبدأ القتال والنهب والتعذيب. نعود مرة أخرى إلى الحالة البدائية، إلى العالم الذي تسيّره القوى الغامضة. العالم الخلاسي الذي يحكمه الحكّام وقطّاع الطرق وأصحاب الكرامات والدراويش والعلوج والحسناوات والقراصنة والقبائل والعسس ومردة الجان، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً العرّافون أصحاب النبوءات. أو رجال الدين الذين لا يتردد الحكّام في استشارتهم والوقوف على آرائهم عند كل مفصل من مفاصل حكمهم.

ثوريونا

طبعاً لا يذكّرنا ثوريونا العظماء بعد تجربة خمسة عشر ثورة فاشلة ونيف. إلا بالثوري الذي تقاعد مبكراً وأخذ يشك بالثورة. هذا الثوري الذي لا يمكنه أن ينام إلا في قبر كما كان سان جوست يصرخ، قد تقاعد عن الثورة، وأصبح في مرحلة ما بعد الثورة.

فيفي أنا أسأل بعد هذه التجربة الطاحنة التي جربها جيل كامل من المثقفين العرب، ما معنى: ما بعد الثورة؟

أنا أقول ـ لا تضحكي ـ: ما بعد الثورة هو التفكير بالثورة من جهة انتقادها، وربما تهديمها. ما بعد الثورة هو الشك بالثورة، مثلما كانت ما بعد الحداثة هي الشك بالحداثة، وما بعد البنيوية هي الشك بالبنيوية، وما بعد الكولنيالية هي الشك بالكولنيالية.

ألا يحق لنا أن نتساءل نحن الجيل الذي ولد تحت طغيان الثورة: كيف تهاوى حلم التغيير عند جيل الثورة؟ والأب هنا هو  ـ الجيل الأول للثورة ـ الجيل الصانع لها لا الحالم بها فقط. أما الجيل الثاني، هو جيلنا الجيل الراكض وراء سراب التغيير، الجيل الراكض وراء سراب الوعود النبيلة التي ستحول الوجود من سكون إلى حياة، الراكض وراء باص الثورة الذي سيصحبهم إلى عالم المثال، الراكض وراء نداء الحرية والبحث المضني عن النفس، لكن النداء انتهى بهلاكنا فيفي. الثوار لا ينتهون إلى المصحات كما كانوا في القرن التاسع عشر، إنهم ينتهون إلى العرش أو القبر. أما واقع الثورة فهو النكوص عن الواقع الفعلي، النكوص عن التغيير وسراب الوعود النبيلة والتي بشرت بها الثورة قبل الثورة، أما حقيقة الثوار فهي التخلف والبداوة المعممة. ذلك أن عقول الثوار العرب كانت تعيش تناقضاتها الحادة مع الحداثة والأفكار العظيمة الوافدة من الغرب قبل كل شيء.  كانت تعيش هذه التناقضات الفاضحة لأنها ببساطة نتاج عصر ما قبل الدولة، عصر عشائري متخلف يحكمه قانون متخلف ومتراجع وماضوي.

أما بعد الثورة حقيقة فيتجسد في خراب الواقع وضياع الثورة، الشاهد الحقيقي فيفي هو الكاذب الحقيقي. لأن الرائي هو الذي يكذب الواقع. 

أما الواقع فلا نقترب منه إلا اقتراباً مرتبكاً، الأشياء لا تأخذ صورتها الحقيقية إلا في تشكلها عبر الأحلام والأوهام. لا وجود لوقائع مجسدة، يتحدثون عن أشياء تجريدية. لأنه لا وجود لمواجهة مباشرة إلا عن طريق الرموز والمصطلحات وما شابه.

الواقع يتبع متوالية حركية في أحداث تقوم على التداخل والتعدد. الواقع هو عالم متعدد ومتنوع، أنه واقع متعدد ومتكثر غير مفهوم، لأنه لا يسير بالطريقة الخطية والواحدية بل يحتاج إلى ثورة مختلفة ومتنوعة ومتعددة. وهكذا كنا نعيش في بغداد تحت الثورة كما لو كنا نعيش تحت كابوس. فتتحول الشخصيات المحيطة بنا من شخصيات واقعية إلى شخصيات كابوسية. تمثال الرئيس وصورته في الشارع هي التي تحكم. شعارات الثورة على الجدران هي التي تحكم. ثم نتحول نحن من شخصيات واقعية إلى شخصيات ما بعد واقعية، وأعني بالشخصيات ما بعد الواقعية هي الشخصيات التي لا مركز لها، حيث يتحول محور الواقع إلى محور الوهم. والمظاهر المادية تتحول إلى مظاهر سايكولوجية، والمظاهر السايكولوجية تتحول من أحداث مجسمة إلى أحداث هلامية، وردود الفعل اليومية تتحول إلى ردود أفعال اجتماعية وسلوكية لا تحولات وجودية، وحالة التماسك والبناء تتحول إلى هدم وانتشار.

