يوشك محمد البساطي أن يكون شاعر القصة المصرية المعاصرة، بكتابته الرهيفة وطريقته الفريدة في اقتناص حس المأساة ودمدمات الأعماق دون الوقوع في المبالغات أو النهنهات العاطقية الزاعقة.

هي وزوجها

محمد البساطي

يوقظني الطرق الخفيف على الباب. أتردد في القيام. يأخذني النوم مرة اخرى. يعود الطرق، هي جارتي على السطح. صوتها الهامس من ثقب المفتاح وكأنها لا تريد لغيرى ان يسمعها.
يتوقف الطرق أثر سعلتى وأنا أهم من الفراش، واراها بالطرف الآخر من السطح أمام باب حجرتها. تحيرني سرعة عودتها. أتمهل قليلا حتى أفيق. هي هناك تنتظرني. تلبس الروب فوق قميص النوم. الروب مفتوح منتفخ بالهواء وذيله يحلق وراءها. تجذبه وتضم طرفيه بيدها، لا يخطر لها أن تستخدم حزامه الذي يتدلى إلى الأرض. لا وقت لأغسل وجهي أو اشرب شايا. أسير إليها.

السطح واسع، لا يوجد به غير حجرتينا وحجرة اخرى مغلقة تنتظر من يستأجرها، العتمة خفيفة تسمح لى بتفادى الكراكيب المتناثرة، وضجة الشارع هدأت عما كانت قبل نومى، تسبقنى إلى الداخل، تغلق الباب ورائى، حجرتها أكثر اتساعا من حجرتى، والصالة أيضا. شعرها الطويل مبعثر وأطرافه مبتلة تلتصق بخديها ورقبتها، تستقر نظراتها القلقة على وجهي، وتعتذر في همس عما تسببه لي من إزعاج. تعتصر يديها وتقول:

ـ كنا أمام التليفزيون. وانتهى المسلسل. يحبه. يسهر معي ليراه. أكتشف أنه وسخ نفسه. كان من قبل ينبهني بإشارة وأفهم. لم يعد ينبهني. يفعلها ويسكت. أنا لا أغضبه.
نبرة البكاء في صوتها. تمسح أنفها بظهر يدها:
ـ وحتى لو كان غاضبا..
تتقدمني إلى الحمام:
ـ وأردت أن أشطفه. يعاند ويهز رأسه. ويوقع نفسه.

المقعد ذو العجلتين فى جانب، زوجها عاريا ممدد على أرض الحمام، ملابسه المتسخة مكومة تحت حوض الحنفية. جسده الميت ثقيل، حاولنا مرات من قبل أن نرفعه إلى داخل البانيو ولم نستطع، وكانت تستعين بوعاء تصب به الماء فوقه، ثم هداها تفكيرها الى استخدام خرطوم توصله بالحنفية، وكانت فرحة باكتشافها، تداعب أنفه باصبعها:

ـ مبسوط ؟ أحسن من الدش. أرفع غطاء البالوعة حتى تنصرف المياه أولا بأول، وأوجه فوهة الخرطوم الى المقعد، ثم استدير اليهما، وأكون خلعت جاكتة البيجامة وشمرت البنطلون، هى أيضا خلعت الروب وقرفصت بجواره، أتحكم باصابع يدى فى تدفق المياه، يخرج سرسوبا حتى تدعك جسده بالصابون، أساعدها في تغيير رقدته، قميصها وقد ابتل التصق بجسدها كاشفا عن تقاطيعه، هي على جانب من الجمال، رغم ذلك لا أجدنى أفكر فيها كأمرأة. أحيانا تميل بجسدها وتتعرى ساقاها، أرمقهما وأقول لنفسي إنهما جميلتان وينتهي الأمر. تخرج لمشاويرها دون اهتمام بشكلها، ويحدث أن أنبهها إلى ما في ملابسها من اضطراب، تنصت إلى وتمضى، ومرات تنسى نفسها أمامى فترفع طرف جلبابها لتعصره، أو تمد يدها فى صدرها لتعدل وضع الستيان وهى تكلمنى.

أضع فوطة كبيرة على المقعد، ونسحبه من تحت إبطيه بعد أن جففناه ونرفعه إلى المقعد، وتدفعه إلى الحجرة والماء يقطر من قميصها. نمدده في الفراش، أقف جانبا، هي لا تحتاجني عندما تلبّسه، ثم تمشط شعره وتنحني لتبوسه في خده وتقول:

ـ عاوزك تبوسه يا أستاذ عباس.
أقترب وأبوسه في جبهته، تشير إلى مقعد لأجلس وتقول:
ـ دقيقة أعمل الشاي.
هو على ما يبدو ألفني وقد رآنى كثيرا. جسده ممدد في الفراش بلا حراك، وفمه ملتو، ورعشة بشفتيه، عيناه فقط يقظتان، يصوبهما نحوى.

تسألني امرأته البقاء معه حين تخرج لتقبض معاشه أو تشترى احتياجاتها. تشير إلى ما أعدته له من طعام. عادة يكون شوربة خضار ومهلبية. أتصفح جريدة تكون معي، هو في مقعده ذى العجلتين غير بعيد عنى ويداه ساكنتان فى حجره، أطيل القراة متحاشيا نظرته التى أحس وطأتها على وجهى. يطلب منى أحيانا أن اخرج به، كنت بدأت افهم ما يطلقه من إشارات بشفتيه المرتعشتين، أدفع مقعده وأتجول به فوق السطح، وأقف به قليلا في الظل وأعود به، ومرات يرغب فى تناول طعامه خارج الحجرة، أختار مكانا على السطح بعيدا عن تيارات الهواء كما توصيني امرأته، واضع فوطة على صدره، أناوله الطعام ملعقة بعد الأخرى، أجفف ما يسيل من فمه بعد كل ملعقة. أسهو أحيانا ولا أجفف فمه، يدير وجهه بعيدا عن الملعقة. تأتى امرأته بعد أن استبدلت قميص النوم تحمل صينية الشاي، تضعها على المنضدة الصغيرة وتجلس على مقعد بجوارى. تتوقف قليلا وهى تصب الشاي وتشرد عيناها مع البخار المتصاعد من الكوب. ويكون في فراشه مستديرا بوجهه ينظر إلينا.