كنا نعيش في عصر الثورة فيفي نظاماً خطيراً من التحولات المستمرة والمرادفة لانهيار الواقع بعد انهيار الثورة. تداعيات من الكذب والاختلاق، تيار وعي قادم وجارف وملتو. واقع يواجه الواقع ويحاربه ويعاديه، واقع لا يؤمن إيماناً مستقلاً بالواقع. إنه يقاوم الواقع عن طريق الأحلام وهكذا يتحول الواقع إلى أشبه بالواقع، والشخصيات الواقعية تصبح بلا هوية محددة. حتى الثوار الذين يتحولون إلى السلطة نحن نراهم في التلفزيون وقد استحالوا إلى شخصيات هلامية بلا هوية متماسكة. شخصيات واقعية ولكنها افتراضية أيضاً. تبتعد عن الواقع وتخلق لها ما بعد واقع تعيش فيه وتهب نفسها له، فالواقع يتهاوى ويظهر محله واقع آخر، كنا نعيش في العراق واقعاً بديلاً عن الواقع الذي لا نرغب بالتماهي معه.

نحن نهرب من الواقع ونواجهه بكل ما هو لاواقع. نواجهه بواقع بديل، أو افتراضي، نواجهه باختلاق واقع الأحلام والرغبات وهو النقيض للوقائع اليومية والمعادية لشخصياتنا وطموحاتنا.

أين الثورة

أين الثورة؟ هل هي عند عبد الناصر؟ عند صدام حسين؟ عند الرفيق فهد؟ عند جيفارا؟ أين قدرة الثوار على الاستبصار والمواجهة والمقاومة ورفض الاستسلام؟ هل يصلح هؤلاء الناس في بلادي أحوال الفقراء الذين لا يستطيعون شراء علبة سمنة، أو كيلو لحم؟ هل يمنحون وجوداً حقيقياً لهذه النكرات التي لم تحب امرأة واحدة من لحم ودم؟ هل الأمل في الثورة إذن عند الجيل الثاني من الثوار العرب هو التقاعد المبكر عن الثورة؟ لقد تقاعدت الثورة وما زال الثوار العرب شباناً بعد! لقد أكلت الثورة أبناءها. لقد ماتوا سلباً وإيجاباً، تراجعاً وتحدياً، حباً وكرهاً. لقد ماتوا صبراً، وربما أدركوا بعد فوات الأوان كذبة النهايات السعيدة التي بشرت بها الثورة.

*

فيفي كنت أصرخ في الظلام: إنها دماء القتلى ... هيلاسي لاسي يأكل لحم البشر. قالوا لي أول وصولي إلى أديس أبابا. عادة وثنية قديمة ومقدسة في هذه المنطقة. ثم ينهض منغستو هيلا ميريام كي يمسك قارورة الدم وينشرها، إنه يرش الدم، غريزة القتل مرة أخرى. القتلى هم قرابينٌ تُرفع كل يوم على مذبح إله الثورة الذي لا يشبع.

الهروب من رائحة الحياة، الهروب من الحياة في المدينة، كما يهربون من الماء الفاسد ... أين؟ نحو الدم.

قادة .. في العراق .. في أثيوبيا. في أماكن أخرى من العالم. الحياة تزكم أنوفهم وتصيبهم بالصداع والغثيان وحتى الحمّى. فيتركون الحياة ويقبلون للانتقام، يفرّون على أعقابهم، يهزمون أعداءهم دائماً ويهزمهم الخوف من الاستقرار، يفرّون إلى الثورة ليعتقوا أرواحهم ويدعونها تمتزج في بوتقة القتال السرمدية. من هنا استطاع الثوري تحويل عناصر عدة من حياته الى الثورة، بل ان الكثير من موضوعات وصور حياته وجدت طريقها للثورة، أهم موضوع للثوري هو الثورة، ماذا يعمل؟

ـ إنه ثوري. يعني أنه يشتغل في مشروع ضخم وكبير وغير محدد اسمه الثورة.

الثورة مصنع بالتأكيد. تجدينها من خلال حياته، من خلال القسوة، القسوة المفروضة على الفقراء، من عدم اللامبالاة تجاه البشر، من هنا تعكس لنا سيرة الثوري صورة هذه القسوة، أن تولدين لأم هي خادمة مثلاً. أو لأب هو شحاذ، لا بد أن هذا الموقع سيترك في نفسكِ أثراً كبيراً، وبالتالي تكونين أكثر قبولاً لمفهوم الثورة.

ألم تفكري بالثورة. فيفي .. لا تقولي لا: .. أوكيه أنا أوافقك ولكن دعيني الآن أفكر بآدم مثلا، اسمعي. سأتخذه نموذجاً تحليلياً للثورة في مجادلتي. اشربي كأسك أولاً. يالله بصحة باص الثورة. طراق ...

طيب ... شوفي. كان لآدم في حياته القاسية وعزلته جاذبية لأن يصبح في مرتبة أعلى. لماذا؟ لأن الثورة في النهاية تغيير مواقع. ولكن لاحظي الثوري الأفريقي يختلف عن الثوري العراقي، هو ثوري من نوع خاص، إنه ماركسي محصن، لا على طريقتنا، ماركس ولينين وتروتسكي والماركسية التقليدية، إنما هو قارئ جيد، قارئ من نوع خاص، قارئ لفرانز فانون ونجوجي واثينجو وإيميه سيزير وول سوينكا ... وآخرين أيضاً.. الموسيقى الغربية. يعرفها أيضاً. وهكذا تجدين شخصيته مزيجاً عذباً وإن كان غير متجانس بين الثقافة العالمية والزنوجة، ربما هو أقرب إلى الغرب بسبب أفريقيا وحياتها البوهيمية الفطرية، ولكنه يشعر دون شك بعذاب العنصرية، لذا فهو ينتفض، لا ضد الحياة الغربية كما يحدث في العراق، إنما ضد الاستغلال والعبودية والعنصرية، الزنوج أقرب للحداثة الغربية منا. وأنا قلت لآدم هذا الكلام مرة حينما كنت جالساً في حجرته.

في حجرته كل ما تجدين في حجرة مثقف كوزموبوليتاني: حجرة مملوءة بكتب أجنبية، قناني بيرة فارغة، صور لغرامشي وباتريس لومومبا وأنجيلا ديفز وستيورات هول، صحف ومجلات، غرفة مثقف عالمثالثي، وبالذات من أفريقيا، وعلى نحو أدق من أديس أبابا... ماركسي أيضاً. حجرة ماركسي تتغير على الدوام .. ينظفها من القديم، من الماركسية الكلاسيكية وتتوالد من جديد، الأوراق القديمة تصبح في قصيدة جديدة، أو في مقالة قصيرة. والخمرة تتحول إلى نقاش، والسرير عليه امرأة. ومع ذلك هنالك ما هو شائع بين المثقفين الذين لا يجيدون الا الحديث والجلوس على كنبات الاخرين. الثورة هي في النهاية نتاج لحياته الخاصة وقراءته الكثيرة، فهي بناء مساحة بينه وبين العالم، هي محاولة للاتحام بالعالم. ذلك لأن نجوم الثورة عالميون وفي كل مكان.

اسمعيني شوية وأنا سأصغي لك، سأقرأ لك بعض الملاحظات التي كتبتها عنه، لا تضجري، سأطلب لك بيرة:

ـ بيرة من فضلك..

اسمعي هذه الفقرة. أين؟ ... أين؟ ... نعم اسمعي:

 في أديس أبابا، أخذ ينشر عدداً من القصص القصيرة في الصحف، وهكذا كان يجد قصصه منشورة الى جانب قصص تشيخوف المترجمة للأمهيرية، فبعد نشر كل قصة أو قصيدة أو مقالة يقرر ذلك اليوم التفرغ للشرب أو النقاش، إنه مثقف. وهكذا عليه أن يعيد صورة تشرد المثقف الجديد، يعني أن يتجول كثيراً، في أفريقيا أحياناً، يرتاد الحانات وبيوت الدعارة وينام على الرصيف وفي المقابر، ويدير معارك ومشاكل في كل الحانات التي يرتادها، ويقضي أوقاتاً في السجون قبل ان يظهر مرة اخرى في أديس أبابا. ويتذكر آدم أنه كان يجلس في خمارة ما بين الساعة الخامسة مساء والثانية صباحاً، من أجل أن يحصل على كؤوس من الشراب المجاني. ومن هنا كانت رحلته في أفريقيا مخزناً هائلاً من الحكايات والمغامرات التي سيعود إليها في أحاديثه معي وهي مثيرة حقاً، ومشوقة أيضاً.

لم يكن دخوله للعمل الثوري ـ ركزي على كلمة عمل ـ لم يكن دخوله للعمل الثوري سهلا، فبعد أن أصبح معروفاً لدي قراء المجلات والصحف الصغيرة، قام بنشر قصائد ثورية في طبعة محدودة، لم يكن لديه عمل في ذلك الوقت ثابتاً، ولا كتابة مستمرة. ولكن الحظ صادفه في العام 1970 عندما منحه أحد الثوار المتنفذين مبلغاً من المال لنشر ديوانه في دار محترمة، وكان الاتفاق مقامرة بين الشاعر والناشر، كان يعتقد بأنه حين يموت ستصل شهرته إلى شهرة الشعراء الشيوعيين ـ أو الذين كانوا شيوعيين فيما مضى ـ مثل مايكوفسكي وآراغون وبابلو نيروادا وغيرهم. ولكن الثورة أخذته فيما بعد، يعني كان يمكن أن أن يكون شاعراً كبيراً ولكن داخل الثورة لا خارج الثورة بطبيعة الأمر، وعليه أن يمر بكل مراحل الثورة، من شاعر مضطهد، إلى شاعر ثورة، إلى شاعر منشق، إلى شاعر سجين، إلى شاعر مشرد بلا شعر ولا ثورة ... لا تضحكي هكذا صدقيني ... هذا ما يحدث دائماً حتى عندنا في العراق ... دائماً يحدث هذا الشيء. قلة من الذين صمدوا مع الثورة.

الثورة مثل المرأة التي قررت انقاص وزنها، وعندما نجحت، بدأ تحضر كل يوم الى بيتها شخصاً ليضاجعها، في البداية كانت تشعر بأن لها جاذبية خاصة، لأن عشاقها كانوا في تزايد مستمر، ثم تكتشف أن هؤلاء العشاق المفترضين كانوا بعد مضاجعتها يسرقون متاعها، وعندما حاول أحد السراق ـ العاشقين سرقة شيء من منزلها طلبت منه التوقف. ثم شيئاً فشيئاً تصبح الصورة أكثر وضوحاً، وبعد ذلك ينجلي المشهد جيداً. الثوار يسرقون الثورة، ثم يتصارعون فيما بينهم، فنقول: الثورة أخذت تأكل أبناءها.

هل رأيت الفرق..فيفي؟ أنا أتحدث بالضبط عن هذا الشيء. فبعد الصراع يبدأ الضعف والانحلال في المجتمع، وتبدأ السلطة بالقسوة علناً، ومن ثم تصبح الثورة هي اللحظات الساخرة والعبثية الأكثر وحشية في حياة الناس. قالت لي لاليت: السيناريو هو هو: تحاول الدول الغربية الإطاحة بالثورة، فتؤيد فئة معارضة على فئة في السلطة، فتبدأ الحرب الأهلية، وبعد الحرب الأهلية نجد أنفسنا نلهث في الفراغ، بينما يأتي الأوربيون ليحملوا الأخشاب والذهب والفضة واللحوم من قلب الغابة، ونحن مثل الكلاب نجلس على مقربة منهم، ننظر لهم ... نلهث، ونلعق جراحنا.

طبعاً في العراق كانت ثوراتنا موجعة .. يا فيفي. ثوارنا انقسموا قسمين أحدهم جلاد وآخر ضحية، بعض الضحايا نجوا واختاروا الجلوس في المقاهي، أو الصمت، او اهتدوا إلى التجارة بعد أن انتهت الثورة، لكي يتجنبوا الدخول في الصراعات الدموية للسلطة، ثم جاءتنا طبقة من الثوريين المتدينين ليس لهم مثيل على الأرض أبداً، ربما يشبهون الفوضويين الروس في القرن التاسع عشر، ثورة عابثة بلا أي معنى. طبعاً لا صلة لهم بطبقة الأنتلجنسيا التي تصنع في الغالب تنظير الثورة، بالتأكيد لا. هم اليوم من الأميين، والمحرومين، ومن اليائسين الذين وجدوا في نسخة بن لادن أو الخميني الجنة الموعودة بعد أن يأسوا من الجنة الأرضية وحملتها من الثوريين الكبار. فبن لادن من فوق حصانه يريد أن يفجر العالم ويمحوه، والثورة الإيرانية أكلت أبطالها بعد أن صعد الخميني إلى المنصة وأمر بذبح الذين أشعلوها بوقود الحلم الجديد. ثوراتنا بلا أحلام كبيرة، واحد يريد أن يردنا إلى عالم ما قبل العالم، وآخر يريد أن يأخذنا إلى عالم لم ينولد بعد.

وها هو الغرب كما ترين فيفي ... وضع أول إشارة cross أمامنا وأوقف شرطياً مهذباً ليعلمنا أن طريق الثورة والتغيير مغلق حالياً، وعلينا أن نغير الاتجاه، لقد قدم شاي التقاعد للثوار وصرفهم من الخدمة، قال لهم مكانكم هنا في المقهى، كما هو عليه أنا وأنت، في المقهى. بالله لا تضحكي فيفي أنا لست سكراناً، اسمعي تقاعد الثورة في الغرب قد حل منذ زمن بعيد، وصورة ماركس لا تعد هنا سوى سائق شاحنة أراد أن يقطع طريقاً مسدوداً فسجلوا ضده مخالفة مرورية، لم يعد ثورياً بنظرهم بمقدار ما هو سائق مخالف. طبعا هم محقون، حين بدأوا بهذه الصناعات الضخمة أوصلونا إلى إزالة تناقضات اجتماعية كبيرة، هناك وفرة فيفي في كل شيء، التغيير يقع في استهلاك هذه الأشياء الوفيرة والكثيرة كما تفعل زوجتي ميمي، فبدلاً من التفكير بالثورة ستفكر بتوفير أثاث جديد، وهذه الشركات توفر لها كل شيء بالتقسيط المريح، فكم هي مجنونة لو تركت الحرب في شارع سوهو وراء الحاجات الجديدة، وحملت السلاح وذهبت إلى درب هيوستن مثلا حالمة بانقلاب عسكري ضد البيت الأبيض. تفهمين ما أقصده، الأمر فيه شوية خدعة، صحيح البروليتاريا تحولت من عمال لا يملكون إلى منبوذين ومهاجرين ولا منتمين وعاطلين وزنوج وعرب ولكن هذه الفروقات التي تقوم على العرق واللون لا تحلم بالثورة بمقدار ما تحلم بالمطالبة بحقوق أكثر، يعني إذا كنت تأكل، وتمارس الجنس، وتلعب الرياضة، فلا يمكن أن تحلم بالتغيير عن طريق الكفاح المسلح كما كان يفعل ثوريونا في بغداد، الأمر بمنتهى البساطة، الزنجي يحمل جهازاً ويريد أن يصنع أغنية على طريقة مساري، ويربح الملايين، تدخلين في البورصة وتصبحين مليونيرة، المهم أنت تحلمين، وتجدين آخرين يحققون الحلم بلا أدنى طلقة واحدة.

ولكن المشكلة لدينا ـ أقصد في العراق ـ حينما يجدون كل الطرق مسدودة، لا طريق الثورة الذي لكه الثوار السابقون بالشمع الأحمر، ولا درب الحياة مفتوح لهم. فأين يذهبون. طبعاً لا وجود اليوم لتغيير حقيقي إلا في في تدمير كل شيء، يقولون أنتم خربتوها، أوكيه ليخرب معها كل شيء. كل شيء صار عندنا ولكن لم ينفع أي شيء، أجيالنا جربت كل شيء لا تقولي لا. أنا أعرف أن الغربيين لا يقبلون بهذا ولكنا تبعناهم بكل شيء ـ لاحظوا إني كنت أتحدث مع فيفي أحيانا باعتباري من الشرق الأوسط لا باعتباري أميركياً كما كنت أتحدث مع الأفارقة ـ أجيالنا جربت كل شيء أحزاب ثورية، قومية وشيوعية وحركات طلابية وتحرير المرأة وحركة هيبية وليبرالية واستشراق غامض وبدائية مزيفة وإثارة جنسية، ومخدرات، وشعر طويل، ومتاريس، وكوكتيل مولوتوف في الناصرية وكردستان وانتهى جميع أشكال الوقار. ولكن لا تغيير ولا بطيخ، عاد المجتمع كما كان، مع أول ضربة أميركية، كما تركنا أبونا إبراهيم حينما كان يتجول في أسواق الناصرية قبل آلاف الأعوام.

التقرير

 شوفي يا فيفي ... أريد أن أحدثك عن التقرير الذي سأكتبه للوكالة! طبعاً في البداية كنت أصدق كل ما كتبوه فيما يخص الثورات والصراعات والانقلابات، وكل هذه الزبالة التي يحشون بها رؤوسنا منذ المدرسة، كان المكتوب يمتلك صفة المقدس بالنسبة لي ، أما إذا رأيت أرقاماً فأهوى مستسلماً أمامها، الوثائق، الأرقام، الأخبار، وكل هذه الأشياء المكتوبة والمحبرة عن الشخصيات الفذة، الصور أيضاً، ولا سيما الصورة التي فيها نوع من الحركة، كل هذه الأشياء تمثل لي شيئاً مقدساً. لكن اليوم أقول كل هذا زبالة، خراء ليذهب إلى الجحيم لا أفكر به مطلقاً. أكبر ثوري لا يحلم أن يكون رمزاً من رموز الكولا كولا، أو أكلة الماكدونالد، طبعاً العالم اليوم هو مجموعة من القطع غير المتلائمة، قطع بائسة متجمعة مع بعضها. هدف الدول المتحاربة هو غزو العالم برمته من خلال السوق، وحكمه من خلال مراكز قوى تجريدية. هذه القوى لا يمكن أن نقيم عليها ثورة لأنها بلا مكان تقريباً. هل توافقيني؟! طبعاً ... المكان مهم جداً للثورة .. شوفي .. اليوم.. القوة التي نريد أن نقيم ضدها الثورة لا وجود محدد لها تقريباً، فليس لها قصر جمهوري، أو إذاعة ليذهب له الثوار كما كانوا يفعلون في بغداد ليسيطروا عليه، ويعلنوا البيان الأول للثورة. هي قوى غامضة موجودة في الأنترنيت، في الستلايت في التلفون تظهر وتختفي وهي موجودة في كل مكان تقريباً. هذه قوى وهمية توليتارية تتحكم بمنطق السوق دون جنسية تحددها. حين أحاول أن أصف هذه القطع غير المتلائمة لأظفر منها بصورة واضحة لعالمنا أجد إن هناك كثيراً من القطع المفقودة.

ـ أشربي كأسك! ... شوفي أنا لا أستطيع أن أكتب كل الحقائق في هذا التقرير. فقررت أن أكتب بطريقة مختلفة تماماً، أولا سأقرأ لك الصفحة الأولى من التقرير، جعلتها مكتوبة بطريقة أدبية وفيها بعض الإثارة. اسمعي:

بعد شهر تقريباً من الارتحال في القرن الأفريقي: أرتيريا المتفجرة، جيبوتي الفرن الجيري، الصومال الشاقة والخطرة. عدت بالطائرة إلى عدن، ومن عدن طرت إلى مطار أفيف في أديس أبابا. الطيران الليلي كان شاقاً ومتعباً، وفي صالة فندق زهرة المسكال وهو فندق بثلاثة نجوم في شارع دبرتسايت تعرفت على مهرجين روس، وسائحتين تائهتين، ورجل من أوغندا، وطبيب من الصين، وراقصة محلية، وثلاثة صحفيين، قال لي أحدهم وهو ينظر إلى مدى أنتوتو المشجر: تعني أديس أبابا زهرة جديدة .أسسها الملك منليك في العام 1887، على سطح ثلاثة جبال تدعى أنتوتو وقد حافظ على بقائها الدائم جلبه لأشجار الكافور/ اليوكالبتوس السريعة النمو من أستراليا. فقد أسس الملك منليك ستة عواصم مؤقتة قبلها، أدى إلى تركها بسبب استنزاف الوقود.

اجتزنا المساحات الزراعية المهيئة لموسم الحصاد، سبحنا في بركات الصخرة تحت الشلالات، مشينا خلال المروج المثقلة بالزهور، وضحكنا مع الشعب المرح والراقص والذي يحب الأغاني. جلسنا في القواطي المصنوعة من القش نتدفأ على شعلة نار يديمها الحطب، ونحن في ليل أفريقيا الأسود نعيش في العراء الممتد قلقاً ووساوس ووحشة وتنهدات وخوفاً وهلعاً وحسرة ورغبة، الخوف يطرد الملائكة، ما من مفر. النوم على الأرض الرطبة الجرداء حيث نقيم الواسطة بين الطبيعة والفن، نستسلم لقبائل الفولاني وقبائل الدنكا، نستسلم لهم كما لو كنا نستسلم للعاصفة، كنت أسير مع هؤلاء الزنوج إلى الأشجار الضخمة حيث الوحوش الضارية تختبئ في أوجارها، وأواجه المرح البريء الذي يحف بالأشجار الضخمة بحزن أجداد غابرين.

في الصباح كنت أسمع أصوات طيور ملونة على أشجار الدندب الضخمة، أسير في الدروب التي غطتها أوراق أشجار المانغو بصفرتها الذهبية، استحم تحت أشعة شمس أفريقيا الصفراء التي تعلق بأفق بعيد مثل سحب. أستمع إلى صفارة الشامان وهو يرمي في الفضاء كرات ندائه، أرقب الحمار وهو يهبط من أعلی رابية خضراء تطل على أكسيوم العاصمة القديمة لأثيوبيا والتي تقع في قلب إمبراطورية نافست في القديم حضارة الفراعنة في مصر، بمركزها الديني، أو بأبراجها ومسلاتها القديمة الغامضة، أو بعمارتها التي ارتبطت بالحجر.

هذا من التقرير الذي سأقدمه غدا إلى الوكالة، أما الثوار الذين لم ألتق بهم، ووجدتهم غادروا جميعاً إلى أوربا، فقد فبركت لهم هذا المقطع. اسمعيه:

كان المكان الذي علي أن أرى فيه الثوريين أحمد سعيد وميسون قبواً قذراً. تلفزيزن مركون باهمال عند الزاوية، ثمة بقايا طعام على أطباق من النايلون، أحد سعيد ممدد على القنفة، لحيته لم يحلقها منذ أيام، لا يشبه جيفارا أبداً، عيناه مجهدتان، رماد سيجارته يسقط على الأرض بحركة شبه مخدرة.

الصورة الأخيرة للثوري بعد نهاية الثورة.

بعد التعارف ـ آدم إلى جانبي ـ ينهض أحمد سعيد ليصنع لي الشاي على البريمس وبقوري قديم جداً. بعد قليل نسمع طرقات على الباب. ينهض من مكانه بخطوات متكاسلة. يفتح الباب، تظهر ميسون متعبة جداً. امرأة في الخمسين، ملابسها ممزقة مثل كلوشار، وفي يدها كيس أسود، تفتحه وتخرج منه بهدوء قنينة خمرة. تسير في الحجرة بحذاء الكعب العالي دون أن تنظر لي، وجه متعب، شعر وخطه الشيب وسخ جداً، في يدها سيجارة وتدخن بشراهة، مع ذلك هنالك بعض الأجزاء الجميلة، بطة الساقين، الفخذ والمؤخرة. إيقاع المشية المغري ... أيضاً.

ـ أحمد ما أريد أروح مع هذا ابن القحبة بعد ... قالت بصوت مبحوح.

ـ اقعدي هنا ... هذا عراقي جاء من أميركا حتى يكتب عنا. وأشار بيده نحوي.

لم تلتفت لي. قالت: أقول لك ما أريد أروح مع هذا ابن القحبة. أريد أبقى عندك.

فتح القنينة، وبدأ يشرب منها مباشرة ثم ناولها لها.

قال لي: أنت نظيف أليس كذلك، برجوازي تقريباً، وتعمل في مؤسسة أميركية.

أخرجت ميسون سيجارة من حقيبتها وأرّثتها، بدت سكرانة جداً ويداها ترتعشان: سرقت هذه الخمرة من جراره، وهربت لا تعرف كم عانيت مع هذا ابن القحبة.

أعطيني سيجارة. قال لها. مالت إليه قليلاً وهي تعطيه إياها. شرب من فوهة القنينة، أرث السيجارة، التفت نحوها، وسحبها بقوة. وقال لها: إشتقت إليك.

قالت له: أنت كذاب ... ودمعت عيناها.

هوى على وجهها بضربة قوية. فاندفعت نحوه بشكل لا إرادي كي أمسكه، وكنت قد انفعلت جداً، صرخت هي، وسقطت على الأرض. مسكته من يديه وأسقطته على القنفة وقلت له بصوت متحمس: أنت ثوري ... لا يجدر بك أن تفعل هذا. بدت على شفتيه ابتسامة ساخرة. وقال: لا أنا مجرد لص يمارس كل أعمال الخراء.

قلت له: أنت ملك التاريخ ... أنت معروف جداً.

قالت ميسون وقد وضعت وجهها على السرير وهي تبكي: أنت تتظاهر بأنك تحبني ولكنك تعاملني معاملة عاهرة. كانت تنورتها قد انحسرت عن فخذيها الأبيضين الجميلين، وسقطت فردة حذائها عن قدمها. يا إلاهي اية فوضى! قلت بصوت مسموع.

لص. قالت بصوت عال. لأنك لم تسرق أحداً. لو كنت لصاً لأصبحت مثل ابن القحبة في جرارك قنينة خمرة، لا تقل لص، لو كنت لصاً لأصبحت مثل هؤلاء. عليك أن تكون كذلك وتسلب الآخرين أموالهم. التفت أحمد نحوي وقال: أنت برجوازي قذر. بينما أنا ثوري نزيه، ولذلك هذه حالتي. نظرت لي ميسون بحدة، وقالت لي: أنت سافل ... سافل لا تكسب بجهدك إنما بجهود الآخرين، تكسب النساء لخصيتيك النظيفتين، ولتحصل على المناشف البيض، والعطور الثمينة، ومعاجين الحلاقة، التفت أحمد لها: شكراً ميسون اعطيني سيجارة اخرى؟ طلب سيجارة اخرى. ثم تناول قنينة الخمرة وأخذ يشرب بقوة. بينما جلست ميسون إلى جانبه ساكنة وهي تمشّط شعره بأصابعها وتمسّد رأسه بلطف.

أرجوك لا تضحكي. سأكمل لك فيما بعد، أية حقيقة لا وجود لحقيقة بالتأكيد، هذه الأشياء التي أخترعها كان يمكن أن يخترعها صحفي آخر، ولكن بطريقة معكوسة، سيصنع من هذين الشقيين أبطالاً ومحررين، وأنا أتذكر جملة مولوكين حين قالت: من هذا ابن القحبة الذي جاء كي يحرر أفريقيا؟ ولكن كل شيء أصبح صناعة وفبركة. كل شيء موضوع ومبرمج حسب المصالح صدقيني، ومع ذلك ربما نحن في العراق أول من أدرك أن الثورة مثل الذئب ... نعم بالتأكيد، نحن في العراق عرفنا الثورة مثل ذئب يركض أمامنا ونحن نركض وراءه بلا انقطاع. نركض وراءه ونحن خائفون منه، نريد إن نمسك به، غير أننا غير قادرين على الاحتفاظ به، فإن توقف وأمسكنا به سيأكلنا بالتأكيد، وإن ركض فإنه يركض أمامنا ونحن سنركض وراءه بلا انقطاع. لقد ركضنا وراء الثورة. وحين أمسكنا بها نهشتنا. وكذلك اليوتوبيات التي حلمنا بها، لا يوتبيات الغرب فقط، إنما حتى يوتوبياتنا، ماذا حصلنا بعد كل هذا العذاب والركض.

*

ذهبت إلى الوكالة مساء، قدمت جزءاً من التقرير وقلت لهم سأكمل الباقي فيما بعد، وعدت إلى شقتي في شارع الدرب السادس من هدسون، كانت كاتي سعيدة وبوب أيضاً، ولا سيما بعد أن قلت لهما بأني سأساعدهما في الزواج، ميمي كانت سعيدة أيضا وهي تشرح لي ما نحتاجه في تجديد المنزل، ومن ثم جلس الجميع في الصالة، وأخذوا يقلبون الصور التي التقطتها في أفريقيا، كانت واحدة هي التي بهرت الجميع، قالوا إنها معبرة، كانت صورتي واقفاً ومبتسماً وحولي عشرين امرأة وطفلاً من مشوهي الحرب الأهلية، عزلتها ميمي كي تؤطرها وتضعها على جدار الصالة، بينما كانت محطة الفوكس نيوز تعرض سوقاً في بغداد يتصاعد الدخان منه، ومجموعة من الأشخاص يرمون الجثث المحترقة والملفوفة بالبطانيات في سيارة بيكاب مثل نفاية.

2004                                                                                أديس أبابا ـ بغداد